شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [31]


الحلقة مفرغة

رواية أبي بن كعب في رقية المصروع

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل لنا أمورنا، واقض حوائجنا، اللهم لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وحلمك بعد علمك، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فكنا نتكلم عن كلمة الإمام الذهبي عن حديث جابر أنه: منكر، وقلنا في ذلك نظر إلا إن قصد بالمنكر تفرد الراوي أبي جناب بالرواية، وذكرنا أن العلماء يطلقون المنكر تارة ويريدون به شدة الضعف وفحشه، وتارةً يطلقون النكارة على التفرد بالرواية، ولذلك يقولون: منكر صحيح، ومنكر حسن، ومنكر ضعيف، يعني تفرد به راو وهو صحيح، وهو حسن، وهو ضعيف، فإذا كان قصد الذهبي بأنه انفرد بهذه الرواية في هذا الإسناد فصحيح، نعم ضعفه الدارقطني إلا أن الحديث معناه صحيح وذكره جماعة، وما تقدم معنا من الأحاديث يدل عليه تماماً شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

والحديث نص على تحسينه السيوطي في الإتقان في الجزء الرابع صفحة تسع وخمسين ومائة، قال السيوطي : رواه عبد الله في زوائد المسند بسند حسن، والراوي الذي تكلم على الحديث بسببه هو يحيى بن أبي حية ، قال الحافظ في التقريب: ضعفوه لكثرة تدليسه، وتوفي سنة خمسين ومائة للهجرة أو قبلها، وحديثه في السنن الأربعة إلا النسائي ، يكنى: أبا جناب الكلبي ، وقال الذهبي في الكاشف: قال النسائي وغيره: ليس بالقوي، توفي سنة سبع وأربعين ومائة، وقال في المغني في الضعفاء: قال أبو زرعة : إنه صدوق يدلس ، وقال النسائي والدارقطني : ضعيف، وقال يحيى القطان : لا أستحل أن أروي عنه.

ولفظ الحديث من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه أعرابي فقال: يا نبي الله! إن لي أخاً وبه وجع، قال: وما وجعه؟ قال: به لمم )، وهو: الصرع الذي يصيب الإنسان من قبل الجن، ( قال: فائتني به، قال: فوضعه بين يديه فعوذه النبي صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول سورة البقرة، وهاتين الآيتين وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:163-164]، وآية الكرسي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] إلى آخر الآية الكريمة، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة تبتدئ بقول الله: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284] ).

وتقدم معنا حديث صحيح ثابت عن أبي مسعود الأنصاري أن الآيتين من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه تبدأان من قول الله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285].

وهذا الحديث عن أبي : ( وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] ، وآية من الأعراف إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] )، وقد ورد في عمل اليوم والليلة لـابن السني بسند ضعيف أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقراءة هذه الآية عند مجيء الطلق للمرأة في حال الوضع ليسهل عليها وضعها بإذن ربها جل وعلا.

وتمام حديث أبي : ( وآخر آية المؤمنين فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، والذي يظهر أن المراد من هذه الآية إلى آخر السورة، وليس هذه الآية فقط، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:116-118] يعني ثلاث آيات، تبدأ من هذه الآية، وآية من سورة الجن وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3]، وعشر آيات من أول سورة الصافات، وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا [الصافات:1-2] ، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر وهي أسماء الله الحسنى هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:22] إلى آخره، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، والمعوذتين، عوذه النبي عليه الصلاة والسلام بهذه السور والآيات، فقام الرجل كأنه لم يشتك قط) رواه عبد الله بن أحمد وفيه أبو جناب وفيه ضعف، لكثرة التدليس، وقد وثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح كما تقدم معنا عن الهيثمي في المجمع، وقلت: نص السيوطي على تحسينه لشواهده، وبهذا يجمع بين كلام أئمتنا، وعليه فهذه الرواية ممكن أن تكون أيضاً مقبولةً ثابتةً يحتج بها.

رواية أبي ليلى الأنصاري في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي يشكو ما يصيب أخاه

الرواية الخامسة التي تتعلق بمعالجة نبينا عليه الصلاة والسلام للمصروعين رواية أبي ليلى الأنصاري رواها عنه ولده عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وأبو ليلى صحابي جليل شهد أحداً وما بعدها، وعاش إلى خلافة سيدنا علي رضي الله عنهما، وشهد مع علي جميع مشاهده التي وقعت بينه وبين من خالفه رضي الله عنهم أجمعين، انظر ترجمته في أسد الغابة في الجزء السادس صفحة ست وستين ومائتين، واسمه بلال ، وقيل بليل بالتصغير، وقيل: اسمه داود ، وقيل: يسار ، وقيل: قيس ، فهذه خمسة أقوال في تعيين اسمه، وروايته في سنن ابن ماجه في حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه في الجزء الثاني صفحة خمس وسبعين ومائة بعد الألف، وروايته رواها أيضاً أبو يعلى ، ورواها ابن السني في عمل اليوم والليلة صفحة ست وثلاثين ومائتين.

ورواية أبي يعلى رواها عبد الرحمن عن رجل عن أبيه، وأما رواية ابن ماجه فرواها عبد الرحمن عن أبيه مباشرةً، ولذلك قال الهيثمي في المجمع في الجزء الخامس صفحة خمس عشرة ومائة: فيه من لم يسم، يعني هذا الرجل المبهم، وأبو جناب في الإسناد، وعبد الرحمن سمع من أبيه؛ لأن عبد الرحمن تابعي وعليه تارةً روى عنه بواسطة، وتارةً رواها عنه مباشرةً، كما في تهذيب التهذيب في الجزء السادس صفحة ستين ومائتين، وكذا في السير نص على أنه سمع من أبيه في الجزء الرابع صفحة اثنتين وستين ومائتين.

وعبد الرحمن بن أبي ليلى إمام ثقة، حديثه مخرج في الكتب الستة، توفي سنة ثلاث وثمانين، قيل: انطلقت به دابته في النهر فغرق ومات، وقيل: قتل في موقعة الجنادل التي حصلت بين القراء الذين خرجوا على إمام السفهاء الحجاج بن يوسف الثقفي بقيادة ابن الأشعث ، وقيل لها موقعة الجنادل لكثرة من قتل فيها، فوقعت جنادلهم وكانت سنة اثنتين أو ثلاثاً وثمانين للهجرة، واختلف في إدراكه عمر وروايته عنه، وأدرك عثمان وعلياً رضي الله عنهما، وكان يقول: أدركت عشرين ومائةً من الأنصار من أصحاب النبي المختار عليه صلوات الله وسلامه، كان الرجل منهم إذا سئل عن شيء ود لو أن أخاه كفاه، أي: الجواب وهو لا يجيب.

وقال عبد الله بن الحارث في بيان منزلة ومكانة عبد الرحمن بن أبي ليلى : ما ظننت أن النساء ولدن مثله، ولفظ الحديث من سنن ابن ماجه :

حدثنا أبو جناب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه أبي ليلى دون أن يكون بينهما واسطة، قال: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه أعرابي فقال: إن لي أخاً وجعاً، قال: ما وجع أخيك؟ قال: به لمم يا رسول الله -كما تقدم معنا في رواية أبي بن كعب - قال: اذهب فائتني به، قال: فذهب فجاءه به فأجلسه بين يديه فسمعته يعوذه بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول البقرة، وآيتين من وسطها وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] وآية الكرسي وثلاث آيات من خاتمتها وآية من آل عمران أحسبه قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18]، وآية من الأعراف إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأعراف:54]، وآية من المؤمنين وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون:117] إلى آخرها).

وهنا في سنن ابن ماجه (وآية من المؤمنين وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117] ) وما ذكر الآية التي قبلها، كما ذكرها في الحديث السابق وهي قوله: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، وهي ثلاث آيات متتابعات، ويقصد بآية من المؤمنين هذه الآية الأخيرة وما بعدها، ( وآية من الجن وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3]، وعشر آيات من أول الصافات )، وفي المجمع: وعشر آيات من أول الصف، وهذا غلط في الطباعة، لا في الرواية ( وثلاث من آخر الحشر، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، فقام الأعرابي قد برئ ليس به بأس)، كما تقدم معنا في رواية أبي بن كعب رواه الحاكم في المستدرك من حديث أبي جناب وقال: هذا الحديث محفوظ صحيح، لكن ليس من رواية أبي ليلى بل من رواية أبي بن كعب فلا بد من تمييز هذه الرواية عن تلك، وهذه الرواية يشهد لها ما قبلها وما تقدمها من روايات فتعتضد بها إن شاء الله.

رواية أم أبان عن جدها في قصة المصروع الذي ضربه النبي بطرف ثوبه فشفي

الرواية السادسة، رواية أم أبان وهي هند بنت الوازع عن أبيها الوازع روت عن جدها أيضاً زارع ، فهي هند بنت الوازع بن زارع ، وحديثها في المسند ومعجم الطبراني الكبير كما في المجمع في الجزء التاسع صفحة اثنتين، ورواه أبو داود الطيالسي والبغوي كما في الإصابة للحافظ ابن حجر في الجزء الثالث صفحة أربع وعشرين وأربعمائة.

قال الهيثمي في المجمع: هند بنت الوازع لم أعرفها، وهي أم أبان ، ولم يرو عنها غير مطر بن عبد الرحمن العبدي الأعنق ، وهي روت عن أبيها الوازع ، وروايتها عن أبيها في مسند أحمد ، وأبوها الوازع صحابي، كما نص على ذلك ابن حجر في ترجمته في الإصابة في الجزء الثالث صفحة سبع وعشرين وستمائة فقال: ذكره في الصحابة الإمام أحمد وابن قانع وآخرون، وروت أيضاً عن جدها وهو زارع ، في معجم الطبراني الكبير ومسند أبي داود الطيالسي ، وهو زارع بن عامر ويقال: ابن عمرو العبدي ، وهو من عبد قيس من بلاد البحرين كنيته أبو الوازع ، وهو من الصحابة.

قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة زارع في الجزء الأول صفحة اثنتين وأربعين وخمسمائة: روت عنه ابنة ابنه وهي أم أبان بنت الوازع ، وذكر أبو الفتح الأزدي أنها تفردت بروايته، وقال الحافظ في تعجيل المنفعة صفحة ستين وخمسمائة، هند بنت الوازع كنيتها أم أبان روت عن أبيها وجدها، مترجم لها في التهذيب في الكنى، يعني الجزء الثاني عشر من تهذيب التهذيب في كنى النساء.

وقال في تهذيب التهذيب في الجزء الثاني عشر صفحة ثمان وخمسين وأربعمائة: أخرج حديثها الإمام أحمد في مسنده وأبو داود الطيالسي ، ثم رمز لها في التهذيب (بخت )وأنها من رجال السنن الأربعة، بخت البخاري في الأدب المفرد والسنن الأربعة وهذا غلط في طبع التهذيب، فإنه لم يرو لها من أهل السنن الأربعة إلا أبو داود ، لذلك في التقريب في جميع الطبعات وفي الكاشف وفي غير ذلك ممن ترجمها قال: لم يخرج لها أحدٌ من أهل الكتب الستة إلا أبو داود في السنن، ثم قال عنها في التقريب: مقبولة، أي: تقبل روايتها إذا توبعت، وهكذا إذا اعتضدت، (بخ د) هذا في التقريب، والراوي عنها كما تقدم معنا هو مطر بن عبد الرحمن العبدي الأعنق وهو صدوق، خرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود في السنن، وأم أبان جدة مطر ، فـمطر يروي عن جدته، وهي تروي عن أبيها وجدها.

وعلى كل حال هي مقبولة، بعض طلبة العلم في هذه الأيام لما ترجم لها وتعرض لهذا الحديث في كتاب وقاية الإنسان من الجن والشيطان صفحة أربعة وخمسين ذكر عجباً، قال: أم أبان روى لها البخاري في صحيحه، وقد جاوزت القنطرة، والذي يبدو لي -والعلم عند ربي- أنه اشتبه عليه (بخ) فظن أنه البخاري، والبخاري في الأدب في المفرد ما اشترط ألا يخرج إلا صحيحاً، وعندنا صحيح مسلم ينقسم إلى قسمين: المقدمة والصحيح، ما قبل كتاب الإيمان مقدمة وما التزم مسلم فيها الصحة، ولذلك إذا عزوت فقلت: رواه مسلم في المقدمة، فهذا ليس له شرط الصحيح فقد يكون صحيحاً وقد لا يكون، وهكذا البخاري في الأدب المفرد أو في تاريخه، فقوله: روى لها البخاري في صحيحه وقد جاوزت القنطرة هذا وهم قطعاً وجزماً، وهو مردود، إنما روى لها البخاري في الأدب المفرد، وأهل السنن لم يرو لها منهم إلا أبو داود والعلم عند الله جل وعلا.

على كل حال فهي تروي هنا عن والدها الوازع ، وقلت: روته أحياناً عن جدها زارع ، فعن الوازع قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والأشج ) يعني: جاء أيضاً معه الأشج وهو رئيس قومه واسمه: المنذر بن عاصم ، أو عامر بن المنذر ومعهم رجل مصاب، (جاءوا في وفد إلى النبي عليه الصلاة والسلام الوازع والأشج ومعهم رجل مصاب، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام وثبوا عن رواحلهم فقبلوا يده، ثم نزل الأشج وعقل رواحلهم وأخرج عيبته)، العيبة: هي الصندوق الخاص الذي يضع الإنسان فيه أمتعته النفيسة والأشياء الخاصة به، كأنها صندوق خزانة، (ففتحها ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام فسلم) يعني: أخرج عيبته ففتحها ولبس أحسن الملابس وتطيب وأخرج الأشياء النظيفة وذهب بعد ذلك ليقابل النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أشج إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)، الحلم هو وفور العقل، والأناة: هي التأني والتؤدة في الأمور، (قال: يا رسول الله أنا أتخلقهما أو جبلني الله عليهما؟) يعني: أنا أتكلف هاتين الخصلتين أو جبلا في وركزا، وجعلهما الله فيّ (قال: بل جبلك الله عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله، فقال الوازع : يا رسول الله إن معي خالاً مصاباً فادع الله له، فقال: ائتني به، قال: فصنعت به مثل ما صنع الأشج فألبسته ثوبين فأتيته -يعني بهذا المصاب- فأخذ -أي النبي عليه الصلاة والسلام- طائفةً من ردائه فرفعها حتى رأيت بياض إبطه، ثم ضرب بظهره وقال: اخرج عدو الله، فولى وهو ينظر نظر رجل صحيح)، يعني: هذا المصاب عاد كما كان وليس فيه آفة، رواه أحمد. وفيه هند بنت الوازع ولم أعرفها، وبقية رجاله ثقات.

ثم قال: (وعن أم أبان بنت الوازع عن أبيها أن جدها الوازع -وهذا غلط، بل جدها اسمه: الزارع- انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق معه بابن له مجنون أو بابن أخت له قالت: قال جدي: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قلت: يا رسول الله إن معي ابناً لي، أو ابن أخت لي مجنون آتيك به فتدعو الله جل وعلا له، قال: ائتني به، فانطلقت إليه وهو في الركاب فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدنه مني واجعل ظهره مما يليني، ثم أخذ نبينا عليه الصلاة والسلام بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله وجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه، ويقول: اخرج عدو الله، اخرج عدو الله، فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس نظره الأول، ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه فدعا له فمسح وجهه، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه) رواه الطبراني وأم أبان لم يرو عنها غير مطر ، ومطر كما تقدم معنا ثقة صدوق، وحكم عليها بأنها مقبولة، وهو الكلام فيها، وفي الموضع السابق يقول: لم أعرفها.

والأمر كما قال الحافظ : أنه لم يرو عنها إلا مطر ، وهي تابعية بنت صحابي، وتقدم معنا مراراً أن التابعي إذا لم يعلم فيه جرح -وإن روى عنه راو واحد- فأمره محمول على القبول، وقلت: يعتبر هذا في التابعين ولا يعتبر في غيرهم، ولو روى راويان صارت محل اتفاق على جواز الاستدلال به، وهي من رجال أبي داود ، واحتج بها البخاري في الأدب المفرد، وما في الإسناد آفة إلا هذا، وكما قال الحافظ ابن حجر هي مقبولة، وتقدم لهذا الحديث شواهد من حديث يعلى ومن حديث جابر وغيرهما رضي الله عنهم، فهو حديث لا ينزل عن درجة الحسن بشواهده والعلم عند الله جل وعلا.

رواية ابن عباس في قصة المصروع الذي مسح النبي على صدره فتقيأ مثل الجرو الأسود

الرواية السابعة: رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وتحتها عدة روايات.

الرواية الأولى رواية ابن عباس رضي الله عنهما في المسند (1/239) ومعجم الطبراني الكبير، وعند الدارمي في سننه في المقدمة في الجزء الأول صفحة إحدى عشرة، وعند أبي نعيم في دلائل النبوة صفحة سبع وستين ومائة، وفيها فرقد السبخي تكلم فيه، وقد وثقه ابن معين والعجلي وضعفه غيرهما، كما قال الهيثمي في المجمع في أول حديث في الجزء التاسع صفحة اثنتين، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق عابد، لكنه لين الحديث كثير الخطأ، وحديثه حسن إن وجد لروايته ما يشهد له وما يتابعه وما يقويه فزال احتمال خطئه، هو يخطئ لكن إذا وافقت روايته رواية غيره فحديثه حسن، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة للهجرة، خرج حديثه الترمذي وابن ماجه القزويني .

والرواية ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء السادس صفحة تسع وخمسين ومائة، ثم قال: وفيها فرقد السبخي .

ولفظه عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن امرأةً جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن به لمماً -أي جنوناً وصرعاً من قبل الجن- وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، ففعَّ -يعني: سعل وتقيأ شيئاً من بطنه وفي لفظ فتعَّ بعين مثقلة، كأنك تقول: سعل سعلةً لكن خرج معها تقيء من بطنه- فخرج من فيه مثل الجرو الأسود -كأنه كلب صغير أسود- فشفي).

وفي رواية (فتع أي فسعل) وهذه الرواية لا تنزل إن شاء الله عن درجة الحسن لما تقدم لها من شواهد أيضاً.

الراوية الثانية لـعبد الله بن عباس رضي الله عنهما تدخل في هذا الباب كنت قرأتها من كتاب زاد المعاد وقلت: هي في الصحيحين كما قال ابن القيم ، وهي في المسند أي

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل لنا أمورنا، واقض حوائجنا، اللهم لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وحلمك بعد علمك، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فكنا نتكلم عن كلمة الإمام الذهبي عن حديث جابر أنه: منكر، وقلنا في ذلك نظر إلا إن قصد بالمنكر تفرد الراوي أبي جناب بالرواية، وذكرنا أن العلماء يطلقون المنكر تارة ويريدون به شدة الضعف وفحشه، وتارةً يطلقون النكارة على التفرد بالرواية، ولذلك يقولون: منكر صحيح، ومنكر حسن، ومنكر ضعيف، يعني تفرد به راو وهو صحيح، وهو حسن، وهو ضعيف، فإذا كان قصد الذهبي بأنه انفرد بهذه الرواية في هذا الإسناد فصحيح، نعم ضعفه الدارقطني إلا أن الحديث معناه صحيح وذكره جماعة، وما تقدم معنا من الأحاديث يدل عليه تماماً شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

والحديث نص على تحسينه السيوطي في الإتقان في الجزء الرابع صفحة تسع وخمسين ومائة، قال السيوطي : رواه عبد الله في زوائد المسند بسند حسن، والراوي الذي تكلم على الحديث بسببه هو يحيى بن أبي حية ، قال الحافظ في التقريب: ضعفوه لكثرة تدليسه، وتوفي سنة خمسين ومائة للهجرة أو قبلها، وحديثه في السنن الأربعة إلا النسائي ، يكنى: أبا جناب الكلبي ، وقال الذهبي في الكاشف: قال النسائي وغيره: ليس بالقوي، توفي سنة سبع وأربعين ومائة، وقال في المغني في الضعفاء: قال أبو زرعة : إنه صدوق يدلس ، وقال النسائي والدارقطني : ضعيف، وقال يحيى القطان : لا أستحل أن أروي عنه.

ولفظ الحديث من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه أعرابي فقال: يا نبي الله! إن لي أخاً وبه وجع، قال: وما وجعه؟ قال: به لمم )، وهو: الصرع الذي يصيب الإنسان من قبل الجن، ( قال: فائتني به، قال: فوضعه بين يديه فعوذه النبي صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول سورة البقرة، وهاتين الآيتين وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:163-164]، وآية الكرسي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] إلى آخر الآية الكريمة، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة تبتدئ بقول الله: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284] ).

وتقدم معنا حديث صحيح ثابت عن أبي مسعود الأنصاري أن الآيتين من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه تبدأان من قول الله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285].

وهذا الحديث عن أبي : ( وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] ، وآية من الأعراف إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] )، وقد ورد في عمل اليوم والليلة لـابن السني بسند ضعيف أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقراءة هذه الآية عند مجيء الطلق للمرأة في حال الوضع ليسهل عليها وضعها بإذن ربها جل وعلا.

وتمام حديث أبي : ( وآخر آية المؤمنين فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، والذي يظهر أن المراد من هذه الآية إلى آخر السورة، وليس هذه الآية فقط، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:116-118] يعني ثلاث آيات، تبدأ من هذه الآية، وآية من سورة الجن وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3]، وعشر آيات من أول سورة الصافات، وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا [الصافات:1-2] ، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر وهي أسماء الله الحسنى هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:22] إلى آخره، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، والمعوذتين، عوذه النبي عليه الصلاة والسلام بهذه السور والآيات، فقام الرجل كأنه لم يشتك قط) رواه عبد الله بن أحمد وفيه أبو جناب وفيه ضعف، لكثرة التدليس، وقد وثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح كما تقدم معنا عن الهيثمي في المجمع، وقلت: نص السيوطي على تحسينه لشواهده، وبهذا يجمع بين كلام أئمتنا، وعليه فهذه الرواية ممكن أن تكون أيضاً مقبولةً ثابتةً يحتج بها.