شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين, ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً, وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك! سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك!

اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فقد وصلنا إلى الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة من جامع أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وعنوان هذا الباب: باب: ما جاء في كراهية ما يستنجى به.

قال الإمام الترمذي عليه رحمة الله: حدثنا هناد قال: حدثنا حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ).

قال أبو عيسى عليه رحمة الله: وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن إبراهيم وغيره عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله - يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه: ( أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ), الحديث بطوله، فقال الشعبي : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ). وكأن رواية إسماعيل أصح من رواية حفص بن غياث . والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم.

وفي الباب عن جابر وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

هذا الحديث الذي ذكره الإمام الترمذي في الرواية الأولى جعله كله منقولاً من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وفي الرواية الثانية رواية إسماعيل بن علية جعل الشطر الآخر من الحديث من كلام الشعبي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه مرسل, ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن )، فالرواية الأولى متصلة, والثانية مرسلة، وسيأتينا تحقيق الكلام في هاتين الروايتين إن شاء الله ضمن مراحل البحث.

وكما هو عادتنا سوف نتدارس الرجال أولاً، ثم نتدارس بقية مباحث الحديث الأربعة في بيان درجة الحديث، وتخريج الروايات التي أشار إليها الإمام الترمذي في الباب، وفي بيان فقه الحديث, وما يدل عليه من أحكام.

أول المباحث في ترجمة رجال الإسناد:

شيخ الإمام الترمذي هناد تقدم معنا ذكره مراراً, وهو أول شيخ للترمذي في كتابه الجامع عند الحديث الأول.

ترجمة حفص بن غياث

هناد قال: حدثنا حفص بن غياث ، هذا أول مكان يرد معنا فيه ذكر هذا العبد الصالح حفص بن غياث ، وهو حفص بن غياث بن طلق بن معاوية النخعي , أبو عمر الكوفي القاضي، ثقة فقيه، هذا حكم الحافظ ابن حجر عليه في التقريب, تغير حفظه قليلاً في الآخر, أي: في آخر حياته عليه رحمة الله، من الطبقة الثامنة, توفي سنة 195هـ، وحديثه مخرج في الكتب الستة. أخرج حديثه الجماعة. حفص بن غياث . هذا كلام الحافظ ابن حجر عليه في التقريب.

وما أشار إليه الحافظ من أن حفظ حفص بن غياث تغير في الآخر هو الذي قرره أئمتنا, يقول أبو زرعة : ساء حفظه بعدما استقضي، فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح.

ولعله عندما شغل بأمر القضاء والمنازعات والخصومات صار في حفظه شيء من الوهم والسهو والخطأ، فكما تقدم معنا أنه ثقة فقيه، عدل ضابط، ولكن إذا صرف الإنسان جهده وعنايته في الرواية يبرز فيها، وإذا شغل عنها بغيرها فإنه عندما يروي يغلط ويخطئ، ولذلك يقول أبو زرعة عليه رحمة الله: ساء حفظه بعدما استقضي، فمن كتب عنه من كتابه -حتى بعد أن ولي القضاء- فإنه صالح والناس كتبوا عنه بواسطة ما يرويه من كتابه؛ لأن كتابه مصون.

وتقدم معنا مراراً أن الضبط ينقسم إلى قسمين: ضبط صدر، وضبط سطر، أي: ضبط كتاب، وإذا كان يصون كتابه فلا يوجد مجال للوهم ولا للخطأ، ولذلك قبل ما حدث به قبل أن يطرأ على حفظه شيء من التغير، سواءٌ كان من صدر أو من كتاب، أما بعد اختلاطه فيقول أبو زرعة : فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح.

وكان حفص بن غياث من القضاة الصالحين، وكان أئمتنا يقولون: ختم القضاء به في الكوفة، يعني: ما جاء قاض بعده خيراً منه، ولا يساويه.

وكان يقول كما في تاريخ بغداد: ما وليت القضاء حتى حلت لي الميتة، أي: من فقره وشدة حاجته، ولذلك ولي القضاء ليأخذ شيئاً من المعونة يستعين بها على أمر دينه ودنياه.

وعلى كل حال فمن قام بهذه المهنة واتقى الله فلا لوم عليه، وإن كان كما سيأتينا في ترجمة إسماعيل بن علية : أن كثيراً من أئمتنا كانوا يكرهون هذه المهنة, والسبب في كراهيتهم لها أن القاضي يعتبر من فصيلة الحكام، كما أن العالم يعتبر من زمرة الأنبياء؛ ولذلك كان أئمتنا يقولون: ما نريد أن نحشر مع الحكام، إنما نريد أن نحشر مع الأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

إن الإمام ابن جرير عليه رحمة الله وهو شيخ المفسرين في زمنه وتوفي سنة 310هـ عندما أريد منه أن يلي القضاء فامتنع فلامه تلاميذه وأصحابه قال: كنت أخشى إذا وليت القضاء أن تلوموني, فقد انعكس الأمر، ثم قال لهم: أما بلغكم أن القضاة يحشرون مع الأمراء، والعلماء يحشرون مع الأنبياء، أتريدون أن أحشر مع الأمراء؟ نحن تعلمنا العلم لنكون ورثة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

يضاف إلى هذا ما حصل في القضاء من خلل بعد ذهاب الخلافة الراشدة، ولكن كلمة الحق لا بد منها: من اتقى الله في قضائه فلا حرج عليه.

إن حفص بن غياث ثقة عدل؛ لذا حديثه مخرجٌ في دواوين الإسلام، ولم يغمز عليه في كونه ولي القضاء.

يقول الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح صفحة 398: أجمعوا على توثيقه وعلى الاحتجاج به، إلا أنه في الآخر ساء حفظه، فمن سمع من كتابه فهو أصح ممن سمع من حفظه -انتبه لهذا التقييد- حتى بعد أن ساء حفظه ما حكم عليه بالاختلاط, ولا أن روايته متروكة، لكن يقولون: بعد أن كبر إن حدثت عنه وضبطت من كتابه فهذا أصح مما لو ضبطت من صدره.

هذا فيما يتعلق بترجمة هذا العبد الصالح حفص بن غياث ، وانظر ترجمته في السير للذهبي في الجزء التاسع صفحة 220.

ترجمة داود بن أبي هند

والراوي الثاني تقدم له ذكر معنا فيما تقدم, ألا وهو داود بن أبي هند القشيري المصري , أبو بكر أو أبو محمد , ثقة متقن، كان يهم بآخرة, أي: في آخر حياته يعتريه أيضاً وهم وخطأ, وشيء من النسيان, وهذا حال البشر، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].

كان يهم بآخرة, من الخامسة, توفي سنة 140ه، قال الحافظ ابن حجر : وقيل قبلها، ثم رمز له خت م 4، أي: روى له البخاري تعليقاً, وروى له بقية الجماعة, مسلم وأهل السنن الأربعة, ثقة متقن, من أئمة السنة.

ولما ناقش الضال المضل غيلان القدري، وتقدم معنا ذكر القدرية ضمن مباحث سنن الترمذي ، وتكلمنا على بدعة القدرية, وقلت: إن غيلان بدعته من بدعة القدرية الغلاة, وليس من القدرية المعتزلة المجوسية.

يقول داود بن أبي هند : ما ناقشت أحداً بكامل عقلي إلا القدرية.

يقول: فالتقيت بـغيلان وقلت له: يا غيلان ! ما أفضل ما أعطي ابن آدم؟ أي شيء أغلى جداً عند ابن آدم؟ أي هبة يحصلها؟ وعطية يفوز بها خيراً من غيرها؟ ما أفضل ما أعطي ابن آدم؟ فقال: العقل، وحقيقة هو كذلك.

قال داود : هل العقل شيء مقسوم لا دخل للإنسان فيه، أو هو شيء مباح يأخذ منه الإنسان ما شاء أخبرني؟ ولا شك أنه مقسوم, وكل إنسان له عقل أعطاه الله إياه، ولا يمكن أن يزيد في عقله. ويكبره أو أن يصغره؟

فلما سأله هذا السؤال يقول: ما أجابني غيلان بل ومضى.

ولم مضى؟ لأن القدرية يقولون: إن الله ما قدر شيئاً، ولا يعلم الشيء إلا بعد أن يطرأ، والعباد هم الذين يقدرون, وهم الذين يخلقون ويوجدون.

فلو قال هو شيء مباح تأخذ منه ما شئت، فبإمكانك أن تجعل عقلك أكبر العقول أو أقلها, والواقع غير ذلك، فالعقل شيء مقسوم لا اختيار لك فيه, وهذا يبطل قول القدرية ومذهبهم، ولذلك مضى غيلان وما أجاب داود بن أبي هند عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

ومن مناقبه أنه صام أربعين سنة وما علم أهله به، وكان يتاجر بالخز, فيأخذ غداءه يوهمهم أنه سيأكله، فإذا خرج من بيته تصدق به وذهب إلى حانوته, وما عاد إلا بعد غروب الشمس.

وكان يقول: ثنتان لو لم تكونا لم ينتفع الناس بدنياهم:

أولهما: الموت, لولا الموت لما وسعت الدنيا من عليها.

وثانيهما: أن الأرض تنشف الندى, أي: تمتص الرطوبات والعفونات، وأما إذا كانت الرطوبة تقع على الأرض ولا تجف, فإن الأرض لن تصلح عليها حياة. الموت والندى. عليه رحمة الله. وانظروا ترجمته إن شئتم أيضاً في السير في الجزء السادس صفحة 376.

ترجمة الشعبي

عن داود بن أبي هند عن الشعبي , وهو عامر بن شراحيل , أبو عمرو , ثقة مشهور فقيه صادق, رحمة الله ورضوانه عليه، من السادسة، توفي بعد المائة عن عمر يقارب الثمانين، أخرج حديثه أهل الكتب الستة, الجماعة. قال مكحول الدمشقي -وهو في أهل الشام كـالحسن البصري في أهل البصرة-: ما رأيت أفقه من الشعبي .

و عامر بن شراحيل الشعبي هو علامة عصره، وهو من التابعين, ولد في عهد عمر رضي الله عنه، ورأى علياً -رضي الله عنه- وصلى خلفه.

ومن مناقبه وفضائله وجودة ذهنه أنه كان يقول: ما كتبت شيئاً قط, ما كتب بيمينه سوداء في بيضاء، إنما يعول على حفظه وذاكرته، وكثير من أئمتنا قالوا هذه الجملة: ما كتبت شيئاً قط.

وقال الشعبي : أدركت خمسمائة صحابي أو أكثر يقولون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.

أي: هم في الفضل والمنزلة على هذا الترتيب، وهذا قول الصحابة, ولا يقولون بهذا بناء على عقولهم, وإنما هذا بتوقيف من نبيهم على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وهذا هو الذي استقر عليه قول أهل السنة الكرام بعد أن حصل خلاف بينهم في العصر الأول بين المفاضلة بين عثمان وعلي ، ثم الذي استقر عليه قولهم هذا. وأما أبو بكر ثم عمر . فلا خلاف في ذلك، ثم يثلثون بـعثمان , ويربعون بـعلي رضي الله عنهم أجمعين.

وكان الشعبي يقول -وإذا كان يقول هذا وهو من هو فنحن ماذا نقول- كان يقول: إنا لسنا بالفقهاء.

سبحان الله! ما ترجمك أحد إلا قال: إنك فقيه، بل قال مكحول : ما رأيت أفقه منه، يعني: ما يوجد في التابعين أفقه من الشعبي . ويقول الشعبي : إنا لسنا بالفقهاء، لكنا سمعنا الحديث فرويناه.

تسمع وتروي وتستنبط، هذا هو حال العلماء، وإذا لم يكن هذا هو الفقيه فمن الفقيه؟

قال: ولكن الفقيه من عمل, علم فعمل، هذا هو الفقيه.

ووالله ما عندنا شك بأنك تعمل بعلمك، ولكن هذا زيادة تواضع منك لربك جل وعلا.

وهذا كما كان الحسن البصري عليه رحمة الله يقول: هل رأيتم فقيهاً قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا والراغب في الآخرة، القائم ليله الصائم نهاره.

وكان الشعبي يقول -وهذا من باب تواضعه وتعليم طلبة العلم بعده- يقول: ليتني لم أكن علمت من ذا العلم شيئاً.

سبحان ربي العظيم! علم تعلمه ويصبح به خليفة للنبي عليه الصلاة والسلام ومن ورثته، ثم يقول: ليتني لم أكن تعلمت من ذا العلم شيئاً!

قال الإمام الذهبي معلقاً على هذه الجملة المباركة: لأن العلم حجة على العالم, فينبغي أن يعمل به، هذا الأمر الأول، وينبغي أن ينبه الجاهل فيأمره وينهاه، وهذا الأمر الثاني، ولأنه مظنة ألا يخلص طالب العلم والعالم في علمه, وأن يفتخر به ويماري به؛ لينال رئاسة ودنيا فانية، ولأجل هذه الأمور الثلاثة يقول الإمام الشعبي : ليتني لم أكن تعلمت من ذا العلم شيئاً! فالعلم حجة على العالم, فيغفر الله للجاهل يوم القيامة سبعين مرة, ولا يغفر للعالم إلا مرة، وليس من عصى الله وهو يعرفه كمن عصاه وهو لا يعرفه.

وبالمقابل فثواب العالم عظيم أيضاً إذا ما اتقى الله بعلمه، فالعلم حجة على العالم ليعمل، ويدعو إلى هذا العلم، ويأمر وينهى، ويخلص في علمه, وألا يماري به, وألا يريد به رئاسة ولا دنيا فانية.

فمن أجل هذه المحاذير التي تحف بالعلم يقول الشعبي : ليتني لم أكن تعلمت من ذا العلم شيئاً!

وكان يصبر على أحوال الناس فيقول: لو أصبت في تسع وتسعين مسألة وأخطأت في مسألة لحفظ الناس الخطأ وتركوا الصواب.

يعني: الكريم من عد خطؤه، وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه

وكان يقول - وهذا كثير من السابقين كانوا يرددونه, يقولون-: ما بكيت من زمان إلا بكيت عليه، يعني: زمان لا يعجبني لما فيه من كدر وانحراف، وبعد مضيه يقول: ليته عاد ذلك الزمان, ليته عاد.

وتقدم معنا في ترجمة عبد الله بن مسعود أنه قال: لا يأتي على هذه الأمة عام ولا يوم إلا والذي بعده شر منه, حتى نلقى نبينا عليه الصلاة والسلام على الحوض.

وكان يقول هذه الجملة التي تنطبق على واقعنا: ما اختلفت أمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها.

هذه سنة الاختلاف، فعندما ننشغل ببعضنا فأعداؤنا تخلو لهم الساحة، ويفرغ الأمر لأهل الباطل, ولا يعارضهم في طريقهم أحد, إلا ظهر وانتصر أهل الباطل على أهل الحق.

وكان يقول: لا أدري -تساوي- نصف العلم. انظرو ترجمته الطيبة المباركة مطولة في السير في الجزء الرابع صفحة 294.

والراوي الذي بعد الشعبي تقدمت معنا ترجمته, وهو علقمة .

عن عبد الله بن مسعود تقدمت معنا أيضاً ترجمته.

ترجمة إسماعيل بن علية

قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن إبراهيم ، يريد به إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم , وهو المعروف بـإسماعيل بن علية، وعلية اسم أمه، وقد حكي عنه أنه كان يكره أن يتسمى بذلك رحمة الله ورضوانه عليه.

قال الحافظ ابن حجر في التقريب: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي , أبو بشر البصري , يقال له: ابن علية , المعروف بـابن علية , ثقة حافظ, من الثانية، توفي سنة 193هـ, وهو ابن ثلاث وثمانين سنة, يعني: يقارب الشعبي , ويزيد عليه ثلاث سنين, عليهم جميعاً رحمة رب العالمين. هذه ترجمته في التقريب.

و إسماعيل بن علية يقول فيه سيد الحفاظ شعبة بن الحجاج : إسماعيل بن علية سيد المحدثين, ويقول أئمتنا: حديثه في كتب الإسلام كلها.

وكان يقول كما في السير في الجزء التاسع صفحة 107: من قال لي: إسماعيل بن علية فقد اغتابني، رحمة الله ورضوانه عليه.

علق الإمام الذهبي على هذه العبارة قال: هذا سوء خلق، أي: غلط الذهبي من قال هذه العبارة في حق هذا الإمام المبارك، ولو كان التمس له عذراً فيما يقول، فإنه إذا عرف الإنسان بلقب وإن كان فيه نقصاً فلا حرج على الإنسان عندما يذكره أن يذكره بذلك اللقب من باب التعريف والتبيين، لا من باب التحقير والتهوين، فإذا قلت: الأعمش أو الأعرج لا يضر بشرط ألا تقصد تحقيره.

وهنا إسماعيل بن علية يقول: إذا نسبتموني إلى أمي كأنكم ضيعتم نسبي، والإنسان لا ينسب إلى أمه إلا في حالة العهر، وإذا كان ابن طهر فإنه ينسب إلى أبيه، فيقول لذلك: من قال لي إسماعيل بن علية فقد اغتابني، ومن حقه أن يقول هذا.

وأنا أقول: من قال: إسماعيل بن علية ونسبه إلى أمه تنقيصاً له فلا شك أنه قد اغتابه، ومن قال: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المعروف بـابن علية ، فليس هناك حرج، ولا داعي لأن نقول إن هذا سوء خلق.

والإمام الذهبي رحمة الله ورضوانه عليه دائماً ما يرقق العبارة، ولكنه بشر، فالعبارات من قالها وقيدها لو كرر نظره فيها مرات ومرات لغير وغير، فالإنسان يغير في الكلام العلمي, فكيف في حكمه على الناس وفي التعبير عنهم فهو من باب أولى.

والإمام الشافعي عليه رحمة الله قرئت عليه الرسالة مائة مرة, وما من مرة إلا وغير فيها، ثم قال في تمام المائة: أبى الله أن يصح كتاب غير كتابه ولو عرض كتاب سبعين مرة. هذا كلام الإمام الشافعي ، لا يوجد فيه سقط ولا خطأ، وأنا لا أقول هذا من باب التعيير للذهبي وتنقيصه, فرحمة الله عليه وعلى أئمتنا، إنما أقول: من حق هذا الإمام أن يقول: أنا أكره أن تعبر عني بهذا اللقب، وإنما قل: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ، وإذا الإنسان ما عرف قل له: هذا الذي هو أبو بشر البصري الثقة الحافظ الذي يقول فيه شعبة : إنه سيد المحدثين, الذي ولي القضاء ثم ترك القضاء، الذي هو تلميذ شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك , قل ما شئت في تعريفي، لكن تجنب هذه التسمية: ابن علية ، حقيقة لا حرج، فهذا من حقه أن يقول: من قال عني إسماعيل بن علية فقد اغتابني.

قال الذهبي : هذا سوء خلق. ثم قال: هذا شيء غلب عليه, يعني: خلق غلب على إسماعيل بن علية, وفي الحقيقة لو أن الناس تجنبوا التعبير عنه بذلك لكان الخير وانتهى الأمر.

وهو من العلماء الربانيين، قال فيه حماد بن سلمة من أئمة أهل السنة الكبار: كنا نشبهه بـيونس بن عبيد .

و يونس بن عبيد تقدم معنا ذكره وشيء من كراماته، وذكر زهده وورعه في البيع والشراء، وقول بعض الباعة بعد أن رأى ورعه وعرف اسمه، قال: إذا كنا في السفر واشتد علينا الكرب نقول: اللهم رب يونس بن عبيد انصرنا على أعدائنا.

يقول حماد بن سلمة : كنا نشبه إسماعيل بن إبراهيم بـيونس بن عبيد ، حتى دخل فيما دخل من الولاية. وكان قد تولى ديوان المظالم لـهارون الرشيد , كما ولي أيضاً القضاء في الصدقات والإشراف على أموال اليتامى.

فـحماد بن سلمة كأنه يريد أن يقول: نزل وتأخر عن مرتبته.

ويقول شعبة عنه: إنه ريحانة الفقهاء، يعني: في الفقه ريحانة الفقهاء، وفي الحديث سيد المحدثين, يشبهونه بـيونس بن عبيد , فلما دخل في القضاء نزلت رتبته.

انظر لهذه القصة التي يرويها أئمتنا في ترجمته, رواها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمته في الجزء السادس صفحة 236، وذكرها ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمته في الجزء الأول 278، وأشار إليها الذهبي وذكرها في الميزان في الجزء الأول صفحة 218، وفي السير في الجزء التاسع صفحة 110.

وخلاصتها: أن شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كان يشتغل ويتجر وينفق على أئمة الحديث، وكان يقول: لولا خمسة ما اتجرت, فعندي ما يكفيني, ولا أريد أن أدخل في أمر الدنيا، لكن لولا خمسة ما اتجرت: السفيانان الثوري وابن عيينة ، وابن السماك والفضيل بن عياض وإسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ، كأنه يقول: هؤلاء شيوخ المحدثين، وسادة المسلمين، ريحانة الفقهاء هؤلاء, أريد أن أصونهم عن وظائف السلطان, وعن أعطيات الحكام، لولا هؤلاء لما اتجرت، إنما أتجر لأنفق عليهم؛ من أجل أن يبتعدوا عن الأمراء، وحقيقة إن الاقتراب منهم ذل للقلب, لا شك في ذا.

وكان سفيان بن عيينة يخبر عن نفسه فيقول: منذ أن خالطت السلطان حرمني الله من فهم القرآن.

وقد قلت مراراً: إن سلطان زمانهم يتبرك به، ولو خرجنا للاستسقاء لقدمناه يدعو، وفي حقيقة لعله لا يصل أحد إلى صلاحه في هذا الوقت.

وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم وعلى قدر الكرام تأتي المكارم

ومع ذلك يقول: منذ أن أخذت أعطيات السلطان وخالطت السلطان حرمت فهم القرآن, أي: حجبني الله عن فهم القرآن. هذا سفيان بن عيينة .

إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ولي لـهارون الرشيد -الذي يحج سنة ويغزو أخرى- على الصدقات وعلى ديوان المظالم. فلما جاء عبد الله بن المبارك من مرو إلى بلاد العراق إلى بغداد تلقاه تلاميذه, ومنهم إسماعيل بن إبراهيم , فأكرمهم وأحسن إليهم ولاطفهم. إسماعيل جاء إلى شيخه، وكما رباه شيخ الإسلام وجده على ذلك، سلم على شيخه فلم يسلم عليه وجلس في الحلقة فما نظر إليه، فكعادة التلميذ يريد أن يسترضي شيخه، ولا يعني أن شيخه هجره أنه يهجر شيخه، يعني: ليس كحال التلاميذ في هذه الأيام، وقد أخبرني بعض الشيوخ الصادقين أن بعض طلبة العلم جاء ليتعلم وجلس فترة، يريد أن يتعلم, يطلب من الشيخ زيادة، قال: يا ولدي! طلب العلم يحتاج إلى بذل ومصابرة وجهد وتعب ومجاهدة إلخ وما أظهر التلميذ هذه العلامات, فقال له: خذ بمقدار ما تتحمل على حسب استطاعتك, يقول هذا التلميذ: لا, أنا أريد أن أتفرغ, وأنا وأنا. ويقول: أنا في أكثر مما تقول، فالشيخ أراد أن يستفزه ليثبت له فعلاً, فقال: كذبت، قال التلميذ: لم أكذب, بل أنت ومن علمك كذابون دجالون، قال: يا ولدي! أنا قلت لك من البداية: العلم يحتاج إلى صبر, نسأل الله حسن الخاتمة.

إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم هو ريحانة الفقهاء، وسيد المحدثين، لكن وفوق كل ذي علمٍ عليم.

والله إن شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك أفضل منه ومن غيره, فهو سيد المسلمين في زمانه, يقول فيه الإمام أحمد كما تقدم معنا: لا يتقدمه في قلبي أحد، ويقول: لو قيل لي: اختر لهذه الأمة إماماً، ما اخترت لهم إلا سفيان الثوري .

على كل حال إسماعيل بن إبراهيم يقول لـابن المبارك: أيها الإمام! كنت منتظراً برك وإحسانك فما كلمتني، وأنا الذي سلمت عليك وما رددت علي، وجلست فما نظرت إلي, فما الذي بدر مني؟ أتوب إلى الله. فقال ابن المبارك : يأبى العبد إلا أن يقصر له عن العصا, يعني: ما فهم في التعريض, ويحتاج إلى تصريح فـ:

العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة

يأبى العبد إلا أن يقصر له عن العصا وإن لم يضرب بها؛ من أجل أن يعي حاله, ويبصر طريقه, ثم قال: اكتبوا على ظهر كتابه, فنظم أبياتاً كتبت إليه, يقول فيها:

يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين

احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدين

فصرت مجنوناً بعدما كنت دواء للمجانين

أين رواياتك فيما مضى عن ابن عون وابن سيرين

أين رواياتك في سردها في ترك أبواب السلاطين

فإن قلت أكرهت فذا باطل زل حمار العلم في الطين

وآخر الأبيات:

لا تبع الدين بالدنيا كما يفعل ضلال الرهابين

وأنا أقول: والله إنه ما باع دينه بدنياه، لكن هذا الورع الذي كان عند سلفنا وأئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

فلما قرأ إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم هذه الرسالة خرج حافياً من بيته إلى بيت هارون الرشيد مباشرة، وما بقي عنده شيء يثبته للقائه في اليوم الثاني خرج، ويقول قابله بعد الظهيرة, فلما دخل عليه قال: اجلس, قال: لا أجلس، قال: ماذا وراءك؟ قال: الله الله في شيبتي يا أمير المؤمنين! قال: وماذا عندك؟ قال: اعفني من القضاء, قال: وماذا عندك؟ ما السبب؟ لعل مجنون خراسان أفسدك علينا؟ يقصد ابن المبارك , قال: هو ذاك أقلني، قال: أقلناك، فخرج من قصر هارون يطير فرحاً، وذهب إلى شيخه عبد الله بن المبارك فأخبره, فأكرمه وأحسن إليه كما كان.

هذا وهم في القرن الثاني، وتالله لا يوجد في القضاء في ذلك الوقت مادة واحدة خارجة عن كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، بل زيادة على هذا لا يولى القضاء إلا المجتهد، الذي لا يلزم باجتهاد أحد, وهو قرن الشافعي ومن بعده إلى

هناد قال: حدثنا حفص بن غياث ، هذا أول مكان يرد معنا فيه ذكر هذا العبد الصالح حفص بن غياث ، وهو حفص بن غياث بن طلق بن معاوية النخعي , أبو عمر الكوفي القاضي، ثقة فقيه، هذا حكم الحافظ ابن حجر عليه في التقريب, تغير حفظه قليلاً في الآخر, أي: في آخر حياته عليه رحمة الله، من الطبقة الثامنة, توفي سنة 195هـ، وحديثه مخرج في الكتب الستة. أخرج حديثه الجماعة. حفص بن غياث . هذا كلام الحافظ ابن حجر عليه في التقريب.

وما أشار إليه الحافظ من أن حفظ حفص بن غياث تغير في الآخر هو الذي قرره أئمتنا, يقول أبو زرعة : ساء حفظه بعدما استقضي، فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح.

ولعله عندما شغل بأمر القضاء والمنازعات والخصومات صار في حفظه شيء من الوهم والسهو والخطأ، فكما تقدم معنا أنه ثقة فقيه، عدل ضابط، ولكن إذا صرف الإنسان جهده وعنايته في الرواية يبرز فيها، وإذا شغل عنها بغيرها فإنه عندما يروي يغلط ويخطئ، ولذلك يقول أبو زرعة عليه رحمة الله: ساء حفظه بعدما استقضي، فمن كتب عنه من كتابه -حتى بعد أن ولي القضاء- فإنه صالح والناس كتبوا عنه بواسطة ما يرويه من كتابه؛ لأن كتابه مصون.

وتقدم معنا مراراً أن الضبط ينقسم إلى قسمين: ضبط صدر، وضبط سطر، أي: ضبط كتاب، وإذا كان يصون كتابه فلا يوجد مجال للوهم ولا للخطأ، ولذلك قبل ما حدث به قبل أن يطرأ على حفظه شيء من التغير، سواءٌ كان من صدر أو من كتاب، أما بعد اختلاطه فيقول أبو زرعة : فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح.

وكان حفص بن غياث من القضاة الصالحين، وكان أئمتنا يقولون: ختم القضاء به في الكوفة، يعني: ما جاء قاض بعده خيراً منه، ولا يساويه.

وكان يقول كما في تاريخ بغداد: ما وليت القضاء حتى حلت لي الميتة، أي: من فقره وشدة حاجته، ولذلك ولي القضاء ليأخذ شيئاً من المعونة يستعين بها على أمر دينه ودنياه.

وعلى كل حال فمن قام بهذه المهنة واتقى الله فلا لوم عليه، وإن كان كما سيأتينا في ترجمة إسماعيل بن علية : أن كثيراً من أئمتنا كانوا يكرهون هذه المهنة, والسبب في كراهيتهم لها أن القاضي يعتبر من فصيلة الحكام، كما أن العالم يعتبر من زمرة الأنبياء؛ ولذلك كان أئمتنا يقولون: ما نريد أن نحشر مع الحكام، إنما نريد أن نحشر مع الأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

إن الإمام ابن جرير عليه رحمة الله وهو شيخ المفسرين في زمنه وتوفي سنة 310هـ عندما أريد منه أن يلي القضاء فامتنع فلامه تلاميذه وأصحابه قال: كنت أخشى إذا وليت القضاء أن تلوموني, فقد انعكس الأمر، ثم قال لهم: أما بلغكم أن القضاة يحشرون مع الأمراء، والعلماء يحشرون مع الأنبياء، أتريدون أن أحشر مع الأمراء؟ نحن تعلمنا العلم لنكون ورثة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

يضاف إلى هذا ما حصل في القضاء من خلل بعد ذهاب الخلافة الراشدة، ولكن كلمة الحق لا بد منها: من اتقى الله في قضائه فلا حرج عليه.

إن حفص بن غياث ثقة عدل؛ لذا حديثه مخرجٌ في دواوين الإسلام، ولم يغمز عليه في كونه ولي القضاء.

يقول الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح صفحة 398: أجمعوا على توثيقه وعلى الاحتجاج به، إلا أنه في الآخر ساء حفظه، فمن سمع من كتابه فهو أصح ممن سمع من حفظه -انتبه لهذا التقييد- حتى بعد أن ساء حفظه ما حكم عليه بالاختلاط, ولا أن روايته متروكة، لكن يقولون: بعد أن كبر إن حدثت عنه وضبطت من كتابه فهذا أصح مما لو ضبطت من صدره.

هذا فيما يتعلق بترجمة هذا العبد الصالح حفص بن غياث ، وانظر ترجمته في السير للذهبي في الجزء التاسع صفحة 220.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3974 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3903 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3783 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3782 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3480 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3411 استماع