شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فلا زلنا نتدارس ثلاثة أبواب من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا والمسلمين رحمة رب العالمين، وهذه الأبواب الثلاثة هي الباب العاشر فما بعده، وعناوينها: باب ما جاء في الاستتار عند الحاجة، وأورد الترمذي في هذا الباب حديث أنس وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض).

والباب الذي بعده: باب ما جاء في كراهة الاستنجاء باليمين، فأورد حديث أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه).

والباب الذي بعده: باب الاستنجاء بالحجارة، فأورد حديث سلمان رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام (أنه لما قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال سلمان : أجل، نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم).

وهذه الأحاديث الثلاثة في الأبواب الثلاثة، وقد انتهينا إخوتي الكرام من المبحث الأول المتعلق بها ألا وهو في ترجمة رجال الإسناد، وشرعنا في الموعظة الماضية في الكلام على فقه الحديث، وقلت: إن فقه الحديث يدور على ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: في حكم التستر عند قضاء الحاجة.

والمسألة الثانية: في حكم مس العورة باليمين، والاستنجاء باليمين.

والمسألة الثالثة: في حكم الاستنجاء بالحجارة أعني: الاستجمار.

أما المسألة الأولى فقد مر الكلام عليها -إخوتي الكرام- وهي كما قلت ثلث مبحثها في فقه الحديث فيما يتعلق بالتستر عند قضاء الحاجة فالمعتمد عند أئمتنا الأربعة الكرام البررة أنه يستحب للإنسان ألا يرفع ثوبه إذا أراد حاجته إلا بمقدار الحاجة والضرورة، وعليه فلا يتجرد من ثيابه، ولا يرفع الثوب قبل أن يدنو من الأرض، وإذا انتهى من الحاجة فيستحب له أن يسدل ثوبه قبل أن ينتصب قائماً، وبينت أن هذا من باب الاستحباب؛ لأن ستر العورة في الخلوة مستحب وليس بواجب، نعم هو أدب رفيع ينبغي للإنسان أن يأخذ به، وقد ذهب بعض الشافعية كما تقدم معنا إلى وجوب ذلك، وبينت الأدلة التي تصرف الأمر عن الوجوب كما هو قول أئمتنا الكرام عليهم رحمة ربنا الرحمن، وقلت: إن المحافظة على ذلك الأدب تجعل في النفس حصانةً إيمانية بحيث يراقب رب البرية، ومن تأدب في الخلوة فهو من باب أولى سيتأدب في الحضور.

مذهب الأئمة الأربعة في حكم مس الذكر باليمين وكذلك الاستنجاء بها

ننتقل بعد ذلك -إخوتي الكرام- إلى المبحث الثاني في فقه الحديث ألا وهو مس الذكر والعورة باليمين، وحكم الاستنجاء والاستجمار باليمين.

في هذا الحديث، أعني: حديث أبي قتادة رضي الله عنه (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل أن يمس ذكره بيمينه)، وهذا النهي أيضاً للاستحباب لا للإيجاب، ومخالفة هذا توقع الإنسان في كراهة التنزيه لا في ارتكاب الحرام.

وقد نص على ذلك أئمتنا الكرام وهذا هو قول المذاهب الأربعة المتبعة، فيكره مس الذكر باليمين، وكذا يكره الاستنجاء والاستجمار بها، فيكره أن تمس عضوك بيمينك مطلقاً، ويكره لك أن تستنجي أو أن تستجمر باليمين، وإنما يكون الاستنجاء والاستجمار ومس الذكر بالشمال كما سيأتينا، وهذه الكراهة للتنزيه؛ لأن ذلك أدب من الآداب ينبغي أن يحافظ عليه أولوا الألباب، وليس في المخالفة معصية على الصواب.

وقد قرر هذا أئمتنا الكرام وانظروا ذلك في كتاب المجموع للإمام النووي في الجزء الثاني صفحة تسع ومائة، وفي فتح الباري في الجزء الأول صفحة ثلاث وخمسين ومائتين، وهذا الحكم اتفقت عليه المذاهب الأربعة.

مذهب الظاهرية في حكم مس الذكر باليمين وكذلك الاستنجاء بها

وخالف فيه الظاهرية ولا يعتد بخلافهم فنص الإمام ابن حزم غفر الله له وللمسلمين أجمعين في المحلى في الجزء الأول صفحة خمس وتسعين: أن هذا النهي للتحريم، ولا يجوز للإنسان أن يمس عضوه بيمينه، وكذلك لا يجوز أن يستنجي بيمينه، فقال: ولا يجزئ أحداً أن يستنجي بيمينه، ولا وهو مستقبل القبلة، يعني: لا ينبغي ولا يجزئه فلو استنجى وهو مستقبل القبلة فلا يجزئ هذا الاستنجاء؛ وقد تقدم معنا هذا المبحث، وأننا نهينا عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، وقلت: هذا محمول على الفيافي والصحراء، لا على العمران والبناء على المعتمد فهذا كما قلت انفرد به ابن حزم فقال: لا يجزئ أحداً أن يستنجي بيمينه، فلو استنجى بيمينه فلا يجزئه، وقد عصى ربه، ولم يحصل الإنقاء، وينبغي أن يستنجي بشماله مرةً ثانية، وأن يتوب إلى ربه جل وعلا، وكما قلت: هذا انفراد منه بهذا القول وأئمتنا على خلافه، وما ورد في كتاب المهذب لحبر زمانه وإمام المسلمين في وقته أبي إسحاق الشيرازي عليه رحمة الله من أنه لا يجوز للإنسان أن يستنجي بيمينه، فكلمة: (لا يجوز) تحتمل أمرين كما قرر أئمتنا؛ تحتمل كراهة التنزيه، وتحتمل كراهة التحريم.

تحقيق الشافعية في مسألة الاستنجاء باليمين

فما قاله أبو إسحاق في المهذب: ولا يجوز أن يستنجي بيمينه، ليس فيه ما يدل على موافقة الظاهرية في قولهم: إنه يحرم الاستنجاء باليمين، وإن أشعر ظاهر اللفظ بذلك.

قال الإمام النووي : فيحمل كلام المصنف -يعني: مصنف المهذب وهو أبو إسحاق الشيرازي - وموافقيه على أن (لا يجوز) معناه: ليس مباحاً مستوي الطرفين في الفعل والترك، -أي: فهذا ليس بمباح، يستوي فعله وتركه، بل الترك هو المقصود والفعل خلاف الأدب، وهو الاستنجاء باليمين -بل هو مكروه راجح الترك، وهذا أحد المذهبين المشهورين في أصول الفقه، أي: في استعمال كلمة (لا يجوز) فإنها تطلق على ما هو محرم، وعلى ما هو مكروه، ثم يقول: وقد استعمل المصنف- يعني أبا إسحاق الشيرازي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا -كلمة (لا يجوز) في مواضع ليست محرمة، وهي تتخرج على هذا الجواب، يعني: قوله: (لا يجوز)، ليس هذا مستوِ الطرفين في الفعل والترك، وإنما الترك راجح والفعل خلاف الأولى، وفيه كراهة تنزيه، ثم قال الإمام النووي : وحكي أن المصنف وهو أبو إسحاق الشيرازي ضرب على كلمة (يجوز) أي حذفها، فبقيت العبارة: ولا يستنجي بيمينه، وهو يصحح ما قلناه، والنهي هنا والمنع -كما قلت- للأدب ولكراهة التنزيه لا للتحريم، وهذا قول المذاهب الأربعة.

صحيح، أن الإمام البخاري عليه رحمة الله في صحيحه ما أعطى حكماً قاطعاً لهذه المسألة لفقهه ولاحتياطه ولورعه رضي الله عنه وعن أئمتنا، فقال في كتاب الوضوء: باب النهي عن الاستنجاء باليمين، والنهي شامل للتنزيه وللتحريم، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال: باب النهي وهنا قال: باب التحريم أو باب الكراهة عن الاستنجاء باليمين، إشارةً إلى أنه لم يظهر له -أي: للبخاري - أن النهي للتحريم أو للتنزيه، فأطلق النهي، لأنه لم تظهر له القرينة الصارفة عن التحريم إلى كراهة التنزيه، على القول بأن النهي يفيد التحريم في قوله: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل أن يمس ذكره بيمينه، وأن يستنجي بيمينه) وعبر عن فقهه بظاهر الحديث دون أن يستنبط منه حكماً، والحكم استنبطه أئمتنا، وبذلك يظهر علو قدرهم في الفقه على الإمام البخاري ، ولا ينكر قدره رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا، لكنه في الفقه دونهم، ولا شك أن فعله هذا احتياط وورع منه، لكن لا بد من فصل في المسألة، فأئمتنا -كما قلت- ذكروا أن النهي هنا لكراهة التنزيه لا للتحريم، وابن حزم قابلهم في الطرف الثاني فقال: للتحريم وجزم بذلك لكن الجزم هناك في غير محله، والبخاري توقف ولم يجزم بشيء، وأئمتنا -كما قلت- الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين جزموا بأن النهي للكراهة فقط وليس للتحريم، والعلم عند رب العالمين، وهذه الكراهة تكون إذا كانت يده الشمال سليمةً وبإمكانه أن يمس العضو بها وأن يستنجي بها، أما إذا كانت يده مقطوعة أو فيها آفة فيباح له أن يمس بيمينه، وأن يستنجي بيمينه بالاتفاق من أجل الضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، وإذا ضاق الأمر اتسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

كلام الخطابي حول مس الذكر باليمين والنهي عن الاستنجاء بها عند البول ورد الفقهاء عليه

إخوتي الكرام! عند هذا المبحث أورد الإمام الخطابي سؤالاً في منتهى الغرابة ثم أجاب عنه بما هو أغرب، فتعقبه الحافظ ابن حجر رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

يقول: إذا نهينا نحن عن مسح العضو بيميننا، ونهينا عن الاستنجاء والاستجمار بيميننا، فمن أراد أن يستجمر من حاجة البول فسيقع في أحد المحظورين ولا بد، فإن أمسك الحجر أو الورق بيمينه فقد استجمر باليمين، وإن أمسك الحجر أو الورق بشماله فقد مس العضو بيمينه، فأنت إذاً بين محظورين فماذا تفعل؟

ثم للتخلص من هذا الإشكال أورد الإمام أبو سليمان الخطابي عليه رحمة الله -توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة للهجرة- صورة يحار الإنسان في فعلها قبل أن يكشف عورته، وكان يمتحن بها بعض العلماء -يعني: المتقدمين- بعض طلبة العلم، وكلام الخطابي موجود في معالم السنن في شرح سنن أبي داود في الجزء الأول صفحة ثلاث وثلاثين وفي تهذيب سنن أبي داود للإمام المنذري ، وعليه شرح الخطابي وتعليق الإمام ابن القيم عليهم جميعاً رحمة الله، ونقله عنه البغوي في شرح السنة في الجزء الأول صفحة تسع وستين وثلاثمائة، وخلاصة ذلك ذكرت في فتح الباري في الجزء الأول صفحة ثلاث وخمسين ومائتين، وأربع وخمسين ومائتين، يقول: ولا يتمسح بيمينه أي: لا يستنجي بها، وقد أثار الخطابي هنا بحثاً وبالغ في التبجح به، العبارة في الحقيقة خشنة، وهو قرر ما قرر وإن كانت تقريراته في هذه المسألة مردودة وحكي عن أبي علي ابن أبي هريرة وهو من أئمة الشافعية الكبار، توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة للهجرة، قبل الإمام الخطابي وهو الحسن بن الحسين أبو علي انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي في زمنه، وترجمته في طبقات الشافعية الكبرى في الجزء الثالث صفحة ست وخمسين ومائتين، وفي سير أعلام النبلاء في الجزء الخامس عشر صفحة ثلاثين وأربعمائة، وكان أبو علي ابن أبي هريرة : ناظر رجلاً من الفقهاء الخرسانيين من أصبهان، فسأله عن هذه المسألة فأعياه جوابها، وكان قبل أن يسأله سأله عن مسألة في الوضوء فتحرج لذلك، وقال: تسألني عن مسألة في الوضوء وأنا فقيه أصبهان، فقال: والله لن أسألك إلا عن مسألة في الطهارة؛ إذا قضيت الحاجة وقد نهيت عن مسك العضو بيمينك ونهيت عن الاستجمار بيمينك فماذا تفعل؟ قال: فاحتار وما استطاع أن يرد؛ لأنه إن قال: أمسك الحجر باليمين فقد استجمر بها، وإن قال: أمسك الحجر بالشمال فقد مس العضو بيمينه، ومحصل الجواب عند أبي علي ابن أبي هريرة والخطابي أن يقصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره وهذه لا إشكال فيها، لكن إذا لم يكن هناك جبل أو جدار ماذا يفعل؟ قال: فإن لم يجد فليلصق مقعدته بالأرض، أي: يجلس على إليتيه ويلصق ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه -والعقبان: مؤخر القدم- فتأتي بالحجرة الصغيرة وتضعها بين العقبين، وأنت جالس على الإليتين، ثم تمسك العضو بشمالك والحجر بين العقبين وتمسح هذا العضو بهذا الحجر الذي بين عقبيك، وهذه المسألة بمنتهى الكلفة، وأما وضع الحجر بين إبهامي الرجلين فهذه أشد وأشد، كيف سيصل إلى ذلك المكان، والإبهامان تبعدان عن المقعد وعن العضو قرابة ذراع؟

يقول: ويستجمر بيساره فلا يكون متصرفاً في شيء من ذلك بيمينه، الحافظ ابن حجر علق على ذلك -ونعم ما علق- قال: وهذه هيئة منكرة، بل يتعذر فعلها في غالب الأوقات، وقد تعقبه الإمام السندي بأن النهي عن الاستجمار باليمين مختص بالدبر، قال: وأما فيما يتعلق بالاستجمار نحو القبل أي: البول فلا يمنع من أن يستجمر بيمينه، فلا يمسك الذكر باليمين لكن يستنجي باليمين، يمسك الحجر باليمين، هذا يقوله الإمام السندي ، فلا حرج عليه أن يمسك الحجر بيمينه والعضو بشماله ويستجمر في حالة البول، والمنهي عنه هو الاستجمار في حالة الغائط بيمينه، وأما هنا فلا حرج عليه، وهذا قاله ابن حزم في المحلى في الجزء الأول صفحة ثمان وتسعين قال: مسح البول باليمين جائز؛ لأنه لم يرد فيه نهي في البول، وإنما النهي في الاستنجاء فقط، لكن علق الحافظ ابن حجر أيضاً على كلام الإمام السندي عليهم جميعاً رحمة الله.

قال: وقد تعقبه السندي بأن النهي عن الاستجمار مختص بالدبر، والنهي عن المس مختص بالذكر، فبطل الإيراد من أصله، فيمسك الحجر بيمينه وليس عليه حرج وإن استجمر بيمينه؛ لأنه لم يمس العضو بيمينه، كذا قال، وما ادعاه من تحقيق الاستنجاء بالدبر مردود، والمس وإن كان مختصاً بالذكر لكن يلحق به الدبر قياساً، يعني: يحرم عليك أن تمس باليمين ذكرك ودبرك، -والتحريم هنا قلنا: من باب كراهة التنزيه، وليس التحريم، كما يكره لك أن تستجمر في حالة البول أو الغائط بيمينك.

اشتراك النساء مع الرجال في حكم مس العورة باليمين

فإذاً قوله: إن هذا خاص بالذكر يقول: هذا ليس كذلك بل يلحق به الدبر قياساً، والتنصيص على الذكر لا مفهوم له بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون، والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خص المرأة، فتستوي مع الرجل في التكليف، وفي الإمكانية، وفي الجزاء، نعم كل واحد له بعض الأحكام الخاصة من ذكر أو أنثى -وهذا أمر آخر- لكن لا فضل لذكر على أنثى في الأحكام الشرعية، وأما موضوع التفضيل في الدنيا وأن جنس الذكور في الأصل أفضل من جنس الإناث فهذا موضوع آخر، كما أن الكريم من الذكور مثلاً أفضل من الدنيء ولا دخل له في أجر أو عقوبة عند الله، يعني: كون الناس يرون أن الذكر أعلى من الأنثى في أعراف البشر، من مؤمنين وكافرين كما يرون أن الصحيح أحسن من العليل، وأن الجليل أحسن من الدنيء، وأن الطويل أحسن من القصير مثلاً هذا موضوع آخر، وليس معنى هذا أن ذاك عليه منقصة عند الله، ولذلك ليس في النساء منقصة من هذه الحيثية والناحية، إن كانت مكلفة تثاب وتعاقب، كما هو الحال في الذكر تماماً، ولذلك فالنساء شقائق الرجال، أي: هي تساويه في الحكم، وما يكلف به الرجل تكلف به المرأة، فلا يمس ذكره بيمينه، يعني: ولا تمس فرجها بيمينها أيضاً.

لكن وجه الخطاب إلى جنس الذكور لحكم كثيرة منها أنهم المخاطبون في الأصل والنساء يلحقن بهم تغليباً.

الأمر الثاني: جرت العادة الشرعية والعرفية أن جنس النساء يطوى الحديث عنهن، كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] و كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] كل هذا خطاب للذكور العقلاء ويدخل في ذلك النساء، بل أضاف الله ما هو خاص بالنساء إلى الرجال لهذا الأمر، وهو أن المرأة ينبغي أن يطوى الحديث عنها، وألا يكثر ذكرها بين الناس، وهذا الأدب الرفيع يشير إليه في سورة النحل كما قرر أئمتنا المفسرون عند قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [النحل:14]، فـ(تلبسونها) ضمير للذكور العقلاء، ولم يقل: حليةً يلبسها نساؤكم بل (تلبسونها) فأضاف اللبس إلى الرجال، مع أن الذي يلبس الحلية التي تستخرج من البحر -وهي اللؤلؤ- النساء، فلم يضيفها إلى الرجال؟ قالوا: كما أن المرأة إذا لبست الحلي لا ينبغي أن يراه الرجل فلا نضيف لبس الحلي إليها لئلا يحصل شيء ببال الرجل، ولذلك من دناءة الإنسان أن يضع في المجلس الذي يدخله الرجال شيئاً من ملابس النساء، هذه من دناءته وحقارته، وعدم مروءته وشهامته، فكما سترت فليستر كل ما يتعلق بها، فهي إذا لبست اللؤلؤ مطالبة بإخفائه وعدم إبدائه، ولهذا لم يضف اللبس إليها مبالغة للصيانة والستر، انظر لهذا الأدب الرباني، ولذلك ينقل عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: جنبوا مجالسكم ذكر الطعام والنساء، فكفى بالرجل ذماً أن يكون وفاقاً لبطنه وفرجه. يعني: لا تتكلم إلا في الطعام والنساء، ولذلك أضاف الله الأحكام إلى الرجال، والنساء تبع؛ لأنه إما أن يذكر النساء أيضاً فتتضاعف الآيات، وإما أن يضيف الحكم إلى النساء ويصبح الرجال تبع يعني وهذا لا يصلح؛ لأن الرجال هم الذين يبرزون ويخرجون من البيت؛ وعليه فلا يمس الرجل ذكره بيمينه، ولا تمس المرأة فرجها بيمينها، فالحكم واحد؛ لأن النساء شقائق الرجال.

وقد ثبت الحديث بذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام في المسند وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي ، والحديث حسن من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وروي الحديث في مسند البزار ومسند الدارمي وصحيح أبي عوانة من رواية أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يرى بللاً ولا يذكر حلماً؟ فقال: عليه الغسل، وعن الرجل يذكر حلماً ولا يرى بللاً؟ فقال: لا غسل عليه)، الأمر يتعلق بخروج المني، فإذا رأيت هذا في سراويلك وجب عليك الغسل تذكرت الحلم أو لم تتذكر، وإذا تذكرت حلماً ولم تر شيئاً في السراويل فلا غسل عليك، (فقالت أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! والمرأة ترى ذلك؟) يعني: إذا رأت بللاً ولم تذكر حلماً هل عليها غسل؟ فقال عليه الصلاة والسلام:( نعم، النساء شقائق الرجال)، وفي رواية (إنما النساء شقائق الرجال)، فما ينطبق على الرجل ينطبق على المرأة في كل شيء إلا ما قام عليه الدليل وعلى أن هذا خاص بالرجل وهذا خاص بالمرأة وما عدا هذا يستوون فيه، فالمرأة تساوي الرجل في الإنسانية والتكليف والثواب عند رب البرية، فأي شيء يتفضل بعد ذلك الرجل عليها؟ هو فضله الله ببعض الأحكام، وهي فضلها ببعض الأحكام، وكون المرأة تجلس في البيت مع ما يترتب على خروج الرجل من فائدة، لكن حقيقةً وظيفتها أسلم وأنقى لو اتقت الله بهذه الوظيفة وهي قاعدة في البيت، ويكفي أنها لا ترى من يتمنى الإنسان أن يكون أعمى حتى لا يراه، لما قيل للإمام الأعمش سليمان بن مهران رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله إذا ابتلى عبده بحبيبتيه عوضه عنهما الجنة)، فأنت يعني ماذا عوضك الله في العاجل عندما ذهب بصرك؟ قال: عوضني عدم النظر إلى الثقلاء، فيكفي أنني ما أرى ثقيلاً نتأذى به، وحقيقةً هذا مطلوب.

والمرأة أميرة بل أعلى رتبةً من الأمراء والحكام في هذه الأيام، أميرة في البيت تقول لزوجها: هات كذا والمطلوب كذا وهو يقول: سمعاً وطاعة، وهذا حال الأمراء في هذه الأيام، لا أحد يراهم ويصدرون الأوامر والنواهي، ثم بعد ذلك تريدون منها أن تزج في الشوارع لتختلط مع البشر لتنزل إلى أقل من درجة الحمير، لا يصلح هذا، والمرأة لا كرامة لها إلا في بيتها، درة مصونة وجوهرة مكنونة، فإذاً هي شقيقة الرجل في جميع الأحكام، إلا ما قام عليه الدليل -كما قلت- على التخصيص فهذا أمر آخر، وإذا كان الأمر كذلك فلا منقصة على أحد الصنفين.

والصواب في الصورة التي أوردها الخطابي ما قاله إمام الحرمين ومن بعده كـالغزالي في الوسيط والبغوي في التهذيب: أنه يمر العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه وهي ثابتة غير متحركة، فيمسك حجراً -ولا يحرك عضو- باليمين، فيصبح حاله كحال الإنسان عندما يصب الماء ويستنجي، فلا يقال له: أنه استنجى باليمين ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمراً بيمينه فقد غلط، وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره حالة الاستنجاء، فهذا كلام الحافظ في الفتح، وكما قلت: هو كلمة الفصل في هذه المسألة.

إذاً لا يستجمر الإنسان بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يمس قبله أو دبره بيمينه، والنهي للأدب لكراهة التنزيه لا للتحريم.

ننتقل بعد ذلك -إخوتي الكرام- إلى المبحث الثاني في فقه الحديث ألا وهو مس الذكر والعورة باليمين، وحكم الاستنجاء والاستجمار باليمين.

في هذا الحديث، أعني: حديث أبي قتادة رضي الله عنه (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل أن يمس ذكره بيمينه)، وهذا النهي أيضاً للاستحباب لا للإيجاب، ومخالفة هذا توقع الإنسان في كراهة التنزيه لا في ارتكاب الحرام.

وقد نص على ذلك أئمتنا الكرام وهذا هو قول المذاهب الأربعة المتبعة، فيكره مس الذكر باليمين، وكذا يكره الاستنجاء والاستجمار بها، فيكره أن تمس عضوك بيمينك مطلقاً، ويكره لك أن تستنجي أو أن تستجمر باليمين، وإنما يكون الاستنجاء والاستجمار ومس الذكر بالشمال كما سيأتينا، وهذه الكراهة للتنزيه؛ لأن ذلك أدب من الآداب ينبغي أن يحافظ عليه أولوا الألباب، وليس في المخالفة معصية على الصواب.

وقد قرر هذا أئمتنا الكرام وانظروا ذلك في كتاب المجموع للإمام النووي في الجزء الثاني صفحة تسع ومائة، وفي فتح الباري في الجزء الأول صفحة ثلاث وخمسين ومائتين، وهذا الحكم اتفقت عليه المذاهب الأربعة.

وخالف فيه الظاهرية ولا يعتد بخلافهم فنص الإمام ابن حزم غفر الله له وللمسلمين أجمعين في المحلى في الجزء الأول صفحة خمس وتسعين: أن هذا النهي للتحريم، ولا يجوز للإنسان أن يمس عضوه بيمينه، وكذلك لا يجوز أن يستنجي بيمينه، فقال: ولا يجزئ أحداً أن يستنجي بيمينه، ولا وهو مستقبل القبلة، يعني: لا ينبغي ولا يجزئه فلو استنجى وهو مستقبل القبلة فلا يجزئ هذا الاستنجاء؛ وقد تقدم معنا هذا المبحث، وأننا نهينا عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، وقلت: هذا محمول على الفيافي والصحراء، لا على العمران والبناء على المعتمد فهذا كما قلت انفرد به ابن حزم فقال: لا يجزئ أحداً أن يستنجي بيمينه، فلو استنجى بيمينه فلا يجزئه، وقد عصى ربه، ولم يحصل الإنقاء، وينبغي أن يستنجي بشماله مرةً ثانية، وأن يتوب إلى ربه جل وعلا، وكما قلت: هذا انفراد منه بهذا القول وأئمتنا على خلافه، وما ورد في كتاب المهذب لحبر زمانه وإمام المسلمين في وقته أبي إسحاق الشيرازي عليه رحمة الله من أنه لا يجوز للإنسان أن يستنجي بيمينه، فكلمة: (لا يجوز) تحتمل أمرين كما قرر أئمتنا؛ تحتمل كراهة التنزيه، وتحتمل كراهة التحريم.

فما قاله أبو إسحاق في المهذب: ولا يجوز أن يستنجي بيمينه، ليس فيه ما يدل على موافقة الظاهرية في قولهم: إنه يحرم الاستنجاء باليمين، وإن أشعر ظاهر اللفظ بذلك.

قال الإمام النووي : فيحمل كلام المصنف -يعني: مصنف المهذب وهو أبو إسحاق الشيرازي - وموافقيه على أن (لا يجوز) معناه: ليس مباحاً مستوي الطرفين في الفعل والترك، -أي: فهذا ليس بمباح، يستوي فعله وتركه، بل الترك هو المقصود والفعل خلاف الأدب، وهو الاستنجاء باليمين -بل هو مكروه راجح الترك، وهذا أحد المذهبين المشهورين في أصول الفقه، أي: في استعمال كلمة (لا يجوز) فإنها تطلق على ما هو محرم، وعلى ما هو مكروه، ثم يقول: وقد استعمل المصنف- يعني أبا إسحاق الشيرازي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا -كلمة (لا يجوز) في مواضع ليست محرمة، وهي تتخرج على هذا الجواب، يعني: قوله: (لا يجوز)، ليس هذا مستوِ الطرفين في الفعل والترك، وإنما الترك راجح والفعل خلاف الأولى، وفيه كراهة تنزيه، ثم قال الإمام النووي : وحكي أن المصنف وهو أبو إسحاق الشيرازي ضرب على كلمة (يجوز) أي حذفها، فبقيت العبارة: ولا يستنجي بيمينه، وهو يصحح ما قلناه، والنهي هنا والمنع -كما قلت- للأدب ولكراهة التنزيه لا للتحريم، وهذا قول المذاهب الأربعة.

صحيح، أن الإمام البخاري عليه رحمة الله في صحيحه ما أعطى حكماً قاطعاً لهذه المسألة لفقهه ولاحتياطه ولورعه رضي الله عنه وعن أئمتنا، فقال في كتاب الوضوء: باب النهي عن الاستنجاء باليمين، والنهي شامل للتنزيه وللتحريم، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال: باب النهي وهنا قال: باب التحريم أو باب الكراهة عن الاستنجاء باليمين، إشارةً إلى أنه لم يظهر له -أي: للبخاري - أن النهي للتحريم أو للتنزيه، فأطلق النهي، لأنه لم تظهر له القرينة الصارفة عن التحريم إلى كراهة التنزيه، على القول بأن النهي يفيد التحريم في قوله: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل أن يمس ذكره بيمينه، وأن يستنجي بيمينه) وعبر عن فقهه بظاهر الحديث دون أن يستنبط منه حكماً، والحكم استنبطه أئمتنا، وبذلك يظهر علو قدرهم في الفقه على الإمام البخاري ، ولا ينكر قدره رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا، لكنه في الفقه دونهم، ولا شك أن فعله هذا احتياط وورع منه، لكن لا بد من فصل في المسألة، فأئمتنا -كما قلت- ذكروا أن النهي هنا لكراهة التنزيه لا للتحريم، وابن حزم قابلهم في الطرف الثاني فقال: للتحريم وجزم بذلك لكن الجزم هناك في غير محله، والبخاري توقف ولم يجزم بشيء، وأئمتنا -كما قلت- الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين جزموا بأن النهي للكراهة فقط وليس للتحريم، والعلم عند رب العالمين، وهذه الكراهة تكون إذا كانت يده الشمال سليمةً وبإمكانه أن يمس العضو بها وأن يستنجي بها، أما إذا كانت يده مقطوعة أو فيها آفة فيباح له أن يمس بيمينه، وأن يستنجي بيمينه بالاتفاق من أجل الضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، وإذا ضاق الأمر اتسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4049 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3982 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3908 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3795 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3788 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3773 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3576 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3487 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3468 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3417 استماع