مباحث النبوة - وصف الحور العين في الكتاب والسنة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس الفصل المستطرد، وقلت: هذا الفصل له عدة جوانب، الجانب الأول منها في المقاصد العامة والحكم الأساسية من مشروعية النكاح، وقلت: لذلك حكم كثيرة أبرزها خمس حكم:

أولها كما تقدم معنا: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية، حسيةً كانت أو معنوية.

وثاني الحكم: إيجاد الذرية التي توحد رب البرية.

وثالث الحكم: تحصيل الأجر للزوجين عن طريق حسن عشرة كل منهما لصاحبه، ونفقته عليه.

ورابع هذه الحكم: تذكر لذة الآخرة.

وخامس الحكم، وهي التي سنتدارسها فيما يأتي من المواعظ إن شاء الله: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجه وأقاربه.

كنا نتدارس الحكمة الرابعة -إخوتي الكرام- ألا وهي: تذكر لذة الآخرة، وتقدم معنا أن هذه الشهوة محبوبة للنفس، بل هي أعظم المشتهيات في هذه الحياة، ومع ذلك ففيها ما فيها من النقائص والآثام، ومع ذلك تتعلق بها النفس، وإذا كانت النفس تتعلق بهذه الشهوة واللذة مع ما فيها من نقص وعكر وكدر، فمن باب أولى ينبغي أن تتعلق بهذه الشهوة في الدار الآخرة، فهناك لا نقص فيها بوجه من الوجوه.

وبعد أن قررت هذا بشيء من الكلام فيما مضى، تدارسنا في الموعظة الماضية وصف الحوريات كما جاء في محكم الآيات، وبينت أن الله أخبرنا أن الأزواج في الجنات مطهرات، وقلت: إن هذه الطهارة شاملة للطهارة الحسية والمعنوية، الطهارة في الخلق والخلق، فخلقهن أحسن ما خلق الله سبحانه وتعالى، وخلقهن أكرم ما أبدع الله سبحانه وتعالى، أخلاق كريمة، وخلقة حسنة جميلة مستقيمة.

فهن طيبات مطيبات، طاهرات خيرات صالحات فاضلات، حسان جميلات، لو نظرت إلى وجهها لرأيت صورتك في خدها، ولو نظرت إلى بدنها لرأيت صورتك في كبدها، ولو نزلت النظر فنظرت إلى ساقيها لرأيت مخ ساقها من فوق سبعين حلةً تكسى بهن، ومع ذلك هذا الجمال يخرق سبعين حلة فيظهر مخ الساق من جمالها وتلألئها، نسأل الله أن يمن علينا بذلك مع رضوانه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! تقدم معنا وصف الحوريات وذكرت شيئاً من أوصافهن، فمن ذلك: أنهن حور عين، وكواعب أتراب، ومن أخلاقهن أنهن قاصرات الطرف، وهن مقصورات في الخيام، وقلت: هذه الصفة من الصفات المستحسنة في النساء في الدنيا وفي الآخرة، فكلما كانت المرأة قعيدة بيتها كان أجمل لها وأتقى لربها.

فقد ثبت في مسند الإمام أحمد من زيادات ولده عبد الله عليهم جميعاً رحمة الله، وانظروا الأثر في الجزء السابع عشر صفحة ثلاث وثلاثمائة في الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وإسناد الأثر صحيح عن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: ألا تغارون؟ ألا تستحيون؟ إنه بلغني أن نساءكم يخرجن إلى الأسواق يزاحمن العلوج. والعلج: بوزن عجل قيل: هو الرجل الغليظ الخشن، ويطلق على الرجل الكافر، فخروج النساء ومزاحمتهن للرجال في الأسواق هذه منقصة، ولذلك ما طاب نساء الجنة إلا بهذا الوصف الكريم: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [الرحمن:56]، مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72].

إخوتي الكرام! آخر ما ذكرته آية في سورة الواقعة وكنا نتدارسها وهي قوله تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38] .

وقلت: البكارة جمال خلقي حسي في المرأة، وكونها تتحبب إلى زوجها وتعشقه وتميل إليه فهي عروب، وهذا جمال معنوي: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38]، فجمعت بين هاتين الفضيلتين: الفضيلة الحسية الخلقية، والفضيلة المعنوية الخلقية، فهي تتعلق بزوجها أكثر من تعلقها بنفسها، وتحبه وتميل إلى مباشرته لها، وهي بعد ذلك فيها هذا الكمال الذي تميل إليه طبيعة الرجال ألا وهي البكارة.

وكنت قد بينت -إخوتي الكرام- منزلة البكارة، وأنها لها شأن عند الرجال من بني الإنسان، وتقدم معنا ما يدل على هذا من أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام في استحباب نكاح البكر، ومن ذلك قوله -كما تقدم معنا وهو صحيح- لسيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: ( ما لك وللعذارى ولُعباها ) ويجوز (ولِعابها)، وقد تقدم معنا تخريج الروايات وبيان معناها.

الحكمة من اقتصار النبي على بكر واحدة من بين زوجاته

إخوتي الكرام! البكارة لها شأن، فإذا كان الأمر كذلك فقد يقول قائل: لمَ لم يتزوج نبينا عليه الصلاة والسلام من نسائه اللاتي دخل بهن بكراً إلا واحدةً، وهي أمنا السيدة المباركة عائشة رضي الله عنها وأرضاها؟ إذا كانت البكارة كمال، ونبينا عليه الصلاة والسلام في وسعه وفي إمكانه أن يتزوج الأبكار، فلمَ لم يتزوج إلا واحدةً من نسائه بكراً؟

نقول: لذلك حكم كثيرة، منها ما تعود إلى النساء، فجبراً لخاطر الثيبات، فإن الراغب فيهن قليل، ولذلك نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه جبر خاطرهن، فآثر الثيبات على الأبكار جبراً لخواطرهن، هذه حكمة أولى.

الأمر الثاني: لئلا يتمتع في هذه الحياة التمتع الزائد الكامل، فالدنيا ليست بدار تمتع، فاختار الدون على العالي الرفيع الكامل من أجل ألا يستغرق في التمتع في هذه الحياة عليه صلوات الله وسلامه.

الأمر الثالث: لأجل مصلحة الأمة، فإن الثيب في الغالب تكون أوعى من البكر وأضبط، ولذلك اختار الثيبات من أجل أن يحفظن عنه عليه الصلاة والسلام حياته وأحواله لينقلنها بعد ذلك إلى أمته عليه صلوات الله وسلامه.

والحكمة الرابعة في ذلك: لعله إشارة من ربنا جل وعلا أنه لم يهيئ لنبينا عليه الصلاة والسلام إلا أمنا عائشة من الأبكار للإشارة إلى أن هذه الزوجة تعدل بقية الزوجات، فما ينبغي أن تشاركها زوجة في تلك الصفة، نعم أمنا خديجة لها مكانة عالية، ولم يعدد نبينا عليه الصلاة والسلام، ولم يتزوج على أمنا خديجة ، لكن لما ماتت رضي الله عنها وأرضاها تزوج من الثيبات والأبكار، فلم يتزوج إلا بكراً، وبعد ذلك ثيبات كثيرات، كلهن لو وضعن في كفة وأمنا عائشة في كفة لساوتهن أو لرجحت عليهن عليها وعليهن وعلى نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فتلك أُكرمت بأنه ما جعل معها شريكة لها وهي أمنا خديجة .

وأفضل نساء هذه الأمة ونساء العالمين هؤلاء النسوة الثلاث: أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وأمنا عائشة ، وسيدتنا فاطمة الطاهرة المطهرة في هذه الأمة، ومريم وآسية في الأمم السابقة، أما في هذه الأمة فهؤلاء الثلاث النسوة هن مقدمات بالإجماع، وقلت: كل واحدة لها مزية ليست موجودة في الأخرى، وهن كسبائك الذهب الخالص التي تختلف في الأشكال، لكن الوزن واحد، فهذه مربعة وهذه مثلثة وهذه مسدسة وما شاكل هذا، على نبينا وآل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه.

فلهذه الحكم آثر نبينا عليه الصلاة والسلام الثيبات على الأبكار، ولم يأخذ إلا بكراً واحدة فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا وعليه صلوات الله وسلامه.

ذكر حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وما يستفاد منه في الدلالة على منزلة البكر

إذاً: البكر لها شأن كبير، ولذلك تقدم معنا أنه يقال للبكر: إنها لا زالت بخاتم ربها، فلها شأن، وقد ثبت في الصحيحين من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن نبينا عليه الصلاة والسلام في قصة الثلاثة من الأمم السابقة الذين آووا إلى غار، ونزلت صخرة فسدت عليهم باب الغار، فقالوا: لا ينجيكم من هذه الشدة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فالأول توسل إلى الله ببره لأبويه، وأنه كان لا يسقي أحداً من أهله ولا من خدمه ولا من ماله قبل أبويه، فتأخر به الرعي في يوم من الأيام وعاد وقد نام والداه، فحمل قدح اللبن بيده ينتظر استيقاظهما حتى بزغ الفجر، والصبية يتضاغون عند رجليه، ثم قال: اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً غير أنهم لا يستطيعون الخروج.

والثاني -وهو محل الشاهد- قال: ( اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، وكنت أراودها على نفسها فتأبى حتى نزلت بها سنة من السنين )، أي: شدة وقحط وحاجة في بعض السنوات، ( فجاءتني ومالت إلى ما كنت أريد منها على أن أعطيها دنانير، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، فلما أراد أن يفعل ما حرمه الله ارتجفت وقالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه )، وكما قلت: الخاتم هو غشاء البكارة، قال: فقمت عنها وتركت ما أعطيتها من الدنانير، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.

والثالث أخبر أنه كان عنده أجراء، فلما أنهوا عملهم أعطاهم أجرتهم غير واحد سخط أجرته واستقلها، مع أنه ما ظلمه، لكن بعض العمال يشتطون في طلب الأجر في نهاية العمل، ويقول: أعطني زيادة، مع أنه مخالف لما اتفقوا عليه، فسخط أجرته وذهب، فنمى له أجرته، حتى احتاج بعد سنين طويلة إلى المال فجاء وقال: أعطني أجرتي يا عبد الله، قال: كل ما تراه في هذا الوادي بين جبلين من الإبل والغنم والبقر مالك، هذا من أجرتك، خذه ولا تترك منه شيئاً، قال: لا تسخر بي يا عبد الله! أعطني أجرتي، قال: لا أسخر بك، هذا مالك نميته لك، بدل من أن يبقى مجمداً عملت فيه، فكل ما تراه مالك فخذه، بارك الله لك فيه، يقول: فاستاقه ولم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يسعون، والحديث -كما قلت- في الصحيحين.

تعليق الإمام ابن الجوزي على حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار

للإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا تعليق بديع حول فعل هؤلاء الثلاثة، وقد ذكر التعليق في مكانين في صيد الخاطر في صفحة ثمان عشرة ومائة، وفي صفحة تسع وعشرين وثلاثمائة، أما التعليق الأول وحقيقةً هو في منتهى الوجاهة، وخلاصته: أن هؤلاء إذا توسلوا إلى الله جل وعلا بحفظ الله لهم، وصيانته لهم، فهم توسلوا به إليه فقد أحسنوا، ونعم ما فعلوا، وإذا لاحظوا أعمالهم وتوسلوا بما قاموا به من أعمال صالحة، قال: فهذه درجة ناقصة قاصرة؛ لأنهم ما شهدوا المنعم، ونظروا إلى صدور هذا الفعل منهم دون أن يشهدوا أن هذا من منة الله عز وجل، فهم بين حالتين: إن توسلوا إلى الله بعصمة الله لهم، وبحفظ الله لهم، وبصيانة الله لهم أحسنوا، وإلا فهم في درجة نازلة، ولذلك في المكان الثاني ذكر الوجه الثاني فقط من توسلهم، وأنهم توسلوا إلى الله بعملهم، ثم قال: فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحي من ذكره، وهو أنه عزم على الزنا ثم خاف العقوبة فتركة، وكأنهم عملوا أعمالاً وطلبوا من الله أجراً عليها، وكأنه عندما جرى منهم ما جرى قال الله: اعطوهم ما طلبوا، وفرج عنهم، فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا، فكافأهم على أعمالهم، فانفرجت الصخرة، وهذا الكلام من أحسن ما قيل في توجه هذا المعنى، مع أنني ما رأيت هذا الكلام لغيره من أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.

التعليق الأول يقول فيه: إذا عملت خيراً فاحمد الله، وهذا كما قال ربنا في الحديث القدسي في صحيح مسلم في حديث أبي ذر الطويل : ( فمن وجد خيراً فليحمد الله )، هذا يا عبد الله من الله فهو الذي وفقك فاحمده، فلا تدل ولا تمن، ( ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).

يقول الإمام ابن الجوزي : تأملت قوله عز وجل: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]، في آخر سورة الحجرات، يقول: فرأيت فيه معنىً عجيباً، وهو أنه لما وهبت لهم العقول، من الذي وهب لهم العقول؟ ربنا العزيز الغفور، لما وهبت لهم العقول فتدبروا بها عيب الأصنام يعني عرفوا أن الأصنام لا يجوز أن تعبد من دون ذي الجلال والإكرام، وعلموا أنها لا تصلح للعبادة، فوجهوا العبادة إلى من فطر الأشياء وخلقها على غير مثال سابق، كانت هذه المعرفة -انتبه- ثمرة العقل الموهوب لهم الذي به باينوا البهائم، فإذا آمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب -يعني: حث عليه العقل- فقد جهلوا قدر الموهوب، وغفلوا عمن وهب، وأي شيء لهم في الثمرة والشجرة ليست ملكاً لهم، هذا العقل ملك من؟ ومن هبة؟ ومن أعطاه؟ إنه الله، فإذا قادك العقل إلى فضيلة فاشكر من وهب لك العقل حتى فعلت تلك الفضيلة، ولا تقل: أنا فعلت وعملت، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]، يقول: فعلى هذا فكل متعبد ومجتهد في علم وعمل إنما رأى بنور اليقظة وقوة الفهم والعقل صواباً فوقع على المطلوب، فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلام الطبع القبس، يعني: أعطاه نوراً في ظلام طبعه فميز به بين الأشياء.

ومن هذا الفن حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار، فانحطت عليهم الصخرة فسدت باب الغار، فقالوا: تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا، فقال كل منهم: فعلت كذا وكذا -انتبه للتعليل الأول- وهؤلاء إن كانوا لاحظوا نعمة الواهب للعصمة عن الخطأ فتوسلوا بإنعامه عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم، فبه توسلوا إليه. ونعم ما فعلوا. نتوسل إلى الله بالله، بفضل الله عليهم وليس بعمل منهم، يقولون: منك وإليك، كما عصمتنا وأكرمتنا ببر الوالدين، وحفظتنا من العقوق، وأكرمتنا بالعفة وصنتنا من الزنا، وأكرمتنا بالأمانة وحفظتنا من الخيانة، هذا كله فضل منك، كما تفضلت علينا فيما سبق أكمل فضلك فيما لحق وطرأ بنا.

وكما تقدم معنا قاعدة يذكرها الإمام الرازي بكثرة في تفسيره يقول: الشروع ملزم في مذهب النعمان ، فكيف في كرم الرحمن. والنعمان هو أبو حنيفة عليه رحمة الله، ففي مذهبه إذا شرعت في نافلة وجب عليك أن تتمها، ولا يجوز أن تقطعها، وإذا قطعتها أثمت وعليك القضاء؛ لأن الله يقول: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، فالشروع ملزم في مذهب النعمان ، فكيف في كرم الرحمن، فالذي أنعم عليك فيما سبق من باب أولى لن ينساك فيما يأتي سبحانه وتعالى.

فهم إذاً توسلوا به إليه، قال: وإن كانوا لاحظوا أفعالهم، فلمحوا جزاءها ظناً منهم أنهم هم الذين فعلوا، فهم أهل غيبة لا حضور، ويكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة. فهؤلاء يقولون: يا ربنا أطعنا الوالدين، يا ربنا صنا أنفسنا عن الزنا، يا ربنا قمنا بالأمانة وأدينا الحقوق إلى أهلها، يمنون، فقال: أعطوهم جزاءهم.

قال: ومثل هذا رؤية المتقي تقواه، حتى إنه يرى أنه أفضل من كثير من الخلق، وربما احتقر أهل المعاصي وشمخ عليهم، وهذه غفلة عن طريق السلوك. فإياك أن تدل على الله بتقواك وإيمانك، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.

وأنا أقول -إنك كما يقول الإمام ابن الجوزي-: لا يعني هذا أنك تحب العاصي وتحترمه وتجله وتجعله فوقك، إنما الحظ دائماً أن يكون هواك تبعاً لشرع مولاك، لا أنك أطعت فصار لك مكانة، وإذا مر العاصي تحتقره وتتكبر عليه، فاتق الله في نفسك يا عبد الله! أنت أطعت بفضل الله، وذاك عصى بعدل الله، فاحمد الله أنه ما خذلك، وما خلى بينك وبين نفسك، وأعظم كرامة لك ألا يكلك الله إلى نفسك، وإذا وكلك إلى نفسك هلكت، وإذا وكلك إلى الخلق ضعت، فاحمد الله أنه عصمك وحفظك، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

ثم قال في المكان الآخر: إذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملاً، وإنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل الذي يمنع العاقل أن يرى لنفسه عملاً أو يعجب به، وذلك بأشياء، منها: أنه وفق لذلك العمل، كما قال الله جل وعلا: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7].

ومنها: إنه إذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها. ما تقوم به من عمل صالح إذا قيس بنعم الله عليك لا يفي بعشر معشار فضل الله عليك، ونعم الله عليك، ولو حفظت طاعتك من أولها لآخرها لما وفت نعمة العين ولا نعمة اللسان ولا نعمة الأذن، فعلام تدل؟ وبأي شيء تعجب؟

ومنها: أنه إذا لوحظت عظمة المخدوم -وهو الحي القيوم سبحانه وتعالى- احتقر كل عمل وتعبد. يعني إذا لاحظت أن من تعبده عظيماً جليلاً فإنك تحتقر عملك ولا تدل به وترى أن هذا العمل لو قدم إلى زبال لرفضه وقال: هذا لا يليق أن يقدم إلي، فكيف أنت تقدمه إلى ذي العزة والجلال؟! أعمال مشوبة بسهو وغفلة وتقصير، وبعد ذلك تريد أن تدل! إذا لاحظت عظمة من تعبده احتقرت كل عمل، هذا إذا سلم من شائبة وخلص من غفلة، أما والغفلات تحيط به فينبغي أن يغلب الحذر من ربه، ويخاف العتاب على التقصير فيه، فيشتغل عن النظر إليه.

وتأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك، فالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، قالوا: (ما عبدناك حق عبادتك)، والخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقول: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82]، خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو الذي جعل قلبه للرحمن، وبدنه للنيران، وماله للضيفان، وولده للقربان، وهو خليل الرحمن، يقول: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82]، وما أعجب ولا افتخر، وما أدل بتصبره على النار، وتسليمه الولد إلى الذبح.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما منكم من ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته..)، إلى آخر ما ذكر من آثار، ثم قال: وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته؛ لأنهم نظروا إلى أعمال فأدلوا بها.. ثم بعد أن ذكر قصة انتقل إلى قصتنا، فقال: وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة. وكلامه هذا على الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرتهما في كلام سابق، وهو أنهم توسلوا بعملهم، فهم توسلوا بما هو مشروع، لكن هذا يدل على رتبة منحطة نازلة، وما شاهدوا فضل الله عليهم فما توسلوا به إليه، فتوسلوا بعملهم إلى ربهم، وهو وإن كان جائزاً لكنه درجة نازلة. قال: وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحي من ذكره، وهو أنه عزم على الزنا ثم خاف العقوبة فتركه، فليت شعري بماذا يدل -يعني يفتخر ويعجب- من خاف أن يعاقب على شيء فتركه تخوف العقوبة؟ أي أنه تركه لئلا يعاقب، فكيف بعد ذلك يفتخر؟

يقول: فليت شعري بماذا يدل من خاف أن يعاقب على شيء فتركه تخوف العقوبة؟ إنما لو كان مباحاً فتركه كان فيه ما فيه، ولو فهم لشغله خجل الهمة عن الإدلال. يعني لو كان عنده يقظة لاستحضر أنه كيف يراود هذه المرأة فترات طويلة، وهذا يشغله عن الإدلال والافتخار واستحضار تركه لما عزم عليه، كما قال نبي الله يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53]. وحقيقة هذا الكلام من كلام امرأة العزيز، لكن ابن الجوزي يرى أنه من كلام نبي الله يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

يقول: والآخر -وهو الثاني- ترك صبيانه يتضاغون إلى الفجر ليسقي أبويه اللبن، وفي هذا البر أذى للأطفال. فإنه كان بإمكانه أن يسقي الأطفال، ويترك كأساً جاهزاً عند والديه، متى ما استيقظا قدمه إليهم، فهو بر لكن معه أذى، فلم تدل الآن بعملك؟ أنت أحسنت وأسأت من الناحيتين، قال: ولكن الفهم عزيز، وكأنهم لما أحسنوا قال لسان الحال: أعطوهم ما طلبوا، فإنهم يطلبون أجرة ما علموا، ولولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه، ولكان كل كامل خائفاً محتقراً لعمله حذراً من التقصير في شكر ما أنعم الله عليه، وفهم هذا المشروح -الذي ذكره- ينكس رأس الكبر، فما يتكبر أحد، ويوجب مساكنة الذل، فتأمله فإنه أصل عظيم.

هذا كلام الإمام ابن الجوزي في التعليق على هذا الحديث، وهو فائدة عجيبة ما رأيت أحداً من شراح الحديث من أئمة الإسلام، ذكر هذا المعنى ولا تعرض له، بل أئمتنا في كتب التوحيد عندما يذكرون جواز التوسل إلى الله بالعمل الصالح لا يعلقون على هذا بما ذكره الإمام ابن الجوزي ، وما علمت أحداً ذكره، لا قبله ولا بعده، ولذلك ذكرته هنا.

ميل الرجل واشتهاؤه للبكر أكثر من الثيب

الشاهد إخوتي الكرام: أن البكارة كمال في المرأة: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37]، كمال حسي، كمال خلقي، ولذلك يقال للبكر: إنها بخاتم ربها.

ومما قاله الظرفاء من أئمتنا الأتقياء فيما يتعلق بشأن البكارة، كما في كتاب الكناية والتعريض للإمام الثعالبي، وعندنا اسمان يقال لكل منهما: الثعلبي والثعالبي، الأول: أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل، توفي سنة ثلاثين وأربعمائة للهجرة، وهو صاحب كتاب صفة الدهر، وله كتاب: الكناية والتعريض، وهو اللغوي الأديب، وهو غير المفسر بل شيخ المفسرين الذي هو شيخ الإمام الواحدي، وهو أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم، وبينهما ثلاث سنوات في الوفاة، فالمفسر توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة، واللغوي الأديب سنة ثلاثين وأربعمائة، وترجمة الثاني بعد الأول مباشرةً في سير أعلام النبلاء، بدأ بالمفسر، ثم قال: وأما الأديب اللغوي فهو أبو منصور عبد الملك، انظروا ترجمة هذين العبدين الصالحين في سير أعلام النبلاء في الجزء السابع عشر صفحة سبع وثلاثين وأربعمائة.

والمفسر له كتاب: الكشف والبيان في تفسير القرآن، والإمام الألوسي في روح المعاني ينقل منه بكثرة، وكتابه لو طبع أكبر من تفسير الإمام ابن جرير ، وما أظنه ينقص عن ثلاثين مجلداً من المجلدات الكبيرة، ولعله لو حقق يبلغ الخمسين، يقال: يوجد أربعة أجزاء مخطوطة منه في مكتبة الأزهر، لكن لا توجد نسخة كاملة على حسب علمي في مكان ما.

يقول الإمام الأديب الذي هو أبو منصور في كتابه الكناية والتعريض، في صفحة أربع عشرة، في بيان منزلة البكارة وشأنها، يذكر أبياتاً في منتهى الظرافة، يقول:

قالوا عشقت صغيرةً فأجبتهم أشهى المطي إلي ما لم يركب

كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب

حقيقةً الفارق كبير، أشهى المطي ما لم يركب، كذلك اللؤلؤة إذا ثقبت ولبست تقل قيمتها، وحبة اللؤلؤ كلما كانت كما هي لم تثقب كلما غلت قيمتها، وإذا ثقبت لتجعل نوعاً معيناً خفت قيمتها، فالحبة من اللؤلؤ التي لم تثقب قد تكون قيمتها ضعف الحبة التي ثقبت. وهذا ما عليه أعراف الناس، وقد أدركت أعراف بعض الناس في بعض البلاد عندهم مهر البكر عشرون ألفاً، ومهر الثيب عشرة آلاف، فالثيب مهرها أقل.

ولذلك امتن الله على أهل الجنة بأنه جعل لهم النساء أبكاراً: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37].

وتقدم معنا كلام الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الرد على هوس بعض المهوسين من الأطباء عندما حذر من نكاح البكر، وفضل نكاح الثيب على البكر، وقلت: هذا عدا عن مخالفته لنصوص الشرع، فهو مخالف للفطرة السليمة المستقيمة التي فطر الله عباده عليها.

إشكال في تفضيل البكر على الثيب مع أن الحور في الجنة سيرجعن ثيبات بعد الوطء والجواب عليه

إخوتي الكرام! قد يقول قائل -كما ذكر هذا الإمام ابن القيم في كتاب روضة المحبين صفحة أربع وأربعين ومائتين-: هذه الصفة التي امتن الله بها علينا وهي البكارة في النساء، هذه تزول بأول وطء، فتعود إذاً الزوجة التي في الجنة ثيباً، سواء كانت حورية أو من نساء الدنيا، لأنها إذا وطئت زالت البكارة، فكيف يمتن علينا بأنهن أبكار، مع أن البكارة ستزول بعد الطمث بعد المباشرة؟ قال الإمام ابن القيم : لذلك جوابان:

الجواب الأول: أن المقصود من نكاح البكر أنها لم تذق عسيلة أحد قبله، ما اتصلت بأحد قبله، فلم تتوزع محبة قلبها بين أزواجها، وذلك أدوم لدوام العشرة، هذا بالنسبة لها، فقلبها مجتمع على هذا الذي افتضها وكانت معه، ما توزع قلبها بينه وبين غيره من أزواجها الذين تناوبوا عليها، إذاً هذا أجمع لقلبها، فأحبته محبة كاملة.

قال: وأما بالنسبة للواطئ فهي أيضاً معتبرة، فإنه يرعى روضةً أُنفاً. يعني مستأنفة لم يرعها أحد كما تقدم معنا في حديث أمنا عائشة رضي الله عنها: ( إذا نزلت في وادٍ ووجدت شجراً قد رعي، وشجراً لم يرع، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في التي لم يرتع منها ).

وقد أشار الله إلى هذا في كتابه فقال في وصف نساء أهل الجنة: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، ثم بعد ذلك تستمر لذة الوطء وإن زالت البكارة؛ لأنه يعلم أنها ما زالت بكارتها من قبل غيره، فكأنها لا زالت بكراً عنده في جميع أحوالها وإن لم تكن بكراً، هذا الجواب الأول الذي ذكره شيخ الإسلام الإمام ابن قيم الجوزية .

ويذكر الإمام ابن الجوزي في كتاب الأذكياء صفحة خمس وعشرين ومائتين: أن بعض الناس أراد أن يشتري أمة، فعرض عليه أمتان وهما في سن واحد، وأحدهما بكر والأخرى ثيب، والبكر أغلى قيمة من الثيب، فاختار البكر، فقالت له الثيب: لم أخذتها وترتكني وفارق القيمة كبير وليس بيني وبينها إلا ليلة واحدة؟ فتلا قول الله: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، كأنه يقول: ليلة واحدة، لكن حصل فيها نقص كبير.

وقلت لكم إخوتي الكرام: إن المرأة أحوالها تختلف في النكاح عن الرجل، فهي بكر، ثم ثيب، ثم حامل، ثم مرضع، هذه كلها أوصاف تعتري المرأة والرجل لا يعتريه شيء من ذلك، سواء كان عازباً، عنده زوجة أو لا، طلق أو لم يطلق، ولذلك كم ستضرر المرأة عند حصول الطلاق عليها؛ لأنها أسماء اختلفت فيها فكانت بكراً مرغوبة، ثم صارت ثيباً، ثم إذا ولدت ضاق القلب، وكلما كثر الأولاد ضاق القلب؛ لأنه بحمل المرأة لو قلت: يذهب نصف جمال المرأة في الدنيا عندما تحمل وتلد ولداً واحداً لما بالغت، ثم الشباب، وتلك النضرة التي فيها والبهجة هذا كله زال بمجرد ما ترضع، فوضع الصدر تغير، وشكلها تغير، وهذا حال الدنيا كما تقدم معنا.

فالإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يقول: هي بكر في الأصل وإن زالت عنها هذه الصفة بعد ذلك في الجنة، لأنه يعلم أن هذه ما وزع قلبها بينه وبين غيره، ويميل إليها، ويعلم أنه يرعى عشباً ما رعاه أحد قبله، وهذا أدوم للعشرة، وأقوى في المحبة.

الأمر الثاني -وهو أوجه القولين وسيأتينا تقريره ضمن الأحاديث- قال: روي في الآثار أن أهل الجنة كلما وطئوا نساءهم عدن أبكاراً، كلما أتاها وجدها بكراً، فمنة ربنا علينا باقية، ولا تزول هذه البكارة بالوطء الأول، وهذا لا يمكن أن يحصل في الدنيا بحال، وهذا سيأتينا تقريره -إن شاء الله- ضمن الأحاديث التي سوف تأتي.

وصف الله تعالى للحور العين بأنهن عرب

قال تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37]، قوله: (عرباً)، هذا كمال معنوي، لذة معنوية وكمال معنوي، والعرب: جمع عروب، وهي الحسناء المتحببة إلى الزوج، كما قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: حسناء متحببة إلى الزوج تميل إليه، تتعلق به، ترغب في قربه.

قال الإمام ابن القيم في روضة المحبين صفحة خمس وأربعين ومائتين: العروب هي التي جمعت إلى حلاوة الصورة -فصورتها حسنة بهية كما قال تعالى: حُورٌ عِينٌ [الواقعة:22]- جمعت إلى حلاوة الصورة وملاحتها حسن التأتي، وحسن التبعل والتحبب إلى الزوج، أفعالها، تبعلها، اقترابها من زوجها، كل هذا حركات رشيقة خفيفة جليلة تشد الزوج إليها، إذاً جمعت إلى حلاوة الصورة حسن التأتي والتبعل والتحبب إلى الزوج بدلها، وحديثها، وحلاوة منطقها، وحسن حركتها، تشعر أنها تدور حوله متعلقة فيه، وهذا أنشط للنفس.

وفي لسان العرب لـابن منظور نقل عن رؤبة بن الحجاج من أئمة اللغة أنه قال: جمعن العفاف عند الغرباء، وتقدم معنا قوله تعالى: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [الصافات:48] ، مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72]، أي: لا تنظر إلى غير زوجها، عفيفة خفرة حيية عند غير الزوج، قال: والإعراب عند الأزواج، قال: والإعراب هو ما يستفحش من ألفاظ النكاح والجماع، فهي مع زوجها تذكر العبارات التي لو قطعت رقبتها ما تستطيع أن تعرض بها فضلاً عن أن تصرح بها أمام الأجانب، أما مع الزوج فانبساط كامل، هذه هي العروب، حيية عند الأجانب عند الرجال، وعندها إعراب وفصاحة وإظهار لما في قلبها من التعلق بزوجها، وهذا مما يستحسن في المرأة، قال رؤبة : وخير النساء المتبذلة لزوجها، الخفرة في قومها. يعني على عكس أكثر النساء في هذه الأيام، إذا دخل الزوج إلى بيته لو شم رائحة زوجته لأمسك أنفه من رائحتها المنتنة وثيابها المتبذلة، ومتى ما أرادت أن تخرج إلى السوق أو إلى زيارة كأنها صارت في ليلة عرس، والأصل أن يخرجن وهن تفلات تاركات للطيب والزينة، والمرأة تلبس أدنى ما عندها إذا خرجت، وإذا كانت في البيت تلبس أجمل ما عندها، ولكن الأمر انعكس.

قال لي مرة بعض الإخوة يحكي لي هذه القصة، ولا أريد أحد أن يحيلها علي، والحمد لله الذي عافاني من ذلك، ونسأل الله أن يتوب علينا، قال لي يخبر عن وضع النساء وعدم ظرافتهن في هذه الأيام وهكذا حال الرجال، فهذه الخشونة في الرجال تناسبها خشونة النساء، ونسأل الله أن يتوب علينا، يقول: كنت في سفر وأخبرت زوجتي أنني سآتي في ليلة كذا؛ لأن هذا من السنة، ولا يجوز أن يطرق أهله وأن يباغتهن في المجيء، يقول: فلما جئت أطرق الباب إذا بها نائمة، ففتحت ودخلت فرأيتها نائمة، يقول لي هو: فبصقت عليها وذهبت إلى حجرة أخرى. فقلت: يا عبد الله! لقد أخطأت، ما ينبغي أن تبصق، قال: والله الذي لا إله إلا هو لو ضربتني بحذائها واستقبلتني لكان أيسر علي من هذا المشهد، أنا في غيبة وأخبرها أنني وسآتي في ليلة كذا، ثم تنام؟ فقلت: هذه حقيقة مقصرة، ولو كان عندها حب لزوجها وتعلق به واهتمام لجلست على الباب لا في الحجرة تنتظره، وبلغني أن هذه صفة كثير من النساء في هذه الأيام، وصفة نساء الأتراك إذا غاب زوجها جلست على الباب تنتظر متى سيأتي، أما هذه زوجها سيأتي بعد قليل وهي تغط في النوم! فيقول لي: يا شيخ! بصقت عليها وذهبت إلى حجرة أخرى، قلت: يا أخي هذا خطأ، قال: هذا الذي حصل مني يعني، الإنسان عندما يقابل بهذا التصرف الأرعن يقابله بتصرف أرعن منه، حقيقةً هي مخطئة، وهي في هذا عاصية، وانتظارها لزوجها مع ذكرها لله يعدل قيام الليل، وكانت تنتظر دون ذكر، فكيف بعد ذلك يكون عندها عدم المبالاة، هذا لا يوجد في نساء أهل الجنة، فلا يوجد ما ينفر النفس عنهن بحال من الأحوال، ولعل تسعين بالمائة على أقل تقدير الواحد منهم في هذه الأيام يصبر فقط على زوجته، بدون تعلق بها، يقول: ماذا أعمل؟ لو قدر أنني طلقت لعله يأتي أنكى وأمر منها، فما لي إلا أن أصبر، لكن ليست هي التي تفتح النفس، هذا حال النساء، لكن كما قلت أيضاً في المقابل: لو نظرت إلى وصف الرجال لوجدت أكثرهم كذلك، ونسأل الله أن يتوب علينا، وأن يحسن أخلاقنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إذاً: خير النساء المتبذلة لزوجها، الخفرة في قومها، ولذلك كثرت عبارات أئمتنا المفسرين في معنى العروب، فقالوا: العروب والعربة هي الضحاكة، وهي المتحببة إلى زوجها، وهي المظهرة له الود والتعلق، وهي العاشقة، وهي الغنجة التي تتكسر أمامه وتترقق، ما تقابله بغلظة وخشونة، وهي المغتلمة التي تظهر شدة الشهوة، وأنها بحاجة إلى اتصاله بها، ليست مثل بعض النساء التي إما أن تستسلم، وإما أن تنفر، نسأل الله الستر والعافية وحسن الخاتمة، وألا يبتلينا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، انظر لهذه الصفات: ضحاكة متحببة مظهرة لزوجها الود والتعلق، عاشقة، غنجة، مغتلمة.

قال الإمام الغزالي في الإحياء في الجزء الثاني صفحة أربعين: العروب هي العاشقة لزوجها، المشتهية للقائه، تريد منه أن يتصل بها، تعشقه تحبه، هذا حقيقةً يحرك نفس الرجل وشهوته، ويجعله يتعلق بها.

وفي صحيح البخاري -وهو أصح الكتب بعد كتاب الله- يقول: أهل مكة يسمون العاشق لزوجها عربة وعروباً، وأهل المدينة يسمونها: الغنجة، وأهل العراق يسمونها: الشكلة فالله هنا استعمل بلغة أهل مكة وقال: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا [الواقعة:35-37]، وعند العرب بالمدينة يقولون: غنجة، هذا بمعنى العروب، وهي التي تتغنج لزوجها، وترقق في كلامها، وتميل إليه، وأهل العراق يقولون عنها: الشكلة.

وهذا الكلام الذي ذكره شيخ المحدثين وإمامهم الإمام البخاري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا ن

إخوتي الكرام! البكارة لها شأن، فإذا كان الأمر كذلك فقد يقول قائل: لمَ لم يتزوج نبينا عليه الصلاة والسلام من نسائه اللاتي دخل بهن بكراً إلا واحدةً، وهي أمنا السيدة المباركة عائشة رضي الله عنها وأرضاها؟ إذا كانت البكارة كمال، ونبينا عليه الصلاة والسلام في وسعه وفي إمكانه أن يتزوج الأبكار، فلمَ لم يتزوج إلا واحدةً من نسائه بكراً؟

نقول: لذلك حكم كثيرة، منها ما تعود إلى النساء، فجبراً لخاطر الثيبات، فإن الراغب فيهن قليل، ولذلك نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه جبر خاطرهن، فآثر الثيبات على الأبكار جبراً لخواطرهن، هذه حكمة أولى.

الأمر الثاني: لئلا يتمتع في هذه الحياة التمتع الزائد الكامل، فالدنيا ليست بدار تمتع، فاختار الدون على العالي الرفيع الكامل من أجل ألا يستغرق في التمتع في هذه الحياة عليه صلوات الله وسلامه.

الأمر الثالث: لأجل مصلحة الأمة، فإن الثيب في الغالب تكون أوعى من البكر وأضبط، ولذلك اختار الثيبات من أجل أن يحفظن عنه عليه الصلاة والسلام حياته وأحواله لينقلنها بعد ذلك إلى أمته عليه صلوات الله وسلامه.

والحكمة الرابعة في ذلك: لعله إشارة من ربنا جل وعلا أنه لم يهيئ لنبينا عليه الصلاة والسلام إلا أمنا عائشة من الأبكار للإشارة إلى أن هذه الزوجة تعدل بقية الزوجات، فما ينبغي أن تشاركها زوجة في تلك الصفة، نعم أمنا خديجة لها مكانة عالية، ولم يعدد نبينا عليه الصلاة والسلام، ولم يتزوج على أمنا خديجة ، لكن لما ماتت رضي الله عنها وأرضاها تزوج من الثيبات والأبكار، فلم يتزوج إلا بكراً، وبعد ذلك ثيبات كثيرات، كلهن لو وضعن في كفة وأمنا عائشة في كفة لساوتهن أو لرجحت عليهن عليها وعليهن وعلى نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فتلك أُكرمت بأنه ما جعل معها شريكة لها وهي أمنا خديجة .

وأفضل نساء هذه الأمة ونساء العالمين هؤلاء النسوة الثلاث: أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وأمنا عائشة ، وسيدتنا فاطمة الطاهرة المطهرة في هذه الأمة، ومريم وآسية في الأمم السابقة، أما في هذه الأمة فهؤلاء الثلاث النسوة هن مقدمات بالإجماع، وقلت: كل واحدة لها مزية ليست موجودة في الأخرى، وهن كسبائك الذهب الخالص التي تختلف في الأشكال، لكن الوزن واحد، فهذه مربعة وهذه مثلثة وهذه مسدسة وما شاكل هذا، على نبينا وآل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه.

فلهذه الحكم آثر نبينا عليه الصلاة والسلام الثيبات على الأبكار، ولم يأخذ إلا بكراً واحدة فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا وعليه صلوات الله وسلامه.