مباحث النبوة - أحداث في بيت النبي صلى الله عليه وسلم [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً, وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا, وعلمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً, وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك! سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك! اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: إخوتي الكرام! كنا نتدارس معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام مع زوجاته أمهاتنا الطاهرات المباركات عليه وعليهن صلوات الله وسلامه.

وقد تقدم معنا إخوتي الكرام! أن خير الناس خيرهم لأهله، وبما أن نبينا عليه صلوات الله وسلامه هو خير المخلوقات قطعاً وجزماً، فهو خيرهم للزوجات عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم معنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يطوف على نسائه أمهاتنا الطاهرات في جميع الأوقات، فيتفقدهن في كل يوم كما مر معنا هذا، وتقدم معنا أيضاً أن نبينا عليه صلوات الله وسلامه كان يحنو عليهن, ويحفظ ودهن في حياتهن وبعد مماتهن، وتقدم معنا أيضاً أنه كان يحسن عشرتهن ومعاشرتهن, وقررت هذا بالأحاديث الصحيحة الصريحة في الدلالة على هذا الأمر.

ووصلنا عند الأمر الرابع, ألا وهو أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يصبر عليهن, ويتحمل منهن قصورهن وتقصيرهن، وقلت: إن هذا الأمر الرابع به يتجلى حسن الخلق على وجه التمام والكمال، فحسن الخلق: أن تبذل الندى, وهو الخير والمعروف والبر والإحسان، وأن تتحمل الأذى، أحسنت إلى عباد الله, ثم بعد ذلك تتحمل الأذى منهم وتصبر عليهم، وهنا أحسنت إلى زوجاتك فلو قدر أنه جرى منهن قصور نحوك فينبغي أن تصبر وأن تحتسب, وأن تحلم وأن ترفق، وهذا هو خلق الكرام الذين يتصفون بالأخلاق الحسنة, ولنبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك النصيب الأوفى الذي لا يمكن لبشر أن يصل إلى درجته في ذلك، كيف لا والله يقول في حقه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. اللهم صل على نبينا وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الكرام المباركين.

إخوتي الكرام! حسن الخلق يتجلى كما قلت عند هذا الأمر الرابع، فلا بد من الرفق وتحمل الأذى من الزوجات عندما يصدر منهن نحو أزواجهن، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ). فعليك بالرفق في جميع حياتك لاسيما مع أهلك وزوجاتك, واضبط أعصابك، فإذا أحسنت ما أحسنت وجرى منها ما جرى من الإساءة فحذاري أن تقابل هذه الإساءة بغضب وبانفعال؛ لئلا تحبط عملك الذي عملته، ولئلا يضيع إحسانك الذي بذلته، ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يوصينا بأن نضبط أنفسنا في جميع أحوالنا، ففي مسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك ، والحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه، والإمام الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: ( أن رجلاً جاء إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه فقال: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مراراً: أوصني .. أوصني، يقول: لا تغضب .. لا تغضب ). كلما يكرر طلب الوصية يجيبه نبينا عليه الصلاة والسلام بهذه القضية: (لا تغضب). فإن الغضب يجمع شر الدنيا والآخرة، وسوء الدارين العاجلة والآجلة، فإذا جرى من أهلك نحوك ما جرى لا تغضب.

وأنت حقيقة إذا ضبطت نفسك ولم تضيع إحسانك فأنت الرجل الشهم وأنت الكريم وأنت صاحب الخلق الحسن، وقد ثبت في المسند وموطأ الإمام مالك والصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ). ليس الشديد بمن يصرع الرجال، فهو مصارع قوي ماهر، يضجعهم على الأرض ويلقيهم على التراب. ( ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ). فأنت قيم وأنت سيد بكتاب الله, وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25]، وأنت ترعى البيت ومن فيه، لكن ليس معنى هذا أنك ينبغي أن تتصف بالجبروت والغلظة والفضاضة والغضب والحماقة، لا ثم لا، فإذا جرى من هذه المسكينة ما جرى نحو إحسانك ومعروفك وفضلك فقابله بصدر رحب، وصرف الأمور على حسب شرع العزيز الغفور. نعم، أمران لا ينبغي أن تتهاون فيهما إذا صدرا من الأهل والزوجات:

الأول: معصية في حق الله جل وعلا، فلابد من أن تثأر لله كما يثأر الليث الحرب، وأن توقف الأمور عند حدها، وأن لا تتساهل في حقوق الله جل وعلا، أما في حقوقك كلما صفحت فهذا خير لك. والناس عكسوا القضية, يغضبون لحقوق أنفسهم, ويحلمون عند ضياع حقوق ربهم، وهذا هو الضلال المبين.

الأمر الثاني: إذا جرى من زوجة اعتداء على زوجة أخرى حقيقة لا يصلح الحلم أيضاً والصفح في هذا الأمر, فهذا ليس حقك، ينبغي أن تعطي كل زوجة حقها، وأن لا تميل مع واحدة على حساب الأخرى. هذا ليس لك الآن. ثم ما عدا هذين الحقين كلما عفوت وصفحت فأنت أحسن، فإذا أطالت لسانها بل مدت يدها ودفعت بك في صدرك وأحياناً جرى منها ما جرى من هجران ونفور فكل هذا تحمله, وطيب خاطرها بكلام طيب؛ لعل الله جل وعلا يعفو عنك, ويستر الزلات التي تصدر مني ومنك يوم القيامة, فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! هذا الأمر الرابع, قلت: سأستعرض نماذج منه مما جرى في بيت نبينا عليه الصلاة والسلام من أمهاتنا نحو نبينا عليه صلوات الله وسلامه, وهو بلا شك كما تقدم معنا قصور منهن، وتقصير نحو نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا نقصد بذلك أن نعيرهن كما تقدم معنا, فهن أكمل النساء وأطهر النساء بلا شك، لكن هذه هي الحياة الدنيا كما سيأتينا، وقلت هذه السلبيات التي جرت في بيوت خير البريات عليه الصلاة والسلام إن أحصيت واستوعبت لا تصل إلى عدد أصابع اليدين، ثم هي كما سيأتينا سلبيات ظاهرة, ما دخلت إلى القلب, ولا عشعشت فيه، ونحن عندما ندرس هذا نستفيد فوائد عظيمة أبرزها فائدتان:

الفائدة الأولى: لنعلم أن الدنيا دار كدر، مهما صفت فلا تخلو من عكر وكدر.

والأمر الثاني: لنستفيد معالجة هذا الكدر من بيوت نبينا خير البشر عليه صلوات الله وسلامه، فقد جرى هذا في بيته، وهو عليه صلوات الله وسلامه أسوتنا وقدوتنا وإمامنا في جميع شئوننا, فيما نحب وفيما نكره، فإذا طرأ في بيوتنا شيء مما نكرهه نعالجه كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام يعالجه.

حقيقة هذا يدل على حال الدنيا، ثم ما سلم من هذا بيت النبي عليه الصلاة والسلام وإن كانت الحوادث كما قلت بمقدار, وعولجت معالجة حسنة, فلنقتد بنبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر.

إخوتي الكرام! الناس في هذه الحياة لا ينفك عنهم وصف البشرية، لا يخرجون عن وصف الإنسانية، وفيهم الخطأ والنسيان والذهول والتقصير, هذا لا يمكن أن ينفك عنه بشر مادام في هذه الحياة، وهذه الحياة لا يمكن أن تكون دار صفاء ووفاء، إنما الصفاء والوفاء على وجه التمام هذا في غرف الجنان, هناك لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]. هناك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34]. هناك: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]. وأما هنا ما يحصل لك مما تشاؤه أقل بأضعاف مضاعفة مما لا يحصل لك، فأنت تريد أشياء كثيرة ولا يحصل لك منها إلا القليل، فانتبه لهذا الأمر! هذا حال الدنيا, والأمر كما قال بعض الأكياس:

طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

لا يمكن أن تحصله, يعني: جذوة نار .. قطعة نار من جوف الماء لا يمكن هذا، وهذا حال الدنيا، إذا أردت الصفاء والراحة والطمأنينة فيها فهذا خيال ووهم، هذا لا يحصل إلا في الدار التي لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]. فهذا نبينا عليه الصلاة والسلام وهو خير عباد الرحمن، وهو خير المخلوقات جرى في بيته عليه صلوات الله وسلامه ما جرى، وتحمل وعفا وصفح، هذه حياة كدر .. حياة عناء .. حياة يقع فيها شيء من الشدة والبلاء، فلا بد من أن تصبر, ولا تقل للزوجة: أنا أفعل وأحسن وأقدم وأنت تقابليني هذا بهذه المعاملة؟ يا عبد الله هذا حال الحياة، لا راحة إلا بلقاء الله جل وعلا.

ثم - كما قلت- هذه الحوادث من أولها لآخرها إذا كانت القلوب طاهرة تبقى انفعالات ظاهرية, تزول بعد ذلك مباشرة، إنما حصل انفعال إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

ذكرت الحادثة الأولى إخوتي الكرام! في تآمر من تآمر من أمهاتنا على نبينا صلوات الله وسلامه, وكيف تسبب عن هذه المؤامرة أن يحرم نبينا عليه الصلاة والسلام على نفسه سريته، وأن يحرم على نفسه شرب العسل، فعوتب من قبل الله عز وجل، ثم بعد ذلك هجر نساءه شهراً، فكل واحدة تتمنى لو قطعت في ذلك الشهر قطعاً ولم يحصل هذا الهجر من نبينا عليه الصلاة والسلام لها، ثم عندما نزلت آية التخيير وبدأ بأصغرهن أمنا عائشة رضي الله عنهن جميعا، قال: ( سأعرض عليك أمراً لا تستعجلي حتى تستشيري أبويك، ثم تلا الآية، قالت: أفيك أستشير؟ بل أختار الله ورسوله ) على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه. ثم استقرأ نساءه التسع كل واحدة تقول: بل أختار الله ورسوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29].

كيفية تعامل النبي مع موقف عائشة من حمل متاع صفية على جملها في الحج

وسأذكر إخوتي الكرام! حوادث كما قلت لو جمعت فهي دون أصابع اليدين، وإذا كانت هذه الحوادث مع نبينا عليه الصلاة والسلام كان يتحمل ويعفو ويحلم ويصفح عليه صلوات الله وسلامه.

بلغ الأمر بأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن قالت لنبينا عليه الصلاة والسلام: ( أنت تزعم أنك رسول الله؟ -فتحمل النبي عليه الصلاة والسلام هذا منها- وقال: أوفي ذلك شك يا عائشة ؟ قالت: أقول: أنت تزعم أنك رسول الله فاعدل )، فتحمل هذا، لكن أبا بكر رضي الله عنه عندما سمع هذه المقالة ما تحمل هذا من ابنته فلطمها على وجهها، وما أقره نبينا عليه صلوات الله وسلامه على هذا الأمر. والحديث رواه أبو يعلى، ورواه أبو الشيخ ابن حيان ، وهو في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وأتكلم على درجة إسناده بعد روايته إن شاء الله.

تقول أمنا عائشة رضي الله عنها -وهذا حصل في حجة الوداع-: كان متاعي فيه خصف، المتاع الذي يحمل على الراحلة البعير أو الناقة، وكان على جمل ناج، أي: عندها أمتعة خفيفة وجملها قوي مسرع نشيط سريع، وكان متاع صفية فيه ثقل، وكان على جمل ثفال، ثفال أي: بطيء ضعيف في المشي، ولو ضبط ثقال لكان من حيث اللغة صحيحاً, لكن الرواية الواردة بالفاء على جمل ثفال .. ثقال, أي: ثقيل في المشي، ثفال أي: ضعيف ما يسرع ولا يلحق بالركب، أمتعتها كثيرة وعلى جمل ثفال، وتلك أمتعتها خفيفة وعلى جمل ناج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حولوا متاع عائشة على جمل صفية، وحولوا متاع صفية على جمل عائشة )، يعني: هذه الأمتعة غايروا بينها بحيث يكون متاع صفية على جمل أمنا عائشة رضي الله عنها الذي هو ناج مسرع؛ حتى ينجو ولا يتأخر، والركب كلهم تبع للنبي عليه الصلاة والسلام. ( قالت عائشة: فلما رأيت ذلك قلت: يا لعباد الله! غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله عليه الصلاة والسلام ). والله كلمة كبيرة، وسيأتينا أن هذا جرى من حفصة أيضاً وجرى من زينب رضي الله عنها، ثم هجر النبي عليه الصلاة والسلام زينب قرابة ثلاثة أشهر من أجل هذه الكلمة لما تطورت القضية.

( يا لعباد الله! غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم عبد الله )! عندكم في المجمع هنا يا أم سلمة ! وهذا غلط، إنما أمنا عائشة تكنى بأم عبد الله , كنيت إما بابن أختها عبد الله بن الزبير , وقيل: بسقط لها, وهذا لم يثبت، يقال لها: أم عبد الله عليها وعلى سائر أمهاتنا رحمة الله ورضوانه. ( يا أم عبد الله ! إن متاعك كان فيه خف، وكان متاع صفية فيه ثقل، فأبطأ بالركب فحولنا متاعها على بعيرك، وحولنا متاعك على بعيرها -يعني: ماذا جرى؟- قالت: فقلت: ألست تزعم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

وكلمة الزعم إخوتي الكرام تأتي غالباً في القول المشكوك فيه الذي لا يثبت, وقد تأتي في القول الحق الصدق الذي لا شك في وقوعه وفي حقيقته, وهنا كذلك قد ثبت في صحيح مسلم في حديث أنس رضي الله عنه عندما جاء ضمام بن ثعلبة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فقال له: ( أتانا رسولك فزعم أن الله أرسلك، قال: صدق ). فهنا أطلق الزعم والنبي عليه الصلاة والسلام أقر عليه وقال: هذا كلام حق. ثم إلى آخر الحديث: ( قال: من خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن خلق هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله، قال: أسألك بالذي خلق السماء والأرض والجبال وجعل فيها ما جعل آلله أرسلك؟ قال: نعم. قال: صدقت، ثم قال: وزعم رسولك أن الله افترض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: صدق ). قال الإمام النووي عند شرح هذا الحديث في شرح صحيح مسلم في الجزء الأول صفحة سبعين ومائة: نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (صدق) لـضمام مع قوله: (زعم) وفي ذلك دليل على أن لفظ الزعم ليس مخصوصاً بالكذب والقول المشكوك فيه، بل يطلق أيضاً على القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه. قال: وقد أكثر سيبويه إمام العربية في كتابه -الكتاب الذي سمي بهذا الاسم الكتاب- من قول: زعم الخليل .. زعم الخليل ، بمعنى: قال الخليل ، وقرر الخليل ، وذكر الخليل.

وهنا قالت عائشة : (ألست تزعم)، يعني: ليس المراد أنك تدعي زوراً وكذباً، هذا لا يمكن أبداً، يعني: ألست تقول أنك رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ كيف أنت رسول الله عليه الصلاة والسلام وخير خلق الله وتأمر بالعدل ثم تأخذ المتاع الثقيل لـصفية تضعه على جملي, ومتاعي الخفيف تحوله إلى جمل صفية ؟ ألست تزعم أنك رسول الله عليه صلوات الله وسلامه، قالت: ( فتبسم، فقال: أفي شك أنت يا أم عبد الله )؟! انتبه! ما تريد أن تقول النفس في شك أيضاً، إنما من غضبها وانفعالها وبسبب الغيرة التي تلبستها قالت: ألست تزعم أنك رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ أنا ما أقول: أني متشككة, أنا أخاطبك أنت، أنت أما تخبرنا أنك رسول الله عليه صلوات الله وسلامه, فهلا عدلت؟ قالت: ( وسمعني أبو بكر , وكان فيه غرب -أي: حدة- فأقبل علي ولطم وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا أبا بكر ! فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أما سمعت ما قالت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغيراء - أي: التي تعتريها الغيرة- لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه ). هذه ما تميز أين السفل وأين العلو، هذه اختلط عقلها الآن عند حصول الغيرة فيها فاعذرها، هي الآن في ثورة غضب وانفعال, اصبر عليها, بعد ذلك ستندم على مقالها، ما نستعمل اليد مباشرة, ( مهلاً يا أبا بكر ! إن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه ). رواه أبو يعلى , وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد تقدم معنا ترجمته في محاضرة سنن الترمذي ، وقلت: إنه من رجال مسلم والسنن الأربع, وهو صدوق لكنه يدلس, وإذا عنعن يتوقف في روايته حتى يثبت السماع. وفيه أيضاً سلمة بن الفضل وأمره يسير, قال عنه الحافظ: صدوق كثير الخطأ, توفي بعد سنة تسعين ومائة للهجرة, حديثه في سنن أبي داود والترمذي , وأخرج له ابن ماجه لكن في التفسير، قال الإمام الهيثمي : وفيه سلمة بن الفضل , وقد وثقه جماعة منهم ابن معين وابن حبان وأبو حاتم , وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقد رواه أبو الشيخ ابن حيان في كتاب الأمثال, وليس فيه غير أسامة بن زيد الليثي , هذا في رواية أبي الشيخ، وأسامة بن زيد الليثي صدوق يهم, توفي سنة ثلاث وخمسين ومائة، وحديثه في صحيح مسلم والسنن الأربع, وأخرج له البخاري في صحيحه معلقاً. إذاً: وليس فيه غير أسامة بن زيد الليثي , وهو من رجال الصحيح وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. والحديث ذكره الإمام الغزالي في الإحياء، وخرجه شيخ الإسلام الإمام أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم الأثري في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، انظروه في الجزء الثاني صفحة أربع وأربعين, قال: فيه عن ابن إسحاق وقد عنعنه.

قالت: (ألست تزعم أنك رسول الله عليه صلوات الله وسلامه؟ وهذا الكلام يقابل بالتبسم, لا بانفعال, الكلام من حبيبك خلاص يتسع صدرك له, يزول عما قريب، وهي تأتي بعد ذلك تقول: أنا أخطأت في هذه الكلمة، أنا لا أشك بأنك رسول الله عليه الصلاة والسلام, وأجزم أنك رسول الله أكثر مما أجزم أنني أنا عائشة .

وسيأتينا إخوتي الكرام! هذه الانفعالات التي ستجري سأختمها بحادثة, كل واحدة منهن تتمنى لو اقترن معها أقرب الناس إليها بالنسب مع نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لتنال أعلى الرتب، سيأتينا أن كل واحدة كانت تعرض قريباتها وأخواتها على نبينا عليه الصلاة والسلام. وهذا ثابت في الصحيح. تقول أمنا رملة أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها كما سيأتينا: ( هل لك في أختي؟ ) وهل هي عزة أو درة كما سيأتينا اسمها. قال: ( أعمل فيها ماذا؟ قالت: تنكحها ) تعرض أختها على نبينا عليه الصلاة والسلام. قال: ( وتحبين ذلك؟ قالت: خير من شاركني في خير أختي ). هذه تأتي بأختها، وتقول: أنا ما عندي شك أن صحبتك خير لنا، وأنا أريد الخير لأختي، فأريد أن تتزوج أختي معي، قال: ( إنها لا تحل لي ). لا يجوز أن نجمع بين الأختين, هذه من المحرمات. لكن انظر مع انفعالهن أيضاً عندما تروق، وهذه ليست هي الخط العام لحياتهن. هذه في التسع سنوات تسع انفعالات من تسع زوجات، ولذلك قلت: ما يقف عند هذه السلبيات ويضخمها ويجعلها صورة لبيت نبينا عليه الصلاة والسلام إلا من لعنه الله وغضب عليه؛ لأنه يريد أن يجعل هذا الأمر الذي هو في حكم الشذوذ والنادر يريد أن يجعله هو المسلك العام الذي يخيم على بيت نبينا عليه الصلاة والسلام. أليس كذلك؟ المسلك العام ( قالت: هل لك في عزة ؟ قال: أعمل فيها ماذا؟ قالت: تنكحها، قال: أوتحبين ذلك )؟ يعني: يتعدد, امرأة في الأصل ركزت فيها الغيرة, وهي تعرض على زوجها أن يتزوج عليها! قالت: ( خير من شاركني بخير أختي )، يعني: ما الحرج؟ وصحبتك خير لا يعدلها خير, فأريد أن تتزوج أختي معي لتنال ما نلت. فهذه لو لم تعلم أن صحبتها لنبينا عليه الصلاة والسلام أعظم صحبة وأنها تفدي نبينا عليه الصلاة والسلام بروحها، وترى هذا قليلاً في حقه لما عرضت عليه أختها ورغبت في ذلك. وعليه ما يجري من انفعالات - كما قلت- هي انفعالات طفيفة تلقى في مكانها.

تحكيم النبي وعائشة لأبي بكر للفصل في بعض ما يجري بينهما

ومثل هذا إخوتي الكرام! كان يقع, وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يتحمل ويعفو ويصفح، وقد روى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، والأثر في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي , كما ذكر ذلك شيخ الإسلام الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في المكان المتقدم في الجزء الثاني صفحة أربع وأربعين، والإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين في الجزء الرابع صفحة اثنتين وخمسين وثلاثمائة نقل كلام العراقي على هذا الحديث ولم يزد عليه شيئاً، ولفظ الحديث عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قلت: ( جرى بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام، حتى أدخل النبي عليه الصلاة والسلام بيننا أبا بكر حكماً وشاهداً، فلما جاء أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين قال نبينا عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة رضي الله عنها: تتكلمين أو أتكلم؟ قالت: بل تكلم أنت, ولا تقل إلا حقاً، فلطمها أبو بكر رضي الله عنه حتى خرج الدم من فمها، فقامت مستجيرة برسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمت وراء ظهره ). أنت الآن تخاصمينه إلى أبيك وبدأت تلوذين به؟! ووالله هو أرحم بها وأرأف بها من نفسها, لا من أبيها وأمها، فاستجارت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما لطمها أبو بكر قال لها: ( يا عدية نفسها! ) تصغير عدوة، يعني: يا عدوة نفسها! أنت تعادين نفسك بهذا الكلام ولا تدرين, ( وهل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الحق! ). ( ولا تقل إلا حقاً ). وعلى كل حال الكلام ليس فيه محذور، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلم إلا بالحق، لكن الانفعال جعلها تقول ذلك، وليس معنى هذا الاستثناء أنه يتكلم بالباطل، حاشاه من ذلك عليه صلوات الله وسلامه.

فلما استجارت برسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدت خلف ظهره قال نبينا عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر : ( يا أبا بكر ! لم ندعك لهذا، ولا أردنا منك هذا ). ما أردناك أن تدخل في خصومة، نحن أتينا بك لتصلح, وقع بيني وبين هذه الزوجة الحبيبة شيء من الكلام، وأنت تأتي تصلح بيننا، وتقول لي: أنت تجاوز، ولها: أنت تجاوزي، أما تستعمل اليد ما أتينا بك لهذا وما أردنا منك هذا.

الأثر قال عنه الإمام العراقي - كما قلت رواه الطبراني والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد- قال: بسند ضعيف عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

لكن مثل هذا وقع كثيراً في بيت نبينا عليه الصلاة والسلام, والكثرة دون العشرة أيضاً. فاستمعوا لبعض الحوادث عدا عما ذكرت:

تعامل النبي مع موقف حفصة من صفية ووصفها لها بأنها ابنة يهودي

الحادثة الأولى: رواها الإمام أحمد في المسند، والترمذي في السنن وقال: حسن صحيح غريب وروى هذا الأثر الإمام النسائي في السنن الكبرى، والأثر في صحيح ابن حبان , وإسناده صحيح عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( بلغ صفية رضي الله عنها وأرضاها, أن حفصة قالت عنها: إنها بنت يهودي ). حفصة تقول عن صفية : هذه بنت يهودي, هي نعم بنت يهودي، طيب وكان ماذا؟ أسلمت وصارت زوجة لخير خلق الله عليه الصلاة والسلام, فهل تعير لأن أباها كان يهودياً, هذا لا يجوز، وهذا منطق غير سليم في شريعة الله المستقيمة. إنها بنت يهودي. فلما بلغ صفية كلام حفصة رضي الله عنها وأرضاها بكت. يقول أنس : ( فدخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام وهي تبكي، قال: ما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة : أنت ابنة يهودي ). فانظر لحل المشكلة والقضاء عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: ( يا صفية ! إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك تحت نبي، فبم تفخر حفصة عليك )! يعني قولي لها: والدي هارون أنتمي إليه وهو نبي، وعمي موسى وهو نبي، وأنا زوجة نبي, تفتخرين علي بأي شيء؟ ما بقي إلا الكلام الفارغ, خلاص كفي عنه وانتهى الأمر

ثم التفت نبينا عليه الصلاة والسلام إلى حفصة وقال: ( يا حفصة ! اتقي الله )! كلام الجاهلية لا داعي له.

فاستمع الآن لهذا التوجيه من نبينا عليه الصلاة والسلام, أصلح بين الزوجتين وأعطى حفصة حقها من النصح والزجر, ( اتقي الله )! فهذا الكلام خروج عن التقوى. وتلك طيب خاطرها: لا تتأثري, أنت بنت نبي، أنت عمك نبي، وأنت تحت نبي.

ومن جملة اللطائف حول هذه القصة، كان بعض إخواننا عندما كنا في أيام الدراسة يقول لي مقولة، وهي في الحقيقة نكتة، لكن كانت بمنتهى الغرابة, وننكرها عليه، ثم تبين صحتها. يقول: أنا ولي ابن نبي، نقول: اتق الله يا رجل! اتق الله! قال: أنا ما أشك أنني ولي ابن نبي، قلت: يا عبد الله! كيف هذا؟ قال: أنا مؤمن, والمؤمنون إن شاء الله أولياء الله، وكلنا ننتمي لآدم, وآدم من تراب, وهو نبي الله، فأنا ولي ابن نبي.

وهنا كذلك من باب تطييب خاطر أمنا صفية قال النبي: ( أنت ابنة نبي ). حتماً ليس هو الأب الأقرب، إنما بينها وبين هارون مسافة, ( وعمك نبي )، وأفضل الفضائل: ( وأنت تحت نبي )، خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، ( فبم تفخر