خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8328"> سلسلة فقه المواريث
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
فقه المواريث - مقدمة علم الفرائض
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد إخوتي الكرام! موضوع محاضراتنا في علم الفرائض، وسنجعل بعون ربنا جل وعلا عمدة الدراسة تدور حول نظم الإمام الرحبي عليه رحمة الله الذي سماه (بغية الباحث عن جمل الموارث)، وهذا النظم بلغ (176) بيتاً.
ذكرت مقدمته التي أخذت ثلاثة عشر بيتاً أعيد هذه الأبيات وما تقدم شرحه لا داعي لذكره، ثم أكمل بعد ذلك الكلام على ما لم نشرحه، وكنت قلت لكم احفظوا هذه الأبيات، وإذا حفظتموها من البداية ففي ذلك تسهيل عليكم ولمدارستنا أيضاً؛ لأنها تلزمنا بعد ذلك، فهي بمثابة الأساس كلما يتقدم يبنى عليه بعد ذلك شيء تأخر، وهي من العلم الذي يرتبط ببعضه، ولا يمكن أن يفهم الإنسان المؤخر إذا لم يفهم المقدم، فلا يمكن أن يدخل في بحث التعصيب إلا الذي أتقن بحث الفروض، وكلها مرتبة على بعضها، وإذا لم يتقن ما سبق لا يمكن أن يفهم ما يأتي بعد ذلك.
الأبيات أعيدها -إخوتي الكرام- على وجه السرعة وأبين ما شرح منها ثم بعد ذلك أكمل بحثنا إن شاء الله.
يقول الإمام أبو عبد الله محمد بن الحسن الرحبي الذي توفي سنة (557هـ):
أول ما نستفتح المقالا بذكر حمد ربنا تعالا
الحمد لله على ما أنعما حمداً به يجلو عن القلب العمى
ثم الصلاة بعد والسلام على نبي دينه الإسلام
على نبينا صلوات الله وسلامه.
محمد خاتم رسل ربه وآله من بعده وحزبه
والذي عندكم في النظم: وآله من بعده وصحبه.
ونسأل الله لنا الإعانة فيما توخينا من الإبانة
عن مذهب الإمام زيد الفرضي إذ كان ذاك من أهم الغرض
علماً بأن العلم خير ما سعي فيه وأولى ما له العبد دعي
وأن هذا العلم مخصوص بما قد شاع فيه عند كل العلما
بأنه أول علم يفقد في الأرض حتى لا يكاد يوجد
وأن زيداً خص لا محالة بما حباه خاتم الرسالة
من قوله في فضله منبها أفرضكم زيد وناهيك بها
فكان أولى باتباع التابعي لا سيما وقد نحاه الشافعي
فهاك فيه القول عن إيجاز مبرأً عن وصمة الألغاز
هذه ثلاثة عشر بيتاً في مقدمة نظم الإمام الرحبي عليه رحمة الله جل وعلا.
أول هذه الأبيات تقدم معنا شرحها إلى قوله:
ونسأل الله لنا الإعانة فيما توخينا من الإبانة
شرحت هذا وقلت: (توخينا) أي: قصدنا وأردنا وطلبنا وعزمنا، وتوخى الشيء أراده، أي: ونسأل الله الإعانة فيما أردنا.
(من الإبانة) أي: فيما عزمنا على إبانة وإظهار وتوضيح مذهب زيد في الفرائض، فنسأل الله أن يعيننا على ذلك.
ونسأل الله لنا الإعانة فيما توخينا من الإبانة
عن مذهب الإمام زيد الفرضي إذ كان ذاك من أهم الغرض
من أهم المطلوب ومن أهم المقصود أن يتعلم الإنسان علم الفرائض كما سيأتينا في فضل علم الفرائض إن شاء الله.
علماً بأن العلم خير ما سعي فيه وأولى ما له العبد دعي
أي: خير ما يسعى إليه الإنسان ويدعى إليه إنسان أن يسعى في طلب العلم، وأن يدعى إلى حضور مجالس العلم فهذا من أفضل العبادات، ففي ذلك وراثة للنبي عليه الصلاة والسلام وخلافة له، و(العلماء ورثة الأنبياء)، والحديث صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) و(طلب العلم فريضة على كل
قال: وأولى ما له العبد دعي
يعني: العلم على وجه العموم، أي: كل علم شرعي تطلبه، فهذا من أعظم القرب إلى الله جل وعلا، فكيف بعلم الفرائض الذي له شأن خاص ومنزلة خاصة في العلوم.
وأن هذا العلم مخصوص بما قد شاع فيه عند كل العلماء
بأنه أول علم يفقد في الأرض حتى لا يكاد يوجد
وسيأتينا إن شاء الله الأدلة على هذا بعد تعريف علم الفرائض في المبحث الثاني من هذه المدارسة؛ لأن علم الفرائض يعدل نصف العلم، وهو أول شيء ينزع من هذه الأمة.
وأن زيداً خص لا محالة بما حباه خاتم الرسالة
من قوله في فضله منبهاً أفرضكم زيداً وناهيك بها
أفرض هذه الأمة زيد بن ثابت ، وكنت أوردت الحديث وبينت من خرجه وهو حديث صحيح الذي يبتدئ بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أرحم أمتي بأمتي
وضمن الحديث تقدم معنا أن أفرض الأمة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه.
فكان أولى باتباع التابعي ..............
أي: إذا كان زيد في هذه الرتبة فهو أولى بأن يتبع من غيره.
................ لا سيما وقد نحاه الشافعي
نحاه. أي: تبعه وقصد مذهبه وأخذ به وسار عليه، والشافعي وهو إمام الأئمة وسيد المحدثين أبو عبد الله محمد بن إدريس الذي توفي سنة (204) للهجرة.
فهاك فيه القول عن إيجاز مبرأً عن وصمة الألغاز
أي: هاك القول وخذ مذهب زيد مفصلاً موضحاً بشكل موجز.
والوصمة بمعنى العار والمذلة، (مبرأً) أي: هذا القول الذي سأنظمه لك في (176) بيت ليس فيه عار ولا مذمة ولا نقص ولا إبهام ولا خفاء.
......... مبرأً عن وصمة الألغاز.
والألغاز: هي الألفاظ التي لا يظهر المراد بأن تذكر شيئاً وتريد بهذا الشيء معنىً خفياً لا يظهر لأحد، هذا يقال له: ألغاز جمع لغز، تشير به إلى معنىً خفي اللفظ لا يدل عليه إلا بتكلف واستنباط دقيق، وظاهر اللفظ لا يفهم منه هذا، هذا يقال له: ألغاز، وهذا معيب في العلم، فينبغي أن تكون العبارة واضحة بحيث لو قرأها الإنسان يحملها على أقرب المعاني، وأما أن تقصد من اللفظ معنىً لا يخطر ببال أحد إلا بكلفة وإن كان صحيحاً فهذا يقال له: ألغاز، ولغز، كأنك تريد أن تعجز الناس بكلامك، فلابد من أن تكون العبارة سهلة واضحة، يعني: سيأتينا إن شاء الله عندما يأتي إلى أصحاب النصف وغيرهم من الفروض وقواعد الميراث وأصحاب الإرث كلامه في منتهى الوضوح، لا إبهام ولا خفاء في كلامه.
والنصف فرض خمسة أفراد الزوج والأنثى من الأولاد
وبنت الابن عند فقد البنت والأخت في مذهب كل مفتي
وبعدها الأخت التي من الأب عند انفرادهن عن معصب
أي لغز في هذا؟ يفهمه كل أحد.
إذاً: (مبرأً) هذا النظم مبرأً (عن وصمة الألغاز) يعني: عن الألفاظ المبهمة الخفية التي لا يظهر المراد منها إلا بكلفة.
اتصل بي مرة بعض الإخوة من الجزائر عندما كنت في إندونيسيا فسألته: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أصلي من غير طهارة، وأحب الفتنة، وأكره الحق، قلت: أعوذ بالله. هذا حقيقة؟ قال: حقيقة، قلت: ما تقوله مذموم لكن كلنا كذلك نسأل الله العافية، ما نعلم طهارتنا قبلت أم لا، قال: ما أقصد هذا، أقصد شيئاً آخر، قلت: ماذا تقصد؟ قال: أصلي على النبي عليه الصلاة والسلام من غير طهارة.
حقيقة هذا لغز، يعني: من الذي يخطر بباله أن المراد من الصلاة هي الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام من غير طهارة؟ يقول: (وأكره الحق)، يقول: الموت حق ونفوسنا تكرهه.
طيب والفتنة؟ قال: أحب الزوجة والأولاد والله يقول: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] أحب الولد، أحب المال، أحب الزوجة وهؤلاء فتنة، طيب هذا هو اللغز حقيقة، يعني عندما تأتي لهذه العبارة وتقصد منها معنىً بعيداً لا يظهر منها من ثناياه إلا بتكلف فهذا لغز.
مرة قال لي بعض الإخوة: أنا ولي ابن نبي. قلت: سبحان الله العظيم! كيف هذا؟ بالتأمل يظهر المراد، قال: كل مؤمن ولي لله وأبونا آدم فهو نبي، فكلنا بني آدم، فنحن أولياء أولاد أنبياء. العبارة صحيحة لكن كما قلت فيها لغز، يعني عندما تذكرها للناس لا يفهمون المراد منها من دلالة اللفظ، فلابد من تفكر وتدبر والذهاب إلى المعاني البعيدة التي يدل عليها اللفظ ليصل الإنسان إلى المراد، وهذا معيب في كتب العلم، فالأصل أن تذكر ما يدل على المراد بأوضح لفظ، وإذا ذكرت ما يدل على المراد بلفظ خفي لا يدل عليه إلا بالتكلف فهذا معيب في كتب العلم، ولذلك قال الإمام الرحبي:
فهاك فيه القول عن إيجاز .......
هذا قول مختصر لكن ليس فيه إلغاز ولا خفاء ولا إبهام، بل واضح كل الوضوح.
فهاك فيه القول عن إيجاز مبرأً عن وصمة الألغاز
إخوتي الكرام! لعلنا نتدارس في هذا اليوم شيئاً من مقدمة علم الفرائض، وأريد أن آخذ بعض المقدمات لهذا العلم لعلنا نتدارس ثلاثة أمور والبقية أكملها فيما يأتي إن شاء الله.
أولها: في تعريف علم الفرائض.
ثانيها: في فضل علم الفرائض.
ثالثها: في بيان الحقوق المتعلقة بالميت إذا مات.
علم الفرائض مركب إضافي من مضاف ومضاف إليه، المضاف: كلمة علم، والفرائض: مضاف إليه.
فلك أن تقول: علم خبر لمبتدأ محذوف، هذا علم الفرائض، ولك أن تقول: مفعول به لفعل محذوف، اقرأ علم الفرائض، إلزم علم الفرائض، ولك أن تقول: إنه مبتدأ والخبر محذوف: علم الفرائض مفيد مهم. ولك أن تقول: مجرور وحذف حرف الجر مع عامله: اعتن بعلم الفرائض، انتبه إلى علم الفرائض، احرص على علم الفرائض، فالحركات الثلاث تصلح في كلمة علم: علمُ، علمَ، علمِ، وهذا على حسب تقدير العامل، فإذا قلت: (علمَ) أي: اقرأ علم الفرائض، الزم علمَ الفرائض، (علمِ) احرص على علمِ الفرائض، اعتن بعلمِ الفرائض.
وإذا قلت (علمُ) فإما أن تقول: مبتدأ وإما أن تقول: خبر، فإذا قلت مبتدأ: هذا علمُ الفرائض، وإذا قلت علم خبر فتقول: علمُ الفرائض مفيد، يجوز الابتداء هنا بالنكرة بالاتفاق؛ لأنه مضاف.
إذاً: الحركات الثلاث تصح ولك بعد ذلك تقديرات تنويها في ذهنك وكلها سليمة من حيث اللغة العربية.
علم الفرائض مركب من مضاف ومضاف إليه، أي: من مفردين، (علم) مفرد كلمة مستقلة، (الفرائض) مفرد كلمة مستقلة.
وهاتان الكلمتان ركبتا لتدلا على شيء واحد، فكل من الكلمتين له دلالة ومعنىً قبل التركيب وصار للكلمتين معنىً ودلالة بعد التركيب، فكلمة العلم لها معنى وكلمة الفرائض لها معنى قبل الترتيب، وبعد الترتيب صار للكلمتين معنىً واحداً مستقلاً وهو المعنى الاصطلاحي.
إذاً: المركب الإضافي إذا أردت أن تعرفه اصطلاحاً فيحسن بك بل يجب عليك أن تبين معناه قبل التركيب ليأخذ طالب العلم فكرة عن معناه قبل أن يكون علماً على شيء معهود معروف تريد أن تدرس مباحثه، أعطه فكرة عن هذا المفرد.. عن المفردين.. عن هذا المركب قبل التركيب، فما معنى العلم وما معنى الفرائض قبل أن يصبح علماً على علم معروف وهو علم الميراث؟
وإذا أردنا أن نعرف المركب الإضافي فأئمتنا يقولون: هل نبدأ بالمضاف أو المضاف إليه؟ بالأول أو بالثاني؟ والبدء بواحد منهما جائز، يعني: لا حرج فيه ولا محذور، لا من حيث الشرع، ولا من حيث اللغة والحسن، إنما أي الأمرين أحسن: أن نبدأ بالمضاف أو بالمضاف إليه؟ يعني: نبدأ بتعريف الفرائض قبل العلم أو نبدأ بتعريف العلم قبل الفرائض؟
كما قلت من حيث الجواز لا حرج، ففي نهاية الأمر ستعرف الجزءين، فبعض أئمتنا استحبوا أن نبدأ بالأول لسبقه، فقالوا: بما أنه تقدم في الذكر فنقدمه في التعريف، وآخرون قالوا: لا، الأدب المستحسن والكمال أن نبدأ بتعريف المضاف إليه؛ لأن المضاف إليه هو الذي يحدد معنى المضاف، ولولا المضاف إليه لما عرف معنى المضاف ولما تحدد مدلوله، فعندما تقول: (غلام زيد) هذا الغلام ما تحدد لمن يتبع إلا بعد أن ذكرت المضاف إليه، وعندما تقول: (علم التوحيد، علم التفسير، علم الفقه، علم الحديث) هذا العلم ما حددت شخصيته وبينت هويته إلا بالمضاف إليه، فهو وإن تأخر في اللفظ فهو أسبق في الذهن، وهو الذي يحدد معنى المضاف، وعليه؛ ينبغي أن نعرف المضاف إليه قبل المضاف، وكلٌ من الأمرين لا يترتب عليه في النهاية فائدة تفوتنا لو عرفنا هذا قبل أو هذا قبل، لكن أيهما أحسن من حيث البدء وفي أساليب الناس واستعمالاتهم؟ بما أن أئمتنا ذكروا القولين وقالوا: كل منهما له وجهه نبدأ نحن بما هو مقدم وهو العلم، ويأتينا بعد ذلك تعريف الفرائض إن شاء الله.
كلمة العلم تأتي في اللغة بمعنيين اثنين لا ثالث لهما:
المعنى الأول: غلبة الظن
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10] العلم الذي أضيف إلى الله جل وعلا ليس غلبة ظن بالاتفاق، فعلم الله علم قطعي لا يتصور فيه الخطأ ولا السهو ولا الوهم، فهو بكل شيء عليم، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، لكن اللفظة الثانية: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة:10] علمنا بإيمان المهاجرات من مكة إلى المدينة على نبينا صلوات الله وسلامه هذا علم قطعي؟ قطعاً لا، هذا علم غلبة ظن، نحن فقط نسأل المرأة: لم هاجرت؟ ونستحلفها بالله لم هاجرت؟ فإذا قالت: ما هاجرت بغضاً للزوج ولا كراهية لأرض ولا رغبة في مال ولا من أجل عرض الدنيا لا يحل لنا أن نعيدها إلى الكفار، لكن هذا الكلام يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، فقد تكون كذبت، كرهت زوجها أو كرهت أرضها أو رغبت أن تتزوج في المدينة، وهذا كله ممكن، فلا يعلمه إلا الله، وما في القلب لا يطلع عليه إلا الرب.
إن الركن الركين في الإيمان برب العالمين: التصديق القلبي، فأركان الإيمان: اعتقاد بالجنان، تصديق باللسان، عمل بالأركان. وأبرز هذه الأركان اعتقاد الجنان، فهل هذا نطلع عليه؟ ما أحد يطلع عليه، والله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]، فما في القلب هذا لا يطلع عليه إلا الرب سبحانه وتعالى، نحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، ولذلك يوم القيامة تبلى السرائر. أي: تظهر وتكشف وتفتضح، وأما هذا الظاهر فلا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار عند العزيز القهار سبحانه وتعالى.
إذاً: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة:10] أي: غلب على ظنكم إيمانهن. فالآية إخوتي الكرام نزلت بعد صلح الحديبية في العام السادس للهجرة عندما اتفق النبي عليه الصلاة والسلام مع المشركين على وضع الحرب عشر سنين وكان من ضمن شروط الهدنة: أن من جاء من المشركين إلى النبي عليه الصلاة والسلام يعيده إلى مكة ولا يقبله مهاجراً ولا أن ينضم إلى الدولة الإسلامية، وأن يكون فرداً منها، ومن ذهب من المؤمنين من المدينة إلى مكة لا يعيدونه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقبلونه فرداً منهم ليكون مشركاً مع المشركين.
وهذه الشروط في الحقيقة من حيث الظاهر فيها قسوة وإجحاف بحق المؤمنين لكن هي في الحقيقة حكمة رب العالمين، من ارتد منا فلا خير فيه، ومن أسلم وجاء نقول: سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً، ثم إنه ما انحصرت بلاد الله في مكة وفي المدينة، بإمكانه أن يشرد إلى بلد آخر وأن يعبد الله وأن يسيح في الأرض، والدنيا كلها امتحان وبلاء وصبر، وبإمكانه أن يبقى في مكة وأن يضرب ويضارب ويقاتل وإن قتل فهو شهيد في سبيل الله.
إذاً: المؤمن إذا رددناه ما خسرناه، ومن كان مؤمناً وكفر وارتد فلا خير فيه، ولا نريده، لكن هذا كله في حق الرجال، أما في حق النساء فالأمر يختلف، امرأة في مكة آمنت ثم هاجرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهذا الذي حصل، هل نعيدها؟ هذه ليست برجل، ولا يمكن أن تسيح في الأرض كما يسيح الرجل، ولا يمكن أن تدافع عن نفسها في مكة كما يدافع الرجل، فالمرأة في الأصل عرض يصان ودرة يحافظ عليها فلها حكم خاص تستثنى من شروط الهدنة، فهي لم يجر لها ذكر، فالكلام حول الرجال، والنساء لهن حكم خاص، ربنا ورب المشركين ورب الخلق أجمعين ينزل هذا الحكم ويجب على البشر جميعاً أن يقبلوا به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة:10].
إذاً: نسأل المرأة ونمتحنها بأنها ما هاجرت بغضاً لزوج ولا كراهية في أرض ولا رغبة في عرض الدنيا، فإذا قالت: نعم ما هاجرت إلا حباً في الله وفي رسوله عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نعيدها إلى الكفار، وهذا -كما قلت- يظهر لنا عن طريق غلبة الظن لا عن طريق الجزم والقطع، وغلبة الظن تكفي في أكثر الأحكام العملية، القاضي عندما يقيم حد الرجم بأربعة شهود فإن هذا لا يفيد القطع على الإطلاق، وإنما غلبة الظن، ولا يفيد القطع إلا الخبر المتواتر وهو: ما رواه جمع كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وعندما تقطع الرقبة بشاهدين فإنه يفيد غلبة الظن؛ لأن الله لو كلفنا القطع في كل شيء لكان في هذا عنت وحرج ومشقة على العباد، ولما استطاعوا أن يقوموا بذلك.
أيضاً: التوجه إلى القبلة هذا قطع أو غلبة ظن؟ إنه غلبة ظن، وأنت لو انحرفت عن مكة من هنا بمقدار شعرة حتى تصل هذه الشعرة إلى مكة تمتد تمتد تمتد حتى تخرج عن ساحة الحرم ولعلها عن ساحة مكة، لكن ماذا تعمل؟ هذا الذي في وسعك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
إذاً: هنا يأتي العلم بمعنى غلبة الظن.
المعنى الثاني: الاعتقاد الجازم
إذاً: الاعتقاد الجازم أيضاً ينقسم إلى قسمين: إلى حق وإلى باطل، إذا طابق الواقع لوجود دليل فهو حق وإلا فهو باطل، أي: إذا لم يطابق الواقع ولا يوجد دليل يدل عليه فهو اعتقاد باطل مع أنه اعتقاد جازم لا شك ولا تردد فيه.
وقد جاء العلم بهذا المعنى في كتاب الله جل وعلا، قال الله جل وعلا في سورة محمد على نبينا صلوات الله وسلامه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19].
قوله: فَاعْلَمْ [محمد:19] هل المراد منه كقوله: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة:10]؟ قطعاً لا. بل اعتقاد جازم لا تردد ولا شك فيه، ولو أن الإنسان اعتقد (99%) وعنده توقف، ليس شكاً، توقف بعد ذلك في العدد المكمل للمائة، يعني هل الله موجود أم لا؟ وهل له حق العبادة على عباده أم لا؟ وهل محمد عليه الصلاة والسلام رسوله أم لا؟ قال: أنا أجزم أنه رسول الله (99%) لكن عندي تردد أو توقف في الجزء الأخير المكمل للمائة، أي أنه توقف في واحد من مائة واحتمل أن لا يكون رسولاً، نقول: اعتقادك باطل كما لو جحدت رسالته وأنت تجزم بالجحود، فالأمران واحد، والاعتقاد لابد من أن يكون جازماً لا شك فيه ولا يوجد محل للشك ولا للتردد فيه، ولذلك قال الله جل وعلا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه عند نزول الآية وهو من أحبار اليهود: والله إننا نعرف أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام أكثر من معرفتنا بأولادنا. قالوا: كيف؟ قال: هذا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما أولادنا لا ندري ماذا صنعت النساء؟ يعني كأنه يقول: لا يوجد احتمال للشك في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ليس لا يوجد شك بل لا يوجد احتمال للشك، هذا رسول الله حقاً كالشمس إذا كانت طالعة تقول: الشمس طالعة، تقول: ما الدليل؟ تقول: يا عبد الله الشمس طالعة.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وهنا: هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول: لا يوجد مجال للشك، وأما أولادنا فيوجد احتمال، وإن كان هذا الاحتمال بعيداً لكن يوجد احتمال، فإنا لا نعلم ماذا صنعت النساء؟ الولد ولد على فراشك، أما يوجد احتمال في أن الزوجة خانت؟ يوجد، وإن كان الاحتمال بعيداً بعيداً وما واحد منا يتهم أهله، لكن يوجد مجال.
وهل علمنا بأن أولادنا من صلبنا كعلمنا بنبوة نبينا عليه الصلاة والسلام؟ لا ثم لا، شتان شتان، هناك لا مجال للشك ولا احتمال له، وأما هنا فيوجد احتمال وإن كنا لا نشك لكن يوجد احتمال للشك.
إذاً: هذا اعتقاد جازم طابق الواقع فهو دليل فهو اعتقاد حق.
وعندنا اعتقاد جازم لا يطابق الواقع ولا يوجد دليل يدل عليه فهو اعتقاد باطل كاعتقاد النصارى بأن الله ثلاثة لا يشكون في ذلك وهم يجزمون بهذه القضية: الأب والابن وروح القدس، لكن هل هذا الاعتقاد يوجد عليه دليل؟ هل هذا الاعتقاد يطابق الواقع؟ الله إله سبحانه وتعالى لكن لا شريك له، وكون عيسى إله هذا باطل، وكون مريم إله هذا باطل باطل، فلا يمكن أن يكون عيسى إله ولا يمكن أن تكون أمه إلهاً، لا يمكن بحال من الأحوال. لماذا؟ لأنك لو أردت أن تطبق صفات الألوهية على هذا العبد وعلى هذه الأمة على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه لما انطبقت، ولتخلفت بما يدل على بطلان هذا الاعتقاد وعدم مطابقته للواقع، فواقع عيسى لا يدل على أنه إله، وقد أشار الله جل وعلا إلى بطلان ألوهية عيسى وأمه في كتابه كما قال أئمتنا بأوجز عبارة وأظهر إشارة، فقال في سورة المائدة: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:75].
غاية وصف نبي الله عيسى منحصر في هذا الأمر: (رسول)، وهذا أعلى رتبته ومنزلته عند ربه جل وعلا، والألوهية لا تصلح له ولا لغيره من المخلوقين إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [المائدة:75].
وأمه أعلى وصف فيها أنها صديقة، وهذا أعلى ما يكون في وصف النساء، فليس في النساء نبية، فهو رسول وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام.
قوله: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75] إشارة قطعية إلى بطلان ألوهية عيسى وأمه. كيف هذا؟ الذي يأكل الطعام محتاج للطعام أم لا؟ محتاج، فإن منعت عنه الطعام مات، وأخص وصف في الإله الغنى، وأخص وصف في المخلوق الفقر، وأعظم ما يتميز به الخالق عن المخلوق أن الخالق غني والمخلوق فقير، ولذلك العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه ما هو؟ فقره. أي: فقر العالم إلى ذلك الغني، وليست العلة ما قاله الفلاسفة ولا المتكلمون: العلة هي الحدوث أو إمكان الحدوث، فحدوث العالم أمارة وعلامة على فقره، وإمكان حدوثه وإمكان وجوده وإمكان عدمه هذا دليل على فقره، إنما العلة الحقيقية في احتياج المخلوقات إلى خالقها: الفقر، وكل من عدا الله فقير.
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له آتي
فمن بغى مطلباً من غير خالقه فهو الظلوم الجهول المشرك العاتي
فأخص وصف فينا الفقر وأخص وصف في خالقنا الغنى، فعيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يأكل الطعام ومحتاج إليه، وفي ذلك إشارة إلى أمر يستحى من ذكره والله كريم يكني عنه وهو الذهاب إلى الحمام، لأن من أكل الطعام ينبغي أن يذهب إلى الحمام، فإله محتاج إلى إدخال الطعام وإلى إخراجه فهو بين حاجتين، لو تخلفت واحدة منهما لمات: إن منعت عنه الطعام مات، وإذا احتبس الطعام في بطنه مات. هل يصلح هذا أن يكون إلهاً؟ لا يصلح هذا أن يكون إلهاً، هذا فقير، وإذا كان فقيراً فكيف سيكون إلهاً؟
إذاً: اعتقادهم في ألوهية عيسى وأمه اعتقاد جازم لا يشكون فيه لكنه لا يطابق واقع هذين المخلوقين الكريمين، ولا يوجد دليل يدل على هذا الاعتقاد، فهو اعتقاد جازم لكنه باطل.
و محمد بن السماك عليه رحمة الله كان في مجلس هارون الرشيد ودعا هارون الرشيد بقلة ماء ليشربها في يوم حار، فلما أحضرت القلة بين يديه قال: لا تشرب يا أمير المؤمنين، قال: لم؟ قال: حتى أسألك: لو منعت هذه القلة كم تدفع ثمناً لها؟ قال: نصف ملكي، قال: اشرب، فبعد أن شرب قال: إن احتبس هذا الماء في بطنك وما استطعت أن تخرجه كم تدفع ثمناً لإخراجه؟ قال: نصف ملكي الآخر. قال: يا أمير المؤمنين! إن ملكاً من أوله لآخره لا يساوي شربة ماء لا ينبغي أن يتنافس الناس فيه.
وحقيقة ملكك من أوله لآخره تدفعه في ثمن شربة ماء في إدخالها أو إخراجها، وصدق الله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، وهذه نعمة الماء فكيف بنعمة الهواء؟ ولو كان الهوى يشرى بثمن لما عاش أحد على وجه الأرض.
سبحان من خص العزيز بعزه والناس مشتغلون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي نفس فمحتاج إلى أنفاسه
سبحانه وتعالى.
إذاً: الاعتقاد الجازم إن طابق الواقع لدليل يدل عليه فهو حق كاعتقاد المسلمين بأن الله واحد لا شريك له.
والاعتقاد الجازم باطل لأنه لا يطابق الواقع لعدم وجود دليل يدل عليه كاعتقاد النصارى بأن عيسى وأمه إلهان مع الرحمن، هذا اعتقاد باطل.
إذاً: خلاصة الكلام أن العلم يأتي بمعنى: (غلبة الظن)، ويأتي بمعنى (الاعتقاد الجازم)، فإن طابق الواقع لدليل يدل عليه فهو حق وإلا فهو باطل. هذا معنى العلم في اللغة.
معنى العلم في الاصطلاح
وقيل: العلم إدراك الشيء على ما هو عليه.. صفة ينكشف بها المطلوب.. إدراك الشيء على ما هو عليه. هذا كله فيما يتعلق بلفظ العلم في اللغة وفي الاصطلاح.
الأول: تأتي بمعنى غلبة الظن، وقد جاء دليل على هذا في كلام الله جل وعلا في سورة الممتحنة، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ... [الممتحنة:10] إلى آخر الآية الكريمة.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10] العلم الذي أضيف إلى الله جل وعلا ليس غلبة ظن بالاتفاق، فعلم الله علم قطعي لا يتصور فيه الخطأ ولا السهو ولا الوهم، فهو بكل شيء عليم، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، لكن اللفظة الثانية: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة:10] علمنا بإيمان المهاجرات من مكة إلى المدينة على نبينا صلوات الله وسلامه هذا علم قطعي؟ قطعاً لا، هذا علم غلبة ظن، نحن فقط نسأل المرأة: لم هاجرت؟ ونستحلفها بالله لم هاجرت؟ فإذا قالت: ما هاجرت بغضاً للزوج ولا كراهية لأرض ولا رغبة في مال ولا من أجل عرض الدنيا لا يحل لنا أن نعيدها إلى الكفار، لكن هذا الكلام يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، فقد تكون كذبت، كرهت زوجها أو كرهت أرضها أو رغبت أن تتزوج في المدينة، وهذا كله ممكن، فلا يعلمه إلا الله، وما في القلب لا يطلع عليه إلا الرب.
إن الركن الركين في الإيمان برب العالمين: التصديق القلبي، فأركان الإيمان: اعتقاد بالجنان، تصديق باللسان، عمل بالأركان. وأبرز هذه الأركان اعتقاد الجنان، فهل هذا نطلع عليه؟ ما أحد يطلع عليه، والله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]، فما في القلب هذا لا يطلع عليه إلا الرب سبحانه وتعالى، نحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، ولذلك يوم القيامة تبلى السرائر. أي: تظهر وتكشف وتفتضح، وأما هذا الظاهر فلا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار عند العزيز القهار سبحانه وتعالى.
إذاً: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة:10] أي: غلب على ظنكم إيمانهن. فالآية إخوتي الكرام نزلت بعد صلح الحديبية في العام السادس للهجرة عندما اتفق النبي عليه الصلاة والسلام مع المشركين على وضع الحرب عشر سنين وكان من ضمن شروط الهدنة: أن من جاء من المشركين إلى النبي عليه الصلاة والسلام يعيده إلى مكة ولا يقبله مهاجراً ولا أن ينضم إلى الدولة الإسلامية، وأن يكون فرداً منها، ومن ذهب من المؤمنين من المدينة إلى مكة لا يعيدونه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقبلونه فرداً منهم ليكون مشركاً مع المشركين.
وهذه الشروط في الحقيقة من حيث الظاهر فيها قسوة وإجحاف بحق المؤمنين لكن هي في الحقيقة حكمة رب العالمين، من ارتد منا فلا خير فيه، ومن أسلم وجاء نقول: سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً، ثم إنه ما انحصرت بلاد الله في مكة وفي المدينة، بإمكانه أن يشرد إلى بلد آخر وأن يعبد الله وأن يسيح في الأرض، والدنيا كلها امتحان وبلاء وصبر، وبإمكانه أن يبقى في مكة وأن يضرب ويضارب ويقاتل وإن قتل فهو شهيد في سبيل الله.
إذاً: المؤمن إذا رددناه ما خسرناه، ومن كان مؤمناً وكفر وارتد فلا خير فيه، ولا نريده، لكن هذا كله في حق الرجال، أما في حق النساء فالأمر يختلف، امرأة في مكة آمنت ثم هاجرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهذا الذي حصل، هل نعيدها؟ هذه ليست برجل، ولا يمكن أن تسيح في الأرض كما يسيح الرجل، ولا يمكن أن تدافع عن نفسها في مكة كما يدافع الرجل، فالمرأة في الأصل عرض يصان ودرة يحافظ عليها فلها حكم خاص تستثنى من شروط الهدنة، فهي لم يجر لها ذكر، فالكلام حول الرجال، والنساء لهن حكم خاص، ربنا ورب المشركين ورب الخلق أجمعين ينزل هذا الحكم ويجب على البشر جميعاً أن يقبلوا به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة:10].
إذاً: نسأل المرأة ونمتحنها بأنها ما هاجرت بغضاً لزوج ولا كراهية في أرض ولا رغبة في عرض الدنيا، فإذا قالت: نعم ما هاجرت إلا حباً في الله وفي رسوله عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نعيدها إلى الكفار، وهذا -كما قلت- يظهر لنا عن طريق غلبة الظن لا عن طريق الجزم والقطع، وغلبة الظن تكفي في أكثر الأحكام العملية، القاضي عندما يقيم حد الرجم بأربعة شهود فإن هذا لا يفيد القطع على الإطلاق، وإنما غلبة الظن، ولا يفيد القطع إلا الخبر المتواتر وهو: ما رواه جمع كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وعندما تقطع الرقبة بشاهدين فإنه يفيد غلبة الظن؛ لأن الله لو كلفنا القطع في كل شيء لكان في هذا عنت وحرج ومشقة على العباد، ولما استطاعوا أن يقوموا بذلك.
أيضاً: التوجه إلى القبلة هذا قطع أو غلبة ظن؟ إنه غلبة ظن، وأنت لو انحرفت عن مكة من هنا بمقدار شعرة حتى تصل هذه الشعرة إلى مكة تمتد تمتد تمتد حتى تخرج عن ساحة الحرم ولعلها عن ساحة مكة، لكن ماذا تعمل؟ هذا الذي في وسعك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
إذاً: هنا يأتي العلم بمعنى غلبة الظن.
ويأتي العلم أيضاً بمعنى الاعتقاد الجازم، اعتقاد جازم لا تردد فيه ولا شك فيه، والاعتقاد الجازم له حالتان: إن طابق الواقع لوجود دليل يدل عليه فهو حق وإلا فهو باطل.
إذاً: الاعتقاد الجازم أيضاً ينقسم إلى قسمين: إلى حق وإلى باطل، إذا طابق الواقع لوجود دليل فهو حق وإلا فهو باطل، أي: إذا لم يطابق الواقع ولا يوجد دليل يدل عليه فهو اعتقاد باطل مع أنه اعتقاد جازم لا شك ولا تردد فيه.
وقد جاء العلم بهذا المعنى في كتاب الله جل وعلا، قال الله جل وعلا في سورة محمد على نبينا صلوات الله وسلامه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19].
قوله: فَاعْلَمْ [محمد:19] هل المراد منه كقوله: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة:10]؟ قطعاً لا. بل اعتقاد جازم لا تردد ولا شك فيه، ولو أن الإنسان اعتقد (99%) وعنده توقف، ليس شكاً، توقف بعد ذلك في العدد المكمل للمائة، يعني هل الله موجود أم لا؟ وهل له حق العبادة على عباده أم لا؟ وهل محمد عليه الصلاة والسلام رسوله أم لا؟ قال: أنا أجزم أنه رسول الله (99%) لكن عندي تردد أو توقف في الجزء الأخير المكمل للمائة، أي أنه توقف في واحد من مائة واحتمل أن لا يكون رسولاً، نقول: اعتقادك باطل كما لو جحدت رسالته وأنت تجزم بالجحود، فالأمران واحد، والاعتقاد لابد من أن يكون جازماً لا شك فيه ولا يوجد محل للشك ولا للتردد فيه، ولذلك قال الله جل وعلا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه عند نزول الآية وهو من أحبار اليهود: والله إننا نعرف أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام أكثر من معرفتنا بأولادنا. قالوا: كيف؟ قال: هذا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما أولادنا لا ندري ماذا صنعت النساء؟ يعني كأنه يقول: لا يوجد احتمال للشك في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ليس لا يوجد شك بل لا يوجد احتمال للشك، هذا رسول الله حقاً كالشمس إذا كانت طالعة تقول: الشمس طالعة، تقول: ما الدليل؟ تقول: يا عبد الله الشمس طالعة.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وهنا: هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول: لا يوجد مجال للشك، وأما أولادنا فيوجد احتمال، وإن كان هذا الاحتمال بعيداً لكن يوجد احتمال، فإنا لا نعلم ماذا صنعت النساء؟ الولد ولد على فراشك، أما يوجد احتمال في أن الزوجة خانت؟ يوجد، وإن كان الاحتمال بعيداً بعيداً وما واحد منا يتهم أهله، لكن يوجد مجال.
وهل علمنا بأن أولادنا من صلبنا كعلمنا بنبوة نبينا عليه الصلاة والسلام؟ لا ثم لا، شتان شتان، هناك لا مجال للشك ولا احتمال له، وأما هنا فيوجد احتمال وإن كنا لا نشك لكن يوجد احتمال للشك.
إذاً: هذا اعتقاد جازم طابق الواقع فهو دليل فهو اعتقاد حق.
وعندنا اعتقاد جازم لا يطابق الواقع ولا يوجد دليل يدل عليه فهو اعتقاد باطل كاعتقاد النصارى بأن الله ثلاثة لا يشكون في ذلك وهم يجزمون بهذه القضية: الأب والابن وروح القدس، لكن هل هذا الاعتقاد يوجد عليه دليل؟ هل هذا الاعتقاد يطابق الواقع؟ الله إله سبحانه وتعالى لكن لا شريك له، وكون عيسى إله هذا باطل، وكون مريم إله هذا باطل باطل، فلا يمكن أن يكون عيسى إله ولا يمكن أن تكون أمه إلهاً، لا يمكن بحال من الأحوال. لماذا؟ لأنك لو أردت أن تطبق صفات الألوهية على هذا العبد وعلى هذه الأمة على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه لما انطبقت، ولتخلفت بما يدل على بطلان هذا الاعتقاد وعدم مطابقته للواقع، فواقع عيسى لا يدل على أنه إله، وقد أشار الله جل وعلا إلى بطلان ألوهية عيسى وأمه في كتابه كما قال أئمتنا بأوجز عبارة وأظهر إشارة، فقال في سورة المائدة: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:75].
غاية وصف نبي الله عيسى منحصر في هذا الأمر: (رسول)، وهذا أعلى رتبته ومنزلته عند ربه جل وعلا، والألوهية لا تصلح له ولا لغيره من المخلوقين إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [المائدة:75].
وأمه أعلى وصف فيها أنها صديقة، وهذا أعلى ما يكون في وصف النساء، فليس في النساء نبية، فهو رسول وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام.
قوله: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75] إشارة قطعية إلى بطلان ألوهية عيسى وأمه. كيف هذا؟ الذي يأكل الطعام محتاج للطعام أم لا؟ محتاج، فإن منعت عنه الطعام مات، وأخص وصف في الإله الغنى، وأخص وصف في المخلوق الفقر، وأعظم ما يتميز به الخالق عن المخلوق أن الخالق غني والمخلوق فقير، ولذلك العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه ما هو؟ فقره. أي: فقر العالم إلى ذلك الغني، وليست العلة ما قاله الفلاسفة ولا المتكلمون: العلة هي الحدوث أو إمكان الحدوث، فحدوث العالم أمارة وعلامة على فقره، وإمكان حدوثه وإمكان وجوده وإمكان عدمه هذا دليل على فقره، إنما العلة الحقيقية في احتياج المخلوقات إلى خالقها: الفقر، وكل من عدا الله فقير.
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له آتي
فمن بغى مطلباً من غير خالقه فهو الظلوم الجهول المشرك العاتي
فأخص وصف فينا الفقر وأخص وصف في خالقنا الغنى، فعيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يأكل الطعام ومحتاج إليه، وفي ذلك إشارة إلى أمر يستحى من ذكره والله كريم يكني عنه وهو الذهاب إلى الحمام، لأن من أكل الطعام ينبغي أن يذهب إلى الحمام، فإله محتاج إلى إدخال الطعام وإلى إخراجه فهو بين حاجتين، لو تخلفت واحدة منهما لمات: إن منعت عنه الطعام مات، وإذا احتبس الطعام في بطنه مات. هل يصلح هذا أن يكون إلهاً؟ لا يصلح هذا أن يكون إلهاً، هذا فقير، وإذا كان فقيراً فكيف سيكون إلهاً؟
إذاً: اعتقادهم في ألوهية عيسى وأمه اعتقاد جازم لا يشكون فيه لكنه لا يطابق واقع هذين المخلوقين الكريمين، ولا يوجد دليل يدل على هذا الاعتقاد، فهو اعتقاد جازم لكنه باطل.
و محمد بن السماك عليه رحمة الله كان في مجلس هارون الرشيد ودعا هارون الرشيد بقلة ماء ليشربها في يوم حار، فلما أحضرت القلة بين يديه قال: لا تشرب يا أمير المؤمنين، قال: لم؟ قال: حتى أسألك: لو منعت هذه القلة كم تدفع ثمناً لها؟ قال: نصف ملكي، قال: اشرب، فبعد أن شرب قال: إن احتبس هذا الماء في بطنك وما استطعت أن تخرجه كم تدفع ثمناً لإخراجه؟ قال: نصف ملكي الآخر. قال: يا أمير المؤمنين! إن ملكاً من أوله لآخره لا يساوي شربة ماء لا ينبغي أن يتنافس الناس فيه.
وحقيقة ملكك من أوله لآخره تدفعه في ثمن شربة ماء في إدخالها أو إخراجها، وصدق الله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، وهذه نعمة الماء فكيف بنعمة الهواء؟ ولو كان الهوى يشرى بثمن لما عاش أحد على وجه الأرض.
سبحان من خص العزيز بعزه والناس مشتغلون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي نفس فمحتاج إلى أنفاسه
سبحانه وتعالى.
إذاً: الاعتقاد الجازم إن طابق الواقع لدليل يدل عليه فهو حق كاعتقاد المسلمين بأن الله واحد لا شريك له.
والاعتقاد الجازم باطل لأنه لا يطابق الواقع لعدم وجود دليل يدل عليه كاعتقاد النصارى بأن عيسى وأمه إلهان مع الرحمن، هذا اعتقاد باطل.
إذاً: خلاصة الكلام أن العلم يأتي بمعنى: (غلبة الظن)، ويأتي بمعنى (الاعتقاد الجازم)، فإن طابق الواقع لدليل يدل عليه فهو حق وإلا فهو باطل. هذا معنى العلم في اللغة.
وأما معناه في الاصطلاح قبل التركيب فأكثر أئمتنا في بيان حده وتعريفه ذكروا عدة أقوال انظروها في إرشاد الفحول في (ص4)، وفي غير ذلك من الكتب، وأظهر ما قيل في بيان معنى العلم في الاصطلاح أنه: صفة ينكشف بها المطلوب.
وقيل: العلم إدراك الشيء على ما هو عليه.. صفة ينكشف بها المطلوب.. إدراك الشيء على ما هو عليه. هذا كله فيما يتعلق بلفظ العلم في اللغة وفي الاصطلاح.
وأما الفرائض فهي جمع فريضة، كحدائق جمع حديقة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، أي: مفروضة مقدرة من قبل الله على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام، كما سيأتينا: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7].
دلالات نسبة الألفاظ إلى المعاني
الدلالة الأولى: دلالة التواطؤ الكلي
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصل عنصرهم شيء يفاخرون به فالطين والماء
لا فضل لواحد على آخر في أصل الخلقة، إنما الفضل بالاكتساب.
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء
إذاً: الدلالة الأولى التواطؤ تواطأً كلياً، أي: في كل الأفراد وفي جميعها يستوي المعنى ويتفق ويتحد.
الدلالة الثانية: التواطؤ المشكك
الدلالة الثالثة: الاشتراك اللفظي
وكذا لفظ القرء: طهر وحيض واللفظ واحد، فهذه الصلة بين المعنى واللفظ الذي يدل عليه مشترك لفظي.
الدلالة الرابعة: الترادف
الدلالة الخامسة: التباين
إذاً: الدلالات ونسبة الألفاظ إلى معانيها منحصرة في خمسة أمور لا سادس لها: تواطؤ له حالتان: تواطؤ مطلق، تواطؤ مشكك، ثم بعد ذلك اشتراك لفظي، ثم ترادف وتباين.
ولفظ الفرائض معناه في اللغة يأتي لعدة معان، سأذكر عشرة منها، وفي نهاية الأمر نقول: إنه مشترك لفظي، وقبل أن أبين هذه المعاني أبين الصلة، نسبة الألفاظ إلى المعاني، ونسبة الألفاظ إلى المعاني لا تخرج عن خمسة أمور: