مقدمة في علم التوحيد - ثمرة علم التوحيد [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً, سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين, سبحانك اللهم وبحمدك، على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس مقدمة لتوحيد ذي الجلال والإكرام، وقلت: هذه المقدمة ستدور حول عدة أمور، أجملها في أمور سبعة إن شاء الله:

أولها: في بيان معنى علم التوحيد، وقد تقدم الكلام على ذلك مفصلاً مقرراً بأدلته.

والأمر الثاني: في موضوع علم التوحيد، وقد مر الكلام أيضاً على هذا مفصلاً مقرراً بأدلته وبراهينه.

والأمر الثالث: في ثمرة علم التوحيد، وقد تكلمنا وتدارسنا الثمرة الأولى ونتدارس بقية الثمرات في هذه الموعظة إن شاء الله.

والأمر الرابع: في فضل علم التوحيد ومنزلته.

والأمر الخامس: في أقسام علم التوحيد.

والسادس: في شروط التكليف بالتوحيد.

وسأختم هذه المقدمة بأمر سابع في حرص سلفنا على تعلم التوحيد والاعتناء به.

إخوتي الكرام! أما الأمر الثالث من هذه المقدمة التي كنا نتدارسها فدارت حول ثمرة علم التوحيد وغايته، وقلت: هذه المقدمة هي معالم بارزة لعلم التوحيد، وهي بمثابة إثبات شخصية لهذا العلم يتميز بها عن غيره من العلوم، وبعد أن تدارسنا الأمر الأول والثاني شرعنا في مدارسة الأمر الثالث في ثمرة علم التوحيد وغايته، وقلت: له ثلاث ثمرات طيبة مباركة:

أولها: معرفة الله معرفة حقيقية، والعلم به علماً قطعياً، وقد مر الكلام على هذه الثمرة مفصلاً مقرراً بأدلته وبراهينه.

وقلت إخوتي الكرام: ما عرف الله من أشرك به وجعل له نداً، وما عرف الله من مثله أو مثل خلقه به فجعل له شبيهاً، أو جعله يشبه أحداً من خلقه، وما عرف الله من عطل أسماء الله وصفاته، وما عرف الله من كذب أخباره وعارض رسله عليه صلوات الله وسلامه، فمن اتصف بشيء من ذلك فمعبوده في الحقيقة هواه، وإن زعم أنه يعبد مولاه أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43].

إخوتي الكرام! وأما الثمرة الثانية لعلم التوحيد وهي التي سنبدأ في مدارستها ومدارسة ما بعدها في هذه الليلة المباركة إن شاء الله، فهي أننا إذا تعلمنا علم التوحيد نستفيد فائدة عظيمة، ونحصل ثمرة طيبة كريمة هي: انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وارتياح النفس، واستنارة العقل.

الصدر ينشرح، والقلب يطمئن، والنفس تستريح وتهدأ، والعقل يستنير ويتنور، وذلك عن طريق الوقوف على الحجج والبينات فيما يجب اعتقاده على المكلفين والمكلفات، فإذا عرف الإنسان الحُجج البينة والأدلة القوية الظاهرة في الاعتقاد الذي كلفنا الله به، ينشرح الصدر ويتسع، ويطمئن القلب ويستريح، وتهدأ النفس وتبتهج، ويستنير العقل ويتنور.

أثر الاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل في انشراح الصدر

إخوتي الكرام! وقد تقدم معنا في تعريف علم التوحيد أن العلم يطلق على أمرين اثنين:

أحدهما هو المراد في باب العقائد: وهو الاعتقاد الجازم، وقلنا: الاعتقاد الجازم يكون على قسمين: حق وباطل، فإذا طابق الواقع بدليل يدل عليه فهو اعتقاد حق، كاعتقاد المسلمين بأن الله واحد لا شريك له سبحانه وتعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19].

فمن اعتقد هذا الاعتقاد الجازم، الذي طابق واقع المعتَقَد وهو الله جل وعلا، عن دليل وبرهان، فإن الإنسان في هذه الحالة ينشرح صدره، ويطمئن قلبه، وتهدأ وتستريح نفسه، ويستنير عقله؛ لأنه يكون على بينة في هذه الحياة.

والعكس بالعكس، إذا اعتقد الإنسان الاعتقاد الباطل المتناقض سيشقى في هذه الحياة، وما سيحصله من شقاء بعد الممات أعظم وأعظم، عندما يعتقد النصارى -عليهم غضب الله- بأن الإله ثلاثة، وأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، هذا اعتقاد.

لكن من اعتقد به حقيقة، لن ينشرح صدره، ولن يطمئن قلبه، ولن تهدأ نفسه، ولن يتنور عقله، وسيعيش في ظلمات في هذه الحياة، وسيصلى أسفل الدركات بعد الممات.

عقيدة التثليث وما تثمر عنه من قلق وحيرة

إن عقيدة النصارى في التثليث عقيدة فاسدة متناقضة، وقولهم بعد ذلك بالحلول أفسد وأفسد، وما اتفق نصرانيان على تفسير ما يريدونه بالتثليث، ولا عبر عنه نصرانيان بعبارة واحدة متفق عليها.

يقولون: الله واحد بالذات لا شريك له، لكن هو ثلاثة في الأقانيم، قلنا: ما هي الأقانيم فسروها لنا؟

قالوا: الأقانيم جمع أقنوم، وهو الشخص، ذات واحدة لكن الأشخاص ثلاثة، الله له ذات خاصة به وعيسى له ذات خاصة به، مريم لها ذات خاصة بها، فكيف ستكون الذات واحدة في أشخاص ثلاثة؟! من يقبل هذا؟

لما نظر بعض النصارى في هذا التفسير، قالوا: هذا تفسير يُضحك الثكلى، ولو علمت به البهائم لاستحت منه، فلنغير التعبير عن الأقنوم، قالوا: ليس المراد بالأقانيم الأشخاص، وما المراد منها؟

قالوا: المراد منها الصفات، ذات واحدة وصفات بعد ذلك متعددة.

هذه الصفات المتعددة نعود فنقول لهم: سترجع إلى موصوف واحد أو إلى موصوفات مختلفة؟ إلى موصوفات مختلفة قطعاً وجزماً، أي: إلى ذوات متعددة، فما صارت الذات واحدة.

فجاء فريق آخر من النصارى وقالوا: ليس المراد من الأقانيم الصفات، إنما المراد منها الخواص، ثلاث خواص، ثلاث صفات، ثلاثة أشخاص لذات واحدة، هذا اعتقاد لا يشرح الصدر بل يضيقه.

يخبرني بعض إخواني من المسلمين المهتدين، عندما كان يدرس في بلدة بيروت من بلاد لبنان في بلاد الشام، يقول: كنت في الكلية مع طالب نصراني، وكنا كفرسي رهان نتسابق في الدراسة على الدرجة الأولى، وأحياناً أنا أفوز بالأولى وأحياناً يفوز النصراني، وذلك في كلية علمية من الكليات التي في الطب والهندسة وغير ذلك، وليست في علوم شرعية.

فقال النصراني في يوم من الأيام للمسلم: أنا أحسدك أيها العبد المسلم، قال: وعلامَ؟ في الدراسة أنا وأنت في درجة واحدة، أفوقك سنة وتفوقني سنة، وأما من ناحية عرَض الدنيا فأنت أحسن مني بكثير، عندك خيرات ومال وأنا من هذا محروم، فتحسدني على أي شيء؟

قال: أحسدك أن عقلك في راحة، ولا تجد القلق الذي أجده أنا في صدري!

قال: وماذا يقلقك في هذه الحياة؟ قال: منذ أن وعيت للآن، والله ما غاب عن ذهني كيف سيكون الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة، يقول: أنا أفكر في هذه، وكلما أفكر في هذه القضية أزداد شكاً وهماً وغماً، كيف سأرضي نفسي بأن الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة.

يقول: وأما أنت فتقول وأنت مستلق على ظهرك: لا إله إلا الله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] في راحة، لا يوجد ما يصادم العقل والفكر، ويضيق الصدر، ويظلم القلب، واحد واحد وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:62]، وأما أنا فالثلاثة واحد، والواحد ثلاثة.

هذه عقيدة التثليث فاسدة، ومن اعتقدها فلن ينشرح صدره، ولن يطمئن قلبه، ولن تبتهج نفسه، ولن يستنير عقله، وكلما أراد أن يخدع نفسه بعبارات ملتوية، زاد شكاً وفساداً في عقيدته، وما يستر فساد عقيدة النصارى عند النصارى إلا عِدائهم للمسلمين، ولو لم نكن نحن أمامهم لكفروا بدينهم وعرفوا أن هذا الدين باطل معكوس منكوس، لكن حقد وتعصب بالباطل من أجل الكيد لنا، وإذا أردت بعد ذلك أن تبحث في أمر الحلول، وأن اللاهوت حل بالناسوت، تزداد شكاً، وعقيدتهم تزداد غموضاً.

الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد؛ هذا لا ينير الفكر!

إذاً: إخوتي الكرام! الذي يعتقد عقيدة الحق، ويعلم علم التوحيد عن يقين وبصيرة، ينشرح صدره، ويطمئن قلبه، وتستريح نفسه وتبتهج، ويستنير عقله، يكون على بينة في هذه الحياة، وعلى هداية تامة كما سيأتينا، نعيم دائم بعد الممات، وخلاف هذا تفسيرات متناقضة لا تزيد الناس إلا حيرة وشكاً في هذه الحياة، وشقاء بعد الممات.

تشابه عقيدة الرافضة وعقيدة النصارى في الفساد

إن واقع النصارى في عقيدتهم كواقع الشيعة في عقيدتهم تماماً، عندما أعلن الشيعة عن عِدائهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا قاعدة خبيثة ملعونة هي كالتثليث تماماً عند النصارى، لا ولاء إلا ببراء، أي: لا يمكن أن نوالي علياً وآل البيت رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة الكرام إلا بمعاداة الصحابة، لا ولاية لآل البيت إلا بلعن أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة الكرام.

هذه العقيدة الفاسدة المنكوسة إذا اجتمعت بواحد ممن يقول بها فلا تُطل المناظرة معه، قل له باختصار: أخبرني كيف زوج علي ابنته أم كلثوم التي هي بنت فاطمة ، وجدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أخبرني كيف زوج علي ابنته لكافر تلعنونه وهو عمر ؟

فيجيب الشيعة بجوابين كجواب النصارى في الأقانيم تماماً:

أما المتقدمون من الشيعة فقالوا وبئس ما قالوا وفض الله أفواههم وملأها جمراً من نار جهنم؛ قالوا: إن علياً زوج ابنته أم كلثوم من عمر من باب التَّقِيَّة، أي: الخوف، ليدفع شر عمر ، لأن عمر جبار غليظ عنيف، يبطش بـعلي لو لم يزوجه ابنته، فمن باب التقية زوج بنت فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام لـعمر الكافر عندهم، الذي يتقربون إلى الشيطان بلعنه، لا إلى الرحمن!

فقيل لهم: إن قولكم هذا يصم علياً ويصفه بمنقصة لا يرضى بها أجلاف الناس وسَقَطهم! الواحد منا مهما كان جباناً متخاذلاً ضعيفاً فاسداً لا يرضى أن يزوج ابنته لكافر، ومن باب كما يقال التحري والتحقق -وإن كنا من هذا متيقنين- هل واحد منا يرضى أن يزوج ابنته لا أقول لكافر فقير، إنما لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية؟ لا، والذي رفع السماء بغير عمد، وبول المسلمة أطهر من الكافرين مهما كان شكلهم ولونهم، والله يقول عنهم في كتابه: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، ونجاستهم أشنع من نجاسة البول والغائط، وما عندنا شك في ذلك.

والنجاسة المعنوية أشنع من النجاسة الحسية، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وهذه طيبة طاهرة كيف تُقرن بكافر نجس مشرك ملعون؟ فالواحد منا مع ضعفنا وتقصيرنا لا يرضى أن يزوج ابنته -مع تقصيرها أيضاً- لكافر نجس، فكيف علي رضي الله عنه المبشر بالجنة، الصحابي الطاهر الفاضل، يزوج بضعة النبي عليه الصلاة والسلام، وقطعة منه، لكافر يُلعن عند الشيعة؟ هل هذا يقبل؟! هذا كقول النصارى: الأقنوم: هو الشخص، الذات واحدة والأشخاص ثلاثة، ولما جاء النصارى المتأخرون قالوا: هذا كل من سمعه يقول: إنه باطل، فلا بد من تغيير تفسير الأقنوم.

فجاء الشيعة المتأخرون وقالوا: نغير الجواب، أجاب المتقدمون فقالوا من باب التقية، ونحن نقول شيئاً آخر.

فنقول: ما ستقولون سيكون حجة عليكم، وبأي شيء يفسر النصارى تثليثهم يكون حجة عليهم، وبياناً لفساد اعتقادهم الذي غيروا به دين ربهم.

قال الشيعة المتأخرون: إن علياً زوج أم كلثوم لـعمر وليس من باب التقية، إنما زوجه وخدعه!

فكيف زوجه وخدعه؟ قالوا: زف إليه جنية تصورت بصورة أم كلثوم ، فـعمر تزوج جنية وهو يظن أنه تزوج أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

وهل هذا جواب! ووالله إن الشيعة يعلمون أن هذا الجواب باطل، لكن ما قبلوه إلا لمعاداة أهل السنة فقط.

ونحن نقول: لا يحب آل البيت وعلى رأسهم علي رضي الله عنه إلا أهل السنة، وأما أنتم فتسترتم بـعلي لتطعنوا في علي قبل أن تطعنوا في الصحابة الكرام، لكن من وراء ستار، عن طريق اللف والدوران، وما تقولونه لو ثبت لكان منقصة في علي قبل أن يكون منقصة في عمر ، وإذا كان يرضى أن يزوج ابنته من كافر وأبو بكر وعمر وعثمان كفرة، وعلي -على تعبيركم كافر- لأنه زوج ابنته من كافر، إذاً: هذا الدين من أوله لآخره باطل، وهذا في الحقيقة ما يقصده الزنادقة من الشبه التي يرجفون بها حول دين الله.

هذا اعتقاد لا يزيد الإنسان إلا حيرة في هذه الحياة، وأما لو اعتقدت اعتقاد الحق، وعقيدة الصدق، فإنك تستريح في هذه الحياة، وإذا استرحت هنا تستريح بعد الموت، وإذا شقيت هنا فستشقى هناك، وسيأتينا أن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، وهي الأنس بالله ومعرفته معرفة حقيقية: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

إخوتي الكرام! وقد تقدم معنا في تعريف علم التوحيد أن العلم يطلق على أمرين اثنين:

أحدهما هو المراد في باب العقائد: وهو الاعتقاد الجازم، وقلنا: الاعتقاد الجازم يكون على قسمين: حق وباطل، فإذا طابق الواقع بدليل يدل عليه فهو اعتقاد حق، كاعتقاد المسلمين بأن الله واحد لا شريك له سبحانه وتعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19].

فمن اعتقد هذا الاعتقاد الجازم، الذي طابق واقع المعتَقَد وهو الله جل وعلا، عن دليل وبرهان، فإن الإنسان في هذه الحالة ينشرح صدره، ويطمئن قلبه، وتهدأ وتستريح نفسه، ويستنير عقله؛ لأنه يكون على بينة في هذه الحياة.

والعكس بالعكس، إذا اعتقد الإنسان الاعتقاد الباطل المتناقض سيشقى في هذه الحياة، وما سيحصله من شقاء بعد الممات أعظم وأعظم، عندما يعتقد النصارى -عليهم غضب الله- بأن الإله ثلاثة، وأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، هذا اعتقاد.

لكن من اعتقد به حقيقة، لن ينشرح صدره، ولن يطمئن قلبه، ولن تهدأ نفسه، ولن يتنور عقله، وسيعيش في ظلمات في هذه الحياة، وسيصلى أسفل الدركات بعد الممات.

إن عقيدة النصارى في التثليث عقيدة فاسدة متناقضة، وقولهم بعد ذلك بالحلول أفسد وأفسد، وما اتفق نصرانيان على تفسير ما يريدونه بالتثليث، ولا عبر عنه نصرانيان بعبارة واحدة متفق عليها.

يقولون: الله واحد بالذات لا شريك له، لكن هو ثلاثة في الأقانيم، قلنا: ما هي الأقانيم فسروها لنا؟

قالوا: الأقانيم جمع أقنوم، وهو الشخص، ذات واحدة لكن الأشخاص ثلاثة، الله له ذات خاصة به وعيسى له ذات خاصة به، مريم لها ذات خاصة بها، فكيف ستكون الذات واحدة في أشخاص ثلاثة؟! من يقبل هذا؟

لما نظر بعض النصارى في هذا التفسير، قالوا: هذا تفسير يُضحك الثكلى، ولو علمت به البهائم لاستحت منه، فلنغير التعبير عن الأقنوم، قالوا: ليس المراد بالأقانيم الأشخاص، وما المراد منها؟

قالوا: المراد منها الصفات، ذات واحدة وصفات بعد ذلك متعددة.

هذه الصفات المتعددة نعود فنقول لهم: سترجع إلى موصوف واحد أو إلى موصوفات مختلفة؟ إلى موصوفات مختلفة قطعاً وجزماً، أي: إلى ذوات متعددة، فما صارت الذات واحدة.

فجاء فريق آخر من النصارى وقالوا: ليس المراد من الأقانيم الصفات، إنما المراد منها الخواص، ثلاث خواص، ثلاث صفات، ثلاثة أشخاص لذات واحدة، هذا اعتقاد لا يشرح الصدر بل يضيقه.

يخبرني بعض إخواني من المسلمين المهتدين، عندما كان يدرس في بلدة بيروت من بلاد لبنان في بلاد الشام، يقول: كنت في الكلية مع طالب نصراني، وكنا كفرسي رهان نتسابق في الدراسة على الدرجة الأولى، وأحياناً أنا أفوز بالأولى وأحياناً يفوز النصراني، وذلك في كلية علمية من الكليات التي في الطب والهندسة وغير ذلك، وليست في علوم شرعية.

فقال النصراني في يوم من الأيام للمسلم: أنا أحسدك أيها العبد المسلم، قال: وعلامَ؟ في الدراسة أنا وأنت في درجة واحدة، أفوقك سنة وتفوقني سنة، وأما من ناحية عرَض الدنيا فأنت أحسن مني بكثير، عندك خيرات ومال وأنا من هذا محروم، فتحسدني على أي شيء؟

قال: أحسدك أن عقلك في راحة، ولا تجد القلق الذي أجده أنا في صدري!

قال: وماذا يقلقك في هذه الحياة؟ قال: منذ أن وعيت للآن، والله ما غاب عن ذهني كيف سيكون الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة، يقول: أنا أفكر في هذه، وكلما أفكر في هذه القضية أزداد شكاً وهماً وغماً، كيف سأرضي نفسي بأن الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة.

يقول: وأما أنت فتقول وأنت مستلق على ظهرك: لا إله إلا الله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] في راحة، لا يوجد ما يصادم العقل والفكر، ويضيق الصدر، ويظلم القلب، واحد واحد وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:62]، وأما أنا فالثلاثة واحد، والواحد ثلاثة.

هذه عقيدة التثليث فاسدة، ومن اعتقدها فلن ينشرح صدره، ولن يطمئن قلبه، ولن تبتهج نفسه، ولن يستنير عقله، وكلما أراد أن يخدع نفسه بعبارات ملتوية، زاد شكاً وفساداً في عقيدته، وما يستر فساد عقيدة النصارى عند النصارى إلا عِدائهم للمسلمين، ولو لم نكن نحن أمامهم لكفروا بدينهم وعرفوا أن هذا الدين باطل معكوس منكوس، لكن حقد وتعصب بالباطل من أجل الكيد لنا، وإذا أردت بعد ذلك أن تبحث في أمر الحلول، وأن اللاهوت حل بالناسوت، تزداد شكاً، وعقيدتهم تزداد غموضاً.

الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد؛ هذا لا ينير الفكر!

إذاً: إخوتي الكرام! الذي يعتقد عقيدة الحق، ويعلم علم التوحيد عن يقين وبصيرة، ينشرح صدره، ويطمئن قلبه، وتستريح نفسه وتبتهج، ويستنير عقله، يكون على بينة في هذه الحياة، وعلى هداية تامة كما سيأتينا، نعيم دائم بعد الممات، وخلاف هذا تفسيرات متناقضة لا تزيد الناس إلا حيرة وشكاً في هذه الحياة، وشقاء بعد الممات.

إن واقع النصارى في عقيدتهم كواقع الشيعة في عقيدتهم تماماً، عندما أعلن الشيعة عن عِدائهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا قاعدة خبيثة ملعونة هي كالتثليث تماماً عند النصارى، لا ولاء إلا ببراء، أي: لا يمكن أن نوالي علياً وآل البيت رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة الكرام إلا بمعاداة الصحابة، لا ولاية لآل البيت إلا بلعن أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة الكرام.

هذه العقيدة الفاسدة المنكوسة إذا اجتمعت بواحد ممن يقول بها فلا تُطل المناظرة معه، قل له باختصار: أخبرني كيف زوج علي ابنته أم كلثوم التي هي بنت فاطمة ، وجدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أخبرني كيف زوج علي ابنته لكافر تلعنونه وهو عمر ؟

فيجيب الشيعة بجوابين كجواب النصارى في الأقانيم تماماً:

أما المتقدمون من الشيعة فقالوا وبئس ما قالوا وفض الله أفواههم وملأها جمراً من نار جهنم؛ قالوا: إن علياً زوج ابنته أم كلثوم من عمر من باب التَّقِيَّة، أي: الخوف، ليدفع شر عمر ، لأن عمر جبار غليظ عنيف، يبطش بـعلي لو لم يزوجه ابنته، فمن باب التقية زوج بنت فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام لـعمر الكافر عندهم، الذي يتقربون إلى الشيطان بلعنه، لا إلى الرحمن!

فقيل لهم: إن قولكم هذا يصم علياً ويصفه بمنقصة لا يرضى بها أجلاف الناس وسَقَطهم! الواحد منا مهما كان جباناً متخاذلاً ضعيفاً فاسداً لا يرضى أن يزوج ابنته لكافر، ومن باب كما يقال التحري والتحقق -وإن كنا من هذا متيقنين- هل واحد منا يرضى أن يزوج ابنته لا أقول لكافر فقير، إنما لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية؟ لا، والذي رفع السماء بغير عمد، وبول المسلمة أطهر من الكافرين مهما كان شكلهم ولونهم، والله يقول عنهم في كتابه: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، ونجاستهم أشنع من نجاسة البول والغائط، وما عندنا شك في ذلك.

والنجاسة المعنوية أشنع من النجاسة الحسية، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وهذه طيبة طاهرة كيف تُقرن بكافر نجس مشرك ملعون؟ فالواحد منا مع ضعفنا وتقصيرنا لا يرضى أن يزوج ابنته -مع تقصيرها أيضاً- لكافر نجس، فكيف علي رضي الله عنه المبشر بالجنة، الصحابي الطاهر الفاضل، يزوج بضعة النبي عليه الصلاة والسلام، وقطعة منه، لكافر يُلعن عند الشيعة؟ هل هذا يقبل؟! هذا كقول النصارى: الأقنوم: هو الشخص، الذات واحدة والأشخاص ثلاثة، ولما جاء النصارى المتأخرون قالوا: هذا كل من سمعه يقول: إنه باطل، فلا بد من تغيير تفسير الأقنوم.

فجاء الشيعة المتأخرون وقالوا: نغير الجواب، أجاب المتقدمون فقالوا من باب التقية، ونحن نقول شيئاً آخر.

فنقول: ما ستقولون سيكون حجة عليكم، وبأي شيء يفسر النصارى تثليثهم يكون حجة عليهم، وبياناً لفساد اعتقادهم الذي غيروا به دين ربهم.

قال الشيعة المتأخرون: إن علياً زوج أم كلثوم لـعمر وليس من باب التقية، إنما زوجه وخدعه!

فكيف زوجه وخدعه؟ قالوا: زف إليه جنية تصورت بصورة أم كلثوم ، فـعمر تزوج جنية وهو يظن أنه تزوج أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

وهل هذا جواب! ووالله إن الشيعة يعلمون أن هذا الجواب باطل، لكن ما قبلوه إلا لمعاداة أهل السنة فقط.

ونحن نقول: لا يحب آل البيت وعلى رأسهم علي رضي الله عنه إلا أهل السنة، وأما أنتم فتسترتم بـعلي لتطعنوا في علي قبل أن تطعنوا في الصحابة الكرام، لكن من وراء ستار، عن طريق اللف والدوران، وما تقولونه لو ثبت لكان منقصة في علي قبل أن يكون منقصة في عمر ، وإذا كان يرضى أن يزوج ابنته من كافر وأبو بكر وعمر وعثمان كفرة، وعلي -على تعبيركم كافر- لأنه زوج ابنته من كافر، إذاً: هذا الدين من أوله لآخره باطل، وهذا في الحقيقة ما يقصده الزنادقة من الشبه التي يرجفون بها حول دين الله.

هذا اعتقاد لا يزيد الإنسان إلا حيرة في هذه الحياة، وأما لو اعتقدت اعتقاد الحق، وعقيدة الصدق، فإنك تستريح في هذه الحياة، وإذا استرحت هنا تستريح بعد الموت، وإذا شقيت هنا فستشقى هناك، وسيأتينا أن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، وهي الأنس بالله ومعرفته معرفة حقيقية: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

نحن عندما نتعلم علم التوحيد، ونعرف الاعتقاد بالبراهين واليقين، تنشرح صدورنا، وتطمئن قلوبنا، وتستريح وتبتهج نفوسنا، وتستنير عقولنا، ونكون على بينة من أمرنا، والانحراف عن ذلك شقاء وبلاء.

الذين جعلوا لله أنداداً في هذه الحياة، وتقربوا بهم على زعمهم إلى رب الأرض والسموات، فصرفوا ما لله إلى خلقه، بحجة التقرب بهذه المخلوقات لله، هل هم في راحة أو في شقاء؟

اسمع ما يقول الله عنهم في كتابه في سورة الزمر آية تسع وعشرين: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29] .

إن المشرك عندما جعل لله أنداداً يعبدهم، من بشر أو حجر أو شجر أو قمر أو حمار أو بقر، عندما جعل لله أنداداً يعبدهم مع الله، حاله كحال عبد يملكه مائة سيد، فهل يتفرغ هذا العبد لخدمة سيد واحد على وجه التمام؟ أو هو في حيرة وشقاء واضطراب وكل واحد يكلفه بأمر، ولا يعلم أي أسياده يُرضِي، أوليس كذلك؟ والموحد حاله كحال من هو عند سيد واحد، عرف مراده وقام بخدمته فاستراح وأراح: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [الزمر:29] مختلفون مختصمون.

عبد يملكه مائة سيد أعانه الله، امرأة يتزوجها مائة إنسان أعانها الله حقيقة، في هذه الليلة مع من ستنام؟ نعم، كل واحد يناديها ويريدها، وعندما تذهب إلى هذا في الليلة الثانية يعاقبها ذاك ويضربها ويمتهنها، لمَ لمْ تأتِ إليه في الليلة الماضية، هذا لا يصلح! وهذا حال المشرك، قلبه موزع، وهو في هم وغم في هذه الحياة، وحقيقة إذا تعدد الأزواج على المرأة شقيت، وإذا تعدد السادة على العبيد تعسوا، وإذا كان له سيد واحد يقوم بخدمته ويعرف مراده، فيجمع همه يستريح ويريح: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29]، أي خالصاً له لا يشاركه فيه أحد؛ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29] .

معنى اتخاذ الأنداد مع الله

إخوتي الكرام! ما في قلوبنا من خوف وحب ورجاء وتوكل واعتماد وثقة وغير ذلك، إذا صُرف لمعبود واحد قوي القلب وتعلق بالرب، وإذا صُرف لمعبودات متعددة، لن يزيدنا ذلك إلا وهماً وضياعاً، فالخَلة أي: الحاجة التي في قلوبنا ما مُلئت ولا جُبرت، بل زادت فقراً وضياعاً، وإلى هذا يشير الله في سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].

أنداداً: جمع ند، والند: هو المثل المناوئ، المنازع، المخالف، المعارض، المخاصم.

إذاً: جعلوا لله نداً، أي: مثلاً، ليس متحيزاً، كما هو في دول عدم الانحياز في هذه الأيام، لا!

وعدم الانحياز كما يقال من باب الكلمة والتعليق على الهامش: هو علامة على الجبن باسم عدم الانحياز، والحرب بين أهل الإيمان وأهل الكفر قائمة ما بقي الليل والنهار: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] ، والله يقول أيضاً في المقابل: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193].

عدم انحياز، وتعايش سلمي، وهمنا أن نملأ بطوننا، وما لنا علاقة بشأن غيرنا، هذه دعوات مخدرة للأمة الإسلامية، لئلا تستأصل أعداء الله، ولتبقى في الذل الذي خيم عليها وتعيش فيه، كل واحد يبحث في شأن نفسه، ولا علاقة له بأمور غيره، أين قول النبي عليه الصلاة والسلام وهو في صحيح مسلم ، وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح من رواية حذيفة رضي الله عنه: (بُعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).

إذاً: إخوتي الكرام! لا بد من وعي هذه القضية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا [البقرة:165] ، ليس معنى (نداً) أي: مستقلاً كعدم الانحياز، إنما ند مخاصم معارض مقاوم، وهل يُتصور هذا، هل يتصور من ينازع الله؟ من يقاوم الله؟ من يعارض الله؟

نعم، على حسب فعل المشركين، عندما جعلوا الصنم البشر نداً للرحمن، وأطاعوه وخضعوا له، إذاً جعلوه كأنه عارض الله واقتطع شيئاً من حقوقه فأخذها، لا على أنه في الحقيقة هناك من يعارض الله، أو من يستطيع أن يعارض رب العالمين، لكنهم هم في فعلهم هذا جعلوا هذا المخلوق الضعيف الذي لا يملك لنفسه نفعاً أو ضُراً، جعلوه مثلاً لله، ليس مثلاً فقط، بل منازعاً معارضاً مخالفاً بحيث أخذ بعض حقوق الله، من الذي مكنه من ذلك؟ هم الذين مكنوه عندما أطاعوه وعبدوه وصرفوا حق الله له.

معنى حب الأنداد كحب الله

قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا [البقرة:165] ، ليس نداً، بل معبودات متعددة، الشيطان وهو أعظمها، والسلطان وهو أشنعها، والنظام وهو أخبثها.

قد أفسدوا في الأرض باسم صلاحها إذ بدلوا أحكامه بنظام

قد كان هذا الظلم فوضى، فهذبت حواشيه حتى صار ظلماً منظماً

قانون، نظام، شجر، بشر، قمر، طاغوت، أحبار، رهبان يُطاعون في معصية الرحمن، الناس كُثر، زوجة، درهم ودينار ربيات، طعام وملبس، (تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس)، وهي الثياب الحسنة، (وإذا شيك فلا انتقش)، إذاً معبودات متعددة، وهذه المعبودات كل واحد منها جعله نداً لرب الأرض والسموات، كيف هذا؟ صرف إليه حق الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].

ما معنى كحب الله؟ هل يعني: كحب المؤمنين لله؟ هذا المعنى فاسد قطعاً وجزماً، لا يحب المشرك إلهه ونده وطاغوته كحبنا لله، فحبنا لله لا يساويه شيء في هذه الحياة، إنما يحبونهم كحبهم لله، يعني: صرفوا حب الله بين الله وبين الأنداد التي ألهوها، وجعلوها أمثالاً منازعة لله جل وعلا.

فالحب إذاً وُزع بين الله وبين أنداد متعددة، فهل يكون كاملاً؟ هل يكون خالصاً؟ بل حاله كحال العبد الذي فيه شركاء متشاكسون!

وما حال المؤمن؟ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]؛ لأن المحبة الحقيقية لا يصرفها إلا لرب البرية، ثم يحب بعد ذلك في الله ولله ولا يحب مع الله نبياً أو ملَكا أو أحداً من المخلوقات، لا يحب أحداً مع الله، إنما نحبه لله، نحبه في الله، المحبة الكاملة لله، نعم نحب النبي عليه الصلاة والسلام لحب الله له، أما أن نجعله نداً لله فلا ثم لا، فإذاً محبتنا لله ولمن يحبه الله، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] .

إن من يعرف عقيدة الحق وعلم التوحيد بالبراهين واليقين -كما قلت في الثمرة الثانية- ينشرح صدره: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22]، يتنور ويطمئن قلبه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، تبتهج وتستريح نفسه عندما تزكو قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10]، يستنير قلبه ويتنور، ويهتدي إلى صراط مستقيم في هذه الحياة.

إخوتي الكرام! عقيدة الحق نكتسب منها هذه الثمرة، إذاً: أننا نحصل هذه الثمرة الثانية المباركة من تعلمنا لعلم التوحيد والقيام بموجبه، إن صرف العبودية لغير الله والاعتقاد في غير الله شقاء وعناء، وصرف العبودية لله جل وعلا، وإفراده بالطاعة والمحبة والخوف والرجاء سبحانه وتعالى، سعادة وهناء، وهذا القلب ما فيه من ضعف لا يُجبر ولا يتقوى إلا إذا عرف الله معرفة حقيقية، وتعلق القلب بالرب سبحانه وتعالى، وما في القلب من خلة حاجة ونقص لا يمكن أن تُسد إلا بالاعتقاد الحق، وارتباط القلب بالرب جل وعلا.

كانت لقلبي أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

وصار يحسدني من كنت أحسده وصرت مولى الورى مذ صرت مولى لي

حقيقة القلب لا ينجمع إلا بعقيدة الحق، إن معرفة الله والاعتقاد الحق بالله جل وعلا راحة ليس معها تعب، وغنى ليس بعده فقر، وعز ليس بعده ذل، ومحبة غير الله والتعلق بغير الله شقاء وعناء في هذه الحياة، وضياع وهلاك بعد الممات.

أحببت حبيباً لا أُعاب بحبه وأحببتمو من في هواه عيوب

إخوتي الكرام! إن القلب إذا صُرف في المحبة والخوف والرجاء لغير الله فقد بذل القلب حياته ومهجته في سبيل من تعلق به، فهو في الحقيقة قتيل لمن عبده غير الله جل وعلا.

أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

أنت القتيل بكل من أحببته: أي إن أحببت الله فأنت بذلت نفسك في سبيله، وإن أحببت غيره فقد بذلت نفسك في سبيله، من تعلقت به فقد بذلت نفسك في سبيله، وشتان بين من يبذل نفسه في محبة الرحمن، أو في محبة الولدان والغلمان، أو في محبة النسوان، أو في محبة الشيطان، شتان بين هذا وهؤلاء شتان!

أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

ولذلك إذا عرف الإنسان ربه عبده وأحبه، وإذا عرف الدنيا وما فيها زهد فيها ولم يركن إليها، وإذا عرف تقصيره جاهد نفسه وردد باستمرار وقلبه ممتلئ بحب العزيز الغفار:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

إن المؤمن يردد في هذه الحياة هذه الكلمة ولا يفتر منها لسانه: إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، إذا صح منك الود فثبتت المحبة وأحببتني فالكل هين، وكل الذي فوق التراب تراب.

إذاً: إذا عرفنا توحيد الله وعملنا بموجبه انشرحت صدورنا، واطمأنت قلوبنا، وابتهجت نفوسنا، واستنارت عقولنا، هذه الفائدة الثانية والغاية الثانية لعلم التوحيد.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [5] 3754 استماع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [1] 3457 استماع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [3] 3410 استماع
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [2] 3270 استماع
مقدمة في علم التوحيد - تعريف علم التوحيد [2] 3222 استماع
مقدمة في علم التوحيد - موضوع علم التوحيد [2] 3126 استماع
مقدمة في علم التوحيد - منزلة علم التوحيد [2] 3025 استماع
مقدمة في علم التوحيد - ثمرة علم التوحيد [1] 2683 استماع
مقدمة في علم التوحيد - الأقوال المرجوحة في مصير غير أولاد المسلمين [2] 2679 استماع
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [1] 2667 استماع