مقدمة في الفقه - أقوال الإمام مالك السديدة في أمر العقيدة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

فلا زلنا نتحدث عن الإمام مالك بن أنس إمام المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

وأما جوده وكرمه فحدِّث ولا حرج، واستمع لهذه القصة مع تلميذه الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وهي في ترتيب المدارك وغير ذلك، انظروها في ترتيب المدارك صفحة ثمانين ومائة من الجزء الأول، قال الإمام الشافعي: رأيت بباب الإمام مالك كُراعاً. والكُراع يطلق على أمرين: يطلق على مستدق الساق العاري من اللحم، والساق ما تحت الركبة، كراع خالي من اللحم، إذا لم يكن عليه لحم عظم الساق يقال له: كراع، ولا يراد هنا، ويطلق أيضاً على الخيل والسلاح، والمراد منه هنا الخيل التي تركب ولها شأن عظيم، فقوله: رأيت كراعاً، أي: خيلاً عظيماً، ومن أين جاءته؟ يُهدَى إليه وهو يهدِي، فلا يقتني شيئاً رضي الله عنه وأرضاه، تأتيه هدايا من أطراف الدنيا، وإذا جاءته وزعها رضي الله عنه وأرضاه، قال: رأيت بباب الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه كراعاً من أفراس خراسان، وبغالاً من بغال مصر، أهدي إليه بغال من مصر ليركبها، كما أهدى المقوقس إلى سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام البغلة دُلدل التي كان يركبها نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضاً الصالحون من مصر أهدوا إليه بغالاً ليركبها، ومن خراسان خيلاً، وهي على باب الإمام مالك، وجاءت في ذلك الوقت الذي رآها فيه الشافعي، فقال للإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه: ما أحسن هيئتها! هذه جميلة نفسية، خيل أصيلة، وبغال جميلة، ما أحسنها! فقال: هي هبة مني لك، خذها من أولها لآخرها، قلت: اترك بغلة منها لتركبها واحدة فقط، قال: إني أستحي أن أطأ تربة النبي عليه الصلاة والسلام بحافر دابة، لا يمكن أن أركب دابة في هذه المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، أنا إذا ركبت دابة تذكرت هذا التراب الذي مشى عليه نبينا سيد الأخيار عليه الصلاة والسلام، يمشي على هذا التراب ونحن نطأ مكان قدمه بحافر دابة، هذا نفسي لا تستريح له، أنا لا يمكن أن أركب بغلة ولا فرساً ولا مركوباً في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، ولا أحرم هذا على غيري، تركب أنت اركب لكن أنا لا يمكن أن أركب دابة، فهذه الأفراس وهذه البغال التي جاءت لن أركب واحدة منها خذها هبة مني إليك، فاستاقها الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.

إخوتي الكرام! هذه الأمور في ديانته وصلته بربه سأختمها بأمرين اثنين:

ببصيرته السديدة في ديانتنا المجيدة، وما أُثر عنه من أقوال، وفهم فيما يتعلق بأمر الاعتقاد، والاعتقاد الحق يُؤخذ من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حسبما فهم وقرر أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.

والأمر الثاني الذي سأختم به ترجمته كما ختمت ترجمة سيدنا أبي حنيفة، بصلته بأمراء زمانه، وماذا حصل له على أيديهم رضي الله عنه وأرضاه؟!

قوله: أهل السنة ليس لهم لقب يعرفون به

أما فيما يتعلق ببصيرته السديدة، وأقواله المحكمة الرشيدة في ديانتنا المجيدة، فمن كلامه المحكم الذي ينبغي أن يعيه كل مسلم لا سيما في هذا الزمان، يقول كما في الانتقاء صفحة خمس وثلاثين، والأثر في ترتيب المدارك وغير ذلك: قيل له: من أهل السنة؟ أهل السنة بأي شيء يتميزون عن غيرهم؟ ما هو لقبهم؟ ما هي صفتهم؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: أهل السنة ليس لهم لقب يعرفون به، هم أهل الحق، وهذه الألقاب التي حصلت هذه لأهل البدع، فلا يقال: جهمي ولا رافضي ولا قدري، لا يقال هذه الألقاب، هذه كلها ألقاب أهل البدع، وهكذا التحزبات والجماعات التي انتشرت في هذه الأوقات، وكل جماعة وكل حزب وكل فرقة ترى الحق فيها، وتعادي من عداها، ينطبق عليهم قول سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه: أهل السنة ليس لهم لقب يعرفون به، ينتمون إلى دين الإسلام، ويتبعون أئمة الإسلام، ويلتزمون بالقرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام. أما بعد ذلك فمفاهيم خاصة استحدثها المتأخرون فصاروا شيعاً وأحزاباً بسببها، جهمية قدرية رافضة شيعة، أما أهل السنة فليس لهم لقب يعرفون به، هذا من الكلام المحكم السديد الذي ينبغي أن نعيه لا سيما في هذه الأوقات.

قوله: أمروا نصوص الصفات كما جاءت بلا كيف

ومن كلامه المحكم في أمر الديانة، وتناقله عنه أئمتنا قاطبة، وما قاله قبله إلا شيخه ربيعة، ثم أُثر عن الإمام مالك التلميذ، ثم عن الإمام أبي جعفر الترمذي، وأئمتنا قاطبة عليه، وهو اعتقاد أهل السنة، فاسمعوا هذا الكلام المحكم الجزل الفصل الذي يقوله هذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه، سئل عن صفات الله جل وعلا؟ أخبار الصفات الواردة في محكم الآيات وأحاديث نبينا خير البريات على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، الله يتصف بالوجه المبارك، باليدين المباركتين، يتصف بالاستواء، بالنزول، بالغضب، بالرضا، بالرحمة سبحانه وتعالى، هذه صفات الله، ما طريقة إيماننا بها؟ يقول هذا الإمام المبارك كما في الانتقاء صفحة ست وثلاثين، والأثر أيضاً روي عنه في ترتيب المدارك صفحة سبعين ومائة، وهو في غير ذلك من الكتب، وهو مستفيض مشهور عن هذا الإمام المبارك في سائر كتب التوحيد يوردون قوله، قال: أمروا نصوص الصفات كما جاءت بلا كيف. نصوص الصفات أمروها كما جاءت، كما وردت دون أن تستفسروا عن الكيفية، ودون أن تردوا صفات رب البرية، وهذا ما يعبر عنه أئمتنا: إقرار وإمرار، أمروها كما جاءت، أي: لا ترد هذه الصفة، ثم لا تستفسر عن الكيفية، لا تمثل، وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.

والعجز عن درك الإدراك إدراك والبحث في كنه ذات الإله إشراك

فإذا عجزت عن إدراك حقيقة صفة الله فهذا هو المراد، المراد أن تعجز، ولا يمكن لأحد أن يحيط بصفات الله جل وعلا، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، سبحانه وتعالى، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، أمروا نصوص الصفات كما جاءت من غير كيف، بلا كيف، وكان يقول:

وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع

وخير أمور الدين ما كان سنة، أي: منقولاً، سنَّه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونقله صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فكان يكثر من ترداد هذا في مجالسه رضي الله عنه وأرضاه:

وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع

أي: الجديد المخترع التي ما لها أصل ولم تنقل.

إخوتي الكرام! قوله: (أمروها كما جاءت بلا كيف) كما قلت: كلام محكم نقله عنه أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين، انظروه في العلو للعلي الغفار صفحة أربع ومائة وصفحة ست ومائة، ونقله عنه الإمام الترمذي في كتاب الزكاة في باب فضل الصدقة، ونقله عنه الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في الجزء الأول صفحة أربعين وثلاثمائة، وهو في السير في ترجمته في الجزء الثامن صفحة خمس ومائة.

قوله: الاستواء معلوم ...

وكان يقول رضي الله عنه وأرضاه كما في المدارك، وغير ذلك من المصادر التي تقدمت الإشارة إليها عندما سئل، والأثر من رواية تلميذه سفيان بن عيينة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سأله رجل ونحن في مجلسه عن آية الاستواء، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فقال: كيف استوى ربنا يا أبا عبد الله رضي الله عنه وأرضاه؟ قال الإمام سفيان بن عيينة رضي الله عنه وأرضاه: فأطرق الإمام مالك، وخيم على المجلس الهيبة والسكوت والصمت، وما يعلمون ماذا سيجيب الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، أطرق، وعلته الرُّحَضَا، وهي العرق الكثير الذي يغسل البدن، أطرق والعرق يتصبب من جسده رضي الله عنه وأرضاه؛ هيبة لهذا السؤال المخترع المحدث: كيف استوى ربنا يا أبا عبد الله؟ ثم رفع الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه رأسه فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا ضالاً عندما اخترعت هذا السؤال!

فقال: يا إمام! لقد سألت هذا السؤال في البصرة وفي الكوفة وفي بلاد العراق فما أجابني أحد بمثل جوابك، ما أسأل من باب الإحداث في دين الله ما ليس منه، بل من باب البصيرة، سألت ما أحد وُفِّق لهذا الجواب: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإنما كان السؤال عنه بدعة لأنه سؤال عما لا يمكن للبشر أن يقفوا على حقيقته، ولا أن يطلعوا على كنهه، فهو عبث، وهو سؤال أيضاً محدث، ما ورد في الصدر الأول، فهو بدعة من هذين الوجهين، فالاستواء معلوم معناه وواضح في لغة العرب، وكيفية استواء الرب لا يعلمها إلا الرب سبحانه وتعالى، والإيمان بذلك واجب؛ لأنه ورد في كلام الله عز وجل، والسؤال عن الكيفية بدعة لهذين الأمرين المعتبرين.

هذا الكلام -كما قلت إخوتي الكرام- مشهور مستفيض متواتر عن هذا الإمام المبارك، نقله أئمتنا مع القول الذي قبله في كتب التوحيد، انظروه في التدمرية صفة تسع وعشرين، وفي كتاب العلو للعلي الغفار صفحة خمس وستين، قال الذهبي: هذا القول محفوظ عن جماعة من العلماء، كـربيعة الرأي ، وهو شيخ الإمام مالك، حديثه في الكتب الستة، إمام ثقة فقيه مبارك حافظ جِهبذ، توفي سنة ست وثلاثين ومائة على الراجح المعتمد، رضي الله عنه وأرضاه، انظروا ترجمته الطيبة مع نسبة هذا القول إليه أيضاً في ترجمته في السير في الجزء السادس صفحة تسعين، قال: كـربيعة ومالك الإمام وأبي جعفر الترمذي.

أما أبو جعفر فسأنقل لكم قوله، توفي سنة خمس وتسعين ومائتين عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، قال الذهبي: فأما عن أم سلمة فلا يصح، رُوي أيضاً عن أمنا أم سلمة زوج نبينا عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ولا يصح، فأول من قاله ربيعة، ثم تلميذه مالك، ثم قاله أبو جعفر الترمذي ، وليس هو صاحب السنن، ثم بعد ذلك كما قلت أئمتنا تناقلوه وسطروه في كتب الاعتقاد، وعليه اعتقاد أهل السنة قاطبة، استمعوا إلى كلام الإمام الذهبي عندما أورد هذا الأثر، أورده في العلو في ترجمة ربيعة في صفحة ثمان وتسعين، وفي ترجمة الإمام مالك في صفحة أربع ومائة، وفي ترجمة أبي جعفر الترمذي صفحة ست وخمسين ومائة، عندما يذكر أقوال السلف في علو ربنا سبحانه وتعالى، وأن صفة العلو ثابتة له، يقول في صفحة أربع ومائة عند نسبة هذا القول إلى سيدنا مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: هذا ثابت عن مالك، جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله! الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته، وعلاه الرُّحضاء -يعني العرق- وأطرق القوم، فسُرِّي عن الإمام مالك وقال: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأُخرج، هذا ثابت عن الإمام مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ الإمام مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة.

أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به لا نتعمق ولا نتحذلق ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف رضوان الله عليهم أجمعين، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، بل وقبلهم نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام، لو كان له تأويل لذكره نبينا الجليل على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فالاستواء معلوم، والكيفية لا يعلمها إلا رب البرية، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل وعلا لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وكما قلت: أورده أيضاً في ترجمة أبي جعفر الترمذي صفحة ست وخمسين ومائة، وعلق عليه أيضاً بمثل ما ذكر في كلام الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وأبو جعفر الترمذي انظروا ترجمته في السير في الجزء الثالث عشر صفحة سبع وأربعين وخمسمائة، ونعته بأنه الإمام العلامة شيخ الشافعية في زمنه رضي الله عنه وأرضاه في بلاد العراق، قال الإمام الدارقطني: إنه ثقة مأمون ناسك، يقول هنا: سمعت أبا الطيب أحمد والد أبي حفص بن شاهين، قال: حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث نزول الرب؟ فقال: النزول كيف هو يبقى فوق علوه، يعني ينزل وهو سبحانه وتعالى له العلو؟ فقال: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. النزول والاستواء وسائر الصفات يقال فيها هذا، قال: قلت: صدق فقيه بغداد، وعالمها في زمانه، إذ السؤال عن النزول ما هو عي؛ لأنه إنما يكون السؤال عن كلمة غريبة في اللغة، وإلا فالنزول والكلام والسمع والبصر والعلم والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء، فالصفة تابعة للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر.

وكان أبو جعفر الترمذي من بحور العلم ومن العّباد الورعين، مات سنة خمس وتسعين ومائتين عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

إذاً: هذا الكلام مما نقل عن هذا الإمام المبارك الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وسُطر في سائر كتب الاعتقاد والتوحيد: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وهذا نجعله قانوناً لنا في سائر صفات ربنا، كل صفة تعرض علينا نقول فيها ذلك، وتقدم معنا مراراً أنه يجب أن نؤمن بصفات الله عن طريق الإقرار والإمرار، فالله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير سبحانه وتعالى،كلام محكم يقوله هذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه.

كلامه في بيان ضلال وزيغ القدرية

ومن كلامه المحكم في بيان زيغ وضلال القدرية كما في الحلية في الجزء السادس صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة، والأثر في السير في ترجمته صفحة ثمان وتسعين من المجلد الثامن، وهو في غير ذلك من الكتب التي ترجمته، انظروه في الانتقاء أيضاً صفحة أربع وثلاثين، يقول هذا الإمام المبارك: ما أَبْيَنَ هذه الآية على أهل القدر وأشدها عليهم، وهي قول الله جل وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:12-13]، ما أبين هذه الآية على أهل القدر وأشدها عليهم.

وهذا حقيقة -إخوتي الكرام- إنها تبطل قولهم، وتدحض زيغهم هذه الآية، يقول فيها ربنا: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [هود:119] وجب لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119]، وهذا القول الذي حقَّ لابد من أن يتحقق، وأن يظهر، وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].

وعليه فعندما يضل القدرية ويقولون: ما يقع من معاصٍ لرب البرية، هذه بغير تقدير الله وغير إرادته! ما قدَّر ذلك ولا أراده! هذا ضلال مبين، فإنه لا يقع شيء إلا بتقدير رب العالمين سبحانه وتعالى، وفَّق الطائعين وخذَل العاصين، وكل ذلك بمشيئته وإرادته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30].

وقد قلت: إنه ينتهي سعي العباد عند هذه الآية، فلنا إرادة لكنها مرتبطة بإرادة الله ومشيئته سبحانه وتعالى، العباد لهم مشيئة تابعة لمشيئة الله، والله يقول في كتابه كما في سورة النحل: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:93]، كل ذلك بتقديره سبحانه وتعالى، ومن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فالقدرية الذين يزعمون أن أفعالهم باختيارهم لا بتقدير ربهم هذا ضلال منهم، ما أبين هذه الآية وأظهرها في ضلال القدرية والرد عليهم: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].

ومثل هذا الكلام المبارك كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا. حق القول من ربنا بأنه سيملأ جهنم بالعصاة والعتاة، وأخبر ربنا جل وعلا أنه سيوجد في هذه المخلوقات من يكفر برب الأرض والسماوات، وهذا كله علمه في الأزل، فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا، ولذلك قال بعض -أئمتنا ونِعْمَ ما قال- وهو العبد الصالح أبو الفضل العباس بن يوسف الشكلي، من العلماء الربانيين، انظروا كلامه في الشريعة للإمام الآجري صفحة أربع وأربعين ومائتين، قال: أمران يُقطع بها المعتزلي، فيقال له: أراد الله جل وعلا الإيمان من العباد فلم يقدر، أو لم يرد ذلك منهم؟! أراد الله الإيمان فلم يقدر على أن يجعلهم مؤمنين، أو لم يرد الإيمان منهم وإن أمرهم به؟ ماذا تقول؟ وشتان بين الإرادة وبين الأمر، أمرهم وما أراد ممن لم يوفقه، ولم يشرح صدره للإسلام، أراد فلم يقدر، أو قَدَرَ فلم يرد، لم يرد إيمانهم وهو قادر على إيمانهم إذا شاء سبحانه وتعالى لجعلهم مؤمنين، ماذا تقول؟ هل أراد الإيمان منهم فما قدر، أو لم يرد الإيمان منهم وهو قادر على أن يجعلهم مؤمنين إذا شاء؟ فإذا قال: أراد الإيمان منهم وما قدر، فلا يشك أحد في كفره، وإذا قال: إن الله قادر على جعلهم مؤمنين، لكنه ما أراد الإيمان منهم! نقول: بطل قولك! فإن قال: قدر ولم يرد، فهذا هو اعتقاد أهل الحق، وإن قال: أراد فلم يقدر كفر، أراد الإيمان منهم لكنه عجز، فلا يشك أحد في كفر قائل هذا، وإن قال: إن الله قادر لكنه ما أراد، نقول: هذا هو الحق يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

استمع لهذه الآية المحكمة: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المائدة:48]، مشيئة كونية قدرية، فهو على كل شيء قدير، ولكنه يضل من يشاء ويهدى من يشاء، لكن المسئولية لن يُعفى منها أحد من البرية: وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:93]، فتضاف إلينا كسباً وإلى ربنا خلقاً وتقديراً، فلنا كسب ولنا إرادة، ونحن في إرادتنا نتبع إرادة ربنا، ولذلك نحن لا نخرج عن مشيئة الله وإرادته سبحانه وتعالى.

يوضح كلام أبي الفضل العباس بن يوسف الشكلي المناظرة التي جرت بين الأعرابي البدوي وبين أبي عثمان عمرو بن عبيد المعتزلي، وهي في منتهى الإحكام، جاءه هذا الأعرابي وقال له: يا أبا عثمان إن حمارتي قد سُرقت، فادعو الله أن يردها علي، فرفع ذلك الشيخ الضال يديه وقال: اللهم إنك لم ترد سرقتها وقد سرقت فارددها عليه! قال: يا شيخ السوء! كُفَّ عن دعائك الخبيث، إذا لم يرد سرقتها وقد سُرقت قد يريد ردها ولا ترد، ما دام العبد يفعل باستطاعته دون مشيئة ربه، فقد يريد الرب الرد فلا ترد هذه الحمارة، كف عن دعائك الخبيث، لكنها سرقت بمشيئة الله وترد بمشيئة الله، أما أنه لم يرد سرقتها فهذا كلام باطل، فهما أمران يقطع بهما القدري: قدر فلم يرد، وأراد فلم يقدر، فإن قال: قدر فلم يرد فنقول: اهتديت، وإن قال: أراد فلم يقدر نقول له: كفرت. ولذلك قال سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه: ما أبين هذه الآية وأظهرها على القدرية: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].

قوله: ما رأيت أحداً من أهل القدر إلا وهو أهل سخافة وطيش

وكان يقول كما في الانتقاء صفحة أربع وثلاثين: ما رأيت أحداً من أهل القدر إلا وهو أهل سخافة وطيش وخفة، حقيقة سخيف طائش خفيف ليس عنده وزن ولا بصيرة، لو تأمل نصوص الشرع لما قال ما قال من الضلال، قال سيدنا عمر بن عبد العزيز والأثر ثابت عنه: لو أراد الله ألا يُعصى لما خلق إبليس، وهو أبو الخطايا. انظروا أثره في كتاب شرح أصول أهل السنة للإمام اللالكائي في الجزء الثالث صفحة ست وستين وخمسمائة، وفي الشريعة للإمام الآجري صفحة ثمان وخمسين ومائة، ورواه البغوي في شرح السنة في الجزء الأول صفحة أربع وأربعين ومائة، وذكره البغوي معلقاً من غير إسناد، وهو في الكتابين المتقدمين مروي بالإسناد: لو أراد الله ألا يُعصى لما خلق إبليس.

وكما تقدم معنا مراراً إخوتي الكرام أن الإرادة هنا والمشيئة مشيئة كونية قدرية، لو أراد الله ألا يُعصى لما خلق إبليس، فأراد كوناً وقدراً، لكنه ما أمر بذلك ديناً وشرعاً، أمرنا بالطاعة ونهانا عن المعصية، وأرسل إلينا الرسل، وأنزل علينا الكتب، وأقام الحجة وقطع الأعذار، ثم بعد ذلك من اهتدى فبفضل الله، ومن ضل فبعدل الله وخذلان الله له، وسيؤول العباد إلى الله ويحكم بينهم وهو خير الحاكمين وأحكم الحاكمين سبحانه وتعالى.

إخوتي الكرام! بقي معنا ما يتعلق بمحنته، وقبل المحنة ختام الكلام على هذا له كلام محكم في موضوع نظر المؤمنين إلى رب العالمين في جنات النعيم، نذكره في أول الموعظة الآتية، ثم أختم الكلام على ترجمته بالمحنة التي حصلت له كما حصل مع سيدنا أبي حنيفة ، شاء الله أن تكون محنته في أول ترجمة الإمام مالك، وهكذا ستكون محنة سيدنا الإمام مالك في أول ترجمة الإمام الشافعي في الموعظة الآتية، وقدر الله وما شاء فعل، نتدارس هذا إن شاء الله في الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه.

إخوتي الكرام! أخبرني بعض الإخوة من يومين بأمر ما كان عندي علم به، بعض الشيوخ الصالحين توفي وانتقل إلى رحمة رب العالمين، وهو الشيخ عبد الحميد كشك، فيقول الأخ الكريم: لو ذكرت الإخوة من أجل الدعاء له بالمغفرة والرحمة، وأن يجعل الله قبره نوراً، وأن يملأ قلبه بهجة وسروراً، إنه على كل شيء قدير، وهو من أهل الخير والصلاح، وبذل ما بذل من الجهد في نصرة دين الله والرد على أهل الزيغ والفساد، ونسأل الله جل وعلا أن يعامله بفضله وإحسانه، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين.

اللهم اغفر لعبدك الذي ذهب إلى رحمتك الشيخ عبد الحميد كشك بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل قبره نوراً، اللهم املأ قلبه بهجة وسروراً، اللهم ارحمه وارحم جيرانه من موتى المسلمين بفضلك ورحمتك يا رب العالمين، اللهم ارحمنا إذا صرنا مثلهم، اللهم اجمعنا معهم في جنات النعيم مع نبينا الأمين إنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.