شرح اعتقاد أهل السنة [14]


الحلقة مفرغة

قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون: إن الله عز وجل أجَّل لكل حي مخلوق أجلاً هو بالغه: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، وإن مات أو قتل فهو عند انتهاء أجله المسمى له، كما قال الله عز وجل: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، وإن الله تعالى يرزق كل حي مخلوق رزق الغذاء الذي به قوام الحياة، وهو ما يضمنه الله لمن أبقاهم لخلقه، وهو الذي رزقه من حلال أو من حرام، وكذلك رزق الزينة الفاضل عما يحيا به.

ويؤمنون بأن الله تعالى خلق شياطين توسوس للآدميين ويخدعونهم ويغرونهم، وأن الشيطان يتخبط الإنسان، وأن في الدنيا سحر وسحرة، وأن السحر استعماله كفر من فاعله معتقداً له نافعاً ضاراً بغير إذن الله].

البحث الأول يتعلق بالآجال، وهو أن الله تعالى قدر الآجال وحدد الأعمار، وجعل لكل نفس عمراً محدداً لا يمكن أن تتجاوزه، ولا يمكن أن يزاد في عمره ولا أن ينقص، والعمر الذي كتبه الله له قبل أن يخلقه بل قبل أن يخلق الدنيا لابد أنه يصل إليه ولا يتجاوزه.

ومعلوم أن ربنا سبحانه علم عدد الخلق قبل أن يخلقوا، علمهم بعددهم وبأوقات وجودهم وبأعمارهم وبأعمالهم ونحو ذلك، ففي الحديث: (إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)، وفي حديث آخر: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة) جرى القلم بما هو كائن وحادث إلى يوم القيامة، ولا يزاد عما جرى، وذلك في اللوح المحفوظ الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

أنواع التقدير

التقدير أربعة أنواع:

تقدير عام وهو الذي في اللوح المحفوظ.

وتقدير عمري، وهو الذي يكتب إذا كان الإنسان في الرحم، فيرسل الله الملك فيأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، يكتب ذلك وهو في الرحم.

وتقدير سنوي وهو ما يقدره الله في ليلة القدر إلى مثلها من الأعمال والآجال والوفيات والحوادث وما أشبهها.

وتقدير يومي، وهو ما يحدث في ذلك اليوم نفسه، ودليله قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].

وأما قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] فالمراد المحو والإثبات لما في صحف الملائكة الموكلون بحفظ أعمال بني آدم وبكتابتها، فهم يكتبون الأعمال التي يعملها الإنسان والتي يقولها، ثم يأمرهم الله تعالى أن يمحوا ما لا ثواب فيه ولا عقاب، وما لا يترتب عليه جزاء، أو يمحوا السيئات التي تاب العبد منها وبدلها بحسنات، وأما ما في أم الكتاب -اللوح المحفوظ- فإنه لا يتغير: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].

علم الله المسبق بقدر كل نفس

لكل أجل كتاب، ولكل إنسان أجل، فما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله تعالى قبل خلقها أجلها وعملها. وسعادتها أو شقاوتها، وحياة عاجلة أو آجلة، وحياة سعيدة أو تعيسة، قد علم الله ذلك كله، ولأجل ذلك أخبر تعالى بأنه كتب الآجال والأعمار ولا يتغير ما كتبه.

يقول الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، نزلت هذه الآية في غزوة أحد، وذكر الله تعالى عن المنافقين بعض الكلمات التي قالوها، كقولهم: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] يتلومون لما رأوا أنه قتل بعض منهم في غزوة أحد، وقالوا: لو أخذوا رأينا لجلسنا في بيوتنا ولتحصنا في دورنا ولم نتعرض للقتل، فنحن الذين فرطنا فخرجنا ولاقينا هذا العدو فقتلوا منا من قتلوا، وسفكوا دماءنا، ولو أننا امتنعنا من الخروج لسلمنا من هذا القتل. هكذا حكى الله عنهم.

ثم قال: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، فالله تعالى قد كتب القتل على هؤلاء الذين قتلوا، فلو تحصنوا ثم تحصنوا فإنه لابد أن يخرجوا ويقتلوا في المكان الذي حدد الله وعلم بأنهم سيقتلون فيه ولا يتجاوزنه.

ومثله قوله تعالى في سورة النساء لما كتب الله عليهم القتال حكى الله عنهم أنهم قالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77]، ثم قال: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] ولو تحصنتم بما تحصنتم به، فمن كتب الله عليه الموت في الوقت المحدد فإنه سيموت فيه، ومن كتب موته بشيء فإنه يموت به، ومن كتب الله أن موته يصير بقتل أو بضرب فلابد أن يحصل، أو بمرض كذا وكذا فلابد أن يحصل، فلابد أن يتحقق الموت الذي حقق الله تعالى وحدد أجله، يقول الله تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

أمر الله للإنسان بالأخذ بالأسباب

إن الإنسان مأمور بأن يتحصن ويحتفظ من أسباب الردى ومن أسباب الهلاك، وهذا التحصن والتحفظ مكتوب أيضاً قبل أن يخلق، مكتوب أنه سوف يعمل كذا وكذا من أسباب الحفظ والتحصن، وأنه يصاب بمرض كذا وكذا فيتعالج بالعلاج الذي يبرأ به ويزول عنه هذا المرض، ومكتوب -أيضاً- أنه سوف يتحفظ ويتحصن إذا دخل ميدان القتال أو دخل المعارك، ويكون تحصنه سبباً في وقايته، وهو مأمور بأن يأخذ حذره، ولأجل ذلك يكرر الله الأمر بالتحفظ فيقول تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ [النساء:102]. يعني: احتياطاً ويقول تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، أمرهم بأن يأخذوا أسلحتهم وأن يكونوا حذرين، ولو كان الله قد قدر أنهم يصابون بكذا وكذا فإن هذا مأمور به وهو من الأسباب.

وكذلك يقول تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، فالإعداد مأمور به ولو كان قد قدر الله تعالى انهزاماً أو موتاً أو غلبة، والله تعالى قادر على أن يقتل المشركين بدون جهاد أو قتال، ولكن من حكمته أنه شرع لنا الجهاد حتى يكون ذلك سبباً من أسباب الانتصار، مع أنه قادر على أن ينصر عباده بدون قتال، وأن يخذل أعداءه بدون أن يقاتلهم المسلمون، يقول تعالى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4]، فهو قادر على ذلك، ولكن من حكمته أنه شرع هذه الشرائع وقدر فيها هذه الآجال.

فالحاصل أنَّا إذا قلنا: إن عمرك -أيها الإنسان- مكتوب فلا تقل: ما دام كذلك فإنني لا أفعل شيئاً، بل أستسلم لأمر الله تعالى.

نقول: أنت مستسلم لأمر الله، وأمر الله نافذ فيك ولو فعلت ما فعلت، ولكن أنت مأمور بهذه الأسباب التي تكون سبباً من أسباب حياتك ووقايتك، ومعلوم أنك مأمور بأن تأكل وتشرب، وأن تركك لذلك إضرار بنفسك، وأنه سبب من أسباب الموت، ولكن مكتوب عليك أنك تأكل وتشرب.

ومأمور أيضاً بأن تتوقى الحر والبرد، ولا تعرض نفسك لشدة الحر الذي يكون سبباً في الموت، ولا لشدة البرد الذي يكون سبباً في القتل ونحوه، ومنهي أن تفعل سبباً يودي بحياتك، فلا يجوز لك أن تلقي بنفسك من شاهق، ولا أن تطرح نفسك في بئر، كما لا يجوز لك أن تطعن نفسك وأن تقتلها وتقول: هذا مكتوب عليَّ وهذا عمري. بل أنت مأمور بأن تتوقى الأسباب التي فيها ضرر على نفسك، وفعلك لها وتوقيك لها مكتوب أيضاً وهو مقدر.

وقد ورد في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أرأيت رقىً نسترقي بها وأدوية نتداوى بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله) يعني: هذه الأدوية التي تتداوى بها وتتعالج بها هي مقدرة، ومكتوب أنك سوف تصاب بمرض كذا وأنك تتعالج بالعلاج الفلاني ويكون سبباً في شفائك ولذلك ورد في الحديث الأمر بالتداوي: (تداووا عباد الله؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا أنزل له دواء).

فنحن مأمورون بالتداوي والمرض والعلاج مكتوب، ومكتوب أن هذا يتداوى بكذا حتى يسلم، وهذا يصاب بكذا ولا يؤثر فيه العلاج وما أشبه ذلك، كل هذا داخل في تقدير الآجال، وأن الله تعالى أجل لكل حي ومخلوق أجلاً فهو بالغه، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، فإذا مات أو قتل فإنه مات عند انتهاء أجله، فالمقتول ميت بأجله، سواء قتل في الجهاد، أو ظلماً، أو بحادث أو نحو ذلك، كل ذلك مكتوب، وليس له أن يتجاوزه، وهو مع ذلك مأمور بالتحفظ وبالتحصن حتى لا يلقي بنفسه إلى التهلكة.

التقدير أربعة أنواع:

تقدير عام وهو الذي في اللوح المحفوظ.

وتقدير عمري، وهو الذي يكتب إذا كان الإنسان في الرحم، فيرسل الله الملك فيأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، يكتب ذلك وهو في الرحم.

وتقدير سنوي وهو ما يقدره الله في ليلة القدر إلى مثلها من الأعمال والآجال والوفيات والحوادث وما أشبهها.

وتقدير يومي، وهو ما يحدث في ذلك اليوم نفسه، ودليله قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].

وأما قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] فالمراد المحو والإثبات لما في صحف الملائكة الموكلون بحفظ أعمال بني آدم وبكتابتها، فهم يكتبون الأعمال التي يعملها الإنسان والتي يقولها، ثم يأمرهم الله تعالى أن يمحوا ما لا ثواب فيه ولا عقاب، وما لا يترتب عليه جزاء، أو يمحوا السيئات التي تاب العبد منها وبدلها بحسنات، وأما ما في أم الكتاب -اللوح المحفوظ- فإنه لا يتغير: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].

لكل أجل كتاب، ولكل إنسان أجل، فما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله تعالى قبل خلقها أجلها وعملها. وسعادتها أو شقاوتها، وحياة عاجلة أو آجلة، وحياة سعيدة أو تعيسة، قد علم الله ذلك كله، ولأجل ذلك أخبر تعالى بأنه كتب الآجال والأعمار ولا يتغير ما كتبه.

يقول الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، نزلت هذه الآية في غزوة أحد، وذكر الله تعالى عن المنافقين بعض الكلمات التي قالوها، كقولهم: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] يتلومون لما رأوا أنه قتل بعض منهم في غزوة أحد، وقالوا: لو أخذوا رأينا لجلسنا في بيوتنا ولتحصنا في دورنا ولم نتعرض للقتل، فنحن الذين فرطنا فخرجنا ولاقينا هذا العدو فقتلوا منا من قتلوا، وسفكوا دماءنا، ولو أننا امتنعنا من الخروج لسلمنا من هذا القتل. هكذا حكى الله عنهم.

ثم قال: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، فالله تعالى قد كتب القتل على هؤلاء الذين قتلوا، فلو تحصنوا ثم تحصنوا فإنه لابد أن يخرجوا ويقتلوا في المكان الذي حدد الله وعلم بأنهم سيقتلون فيه ولا يتجاوزنه.

ومثله قوله تعالى في سورة النساء لما كتب الله عليهم القتال حكى الله عنهم أنهم قالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77]، ثم قال: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] ولو تحصنتم بما تحصنتم به، فمن كتب الله عليه الموت في الوقت المحدد فإنه سيموت فيه، ومن كتب موته بشيء فإنه يموت به، ومن كتب الله أن موته يصير بقتل أو بضرب فلابد أن يحصل، أو بمرض كذا وكذا فلابد أن يحصل، فلابد أن يتحقق الموت الذي حقق الله تعالى وحدد أجله، يقول الله تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

إن الإنسان مأمور بأن يتحصن ويحتفظ من أسباب الردى ومن أسباب الهلاك، وهذا التحصن والتحفظ مكتوب أيضاً قبل أن يخلق، مكتوب أنه سوف يعمل كذا وكذا من أسباب الحفظ والتحصن، وأنه يصاب بمرض كذا وكذا فيتعالج بالعلاج الذي يبرأ به ويزول عنه هذا المرض، ومكتوب -أيضاً- أنه سوف يتحفظ ويتحصن إذا دخل ميدان القتال أو دخل المعارك، ويكون تحصنه سبباً في وقايته، وهو مأمور بأن يأخذ حذره، ولأجل ذلك يكرر الله الأمر بالتحفظ فيقول تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ [النساء:102]. يعني: احتياطاً ويقول تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، أمرهم بأن يأخذوا أسلحتهم وأن يكونوا حذرين، ولو كان الله قد قدر أنهم يصابون بكذا وكذا فإن هذا مأمور به وهو من الأسباب.

وكذلك يقول تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، فالإعداد مأمور به ولو كان قد قدر الله تعالى انهزاماً أو موتاً أو غلبة، والله تعالى قادر على أن يقتل المشركين بدون جهاد أو قتال، ولكن من حكمته أنه شرع لنا الجهاد حتى يكون ذلك سبباً من أسباب الانتصار، مع أنه قادر على أن ينصر عباده بدون قتال، وأن يخذل أعداءه بدون أن يقاتلهم المسلمون، يقول تعالى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4]، فهو قادر على ذلك، ولكن من حكمته أنه شرع هذه الشرائع وقدر فيها هذه الآجال.

فالحاصل أنَّا إذا قلنا: إن عمرك -أيها الإنسان- مكتوب فلا تقل: ما دام كذلك فإنني لا أفعل شيئاً، بل أستسلم لأمر الله تعالى.

نقول: أنت مستسلم لأمر الله، وأمر الله نافذ فيك ولو فعلت ما فعلت، ولكن أنت مأمور بهذه الأسباب التي تكون سبباً من أسباب حياتك ووقايتك، ومعلوم أنك مأمور بأن تأكل وتشرب، وأن تركك لذلك إضرار بنفسك، وأنه سبب من أسباب الموت، ولكن مكتوب عليك أنك تأكل وتشرب.

ومأمور أيضاً بأن تتوقى الحر والبرد، ولا تعرض نفسك لشدة الحر الذي يكون سبباً في الموت، ولا لشدة البرد الذي يكون سبباً في القتل ونحوه، ومنهي أن تفعل سبباً يودي بحياتك، فلا يجوز لك أن تلقي بنفسك من شاهق، ولا أن تطرح نفسك في بئر، كما لا يجوز لك أن تطعن نفسك وأن تقتلها وتقول: هذا مكتوب عليَّ وهذا عمري. بل أنت مأمور بأن تتوقى الأسباب التي فيها ضرر على نفسك، وفعلك لها وتوقيك لها مكتوب أيضاً وهو مقدر.

وقد ورد في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أرأيت رقىً نسترقي بها وأدوية نتداوى بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله) يعني: هذه الأدوية التي تتداوى بها وتتعالج بها هي مقدرة، ومكتوب أنك سوف تصاب بمرض كذا وأنك تتعالج بالعلاج الفلاني ويكون سبباً في شفائك ولذلك ورد في الحديث الأمر بالتداوي: (تداووا عباد الله؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا أنزل له دواء).

فنحن مأمورون بالتداوي والمرض والعلاج مكتوب، ومكتوب أن هذا يتداوى بكذا حتى يسلم، وهذا يصاب بكذا ولا يؤثر فيه العلاج وما أشبه ذلك، كل هذا داخل في تقدير الآجال، وأن الله تعالى أجل لكل حي ومخلوق أجلاً فهو بالغه، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، فإذا مات أو قتل فإنه مات عند انتهاء أجله، فالمقتول ميت بأجله، سواء قتل في الجهاد، أو ظلماً، أو بحادث أو نحو ذلك، كل ذلك مكتوب، وليس له أن يتجاوزه، وهو مع ذلك مأمور بالتحفظ وبالتحصن حتى لا يلقي بنفسه إلى التهلكة.