شرح اعتقاد أهل السنة [9]


الحلقة مفرغة

قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون: إن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن كثرت طاعته أزيد إيماناً ممن هو دونه في الطاعة.

ويقولون: إن أحداً من أهل التوحيد ومن يصلي إلى قبلة المسلمين لو ارتكب ذنباً أو ذنوباً كثيرة صغائر أو كبائر مع الإقامة على التوحيد لله والإقرار بما التزمه وقبله عن الله فإنه لا يكفر به، ويرجون له المغفرة، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

واختلفوا في متعمد ترك الصلاة المفروضة حتى يذهب وقتها من غير عذر، فكفره جماعة؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، وقوله: (من ترك الصلاة فقد كفر)، و(من ترك الصلاة فقد برئت منه ذمة الله)، وتأول جماعة منهم أنه يريد بذلك من تركها جاحداً لها، كما قال يوسف عليه السلام: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [يوسف:37] ترك جحود الكفر، وقال كثير منهم: إن الإيمان قول وعمل].

تعريف الإيمان عند أهل السنة

هاهنا ذكر تعريف الإيمان، حيث اختلف الناس في تعريفه، فذهبت المرجئة إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وغلاتهم قالوا: إن الإيمان هو المعرفة. وذهب أهل السنة إلى أن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهناك مذاهب أخرى لا دليل عليها.

ومما هو معلوم أن الإيمان من الألفاظ الشرعية التي استعملها الشرع ونقلها من معناها اللغوي إلى معنىً اصطلاحي شرعي، فأصبحت من الألفاظ الشرعية التي جاءت في لسان الشرع لمعنىً زائد عن المعنى اللغوي، وصحيح أن معناه في اللغة التصديق، مثل قوله تعالى عن إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17]، أي: بمصدق لنا. ومنه أيضاً تفسير الإيمان في حديث جبريل المشهور: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر) فالإيمان هنا هو التصديق بهذه الأشياء.

فإذاً الإيمان في اللغة هو التصديق، ولكن الشرع الشريف أضاف إليه الأعمال والأقوال فجعلها إيماناً، فأصبح الإيمان عاماً للأعمال، فالأعمال البدنية والقولية والعقلية القلبية والمالية كلها داخلة في مسمى الإيمان شرعاً، هذا هو قول أهل السنة.

تعريف الإيمان عند المخالفين لأهل السنة

الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق يسمون (مرجئة الفقهاء)، وأكثرهم من الحنفية، حيث يذكرون أن الإيمان عندهم هو ما كان عليه في اللغة من أنه التصديق، ويقولون: إن اللسان العربي يدل على هذا.

ولكن يلزم من هذا محاذير وذلك أنه يلزم منه تسوية الناس في الإيمان، فما دام أن كلهم مؤمنون فلا يكون بينهم فرق في الإيمان، فيكون إيمان أجلاء الصحابة كإيمان أطرف الناس، وهذا فيه تسوية بين المتفاوتات، ومعلوم أن إيمان الصديق والفاروق وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم أقوى من إيمان غيرهم ممن جاء بعدهم ومن إيمان أهل هذا الزمان الذين في إيمانهم تزعزع وضعف، والدليل عليه أن إيمانهم الذي هو إيمان راسخ حَمَلَهم على الأعمال، والهجرة، والصبر على الأذى في ذات الله، والجهاد في سبيل الله، والإنفاق في مرضات الله تعالى، والاجتهاد في سبل الخير والأعمال الخيرية، فذلك دليل على أنه أقوى من إيمان غيرهم من سائر الناس، فهذا من حيث الإيمان الذي في القلب.

أدلة دخول العمل في مسمى الإيمان

إذا نظرنا في الأدلة وجدنا أن الله تعالى سمى كثيراً من الأعمال البدنية والمالية إيماناً، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]، فهذه خمس خصال: منها ثلاث من الأعمال القلبية، وهي قوله تعالى: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، وواحدة مِن أعمال البدن وهي إقام الصلاة، وواحدة عبادة مالية وهي: النفقة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، فهذه كلها جعلها الله تعالى من الإيمان.

ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:15-16]، فهذه كلها جعلها الله علامة على الإيمان، يعني: إنما المؤمنون حقاً هم الذين يفعلون هذه الأشياء. فهذا كله دليل على أن هذه الأعمال من الإيمان.

ومثلها قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، جعل هذه كلها من الإيمان، وأشباه ذلك من الآيات، ولا شك أن هذه أدلة على أن الأعمال من مسمى الإيمان.

وقد وردت السنة بذلك، ففي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول (لا إله إلا الله)، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فانظر كيف ذكر ثلاث خصال: خصلة قولية: (قول لا إله إلا الله)، وخصلة فعلية: (إماطة الأذى عن الطريق)، وخصلة قلبية: (والحياء من الإيمان).

هذه أدلة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ولذلك اتفق السلف من أهل السنة على تعريف الإيمان بمثل ما ذكر الإسماعيلي ، فقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.

فالقول الذي باللسان يدخل فيه الذكر، والدعاء، والقراءة، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل فيه كل الأعمال القولية التي باللسان.

والاعتقاد بالجنان يدخل فيه الأعمال القلبية، فيدخل فيه الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والحياء ... إلى آخر أعمال القلوب، وهي كثيرة وكلها من الإيمان.

وكذلك أيضاً الأعمال البدنية كالركوع والسجود، والقيام والقعود، والجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، وكذلك الصيام، والطواف بالبيت والوقوف بشعائره، وما أشبه ذلك من الأعمال البدنية كلها داخلة في مسمى الإيمان؛ لأنها من الأعمال المندوبة المأمور بها.

وكذلك أيضاً الأعمال المالية، وإن لم يذكروها في التعريف لدخولها في الأعمال البدنية؛ لأن المال يكتسب غالباً بالبدن، فإذا أنفق في سبيل الله فإن ذلك عمل صالح، فالزكوات والصدقات من الإيمان، والتوسعة على ذوي الحاجات وكفالة الأيتام من الإيمان، والنفقة في وجوه البر كعمارة المساجد ونشر العلم وكل ما يصرف فيه المال بما هو قربة إلى الله تعالى فإنه من الإيمان؛ لكونها أعمالاً صالحةً يحبها الله تعالى.

فلا شك أن الإيمان أصبح بذلك مسمىً شرعياً بعد أن نقله الشرع إلى هذا المسمى، كما أن الشرع نقل الإسلام، فالإسلام في اللغة: الإذعان والانقياد والاستسلام لمن يقود الإنسان. فنقله الشرع إلى أن أصبح اسماً لأركان الإسلام الظاهرة، وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج وما يلحق بها.

وهكذا نقل الإحسان؛ إذ الإحسان في اللغة: اسم لإيصال الخير إلى الغير. ولكن نقله الشرع وجعله عبادة الله وحده وإصلاح العمل له، (أن تعبد الله كأنك تراه)، فتصدق الشرع في هذه الكلمات، فيقال -مثلاً-: هذه الكلمات لها تعريف في اللغة وتعريف في الشرع، كما أن أضدادها أيضاً لها تعريف في اللغة وتعريف في الشرع، فالشرك تعريفه في اللغة: الاشتراك بين اثنين في استحقاق. وتعريفه في الشرع: دعوة غير الله مع الله. والتوحيد له تعريف في اللغة، وهو: الفرد الواحد. أي: ذكر شخص واحد مفرد. وتعريفه في الشرع: إفراد الله تعالى بالعبادة.

وكذلك الفسوق أصله في اللغة: الخروج. ويطلق في الشرع على العصيان، أي: الخروج عن طاعة الله تعالى. وكذلك النفاق تعريفه في اللغة: الإخفاء وتعريفه في الشرع: إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.

فكذلك نقول: إن هذه اللفظة: -الإيمان- نقلها الشرع وسماها بهذا الاسم.

بيان مفاسد مذهب مرجئة الفقهاء في الإيمان

إن الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، يسوون بين الناس فيه، فيقولون: إيمان أفسق الناس كإيمان الملائكة وأكابر الصحابة. فعلى هذا لا فرق عندهم في الإيمان بين هذا وبين هذا، والناس كلهم سواء في هذا الإيمان، ولا شك أن في هذا تسهيلاً في المعاصي؛ لأنه إذا عرف أن المعاصي لا تضره وأن إيمانه كامل فإنه -ولابد- سوف يتساهل بأمر الله، فيفعل ما يستطيعه من الذنوب، فيشرب الخمور، ويسمع الأغاني، ويأكل الربا، ويقتل، ويفسق، ويزني، ويفجر، ويكذب، ويفعل كل المعاصي ويقول: إيماني كامل ما دام أن هذه ليست من الإيمان، فالإيمان الذي في القلب موجود.

ويقولون: إن أهله في أصله سواء، فيعتقد أن إيمانه كامل، وهذا ما حمل كثيراً منهم على الانهماك في المعاصي، وهم الذين يسمون (المرجئة)، وما أكثر الذين أنكروا عليهم وردوا عليهم قولهم حيث اعتقدوا أن الإيمان شيء واحد وأن أهله فيه سواء، فعند ذلك صاروا يعتمدون على واسع الرحمة وكرم الله، حتى قال قائلهم:

فكثر ما استطعت من المعاصي إذا كان القدوم على كريم

كأنه يبيح لهم المعاصي، بل يأمرهم بتكثيرها.

سبب تسمية المرجئة

قيل: إنهم سموا (مرجئة) لأنهم أرجأوا الأعمال عن مسمى الإيمان. أي: أخروها. قال تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ [الأحزاب:51] يعني: تؤخر. فسموا (مرجئةً)؛ لأنهم أرجأوا -أي: أخروا الأعمال- عن مسمى الإيمان، ولا شك أن هذا تهاون بالأسماء الشرعية.

وقيل: إنهم سموا (مرجئة)؛ لأنهم غلبوا باب الرجاء. أي: أنهم اعتمدوا على أحاديث الرجاء، حيث جاء في القرآن آيات في تغليب الرجاء، وجاء فيه آيات في تغليب الخوف أو في الأمر بالخوف، وقد تكلم العلماء على آيات الرجاء وآيات الخوف وقالوا: ينبغي للإنسان في حالة النشاط والقوة أن يغلب جانب الخوف وأن يكثر من الأعمال الصالحة، ويهرب من السيئات، ويخاف من التفريط والإهمال، ويكون دائماً خائفاً فزعاً يحذر عذاب الله ويخشى نقمته وعقوبته، أما إذا نزل به الأمر وحضره الأجل فيفضل أن يغلب جانب الرجاء حتى يقدم على ربه تعالى وهو يحسن الظن به، كما ورد في الحديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه).

وذهب بعضهم إلى أنك في حالة الدنيا تعمل بهما جميعاً، أي: تعمل بالخوف وبالرجاء، فلا تغلب الرجاء فتكون من المرجئة، ولا تغلب الخوف فتكون من الوعيدية كالخوارج والمعتزلة، بل تتوسط، والتوسط بينهما أن يكون دائماً خائفاً راجياً، واستدل على ذلك بالآيات التي فيها الجمع بينهما، كقوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] فجمع بينهما (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ)، هذا في جانب الرجاء، فقال: (وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)، هذا في جانب الخوف.

وهكذا أيضاً يذكر الله آية الرجاء ثم آية الخوف، قال تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6] انظر كيف جمع بينهما، وقال تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] أتبع العقاب بالمغفرة، وقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، فجمع بينهما في آيتين متتابعتين.

والحكمة في ذلك أن يكون المؤمن في حياته جامعاً بينهما، فإذا تذكر عذاب الله تعالى خاف خوفاً شديداً وأكثر من الأعمال الصالحة، وإذا تذكر سعة رحمة الله تعالى رجاها وعمل الأعمال الصالحة التي تدفعه إلى رضى الله تعالى وتؤهله لأن يكون من أوليائه.

وقد ورد في الأثر أن من كبائر الذنوب الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله، وكلها مأخوذة من القرآن، فالقنوط في قوله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، وفي قوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، فاليأس هو قطع الرجاء، وكذلك القنوط هو قطع الرجاء بالكلية من رحمة الله تعالى، فلو قدر -مثلاً- أن إنساناً شب على الذنوب وأكثر منها وحمل نفسه ما لا تطيق من السيئات فإنه مع ذلك لا يقنط ولا يقل: أنا قد عملت سيئة كبيرة فلا يمكن أن تنالني الرحمة، وأنا مقدم على النار، وأنا سأصبر على النار حيث إني عملت كذا وكذا من السيئات وعملت من الكفر والتكذيب كذا وكذا. فيقطع الرجاء ولا يجوز له ذلك، بل عليه أن يستحضر رحمة الله تعالى ويرجوه حتى يرحمه ربه.

وكذلك أيضاً قسم آخر ذكروه في قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، فالأمن من مكر الله أيضاً من كبائر الذنوب، وذلك لأن هؤلاء الذين ينهمكون في المعاصي ويكثرون منها ولا يخافون نقمة الله ولا بطشه ولا عذابه يعتبرون كأنهم آمنين، كأن عندهم صك أمان أنهم لا يدخلون النار، أو صك أمان أنهم لا يعذبون وأنهم آمنون من غضب الله تعالى ونقمته.

أدلة زيادة الإيمان ونقصانه

ذكر أهل السنة في تعريف الإيمان أنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد جاءت الأدلة على زيادة الإيمان، قال الله تعالى: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، ولا شك أن هذا دليل صريح على أن هذه المقالة زادت إيمانهم، وكذلك قوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، وقوله تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المدثر:31]، وهذا صريح في أنه يزيد إيمانهم، وكذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، صريح في أن السكنية زادت إيمانهم، وقوله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124].

يقول العلماء: كل شيء يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان. فإذا كان الإيمان يزيد فإنه ينقص، فالطاعات تزيده والمعاصي تنقصه، فالركعات النوافل يزيد بها الإيمان، والصدقة ولو بقليل يزيد بها الإيمان، والكلمة الطيبة يزيد بها الإيمان، والدعوات التي يدعو بها العبد ربه يزيد بها إيمانه، والاعتكاف ولو ليلة -مثلاً- في مسجد، وكذلك حج أو عمرة أو تقرب إلى الله بطواف أو جهاد في سبيل الله أو نفقة في وجوه الخير يزيد به الإيمان، وبضد ذلك ينقص الإيمان، فالرجل -مثلاً-: إذا مشى إلى المساجد زاد إيمانه، وإذا مشى إلى أماكن الرقص واللعب نقص إيمانه، وإذا أنفق في سبيل الله أو في وجوه الخير زاد إيمانه، وإذا أنفق في الباطل والملاهي والأغاني ونحوها نقص إيمانه، وإذا تكلم بدعاء أو بدعوة إلى الله تعالى زاد إيمانه، وإذا تكلم بسباب أو بلعن أو شتم أو عيب أو نحو ذلك نقص إيمانه، وإذا نظر في كتاب الله تعالى للاعتبار زاد إيمانه، وإذا نظر في الأفلام وفي الصور الخليعة ونحوها نقص إيمانه، وإذا استمع إلى الذكر وخشع قلبه زاد إيمانه، وإذا استمع إلى الغناء والملاهي وما أشبهها نقص إيمانه، وهكذا الضد بالضد.

ولهذا ذكر البخاري في (كتاب الإيمان) من صحيحه عن معاذ أنه قال: (اجلس بنا نؤمن ساعة)، فجعل ذكره وفكره وتعلمه إيماناً، فدل على أن هذا يضاف إلى الإيمان فيزداد به.

وقد أخذوا النقص من الحديث المشهور الذي في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل العاقل من إحداكن)، فوصف النساء بنقص الدين، والدين هو الإيمان، فمن كثرت طاعته لا شك أنه أزيد ممن نقصت طاعته.

فالطاعات التي هي العبادات يكون صاحبها أكثر إيماناً من صاحب المعاصي، فمن يصلي النوافل ويحافظ على الرواتب لا شك أنه أزيد إيماناً من الذي يقتصر على الفرائض، والذي يسبح الله تعالى بعد كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً وثلاثين أفضل وأكمل إيماناً من الذي يسبح عشراً عشراً وأشباه ذلك، فكلما زادت الأعمال زاد بها الإيمان.

ومسألة الإيمان مسألة طويلة، ولعله يأتينا فيها أيضاً زيادة كلام عند قوله: [إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل..] إلى آخره.

هاهنا ذكر تعريف الإيمان، حيث اختلف الناس في تعريفه، فذهبت المرجئة إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وغلاتهم قالوا: إن الإيمان هو المعرفة. وذهب أهل السنة إلى أن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهناك مذاهب أخرى لا دليل عليها.

ومما هو معلوم أن الإيمان من الألفاظ الشرعية التي استعملها الشرع ونقلها من معناها اللغوي إلى معنىً اصطلاحي شرعي، فأصبحت من الألفاظ الشرعية التي جاءت في لسان الشرع لمعنىً زائد عن المعنى اللغوي، وصحيح أن معناه في اللغة التصديق، مثل قوله تعالى عن إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17]، أي: بمصدق لنا. ومنه أيضاً تفسير الإيمان في حديث جبريل المشهور: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر) فالإيمان هنا هو التصديق بهذه الأشياء.

فإذاً الإيمان في اللغة هو التصديق، ولكن الشرع الشريف أضاف إليه الأعمال والأقوال فجعلها إيماناً، فأصبح الإيمان عاماً للأعمال، فالأعمال البدنية والقولية والعقلية القلبية والمالية كلها داخلة في مسمى الإيمان شرعاً، هذا هو قول أهل السنة.

الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق يسمون (مرجئة الفقهاء)، وأكثرهم من الحنفية، حيث يذكرون أن الإيمان عندهم هو ما كان عليه في اللغة من أنه التصديق، ويقولون: إن اللسان العربي يدل على هذا.

ولكن يلزم من هذا محاذير وذلك أنه يلزم منه تسوية الناس في الإيمان، فما دام أن كلهم مؤمنون فلا يكون بينهم فرق في الإيمان، فيكون إيمان أجلاء الصحابة كإيمان أطرف الناس، وهذا فيه تسوية بين المتفاوتات، ومعلوم أن إيمان الصديق والفاروق وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم أقوى من إيمان غيرهم ممن جاء بعدهم ومن إيمان أهل هذا الزمان الذين في إيمانهم تزعزع وضعف، والدليل عليه أن إيمانهم الذي هو إيمان راسخ حَمَلَهم على الأعمال، والهجرة، والصبر على الأذى في ذات الله، والجهاد في سبيل الله، والإنفاق في مرضات الله تعالى، والاجتهاد في سبل الخير والأعمال الخيرية، فذلك دليل على أنه أقوى من إيمان غيرهم من سائر الناس، فهذا من حيث الإيمان الذي في القلب.

إذا نظرنا في الأدلة وجدنا أن الله تعالى سمى كثيراً من الأعمال البدنية والمالية إيماناً، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]، فهذه خمس خصال: منها ثلاث من الأعمال القلبية، وهي قوله تعالى: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، وواحدة مِن أعمال البدن وهي إقام الصلاة، وواحدة عبادة مالية وهي: النفقة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، فهذه كلها جعلها الله تعالى من الإيمان.

ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:15-16]، فهذه كلها جعلها الله علامة على الإيمان، يعني: إنما المؤمنون حقاً هم الذين يفعلون هذه الأشياء. فهذا كله دليل على أن هذه الأعمال من الإيمان.

ومثلها قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، جعل هذه كلها من الإيمان، وأشباه ذلك من الآيات، ولا شك أن هذه أدلة على أن الأعمال من مسمى الإيمان.

وقد وردت السنة بذلك، ففي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول (لا إله إلا الله)، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فانظر كيف ذكر ثلاث خصال: خصلة قولية: (قول لا إله إلا الله)، وخصلة فعلية: (إماطة الأذى عن الطريق)، وخصلة قلبية: (والحياء من الإيمان).

هذه أدلة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ولذلك اتفق السلف من أهل السنة على تعريف الإيمان بمثل ما ذكر الإسماعيلي ، فقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.

فالقول الذي باللسان يدخل فيه الذكر، والدعاء، والقراءة، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل فيه كل الأعمال القولية التي باللسان.

والاعتقاد بالجنان يدخل فيه الأعمال القلبية، فيدخل فيه الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والحياء ... إلى آخر أعمال القلوب، وهي كثيرة وكلها من الإيمان.

وكذلك أيضاً الأعمال البدنية كالركوع والسجود، والقيام والقعود، والجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، وكذلك الصيام، والطواف بالبيت والوقوف بشعائره، وما أشبه ذلك من الأعمال البدنية كلها داخلة في مسمى الإيمان؛ لأنها من الأعمال المندوبة المأمور بها.

وكذلك أيضاً الأعمال المالية، وإن لم يذكروها في التعريف لدخولها في الأعمال البدنية؛ لأن المال يكتسب غالباً بالبدن، فإذا أنفق في سبيل الله فإن ذلك عمل صالح، فالزكوات والصدقات من الإيمان، والتوسعة على ذوي الحاجات وكفالة الأيتام من الإيمان، والنفقة في وجوه البر كعمارة المساجد ونشر العلم وكل ما يصرف فيه المال بما هو قربة إلى الله تعالى فإنه من الإيمان؛ لكونها أعمالاً صالحةً يحبها الله تعالى.

فلا شك أن الإيمان أصبح بذلك مسمىً شرعياً بعد أن نقله الشرع إلى هذا المسمى، كما أن الشرع نقل الإسلام، فالإسلام في اللغة: الإذعان والانقياد والاستسلام لمن يقود الإنسان. فنقله الشرع إلى أن أصبح اسماً لأركان الإسلام الظاهرة، وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج وما يلحق بها.

وهكذا نقل الإحسان؛ إذ الإحسان في اللغة: اسم لإيصال الخير إلى الغير. ولكن نقله الشرع وجعله عبادة الله وحده وإصلاح العمل له، (أن تعبد الله كأنك تراه)، فتصدق الشرع في هذه الكلمات، فيقال -مثلاً-: هذه الكلمات لها تعريف في اللغة وتعريف في الشرع، كما أن أضدادها أيضاً لها تعريف في اللغة وتعريف في الشرع، فالشرك تعريفه في اللغة: الاشتراك بين اثنين في استحقاق. وتعريفه في الشرع: دعوة غير الله مع الله. والتوحيد له تعريف في اللغة، وهو: الفرد الواحد. أي: ذكر شخص واحد مفرد. وتعريفه في الشرع: إفراد الله تعالى بالعبادة.

وكذلك الفسوق أصله في اللغة: الخروج. ويطلق في الشرع على العصيان، أي: الخروج عن طاعة الله تعالى. وكذلك النفاق تعريفه في اللغة: الإخفاء وتعريفه في الشرع: إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.

فكذلك نقول: إن هذه اللفظة: -الإيمان- نقلها الشرع وسماها بهذا الاسم.




استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح اعتقاد أهل السنة [8] 2694 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [5] 2355 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [13] 2325 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [7] 2146 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [3] 1852 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [12] 1771 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [6] 1719 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [17] 1692 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [10] 1674 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [4] 1643 استماع