سورة آل عمران - الآية [102]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الثالث عشر في الآية الثانية بعد المائة من سورة آل عمران، قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

الأمر بتقوى الله عز وجل

هذه الآية جاءت عقيب الآية التي نهت عن طاعة أهل الكتاب، وبينت أن في طاعتهم الهلاك والضلال والكفر، ويأمر ربنا تبارك وتعالى فيها عباده المؤمنين بتقواه، والتقوى: فعل المأمور واجتناب المحظور، وقد أكد ربنا جل جلاله هذا المعنى بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [الأحزاب:70]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18].

وبين سبحانه بأن هذه هي وصيته للأولين والآخرين فقال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، بمعنى: أن تجتنبوا عذاب الله عز وجل، وتجعلوا بينكم وبينه وقاية، هذه هي التقوى.

من ثمار التقوى

أيها الإخوة الكرام! والتقوى بين ربنا جل جلاله ثمراتها وفوائدها في الدنيا والآخرة، ومن ذلك: النجاة، قال تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61].

ومن ثمرات التقوى: أن الله عز وجل ضمن لمن اتقاه ألا يخاف مما يستقبل، ولا يحزن على ما مضى، قال تعالى: فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35].

ومن ثمرات التقوى: التيسير لليسرى، حيث إن الله عز وجل ييسر العبد لعمل الخير، للانبعاث في الطاعات والتقرب إلى الله عز وجل بأنواع العمل الصالح، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7].

ومن ثمرات التقوى وهي أعظم الثمرات: الوصول إلى الجنة، قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً [مريم:63]، وقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].

ومن ثمرات التقوى: تكفير السيئات، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، وقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:5].

ومن ثمرات التقوى: كثرة البركات حيث تفتح من الأرض والسموات، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96].

ومن ثمرات التقوى: معية الله، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].

ومن ثمرات التقوى: حصول الكرامة عنده جل جلاله، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

ومن ثمرات التقوى: حصول العلم النافع، قال تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ، تفرقون به بين الحق والباطل، ثم قال: وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].

ومن ثمرات التقوى الرزق الواسع، قال تعالى: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3].

ومن ثمرات التقوى: الأمان من ضر من يريدون أن يضروك في هذه الدنيا، وهم ليسوا قلة، وإنما هم كثرة من شياطين الإنس والجن، فتتقي مكرهم وكيدهم وبطشهم بتقوى الله، قال الله عز وجل: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125]، وفي الآية الأخرى قال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120].

ومن ثمرات التقوى: تيسير الأمر، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].

ومن ثمرات التقوى: حصول رحمة الله والفلاح والولاية، قال تعالى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

تعريف التقوى

يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، قال ابن مسعود : هو أن يذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر. هذه هي حق تقاته؛ أن تذكر الله ولا تنساه، وتطيعه ولا تعصيه، وأن تشكره جل جلاله ولا تكفره.

وقال أنس رضي الله عنه: لا يتقي العبد ربه حتى يخزن لسانه. وفي الحديث: ( لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس )، بمعنى: أن يتقي الشبهات خوف الوقوع في المحرمات.

وقال ابن عباس : أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.

القول بنسخ قوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته)

أيها الإخوة! أكثر العلماء على أن هذه الآية منسوخة بقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لكن المحققين من أهل العلم في القديم والحديث يقولون: لا نسخ، ولا حاجة إلى القول بالنسخ؛ بل معنى (اتقوا الله حق تقاته) أي: بقدر الطاقة؛ كما قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286].

قال ابن جزي رحمه الله: لا نسخ إذ لا تعارض؛ فإن العباد أمروا بالتقوى على الكمال فيما استطاعوا تحرزاً من الإكراه وشبهه.

قال ابن عاشور رحمه الله: والحق أن هذا بيان لا نسخ.

المراد بقوله: (مسلمون)

قال الله عز وجل: وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ظاهر الآية: النهي عن الموت، ولكن معناها: النهي عن ترك الإسلام حتى يتوفى العبد عليه، ومثله قول يعقوب عليه السلام: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، والمعنى: حافظوا على الإسلام حال صحتكم من أجل أن يتوفاكم الله عليه؛ لأن عادة الكريم قد جرت أن الإنسان يموت على ما عاش عليه، فمن عاش مسلماً مؤمناً موحداً فإن الله عز وجل يقبضه مسلماً مؤمناً موحداً.

قال الألوسي رحمه الله: وقال بعضهم بأن المراد بالإسلام هنا الإيمان، ولا تموتن إلا وأنتم مؤمنون؛ لأن الإسلام إذا كان مراداً به الأعمال فالأعمال ليست ممكنة عند الموت، وإنما الممكن عند الموت هو الإيمان القلبي؛ ولذلك في دعاء صلاة الجنازة نقول: ( اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان )، ففي حال الحياة نريد الحياة على الإسلام وهي أعمال الجوارح؛ الصلاة والزكاة والصيام والحج، وهذا كله من الإسلام: (بني الإسلام على خمس)، أما الإيمان فهو الأعمال القلبية، وهذا على مذهب من يفرق بين الإسلام والإيمان.

وقول الله عز وجل: وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، قال الإمام السيوطي في التحبير: ومن عجيب ما اشتهر في تفسير (مسلمون) قول العوام: أي: متزوجون، وهو قول لا يعرف له أصل، ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس، أو يسمع ممن لا عهدة عليه. يعني: أن الإنسان لا يسمع أي كلام ويقوم بنشره بين الناس، كأن يقول: سمعتهم يقولون في تفسير قوله تعالى: (مسلمون) أي: متزوجون.

وكلام الله عز وجل لا يجوز الإقدام على تفسيره بمجرد الرأي، بل هذا خطأ، قال صلى الله عليه وسلم: ( من قال برأيه في كتاب الله فأصاب فقد أخطأ ).

ومثل هذا التفسير الباطل ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شراركم عزابكم، وأراذل موتاكم عزابكم )، هذا كلام ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما هو من وضع الناس الذين يحبون الزواج الكثير، والله ما قاله عليه الصلاة والسلام؛ بل قد يكون الأعزب من الأخيار المتقين. وكذلك ما ينسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لو خشيت من شيء لخشيت أن ألقى الله عزباً )، فهذا ليس حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا ينفي هذا أن الزواج نحن مأمورون به، محضوضون عليه.

أيها الإخوة! السعيد من مات مسلماً، والشقي من مات على غير الإسلام، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، وقال: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً [الجن:14]، وقال: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

هذه الآية جاءت عقيب الآية التي نهت عن طاعة أهل الكتاب، وبينت أن في طاعتهم الهلاك والضلال والكفر، ويأمر ربنا تبارك وتعالى فيها عباده المؤمنين بتقواه، والتقوى: فعل المأمور واجتناب المحظور، وقد أكد ربنا جل جلاله هذا المعنى بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [الأحزاب:70]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18].

وبين سبحانه بأن هذه هي وصيته للأولين والآخرين فقال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، بمعنى: أن تجتنبوا عذاب الله عز وجل، وتجعلوا بينكم وبينه وقاية، هذه هي التقوى.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2640 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2579 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2525 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2350 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2314 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2307 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2298 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2233 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2192 استماع
سورة المائدة - الآية [1] 2103 استماع