سورة البقرة - الآية [104]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فهذا هو النداء الأول من نداءات الإيمان في كتاب الله وهو في الآية الرابعة بعد المائة من سورة البقرة، وهو قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ[البقرة:104].

قال أبو حيان ، رحمه الله تعالى: هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الإقبال عليه، وذلك أن أول نداء أتى عاماً يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا[البقرة:21]، وثاني نداء أتى خاصاً: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ[البقرة:40]، وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين اليهودية والنصرانية.

وثالث نداء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنين، فكان أول نداء عاماً أمروا فيه بأصل الإسلام وهو عبادة الله، وثاني نداء ذكروا فيه بالنعم الجزيلة، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة، وخوفوا من حلول النقم الوبيلة، وثالث نداء علموا فيه أدباً من آداب الشريعة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، إذ قد حصلت لهم عبادة الله والتذكير بالنعم والتخويف من النقم، والاتعاظ بمن سبق من الأمم، ولم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه.

مفردات الآية

( يا أيها ) يا: حرف نداء، وأي منادى، وها: حرف تنبيه.

( لا تقولوا ) أي: للنبي صلى الله عليه وسلم، راعنا: أمر من المراعاة، وكان المسلمون يقولون له ذلك وهي بلغة اليهود سب من الرعونة، فسروا بذلك وخاطبوا بها النبي صلى الله عليه وسلم يعنون بها الرعن وهو الحمق والهوج.

روي أن سعد بن معاذ رضي الله عنه (سمعها منهم فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، قالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونهي المؤمنون عنها).

إن استخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود لعنهم الله يدل على مدى غيظهم وحقدهم كما يدل على سوء أدبهم وخفة وسيلتهم وانحطاط سلوكهم، ولا غرابة، فقد فعلوا ذلك مع الأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا[الأحزاب:69]، وقال سبحانه: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ[الصف:6]، فهذه هي طبيعة اليهود مع سائر الأنبياء.

وَقُولُوا -أي: بدلاً منها- انظُرْنَا )) أي: انظر إلينا وأقبل علينا وتأن معنا، من النظر والانتظار، ( واسمعوا ) أي: ما تؤمرون به سماع قبول وانقياد، لا سماع رد وعصيان، كما قالت اليهود: سمعنا وعصينا.

قال أهل التفسير: حذف المسموع ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن وسماع السنة التي هي الحكمة لفظاً ومعنىً واستجابة، ففيه الأدب والطاعة، وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقي عليكم من المسائل، بآذان واعية، وأذهان حاضرة، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة، ( وللكافرين ) أي: لليهود الذين سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاب أليم.

وجوب التأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام

لقد جاءت الكلمة آمرة لعباد الله المؤمنين باستعمال الأدب الشرعي الواجب في مخاطبة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وترك الألفاظ التي فيها احتمال أمر لا يليق بجناب رسول الله، وفي تحقيق هذا المقصد جاءت آيات أخرى في القرآن كقول الله سبحانه: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا[النور:63]، وقوله سبحانه: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ[الحجرات:2]، وقوله سبحانه: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[الفتح:9].

وتوعد في هذه الآية الكفار الفجار ممن تعمدوا إساءة الأدب مع النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بعذاب مؤلم جزاءً على كفرهم، وسوء أدبهم، كما توعدهم في آية أخرى بقوله: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ[المجادلة:8].

من فوائد الآية

في هذه الآية العظيمة فوائد كثيرة منها:

أولاً: النهي عن الجائز إذا كان وسيلة إلى محرم.

ثانياً: وجوب الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن.

ثالثاً: ترك الألفاظ القبيحة أو التي فيها احتمال لأمر غير حميد، ومن هنا أخذ المالكية رحمهم الله وجوب حد القذف بالتعريض.

رابعاً: وجوب التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مخاطبته وترك استعمال أي لفظة قد يفهم منها غير الإجلال والإكبار له صلى الله عليه وسلم.

خامساً: وجوب السماع لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتقيد بأمره صلوات الله وسلامه عليه واجتناب نهيه، وعند مخاطبته لمن أكرمهم الله عز وجل بمعايشته والجلوس إليه عليه الصلاة والسلام.

سادساً: تحريف الكلم ليس أمراً غريباً على اليهود، قال الله في شأنهم مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا[النساء:46].

سابعاً: النهي عن التشبه بالكافرين، قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).

ثامناً: وجوب التأدب عند سماع القرآن، قال تعالى: وَاسْمَعُوا ))، وقال سبحانه: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الأعراف:204].

تاسعاً: أن العذاب الأليم جزاء لمن كفر وأعرض.

عاشراً: التمسك بسد الذرائع، وهو مذهب مالك وأصحابه و أحمد بن حنبل في رواية عنه، وأدلة سد الذرائع كثيرة، وقد دل على ذلك الكتاب في قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام:108]، وقوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ[الأعراف:163] الآيات.

وفي السنة حديث عائشة رضي الله عنها في ذكر أم سلمة و أم حبيبة كنيسة رأتاها في أرض الحبشة وما فيها من التصاوير (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).

وقال عليه الصلاة والسلام: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)، وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد).

وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).

وقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)، فجعل التعرض لسب الآباء كسب الآباء.

وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم).

أسأل الله سبحانه أن يجعل هذه الكلمات نافعة لمن قالها ولمن استمع إليها.

والحمد لله أولاً وآخراً، وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

( يا أيها ) يا: حرف نداء، وأي منادى، وها: حرف تنبيه.

( لا تقولوا ) أي: للنبي صلى الله عليه وسلم، راعنا: أمر من المراعاة، وكان المسلمون يقولون له ذلك وهي بلغة اليهود سب من الرعونة، فسروا بذلك وخاطبوا بها النبي صلى الله عليه وسلم يعنون بها الرعن وهو الحمق والهوج.

روي أن سعد بن معاذ رضي الله عنه (سمعها منهم فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، قالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونهي المؤمنون عنها).

إن استخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود لعنهم الله يدل على مدى غيظهم وحقدهم كما يدل على سوء أدبهم وخفة وسيلتهم وانحطاط سلوكهم، ولا غرابة، فقد فعلوا ذلك مع الأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا[الأحزاب:69]، وقال سبحانه: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ[الصف:6]، فهذه هي طبيعة اليهود مع سائر الأنبياء.

وَقُولُوا -أي: بدلاً منها- انظُرْنَا )) أي: انظر إلينا وأقبل علينا وتأن معنا، من النظر والانتظار، ( واسمعوا ) أي: ما تؤمرون به سماع قبول وانقياد، لا سماع رد وعصيان، كما قالت اليهود: سمعنا وعصينا.

قال أهل التفسير: حذف المسموع ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن وسماع السنة التي هي الحكمة لفظاً ومعنىً واستجابة، ففيه الأدب والطاعة، وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقي عليكم من المسائل، بآذان واعية، وأذهان حاضرة، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة، ( وللكافرين ) أي: لليهود الذين سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاب أليم.