خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [100]
الحلقة مفرغة
نحمد الله على ما قضى وقدَّر، وعلى ما دبَّر ويسَّر، فهو أهل الحمد والثناء، يستحق الحمد على السراء والضراء، إذا ابتلى بالخير فهو أعلم بذلك وبمن يصلح له، وإذا ابتلى بالشر فهو أعلم بمن يبتليه، وبالأسباب التي يبتلي بها ولأجلها.
إذا مس بالخيرات عم سرورها وإذا مس بالضراء يعقبه الأجر
في هذا المسجد قبل ثلاثة أيام شهدنا حشداً عظيماً، وجمعاً كبيراً، يجهِّزون ويودعون عالماً من علماء المسلمين، يحضرون من كل فج، ومن كل جهة؛ لأجل أن يشيعوه، وأن يحضروا الصلاة عليه، ألا وهو شيخنا الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله، الذي وافاه أجله قبل ثلاثة أيام، والذي فقد المسلمون به عالماً جليلاً، وشيخاً كبيراً، بذل جهده، وأفرغ وسعه، وقام لله تعالى بما يستطيع، وجاهد في الله حق جهاده، جاهد بقلمه، وجاهد بلسانه، ورد على أعداء الله الذين يحاولون النيل من كتاب الله، أو من سنة رسوله، أو من دينه، فأبطل كيدهم، ورد أباطيلهم، وبين الحق أوضح بيان، قد أعطاه الله ووهبه علماً وحفظاً وفهماً، وذاكرةً قويةً، ومعرفةً بالأدلة وبمواضعها، ومعرفةً بسبك الكلمات وبرصفها، وبكيفية جمعها، حتى تكون كافية ومقنعة.
لا شك أن فقد العلماء مصيبة عظمى، مصيبة كبيرة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) نخشى أن يقبض العلم من بيننا، ولا يبقى فينا من يكون أهلاً لتحمل العلم؛ لأجل ذلك يجب أن نبذل جهداً ووسعاً في أن نتحمل من العلم ما نكون أهلاً به أن نذبَّ عن دين الله، وأن نجاهد في سبيله، وأن نبلغ شريعته، وأن نقوم لله مثنى وفرادى كما يقوم العلماء المجاهدون العارفون بالله أمثال هذا الشيخ رحمه الله؛ مخافة أن يطغى الجهل على العلم، ويطغى الشرك على الإيمان، وتعظم المصيبة في هذا الدين، وتعظم البلوى بأعداء الدين.
وقد كان العلماء رحمهم الله دائماً يبكون على علمائهم إذا فقدوهم، ويخشون أن يكون هذا سبباً لنقص العلم ولتلاشيه، يقول ابن مشرف رحمه الله في نظمه لرثاء العلم:
على العلم نبكي إذ قد اندرس العلم ولم يبق فينا منه روح ولا جسم
ولكن بقي رسم من العلم داثر وعما قليل سوف ينطمس الرسم
وليس يفيد العلم كثرة كتبه فماذا تفيد الكتب إن فقد الفهم
وعار على المرء الذي تم عقله وقد أُملت فيه المروءة والحزم
إذا قيل ماذا أوجب الله يا فتى أجاب بـ(لا أدري) وأنى لي العلم
وأقبح من ذا لو أجاب سؤالَه بجهل فإن الجهل مورده وخم
نقول: إننا في زمان ينقص فيه العلم، والمراد: العلم الشرعي، العلم الحقيقي الذي هو العلم بالله وبآيات الله، والعلم بشريعته، والعلم بكتابه وبسنة نبيه، والعلم بتوحيده وبحقوقه، ولو كثر العلم الآلي الذي كثر ادعاؤه، وكثر تعلُّمه، العلوم الآلية، وعلوم الحرف، وعلوم الصناعات، والعلوم الدنيوية، لقد كثر الذين ينتحلونها ويتعلمونها واحداً بعد واحد، لا شك أن هذا من الإعراض عن العلم الأصلي.
قد قرأنا ما ذكره الطحاوي رحمه الله من أن ديننا دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد ديناً غيره، هو أن يُسْلِم العبد قلبه وقالبه لربه، وأن يذعن له وينقاد، ويخضع له ويتواضع، وأن يعرفه بأسمائه وبصفاته، ويعرفه بما يجب أن يُعرف به، وأن يعبده حق عبادته، ويجاهد فيه حق جهاده.
وسطية الإسلام بين دين اليهود ودين النصارى
كذلك أيضاً الدين الإسلامي وسط بين الغلو والتقصير، فليس فيه غلو بحيث يكلف أهله ويشق عليهم، وليس فيه تقصير بحيث يكون فيه نقص أو خلل في أية عبادة.
فالطهارة التي هي من العبادات لا يجب فيها التشدد والدلك الشديد، وتكرار الغسل، وتكرار صب الماء، فهذا غلو، ولا يجزئ فيها مسح الأعضاء مسحاً، أو غسلها غسلاً خفيفاً لا يبلغ أن تبتل البشرة، فهذا تقصير، بل الوسط بين ذلك.
وسطية الإسلام بين المشبهة والمعطلة في صفات الله
فأهل السنة توسطوا، وهم الذين أثبتوا لله تعالى صفات الكمال، ونفوا عنه التشبيه والتمثيل بالمخلوقات، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء.
وهم كذلك وسط في باب الوعد والوعيد بين الوعيدية والمرجئة.
فهناك الوعيدية الذين شددوا وحكموا بأن من عصى أدنى معصية فقد كفر، وحل ماله ودمه.
وآخرون قالوا: المعاصي لا تؤثر ولا تضر.
هؤلاء غلوا وهؤلاء نقصوا، والإسلام وسط جاء يحذر من الإصرار على المعاصي وكبائر الذنوب، والاستمرار على صغائرها، وجاء يأمر بترك التكفير والخروج على أئمة المسلمين، والخروج على عامتهم، بل جعلهم وسطاً أي: صار أهل السنة وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء.
وسطية الإسلام في الأمن والقنوط
وآخرون غلب عليهم اليأس والقنوط، ووقعوا في معاصٍ وكبائر؛ ولكنهم قطعوا الرجاء، وانقطعوا انقطاعاً كلياً عن التوبة، وأيسوا من قبولها، واعتقدوا أنهم لا تنفعهم التوبة ولا تُقبل منهم، واعتقدوا أنهم لا ينفعهم أي عمل عملوه، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
كذلك وسط في أفعال العباد بين القدرية وبين المجبرة، فالمجبرة هم الذين يقولون: ليس للعبد اختيار، بل هو مجبور على أفعاله، ليس له أية حركة، بل حركاته كحركات الأشجار التي تحركها الرياح، فلا طاعة تنسب إليه، ولا معصية تنسب إليه.
وطائفة أخرى عزلوا الرب تعالى عن الأفعال التي تتعلق بالعباد، فنفوا عنه القدرة التامة، ونفوا أنه يهدي ويضل؛ نفوا أنه يهدي هذا ويضل هذا، أو يعين هذا ويخذل هذا، وجعلوا العبد هو الذي يهدي نفسه، أو يضل نفسه أو يفعل باختياره بدون أن يكون لله قدرة عليه، فهؤلاء في طرف، وهؤلاء في طرف، وتوسط أهل السنة بينهم وجعلوا للعبد قدرة، وله إرادة واختيار، وجعلوا تلك القدرة خاضعةً لقدرة الله، مغلوبة بقدرته.
فهذا معنى كون الدين الإسلامي بين الغالي والجافي، وبين القدري والجبري، وبين المشبِّه والمعطِّل، ونحو ذلك، أي وسط بين الطرفين.
دين الإسلام وسط بين الأديان كلها، فهو الوسط بين دين اليهود ودين النصارى، فدين اليهود فيه تشدد، ودين النصارى فيه توسع وتفريط، والإسلام جاء بالتوسط بينهما، اليهود يشددون في بعض الأشياء، والنصارى يتساهلون في كثير منها، والأمثلة على ذلك واضحة.
كذلك أيضاً الدين الإسلامي وسط بين الغلو والتقصير، فليس فيه غلو بحيث يكلف أهله ويشق عليهم، وليس فيه تقصير بحيث يكون فيه نقص أو خلل في أية عبادة.
فالطهارة التي هي من العبادات لا يجب فيها التشدد والدلك الشديد، وتكرار الغسل، وتكرار صب الماء، فهذا غلو، ولا يجزئ فيها مسح الأعضاء مسحاً، أو غسلها غسلاً خفيفاً لا يبلغ أن تبتل البشرة، فهذا تقصير، بل الوسط بين ذلك.
دين الإسلام وسط في باب صفات الله تعالى بين المشبهة الممثلة الذين شبهوا صفات الله تعالى بصفات خلقه، وبين المعطلة الذين نفوا صفات الله، وعطلوه من صفات الكمال.
فأهل السنة توسطوا، وهم الذين أثبتوا لله تعالى صفات الكمال، ونفوا عنه التشبيه والتمثيل بالمخلوقات، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء.
وهم كذلك وسط في باب الوعد والوعيد بين الوعيدية والمرجئة.
فهناك الوعيدية الذين شددوا وحكموا بأن من عصى أدنى معصية فقد كفر، وحل ماله ودمه.
وآخرون قالوا: المعاصي لا تؤثر ولا تضر.
هؤلاء غلوا وهؤلاء نقصوا، والإسلام وسط جاء يحذر من الإصرار على المعاصي وكبائر الذنوب، والاستمرار على صغائرها، وجاء يأمر بترك التكفير والخروج على أئمة المسلمين، والخروج على عامتهم، بل جعلهم وسطاً أي: صار أهل السنة وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء.
الإسلام وسط بين الأمن والقنوط، فهناك طائفة يكثرون من المعاصي والكفريات والبدع وهم آمنون، ويصدق عليهم قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
وآخرون غلب عليهم اليأس والقنوط، ووقعوا في معاصٍ وكبائر؛ ولكنهم قطعوا الرجاء، وانقطعوا انقطاعاً كلياً عن التوبة، وأيسوا من قبولها، واعتقدوا أنهم لا تنفعهم التوبة ولا تُقبل منهم، واعتقدوا أنهم لا ينفعهم أي عمل عملوه، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
كذلك وسط في أفعال العباد بين القدرية وبين المجبرة، فالمجبرة هم الذين يقولون: ليس للعبد اختيار، بل هو مجبور على أفعاله، ليس له أية حركة، بل حركاته كحركات الأشجار التي تحركها الرياح، فلا طاعة تنسب إليه، ولا معصية تنسب إليه.
وطائفة أخرى عزلوا الرب تعالى عن الأفعال التي تتعلق بالعباد، فنفوا عنه القدرة التامة، ونفوا أنه يهدي ويضل؛ نفوا أنه يهدي هذا ويضل هذا، أو يعين هذا ويخذل هذا، وجعلوا العبد هو الذي يهدي نفسه، أو يضل نفسه أو يفعل باختياره بدون أن يكون لله قدرة عليه، فهؤلاء في طرف، وهؤلاء في طرف، وتوسط أهل السنة بينهم وجعلوا للعبد قدرة، وله إرادة واختيار، وجعلوا تلك القدرة خاضعةً لقدرة الله، مغلوبة بقدرته.
فهذا معنى كون الدين الإسلامي بين الغالي والجافي، وبين القدري والجبري، وبين المشبِّه والمعطِّل، ونحو ذلك، أي وسط بين الطرفين.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2711 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2629 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2589 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2559 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2471 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2407 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2385 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2372 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2335 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2299 استماع |