شرح العقيدة الطحاوية [94]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً، ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة).

روى مسلم والإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة).

وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد).

والمنجم يدخل في اسم العراف عند بعض العلماء، وعند بعضهم هو في معناه. فإذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسئول؟

وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن عائشة قالت: (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان؟ فقال: ليسوا بشيء فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة).

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث).

وحلوانه: الذي تسميه العامة حلاوته.

ويدخل في هذا المعنى ما يعاطاه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقسم بها، مثل الخشبة المكتوب عليها (أ ب ج د) والضارب بالحصى، والذي يخط في الرمل، وما يعاطاه هؤلاء حرام. وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء، كـالبغوي والقاضي عياض وغيرهما.

وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل، فقال: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب).

وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة).

والنصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر الأئمة، بالنهي عن ذلك أكثر من أن يتسع هذا الموضع لذكرها].

قال الله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:221-223]، وفي الحديث: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: (ليسوا بشيء) يعني: كذبة، ليسوا على يقين، ولا على دين، فقال الناس: إنهم يحدثوننا بالأمر فيكون حقاً، فيقولون: في اليوم الفلاني يحصل مطر، أو رعد، أو صواعق، أو ريح، مع أنه قد يحصل في اليوم الفلاني أن يمرض فلان، أو يموت فلان، أو ما أشبه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك الكذبة تخطفها الشياطين فتلقيها على ألسنة الكهنة، فيزيدون فيها أكثر من مائة كذبة).

وفي حديث أبي هريرة المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا سمع ذلك أهل السماء صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما يشاء، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر على سماءٍ سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقول الناس: أليس قد قال لنا: يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكذبة التي سمعت من السماء) يعني: أن الناس لا يعتبرون بمائة كذبة، ولكن يصدقون الكذب الكثير لتلك الكلمة التي اختطفها الجني من السماء، فيصدقونه بما يخبرهم به مما تلقيه عليه شياطين الجن.

وهؤلاء الكهنة الذين هذا حالهم ما حكمهم؟

في صحيح مسلم عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وذكر العلماء أنه إذا تاب وندم فإنها تجزيه ولا يعيدها، ولكن عقوبته على فعله أنها لا تقبل منه، سيما إذا أتاه وهو يقدسه، ويرفع مكانته، ويعترف بميزته أو بفضله، أو نحو ذلك.

وعن عمران بن حصين وعن غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) وهذا أشد من الحديث الذي قبله، ولعل السبب أن هذا صدقه بكل ما يقول، صدقه في هذه المسألة وغيرها، واعتقد أنه صادق، وأن له ميزة وخصوصية، أو اعتقد أنه ملهم، أو اعتقد أنه ينزل عليه وحي، أو اعتقد أنه يعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فعقوبة هذا الذي صدقه في كل ما يقول أنه يحكم بكفره، فيحكم بكفر السائل للكاهن المصدق بكل ما قال.

يقول الشارح رحمه الله: إذا كانت هذه حالة السائل، فكيف بحالة المسئول؟! الذي هو الكاهن، فإن كفره أشد، وخروجه من الإسلام أبعد وأبعد، فالسائل المصدق بما يقول حكم بكفره، قيل: معناه أنه كفر بما أنزل في أمور الغيب، وأن الغيب لا يعلمه إلا الله، فالأمور المغيبة علمها عند الله، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) يعني: لا أعلم المغيبات، وقال في آية أخرى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]، وقال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، فإذا كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي: لا أعلم ما في القلوب، ولا أعلم الأمور المغيبة، إنما الذي يعلمها الله وحده (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)؛ فكيف بحال غيره من هؤلاء المتكهنة ونحوهم؟! فهذا حكم السائل، وهذا حكم المسئول.

كسب الكاهن والمنجم والساحر خبيث

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبث كسب الكهنة في قوله: (مهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث، وحلوان الكاهن خبيث) وحلوان الكاهن هو: ما يبذل له إذا أخبر، فإذا جاءه إنسان وقال: أخبرني بمكان دابتي التي فقدت، أخبرني بمكان مالي الذي سرق أو نحو ذلك، فيستوحي من شيطانه ويقول: دابتك في الشعب الفلاني، وعلامتها أن فيها كذا وكذا ونحو ذلك، فيعطى مالاً على إخباره، فهذا المال الذي أعطيه يعتبر خبيثاً، ونسميه سحتاً وأي سحت. وذلك لأنه أخذه على شيء محرم، وهو ادعاء علم الغيب.

ويدخل في ذلك من يسمى بالمنجم، ومن يسمى بالعراف، وكذلك الساحر، فهؤلاء: الكاهن، والساحر، والعراف، والمنجم، والرمال، والضراب، ونحوهم؛ كلهم يتدخلون فيما لا يعنيهم، فأما الكاهن فهو الذي يدعي معرفة المغيبات، ويخبر عما في الضمير، يقول: هذا يحدث نفسه بكذا، أو يخبر بمكان مسروق، يقول: مالك المسروق في المكان الفلاني، في البيت الفلاني، فتخبره شياطينه.

أما المنجم، فهو الذي يدعي علم الغيب بسير النجوم، يقول: علامة المطر أن يكون هذا النجم في المكان الفلاني في الليلة الفلانية فينزل مطر، أو ينزل برق، أو ما أشبه ذلك، وهذا بلا شك تدخل في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وكذلك ادعاء أن هذه النجوم هي التي تنزل المطر.

وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه مرة في الحديبية، فلما انصرف من الصلاة -وكان قد أصابهم مطر في تلك الليلة- قال: (أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا -النوء: النجم الذي ينوء أي: يطلع- فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب) أي: جعل الكوكب هو الذي يؤثر في الكون، وهو الذي يثير السحب، وهو الذي ينزل المطر، وذلك كله حق الله تعالى، فهو الذي ينفرد بذلك، يقول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [الروم:46] يعني: تبشر بالرحمة وبالمطر، فيرسل الله الرياح فتثير السحاب، ويحمل الله السحاب ماء فيصرفه الله تعالى حيث يشاء، وينزله حيث يشاء: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان:50] صرفناه يعني: جعلنا المطر على هذه الأرض أكثر، وعلى هذه أقل، كيف يشاء الله تعالى.

إذاً: فليس للكواكب تأثير، فمن ادعى أن النجوم لها تأثير فإنه ممن يتدخل فيما لا يعنيه، ويقول على الله تعالى بغير علم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) فالفخر بالأحساب: كون الإنسان يفتخر بآبائه وبأجداده الذين ماتوا، وقد ورد في الحديث: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا أو ليكونن أهون على الله من الجعل)، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى).

والطعن في الأنساب: هو العيب فيه، بأن يقول هذا ليس ابناً لفلان، أو ليس من آل فلان، أو نحو ذلك.

والاستسقاء بالنجوم: هو أن يقال: مطرنا بنوء كذا وكذا، هذا النجم فيه كذا، وكان الجاهلية يقولون: هذا نوء كذا وكذا، والنوء: هو النجم الذي ينوء يعني: يطلع، فكذبهم الله فقال تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82] أي: الرزق الذي ينزله الله تعالى على عباده تجعلونه من غير الله، تجعلون رزقكم الذي سخره الله لكم ورزقكم إياه، تجعلونه منسوباً لغيره، فتنسبونه إلى النوء، وإلى النجوم، ولا شك أن النجوم مذللة ومسخرة.

من الكهانة الخط في الرمل وضرب الحصى والاستقسام بالأنواء

الرمّال هو الذي يخط في الرمل، ويدعي معرفة الغيب به، فإذا جاءه إنسان ليستشيره، وقال: هل أفعل هذا أم لا أفعل؟ هل أسافر في هذا اليوم أم لا؟ هل أتزوج هذه المرأة أم لا؟ هل أبيع هذه السلعة بهذا الثمن أم لا؟

يقول: دعني أخط لك، فيأتي بعصا، ويخط خطوطاً كثيرة في الرمل بسرعة حتى لا يعرف حسابها، ثم يرجع فيمحو اثنين اثنين اثنين اثنين حتى ينظر الباقي، فإن بقي خط قال: افعل، وإن بقي اثنان قال: لا تفعل، وهذا بلا شك تدخل في علم الغيب، ما هذه الخطوط؟ وما فائدتها؟ هي لا تدل على صواب، ولا على خطأ، وليست علامة على معرفة الأمور المستقبلة، ولا على صدق هذا، ولا على كذبه.

ومثله أيضاً الضرّاب بالحصى، يجمع عنده حصىً كثيرة، فإذا جاءه إنسان يستشيره، يأخذ منها ويرمي ويرمي إلى أن يجعل حصىً كثيراً متراكماً، ثم يأخذ منه حجرين حجرين حتى ينظر هل يبقى واحد أم يبقى اثنان، فإن بقي واحد تفاءل، وإن بقي اثنان تشاءم، وهو قريب من فعل الرمّال الذي يخط في الرمل، وهؤلاء كلهم من الذين يتدخلون في الأمور الغيبية، ولا شك أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، وأنهم يدعون معرفة الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله.

وكذلك المستقسم بالأزلام، وهي عبارة عن حجارة كان أهل الجاهلية يستقسمون بها، فأبطلها الإسلام، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، فجعلها رجساً، والرجس: هو النجس، وقال تعالى لما ذكر المحرمات: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3] إلى قوله: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ [المائدة:3]، كان أهل الجاهلية يجعلون هذه الأزلام في كيس، فإذا أرادوا أمراً من الأمور استقسموا، فجاءوا إلى ذلك الكيس فنقضوه، ثم أخرجوا منه واحداً، فإن خرج الذي يقول له: افعل؛ فعلوا، وإن خرج الذي يقول: لا تفعل؛ تركوا، وإن خرج المهمل الذي ليس فيه شيء؛ أعادوا تقليبها مرة ثانيةً، وهكذا؛ فأبطل الله تعالى ذلك، وفي الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، ورأى المشركين قد صوروا صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فدعا بماء فمحا الصورة، وقال: قاتل الله المشركين. والله ما استقسما بها قط) يعني: أن الله نزه إبراهيم وإسماعيل عن أن يعملا هذه الفعلة الجاهلية، فكل هذه من الأمور التي كان يفعلها المشركون، حتى الجهلة في هذه الأزمنة؛ ليتوصلوا بها إلى العلوم المستقبلة.

حكم الكهنة

بعد أن عرفنا حال هؤلاء فنقول: على المسلم أن يعرف حكمهم، فهم كفرة فجرة ضلال، وقد حكم الشرع بكفرهم، فثبت في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له) ومعنى (ليس منا): يعني ليس من المسلمين، (من تكهن) يعني: تعاطى الكهانة أو (تكهن له): يعني: ذهب إلى الكهان يطلب منهم الإخبار بأمر من الأمور.

وفي هذه الأزمنة كثر هؤلاء في هذه البلاد، وقد كانوا قلة وأذلاء، والآن انتشروا، وانتشر السحر، وانتشر الكهان، وكثر شرهم، وكثر ضررهم، وإذا قيل: ما سبب فشوهم وكثرتهم وانتشارهم؟

فنقول: السبب -والله أعلم- قلة العلم الصحيح، وقلة الإيمان، وقلة الأعمال الصحيحة التي يبطل بها كيدهم، ويبطل بها عملهم؛ وذلك لأن الكهنة والسحرة والمشعوذين ونحوهم عملهم يتوقف على الشياطين، فالشياطين هي التي تمدهم، وهي التي تخبرهم، وهي التي تعمل لهم، وهي التي تحركهم، وترفع وتخفض فيهم، وتتكلم على ألسنتهم، وتلابسهم، وتخدمهم بما يريدون، ومتى تكثر الشياطين؟

إذا كثر الخبث، إذا كثرت المعاصي، إذا ضعف الإيمان، إذا كثر الزنا، وكثر الربا، وكثر الخنا، وكثر الغناء، وكثر الفساد، وكثر اللهو والباطل، وانشغل الناس بالشهوات، وقل الإيمان وضعف أهله، وضعف المتمسكون عن أن يقاموا هذه الأشياء؛ عند ذلك تستولي الشياطين وتستحوذ على أولئك، ويقل نزول الملائكة الذين يسددون المؤمنين، والذين يوفقونهم، والذين تنفر منهم الشياطين، فإن الملائكة كلما عمرت مكاناً هربت منه الشياطين، فإذا كثرت الشياطين لم يكن هناك ملائكة.

إذاً: فشوا هؤلاء بسبب كثرة المعاصي التي تمكنت في كثير من البلاد، فكان من نتيجتها أن استحوذ الشياطين وأولياء الشياطين من هؤلاء السحرة والكهنة على هذه البلاد.

ومعروف أن السحرة والكهنة يعبدون الشياطين، وقد حكم العلماء بكفرهم وبردتهم وبشركهم، وبينوا أنهم لا تقبل منهم التوبة، بل يبادر بأحدهم فيقتل، ولا يبقى لحظة واحدة، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (حد الساحر ضربه بالسيف)، وثبت أن عمر رضي الله عنه كتب إلى بجالة بن عبدة أن يقتلوا كل ساحر وساحرة، قال بجالة : فقتلنا ثلاث سواحر، وقد ثبت أيضاً أن حفصة بنت عمر رضي الله عنها -وهي إحدى أمهات المؤمنين- أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت؛ وذلك لأنها كانت دبرتها، يعني: علقت عتقها بموتها، فحرصت تلك الجارية على أن تموت سيدتها حتى تعتق، فعملت لها سحراً واعترفت، فأمرت بها فقتلت.

وكذلك ثبت عن جندب الخير رضي الله عنه أنه دخل على أحد خلفاء بني أمية، وكان عنده كاهن أو ساحر، وكان ذلك الساحر يقطع رأس الإنسان ثم يرده والناس ينظرون؛ وذلك لأنه يشعوذ ويزور على أعين الحاضرين، فيوهمهم أنه قطع الرأس، ولم يبق إلا الحنجرة، ثم بعد ذلك يرده فيقوم سوياً. فيعجب الناس ويضحكون، فجاء جندب رضي الله عنه ومعه سيف أخفاه، واستعاذ بالله، وقرأ آية الكرسي، فلما حاذى الساحر ضربه بالسيف حتى قطع رأسه، وقال: فليحي نفسه إن كان صادقاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حد الساحر ضربه بالسيف) أو قال هو: حد الساحر ضربه بالسيف، فهذا حده؛ لأنه تعاطى الكفر.

كفر السحرة وعبادتهم للشياطين

الساحر قد تعاطى الكفر، وقد سمعتم أعمال الكهنة والسحرة، وهي تدل على أنهم مشركون كفرة، فهم يتقربون إلى الشياطين بما تحب حتى تبطل عملها؛ فلأجل ذلك تخدمهم هذه الشياطين، فمنهم من لا تخدمه الشياطين حتى يترك الصلاة مدة؛ لأنه إذا تركها أصبح كافراً، فعند ذلك تحبه الشياطين، وتقترب منه، وتتولاه وتخدمه وتفعل له ما يريده، وتتكلم على لسانه، وتسترسل له حيث ما استرسل، ويستخدم منها ما يريد، فيستخدم منها مائة أو ألفاً أو نحو ذلك، ويكونون تحت طوع إشارته بسبب كونه تسلط عليهم بهذه الأمور التي استولى بها عليهم، وما فعل ذلك إلا بعدما كفر بالله، وآخرون من الكهنة أو السحرة لا تخدمهم الشياطين حتى يذبحوا لها قرابين، والشيطان يقنع ولو باليسير، ولو يذبحون له ذباباً تعظيماً له، أو عصفوراً، أو ديكاً، أو كبشاً، أو تيساً، أو نحو ذلك، فكل ذلك يقنع به الشيطان، ويكون ذلك سبباً لأن يخدمه؛ وذلك لأنه عرف أن هذا الساحر أو الكاهن أصبح مشركاً؛ لأنه أشرك بالله، فلما أشرك بالله خدمه الشيطان.

وكثير من السحرة والكهنة يستدعون الشياطين، ويسألونهم عن أسمائهم، فيحفظ أسماءهم، فلان الجان، وفلان الشيطان، وبعد ذلك يهتف بأسمائهم، ويناديهم في أوقات فراغه، حتى إذا ألفوه، وعرفوا أنهم من أوليائه؛ صاروا طوع إشارته، فيخبرونه بما يريد، ويسترقون له السمع، وينزلون عليه، ويلابسونه، ويتكلمون على لسانه، ويخبرونه بالأمور الغيبية التي لا يعرفها الناس، وما أشبه ذلك.

وآخرون من الكهنة أو السحرة لا تخدمهم الشياطين حتى يلابسوا النجاسات؛ وذلك لأن الشياطين تألف الأقذار، وتألف النجاسات، وتألف المستقذرات ونحوها؛ فلأجل ذلك أمرنا إذا دخلنا بيوت الخلاء أن نتعوذ بالله من شر الخبث والخبائث أي: ذكران الشياطين وإناثهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استتروا من البول فإن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم) فالأماكن التي لا يذكر فيها الله مثل بيوت الخلاء تألفها الشياطين، فأولئك السحرة قد يلطخون أجسامهم وثيابهم بالنجاسات، وبالقاذورات، وبالعذرة، حتى تأتيهم الشياطين التي تحب هذه النجاسات، وتكون في خدمتهم، ثم توحي إليهم بأن يفعلوا كذا، ويفعلوا كذا، فمتى فعلوا هذه الأشياء أطاعتهم وخدمتهم وصارت في ولايتهم.

فمثل هؤلاء لا شك أنهم كفار؛ لأنهم عبدوا غير الله تعالى، وقد أخبر الله بكفرهم في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، فجعل تعليم السحر كفراً، وجعله من عمل الشياطين، وأخبر عن الذين يعلمونه كهاروت وماروت وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102]، فأفاد أن كل من تعلم السحر فإنه يحكم بكفره؛ ولأجل ذلك يقول العلماء: إذا عثر على ساحر، فإن الصحيح أنه يقتل ولا يستتاب؛ وذلك لأنا لا نعلم حقيقة توبته، فقد يقول الساحر والكاهن: إني تبت، ولكن قلبه مضمر على ما هو عليه من العمل، وشياطينه الذين يخدمونه ملازمين له، لا ينفكون عنه، فإذن هو في الحقيقة كافر.

ومن بعض أفعال هؤلاء الكهنة وخدمة الشياطين أنهم يحملون الإنسان من مكان بعيد، ويقطعون به المسافات الطويلة، أو يأتونه مثلاً بعسيب نخل فيقولون له: اركب على هذا العسيب، والعسيب لا يحمل شيئاً، فيطيرون به على العسيب إلى أن يبلغ المكان الذي يريد، وقد يكون مسيرة شهر أو أشهر! هل معقول أن الإنسان يركب العسيب وأن الكاهن يركبه؟

لا شك أن الذي يفعل ذلك هم الشياطين التي أجسامها أو أرواحها خفيفة، فتحمل هذا بسرعة، وتقطع به هذه المسافات، وهي لا تفعل ذلك إلا لأوليائها الذين صاروا من خدمها، فهؤلاء بلا شك خدم للشياطين، فعلينا أن نعرفهم ونبتعد عنهم، وأن نعرف أن كل من قرب منهم فإنه يعطى حكمهم.