خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [92]
الحلقة مفرغة
من عقيدة أهل السنة: التفاضل الذي ذكره الله تعالى بين العباد، فأفضل الخلق هم رسل الله، وكذا ملائكته المقربون، وكذا عباده الصالحون.
ومن عقيدة أهل السنة: أنه لا يكون أحد أفضل من الرسل والملائكة من بقية البشر، وخالفت في ذلك الصوفية، فقدموا الأولياء على الأنبياء، ففضلوا الولي على النبي، ومعلوم أن الولي بشر من جنس بني آدم، وأنه لم يخرج عن البشرية، ولم يخرج عن كونه آدمياً، وكذلك أيضاً لم يصل إلى رتبة الأنبياء، فلم ينزل عليه الوحي، لا وحي إلهام، ولا وحي بواسطة ملك، وإن كان قد يجري الله على يديه شيئاً من الكرامات: إما لفضله، وإما لحاجته، وإما لإقناع خصم.. أو نحو ذلك.
وأولياء الله تعالى هم عباده الصالحون المؤمنون المتقون، فهؤلاء كلهم أولياء الله؛ لقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، فكل المؤمنين المتقين أولياء لله، ولكنهم يتفاوتون في الإيمان، ويتفاوتون في التقوى، وبعضهم أقوى إيماناً من بعض، وأقوى تقى من بعض، فيكون له ميزة وفضيلة على غيره، فيحصل على الرفعة والقرب، وتحصل له أيضاً كرامات يجريها الله على يديه.
شيخ الإسلام ابن تيمية ألف كتابه المشهور: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ وذلك لأنه كثر في زمانه الذين يفضلون الأولياء، ويجعلون لهم صفات يتحلون بها، وكل من جرت على يديه كرامة اعتقدوه ولياً، وقد ذكر رحمه الله في هذا الكتاب أنواعاً من الكرامات التي جرت على أيدي بعض الصالحين، ومن تلك الكرامات وخوارق العادات:
أن فلاناً -وسماه- كان قد أصيب بالفالج، الذي هو موت وعيب أحد جانبيه، سأل ربه أن يطلق أعضاءه وقت الطهارة والصلاة فاستجاب الله دعاءه، فكان كلما دخل وقت الصلاة قام كأنه أنشط الناس، وتوضأ وصلى، فإذا انتهى من الصلاة رجعت أعضاؤه إلى خدرها وإلى موتها بحيث لا تتحرك!
وهكذا قصة الذي كان غازياً، وكان راكباً على حمار، فمات حماره، فسأل ربه أن يحييه له حتى لا يقبل منة أحد، فأحياه الله له، فركبه وحمل عليه متاعه، ولما وصل إلى أهله وأنزل متاعه عنه، قال: يا بني! خذ ما على الحمار فإنه عارية، فبمجرد ما أخذ ما عليه مات الحمار! وكان إحياؤه له كرامة له.
وأما الذين استجيبت أدعيتهم، فأكثر وأكثر:
منها: أن سعيد بن جبير كان عنده ديك يوقظه للصلاة، فذات ليلة ما صاح الديك، فلما أصبح دعا عليه وقال: ما له قطع الله صوته، فلم يصح الديك بعدها بقية حياته، فقالت أمه: يا بني! لا تدع على أحد فتصيبه دعوتك! فهذه دعوة رجل صالح.
ووقعت قصص كثيرة من بعدهم، ومن قرأ الكتب التي كتبت في تراجم عباد الله الصالحين وقصصهم يجد منها عجائب، مثل كتب ابن رجب رحمه الله، كشرح الأربعين الذي يسمى: جامع العلوم والحكم، فإنه يذكر فيه عجائب من جنس هذا، منها قصة ذلك الرجل الذي ذهب ليشتري لأهله من بلاد بعيدة قمحاً، فلما لم يكن عنده ثمن، ولم يجد من يقرضه، ولا من يبيعه بدين رجع وليس معه شيء، فلما أقبل على أهله، مر بكثيب رمل، فقال: لماذا لا آخذ من هذا الرمل في أكياسي حتى لا يقال: رجع خائباً، فلما أنزل تلك الأكياس التي فيها ذلك الرمل، جاءت امرأته وفتحت أحدها، ووجدته قمحاً طيباً أحسن ما يكون، فطحنت منه وخبزت، فسألها: ما هذا الخبز الذي أجد رائحته؟ فقالت: من البر الذي أتيت به، فحمد ربه أنه لم يخيب سعيه، وكان ذلك البر غاية في الجودة، بحيث إنهم إذا بذروا منه تخرج الزرعة من أصلها إلى فرعها كلها سنابل من أحسن ما يكون، استجابة لدعوة ذلك الرجل الصالح!
وذكر لنا بعض الإخوان: أن بلاداً فيها بعض الرافضة وبعض السنة، فكان الرافضة إذا جاع الطفل يقولون له: ادع علياً حتى يعطيك طعاماً، فإذا دعا علياً قربوا له تمراً وخبزاً، وقالوا: هذا جاءك به علي ، فأهل السنة قالوا: نعود أبناءنا على أن يدعو ربهم، فإذا جاع الصبي قالوا: ادع ربك يا ولدي حتى يعطيك طعاماً، فإذا دعا ربه، قالوا له: ائت ذلك المكان أو خذ الطعام من تحت ذلك الطبق تجد فيه طعاماً من ربك، فيذهب إليه ويجده، فذات يوم غفلوا عنه، فجاء الطفل ولم يعدوا له طعاماً، وكان قد اعتاد الدعاء، فاستقبل القبلة وقال: يا رب! هيئ لي طعاماً آكله في هذا الوقت، فذهب فكشف الطبق وإذا فيه خبز من أحسن الخبز، فأكله حتى شبع، فجاء أهله وقد أسفوا على أنهم لم يجعلوا له طعاماً، فقالوا: من أتاك بالطعام؟! قال: دعوت ربي فجاءني بطعام كما كنت أدعوه، فهذه كرامة وآية من آيات الله.
ولا شك أن أمثال ذلك كثير، يجريه الله تعالى على أيدي الصالحين من عباده.
الفرق بين الكرامات والحيل الشيطانية
ومن ذلك الأعمال التي تسمعونها عن السحرة، وأنهم يفرقون بين المجتمعين، ويجمعون بين المتعاديين، وأنهم يوقعون الوحشة والبغضاء، وأنهم ربما قلبوا هذا حيواناً، وهذا إنساناً، وما أشبه ذلك؛ فهذه أحوال شيطانية، ولا نقول: إنها كرامات، ولا أنها خوارق عادات، ولكنها من وحي الشيطان أو من عمله، فإن الشيطان يتلبس بتلك الأرواح، فيقلب الروح ويغيّر هيئتها إلى حيوان أو إلى جماد، أو إلى ما أشبه ذلك، فتكون هذه المخارق تجري على أيدي أعداء الله الذين هم عبدة الشياطين.
إذاً: فرق بين الأحوال الشيطانية التي تجري على أيدي أولياء الشيطان، وبين الكرامات وخوارق العادات التي تجري على أيدي أولياء الرحمن، والفرق بينهما: أن هذه خوارق وكرامات يجريها الله على يدي هذا العبد الذي هو من عباد الله الصالحين، والذي ظاهره من أحسن الظواهر: عمله عمل حسن، ودعاؤه مستجاب، وأكله حلال طيب، ورزقه وكسبه من أحسن الكسب وأبعده عن الخبيث، مقيم لعباداته، محافظ على صلواته وزكواته، مبتعد عن المشتبهات وعن المحرمات، متمسك بالشريعة، مؤمن بالله إيماناً قوياً ظاهراً وباطناً، مطبق لشريعة الله، تالٍ لكتابه، متبع للسنة، بخلاف أولياء الشيطان، فإنهم وإن تظاهر بعضهم بالإيمان والإسلام، ولكن باطنهم يعرفه المتبصرون: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]، فالمتبصر يعلم خبث طواياهم، ويعلم خبث أفعالهم.
وإلى الآن نجد في هذه البلاد كثرة السحرة الذين يعملون هذه الشعوذة وهذا السحر، بحيث إنهم يزوِّرون، ويقلبون أمام الأعين الحقائق حتى يخيل إلى من ينظر إليهم أن هذا شيء وهو ليس بشيء، أو ما أشبه ذلك، وهذا فعلهم قديماً، ولكنهم كثروا في هذه البلاد في هذه الأزمنة بسبب توافد الأعداء الكفرة أو نحوهم، فشاع هذا السحر وكثر، وهو في الحقيقة عمل شيطاني، ويشتكي الكثير من الناس مما يجدون في صدورهم من الوحشة من أنفسهم وأهليهم، وكذلك يشتكون من تسلط الجن عليهم، فيضربون الأبواب عليهم، ويحرقون شيئاً من الأمتعة وهم لا يرون من يحرقها، ورفع الأصوات، وضرب الأبواب والنوافذ ونحوها، ولا يدرون من يفعل ذلك، وما هو إلا الجن أو الشياطين الذين سلطهم أولئك السحرة عليهم، وكذلك تلبس الجن بأناس من الصالحين بواسطة ذلك الكاهن أو ذلك الساحر الذي سخر بسطوته عدداً من الجن، بحيث إنه ينفذ هذا لفلان وهذا لفلان، فهؤلاء أولياء الشيطان، وتشاهدون أو تسمعون أن هناك عباداً لله صالحون مصلحون، نياتهم حسنة، وأعمالهم صالحة، حفظة لكتاب الله، عاملون بشريعة الله، رزقهم الله قوة الإيمان وصفاء القلوب، وكان من عملهم أن كشف الله لهم عن هؤلاء السحرة وأعمالهم، فصاروا يعرفون أن هذا الشخص ساحر، وهذا كاهن، وهذا قد عمل كذا وكذا، ويعالجون المسحورين والمصابين بهذه الأمراض الشيطانية ونحوها بالقراءة وما أشبهها.
ذكر شيخ توفي قريباً رحمه الله أن أخاً له أو عماً له كان من حفظة القرآن، ومن العاملين به، ومن المطبقين للشريعة، ومن الذين نبت لحمهم على طعام طيب، ولم يتعاطوا شيئاً من المشتبهات؛ كان إذا قرأ على المريض مرة أو مرتين شفي بإذن الله، وكان إذا أتي بكأس ليقرأ فيه نفث فيه نفثتين أو ثلاث نفثات؛ امتلأ ذلك الكأس ولو لم يكن فيه إلا قليل من الماء! ثم إذا شربه ذلك المريض شفي بإذن الله، وهذا من آثار الإخلاص وقوة الإيمان، وذُكر لنا أمثال هذا كثيرون، وهؤلاء نقول: إنهم من أولياء الله الصالحين، الذين نحسبهم -والله حسيبهم- عملوا بالشريعة، فأجرى الله على أيديهم هذا الشفاء، وهذا الأثر الطيب، وبضدهم الكهنة والسحرة الذين تجري على أيديهم تلك الشعوذة وتلك الأحوال الشيطانية، فهولاء أولياء الشيطان، وأولئك أولياء الرحمن.
الفرق بين الكرامة والمعجزة
[ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم.
فالمعجزة في اللغة: تعم كل خارق للعادة، وكذلك الكرامة في عرف أئمة أهل العلم المتقنين، ولكن كثيراً من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعلون المعجزة للنبي، والكرامة للولي، وجماعها: الأمر الخارق للعادة.
فصفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50]، وكذلك قال نوح عليه الصلاة والسلام، فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله إلى الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، وكلاهما تبرءا من ذلك؛ وهذا لأنهم يطالبونهم تارة بعلم الغيب كقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [الأعراف:188]، وتارة بالتأثير كقوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90] ، وتارة يعيبون عليهم الحاجة البشرية كقوله تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7]، فأمر الرسول أن يخبرهم بأنه لا يملك ذلك، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله، فيعلم ما علمه الله إياه، ويستغني عما أغناه عنه، ويقدر على ما أقدره عليه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة أغلب الناس، فجميع المعجزات والكرامات ما تخرج عن هذه الأنواع.
ثم الخارق إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها ديناً وشرعاً، إما واجب أو مستحب، وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكراً، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه كان سبباً للعذاب أو البغض، كالذي أوتي الآيات فانسلخ منها بلعام بن باعورا لاجتهاد أو تقليد، أو نقص عقل أو علم، أو غلبة حال، أو عجز أو ضرورة، فالخارق ثلاثة أنواع: محمود في الدين، ومذموم، ومباح؛ فإن كان المباح الذي فيه منفعة كان نعمة، وإلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها.
قال أبو علي الجوزجاني : كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة.
قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا أصل كبير في الباب، فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا بالسلف الصالحين المتقدمين، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله، حيث لم يحصل له خارق، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقيناً؛ فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة، ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحاً، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً، فالأحوال يكون تأثيرها محبوباً لله تعالى تارة، ومكروهاً لله أخرى، وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن، وهؤلاء يشهدون بواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إنما الكرامة لزوم الاستقامة، وأن الله تعالى لم يكرم عبداً بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وأما ما يبتلي الله به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء، فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه، بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه، وشقي بها قوم إذا عصوه، كما قال تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر:15-17]].
سمعنا أن الكرامة هي أمر خارق للعادة، مستغرب عجيب صدوره، وأنه إذا جرى على أيدي الأنبياء سمي معجزة، وقد ذكر العلماء معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم:
منها: أن الجذع حنّ له لما ترك الخطبة عليه، وهو جماد.
ومنها: أنه الحصيات سبحن بيده وهن جماد.
ومنها: أن حجراً كان يسلم عليه إذا مر به، وهو حجر يعرفه.
ومنها: أن الماء القليل يزيد إذا غمس فيه يده حتى يشرب منه الخلق الكثير، ويملئوا منه قربهم، ويتوضئوا منه.
ومنها: تكثير الطعام خبزاً أو لحماً، كما ورد ذلك في أدلة كثيرة.
فهذه معجزات، لا يقدر البشر على مثلها، ويعلمون أن الله أجراها على يديه، ليعلم أنه رسول من الله صادق.
من كرامات الصحابة
منها: أن عمر كان يخطب، فبينما هو يخطب جرى على لسانه: يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! وكان سارية أميراً لجيش يقاتل في بلاد الشام، وكان في ذلك الوقت قد حمي القتال، وسمع الصوت من بعيد ولا يدري أحد ما مصدره، فقال لأصحابه: لوذوا بالجبل، واجعلوه خلف ظهوركم حتى تغلبوا عدوكم، فانتصروا بإذن الله.
وذكروا: أن رجلاً جاء إليه، فقال: ما اسمك؟ قال: جمرة ، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب ، فقال: من أي قبيلة؟ فقال: من بني ضرام من الحرقة، فقال: ما أظن أهلك إلا قد احترقوا، فوجد الأمر كذلك، فهو سمع أن اسمه يدور حول هذه الأمور: حرارة وشهب وجمر.. ونحو ذلك.
ولما قتل عثمان رضي الله عنه كان أول قطرة منها وقعت على المصحف على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة:137]، فقال الصحابة: لا بد أن ينتقم الله من هؤلاء، وأن ينتصر الذين يحمون له، واستنبط ابن عباس من قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33] أن معاوية ومن معه سينتصرون؛ لأنهم يقاتلون لأجل قتل مظلوم وهو عثمان ، فصار ذلك سبباً لانتصارهم، وأمروا ألا يسرفوا في القتل.
ومن الكرامات ما جرى على يدي بعض الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فـأسيد بن حضير وعباد بن بشر صحابيان من الأنصار، خرجا مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة شديدة الظلمة، فأضاء لهما طرف سوط أحدهما نوراً يشع أمامهما في ذلك الظلام وفي تلك الطرق الضيقة، حتى إذا افترقا وذهب كل منهما إلى داره، افترق النور بينهما مع هذا شعبة، ومع هذا شعبة، إلى أن دخل كل منهما على أهل بيته، وذلك كرامة لهما.
وكان أسيد بن حضير مرة يقرأ في سورة الكهف، فلم يشعر إلا وسرج أمثال المصابيح قد نزلت عليه، وكان فرسه مربوطاً، فلما أحس بتلك الأنوار التي نزلت من السماء حاس الفرس وتحرك، فأسرع بالصلاة، وكان ابنه قريباً من الفرس فخشي عليه، فلما انصرف من الصلاة ورفع رأسه وإذا تلك المصابيح قد ارتفعت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ يا
الكرامات لا تدل على الأفضلية
نقول: ليست الكرامات دليلاً على الأفضلية، وإنما هي إما لحاجة الذي جرت على يديه، وإما لمناسبة، وإما لقطع حجة خصم أو نحو ذلك؛ ولأجل ذلك لا نقول: إن الصحابة مفضولون حيث إن الكرامات فيهم قليلة، وهي في التابعين كثيرة.
وعلى كل حال فالكرامات هي: الأمور التي تجري على أيدي بعض الأولياء من عباد الله الصالحين المؤمنين خارقة للعادة كالأمثلة التي ذكرنا قبل قليل، وهذه الكرامات لا شك أنها دليل على صلاحهم وحسن استقامتهم وديانتهم، ومع ذلك يستدل بها كثير من العلماء -كـابن كثير رحمه الله في التاريخ- على أنها معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن هؤلاء ما حصلت لهم هذه الكرامات إلا باتباعهم لهذا النبي الكريم، فلما كانوا متبعين له سائرين على نهجه وطريقته حصلت لهم هذه الكرامات.
ذكروا عن أبي مسلم الخولاني أنه غضب عليه الأسود العنسي ، فأوقدوا له ناراً وألقوه فيها، وصارت عليه برداً وسلاماً، وخرج ولم يحترق، فلما وفد إلى عمر رضي الله عنه قال: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله، وأمر الصحابة أن يسلموا عليه كلهم، وأن يهنئوه. يعني: الصحابة الذين كانوا عند عمر .
وكان العلاء بن الحضرمي قائداً لجيش في ساحل هذا الخليج الفارسي أو العربي، فحال بينهم وبين عدوهم البحر، فأرادوا أن يتبعوهم فلم يجدوا بُدَّاً من أن يخوضوا بخيولهم، فنزلوا في البحر وهم على خيولهم، ولم يفقدوا متاعاً أبداً، ولم يفقدوا شيئاً، وجعلت الخيل تسبح على البحر كما تسبح السفن، فلما رآهم الفرس قالوا: ما هؤلاء إلى شياطين! فهربوا، وأتى المسلمون إلى مكان العدو وانتصروا عليهم، ولم يفقد أحد منهم شيئاً من متاعه، وعدوا ذلك من كرامات ابن الحضرمي رحمه الله ورضي عنه.
وهذه الكرامات من الله تعالى، وهو الموصوف بالعلم، يعلم حال عبده هذا، ويعلم حاجته، ويعلم إيمانه وطمأنينة قلبه، وهي من قدرة الله، فالله تعالى على كل شيء قدير، فهو الذي قدر هذا الأمر لهذا العبد، وأقدره على ذلك، وأجرى على يديه هذه الكرامة، وكذلك الله تعالى موصوف بالغنى، فهو الغني عما سواه، وهذه الكرامات دليل على أن الرب سبحانه هو الغني المغني الذي يعطي من يشاء ما يشاء بدون حاجة إلى أحد، فهذه الصفات التي هي العلم، والقدرة، والغنى، المتصف بها هو الله وحده، والكرامات لا تحصل إلا من الله الذي هو عليم بهذا العبد، وقادر على أن يعطيه، وغني لا تنقص خزائنه، ولا تحصل لأي بشر كما سمعنا في الآية التي استشهد بها الشارح، وهي قول الله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ [الأنعام:50] يعني: الخزائن عند الله تعالى وهو الغني المغني، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50] علم الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50] يعني: لا أقول لكم إني من الملائكة، بل إنما أنا بشر ضعيف لا قدرة لي إلا على ما أقدرني الله تعالى عليه. وهذه الأمور حكاها الله تعالى عن نوح، وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم.
فكلما كان العبد أتقى لله كلما كان أقوم سبيلاً وأعرف بالله سبحانه، فإن ربه تعالى يجري على يديه عند حاجته ما يكون مقوياً لإيمانه.
وعرفنا أنه ليس كل من جرت على يديه هذه الخوارق أو هذه الكرامات يتفوق على من لم تجر عليه، فلا نقول مثلاً: إن ذلك العابد الذي يقال له: سحنون ، ويحكون عنه كرامات، أشرف من الإمام الشافعي الذي لم تجر على يديه هذه الكرامات ولا بعضها، وكذلك بهلول ورابعة العدوية ، فيحكون في تراجمهم أشياء كثيرة من الكرامات ونحوها، ولا توجد تلك الكرامات في تراجم الأئمة: مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وشعبة بن الحجاج والليث بن سعد والإمام أحمد والإمام الشافعي وإسحاق بن راهوية ويحيى بن معين وعلي بن المديني ويحيى بن سعيد القطان وأشباههم من العلماء، لماذا لم تجر على أيديهم هذه الكرامات وقد جرت على أيدي أولئك العباد؟
نقول: لأن هؤلاء اكتفوا بما فتح الله عليهم من العلوم التي فيها العلم بالله وبشرع الله وبأحكامه وبأمره وبنهيه، فكانت مقوية لإيمانهم، فلا يحتاجون إلى أن يجري على يديهم كرامة، بخلاف سحنون وبهلول ورابعة وبشر بن الحارث والجنيد ومعروف وأشباههم فإن هؤلاء قد يكون في إيمانهم شيء من الرقة والضعف، فيجري الله على أيديهم أشياء من الكرامات؛ حتى يقوى إيمانهم، وحتى يثبتوا ويرسخوا، هكذا قال بعض العلماء، وإلا فلا مساواة بين العلماء الذين لهم مكانتهم في العلم ونحوه وبين العباد.
طلب الكرامات
فنقول: إن الأولياء والصالحين من عباد الله وعلماء الشريعة وعلماء الأئمة لم يكونوا يهتمون بأمور الكرامات، بل قد تجري على أيديهم بدون أن يطلبوها، وهم لا يطلبونها، ولا يحزنون لعدمها، فلا يحزن لعدم جريان كرامة على يديه إلا ضعفاء الإيمان ونحوهم.
وأما استجابة الدعاء فلا شك أن المسلم إذا دعا الله تعالى وأخلص في دعائه، ثم لم ير لدعائه أثراً فإنه يحزنه، ومع ذلك نقول له: لا تنقطع عن الدعاء، بل أكثر من دعاء الله تعالى، فإن دعوتك ولو لم تجب، ولو لم تر أثرها، فهذا لا يدل على أنك مردود، ولا تدل على أنك لست من أولياء الله، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم إذا دعا الله تعالى فإن ربه يعطيه بدعوته أحد ثلاثة أشياء: إما أن يعجل له دعوته وما طلب، وإما أن يدفع عنه من الشر مثلها، وإما أن يدخرها له في الآخرة، فلا يخيب أحد إذا دعا الله تعالى، فليس شرطاً أن تجاب دعوتك كلما دعوت الله سبحانه وتعالى، وليس كل من أجيبت دعوته يحكم عليه بأنه مستجاب الدعوة أو بأنه ولي من أولياء الله.
وعلى كل حال نقول: إن هذه الكرامات وخوارق العادات التي يجريها الله تعالى على أيدي بعض عباده هي إما ابتلاء وامتحان، وإما لحاجة ألمت بهم، وإما لفضيلة وميزة حصلوا عليها، ولا تكون دائماً، بل قد يحتاج أحدهم إلى كرامة أو إلى إجابة دعوة فلا تحصل له؛ لبعض الموانع ولبعض الأسباب كغيرهم من بني الإنسان.
أقسام الكرامات
قال الشارح رحمه الله: [ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام: قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة، وقسم يتعرضون بها لعذاب الله، وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات، كما تقدم.
وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله. وكلمات الله نوعان: كونية ودينية:
فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر)، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، والكون كله داخل تحت هذه الكلمات، وسائر الخوارق.
والنوع الثاني: الكلمات الدينية، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي أمره ونهيه وخبره, وحظ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العباد عموماً وخصوصاً العلم بالكونيات والتأثر فيها، أي بموجبها. فالأولى تدبيرية كونية، والثانية شرعية دينية، فكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية.
وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، إما في نفسه كمشيه على الماء، وطيرانه في الهواء، وجلوسه في النار، وإما في غيره، بإصحاح وإهلاك، وإغناء وإفقار.
وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، إما في نفسه بطاعة الله ورسوله والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطناً وظاهراً، وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية.
فإذا تقرر ذلك، فاعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيئاً من الكونيات: لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له، فإنه إن اقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، فإن الخارق قد يكون مع الدين، وقد يكون مع عدمه، أو فساده، أو نقصه.
فالخوارق النافعة تابعة للدين، خادمة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال النافع بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فمن جعلها هي المقصودة، وجعل الدين تابعاً لها ووسيلة إليها، لا لأجل الدين في الأصل: فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب، أو رجاء الجنة، فإن ذلك مأمور به، وهو على سبيل نجاة، وشريعة صحيحة.
والعجب أن كثيراً ممن يزعم أن همه قد ارتفع عن أن يكون خوفاً من النار أو طلباً للجنة يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا!! ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلابد أن يوجب خرق العادة، إذا احتاج إلى ذلك صاحبه. قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. وقال تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]. وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68]. وقال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:62-64].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]) رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقال تعالى فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه). فظهر أن الاستقامة حظ الرب، وطلب الكرامة حظ النفس، وبالله التوفيق.
وقول المعتزلة في إنكار الكرامة: ظاهر البطلان، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات. وقولهم: لو صحت لاشتبهت بالمعجزة، فيؤدي إلى التباس النبي بالولي، وذلك لا يجوز، وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدعي النبوة، وهذا لا يقع، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً، بل كان متنبئاً كاذباً، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبئ، وعند قول الشيخ: وأن محمداً عبده المجتبى ونبيه المصطفى.
ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا: أن الفراسة ثلاثة أنواع:
إيمانية: وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة، ومنها اشتقاقها، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة. قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب، وهي من مقامات الإيمان. انتهى.
وفراسة رياضية، وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان، ولا على ولاية، ولا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء، ونحوهم.
وفراسة خَلقية، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم، واستدلوا بالخَلق على الخُلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره على كبره، وسعة الصدر على سعة الخلق، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك].
وأهل السنة والجماعة يصدقون بكرامات الأولياء، وهي تعتبر كرامة لمن جرت على يديه، ولا تعتبر نقصاً فيمن لم تحصل له تلك الكرامة، وهناك من أنكر تلك الكرامات كالمعتزلة، فادعوا أنها لو حصلت لحصل الاشتباه بينها وبين معجزات الأنبياء، وبين العلماء أن الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: معجزات، وهي تختص بالأنبياء، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بمثلها، كمعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، ومعجزات موسى وعيسى وغيرهم، وهي التي ذكرت في السنة، وحكيت عن الأنبياء في القرآن.
القسم الثاني: كرامات أكرم الله بها بعض أوليائه الصالحين، ويعتبرها العلماء دالة على صدق نبوة الأنبياء؛ وذلك لأنها ما حصلت لهم إلا باتباعهم لأنبيائهم، فأتباع نبينا صلى الله عليه وسلم حصلت لهم كرامات؛ بسبب إيمانهم وتصديقهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وتمسكهم بشريعته، فكانت تلك الكرامات منة من الله عليهم، وتقوية لإيمان بعضهم، وقطعاً لحجة من خالفهم أو طعن في معتقدهم، وكذلك أجراها الله على أيديهم لإظهار الحق الذي هم عليه، وبيان صحة ما يدعون إليه، وكذلك أجراها الله للدلالة على أنهم على دين صحيح، وأن نبوته صلى الله عليه وسلم نبوة حق ليس فيها فرية ولا توقف، وقد ذكر العلماء جملة كثيرة من تلك الكرامات، وأفردت بالتآليف، وذكروا أن الله تعالى أجراها على أيديهم كما أجرى المعجزات على أيدي الأنبياء؛ للدلالة على أن كل النبوات من عند الله تعالى، فكما أن الله جعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً فكذلك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلم عالم هو أبو إدريس الخولاني ألقي في النار ولم تضره، بل كانت عليه برداً وسلاماً، فكان في هذه الأمة من جرى له مثل ما جرى للخليل عليه السلام.
وكذلك جعل الله البحر لموسى طريقاً يبساً -كما أخبر بذلك- فسلكه هو وقومه ولم تبتل ثيابهم ولا أقدامهم، وجرى مثل ذلك للعلاء بن الحضرمي ، حيث خاض البحر هو وجنده المقاتلون، ولم يفقدوا من متاعهم شيئاً، وكأن البحر يبس، فكانوا يسبحون فوقه دون أن يغرقوا فيه مع عمقه، وهذه كرامة للعلاء رحمه الله، وأمثال ذلك كثير.
القسم الثالث: الأحوال الشيطانية التي تجري على أيدي السحرة والمشعوذين، وهذه الأحوال الشيطانية هي ما يتمكن منه السحرة من الصرف والعطف وتغيير الحقائق وقلب الأشياء، وكذلك ما يفعلونه من قطع المسافات، ومن حمل الأثقال، والطيران في الهواء، ونحو ذلك في زمن قصير، وهذه الأحوال تسمى أحوالاً شيطانية، وهي تجري بسبب خدمتهم للشياطين، فهم يتقربون إلى الشياطين وإلى مردة الجن بما يحبون، فتجري على أيديهم المخارق، والشعوذة، والتغيرات النفسية، ولكنها تبطل بإذن الله إذا عولجت بالآيات القرآنية والأدعية النبوية.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2715 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2630 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2591 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2564 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2472 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2408 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2387 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2373 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2336 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2300 استماع |