خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [86]
الحلقة مفرغة
للعلماء في الخلفاء الراشدين مسألتان:
المسألة الأولى: مسألة ترتيبهم في الخلافة، فإجماع الأمة الإسلامية خلافاً للرافضة على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر ، ثم الخليفة بعد أبي بكر هو عمر ، ثم الخليفة بعد عمر هو عثمان، ثم الخليفة بعد عثمان هو علي، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون، ومن طعن في خلافة أحد منهم فهو أضل من حمار أهله.
اتفق أهل السنة على أنهم الخلفاء على هذا الترتيب، إلا أن الرافضة زعموا أن أبا بكر مغتصب للخلافة وكذلك عمر وعثمان ، وأنهم ليسوا خلفاء، ولا يستحقون الولاية ولا الخلافة، بل زادوا أن كفروهم وشتموهم، وأخرجوهم من الإسلام، وجعلوهم منافقين، وطبقوا عليهم الآيات التي في المنافقين، ولكن أهل السنة -والحمد لله- على عقيدة موحدة في الاعتراف بخلافة الخلفاء الراشدين.
المسألة الثانية: مسألة ترتيبهم في الفضل، وقد تواتر عن علي رضي الله عنه -الذي تغلو فيه الرافضة- أنه قال: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ، ثم بعد أبي بكر عمر ولم يختلف الصحابة في تفضيل أبي بكر ثم عمر، ولم يختلف أهل السنة في ذلك، فيقولون: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ، ويروون ذلك مسنداً، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، أي: يعترف بهذا الترتيب، وقد رجح أكثر أهل السنة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ولكن وقع خلاف في الترجيح بين علي وعثمان ، فقوم قدموا عثمان ، وهو القول الصحيح، وقوم قدموا علياً ، وهذه المسألة وهي: هل يقدم علي على عثمان أو يقدم علي على عثمان -يعني: في الفضل- مسألة اجتهادية، لا يضلل من قدم علياً ، ولا يضلل من قدم عثمان ، وأما تقديم الشيخين فلا خلاف في تقديمهما، ويضلل من قدم عليهما أحداً من الصحابة أو من غير الصحابة.
وقد عرفنا خلافة أبي بكر وخلافة عمر ، وأنها منصوصة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي
وكان من آثارها أن انتشر العلم؛ وذلك لأنه رضي الله عنه كان من أوعية العلم وحملته، وأرسل الدعاة إلى البلاد التي أسست في زمانه، والتي فتحت، وأرسل المعلمين، وأخذ يراسلهم ويكاتبهم، وعين القضاة والمرشدين؛ وكل ذلك لأجل أن يظهر دين الله، وأن ينتصر المسلمون على أعدائهم، وصدق الله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:
[ثم لـعثمان رضي الله عنه:
أي: ولنثبت الخلافة بعد عمر لـعثمان رضي الله عنهما، وقد ساق البخاري رحمه الله قصة قتل عمر رضي الله عنه، وأمر الشورى والمبايعة لـعثمان في صحيحه، فأحببت أن أسردها كما رواها بسنده: عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة، ووقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف فقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: لا، فقال عمر : لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال : فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً وشمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأما ما يلي عمر ، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر ، وهم يقولون: سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة ، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال : قاتله الله! لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثرا العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، قال: إن شئت فعلت؟ -أي: إن شئت قتلنا؟- قال : كذبت بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم؟ فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جرحه، ثم أتى بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر -يا أمير المؤمنين- ببشرى الله لك بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال: وددت أن ذلك كفافاً لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك.
يا عبد الله بن عمر انظر ما عليّ من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفَّى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدِّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه.
فسلم واستأذن ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال : ارفعوني، فأسنده رجل إليه، قال: ما لديك؟ قال: الذي تحب -يا أمير المؤمنين- أذنت، قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب. فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين.
وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلاً، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين! استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن ، قال: يشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمارة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم من أمِّر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفي عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراًً، فإنهم ردء للإسلام، وجباة الأموال، وغيظ العدو، وألا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل مِن ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، قال الزبير : قد جعلت أمري إلى علي ، فقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف ، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم إلى نفسه؟ فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إليّ، والله علي ألا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق، قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه، فبايع له علي ، وولج أهل الدار فبايعوه.
وعن حميد بن عبد الرحمن أن المسور بن مخرمة أخبره أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا، قال لهم عبد الرحمن : لست بالذي أنافسكم عن هذه الإمرة، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم؟ فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن ، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم، مال الناس على عبد الرحمن ، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط، ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت تلك الليلة التي أصبحنا فيها فبايعنا عثمان ، قال المسور بن مخرمة : طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً؟ فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكبير نوم، انطلق فادع لي الزبير وسعداً ، فدعوتهما له فشاورهما، ثم دعاني فقال: ادع لي علياً ، فدعوته فناجاه حتى أبهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان ، فدعوته، فناجاه حتى فرّق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلى الناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ، ثم قال: أما بعد: يا علي ! إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بـعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال لـعثمان : أبايعك على سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن ، وبايعه الناس، والمهاجرون، والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون.
ومن فضائل عثمان رضي الله عنه الخاصة: كونه ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن
وفي الصحيحين: (لما كان يوم بيعة الرضوان، وأن
هذا هو الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وقد اتفق المسلمون من الصحابة ومن معهم على تقديمه بعد قتل عمر رضي الله عنه، وسمعنا قصة قتل عمر رضي الله عنه، وتولية عثمان .
في آخر حياة عمر رضي الله عنه كان يتفقد أحوال أهل البلاد التي أسست في زمانه في العراق وفي الشام وفي غيرها، ولما فتحت تلك البلاد، وكان فيها أرض زراعية؛ رأى من المصلحة أن الأرض الزراعية تبقى موقوفة ولا تقسم بين المقاتلين، ولو كانوا هم الذين غنموها، بل تبقى وقفاً مورداً لبيت المال؛ وذلك لأنه استشعر أن المد سيتوقف، فإن مد بيت المال كان من خمس الغنائم ومن الفيء، ولكن قد يتوقف هذا الفيء وهذه الغنائم في وقت من الأوقات، فقد يتوقف الجهاد فيبقى بيت المال ليس له ما يمد به، فرأى أن تلك الأرض التي فتحت عنوة تكون وقفاً، فجعل الأراضي الزراعية التي في العراق مع كثرتها، والتي في الشام، والتي في مصر؛ كلها وقفاً، ليس لها مالك معين، ثم أمر بأن تؤجر على من يزرعها، ويؤدي أجرتها إلى بيت المال، فأجروها بقدر ما تطيقه، وسأل عن هذا بعض أمرائه كـحذيفة رضي الله عنه -وكان هو ممن قدم من تلك البلاد- فقال: (لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق؟) أي: أجرتماها بأجرة زائدة عن قدر المستطاع، وعما تطيقه، فذكرا أنهما حملاها أمراً هي له مطيقة، يعني: أنهما أجراها بأجرة مناسبة ليس فيها جور، وكان رضي الله عنه يحب ألا يكون في مملكته ولا في الأمة الإسلامية من يناله ظلم أو ضيم، حتى ولو كان من الكفار؛ لأن أغلب الذين استأجروا تلك الأراضي للزراعة والحراثة غير مسلمين، ولكنهم عمال عارفون باستغلالها، فخشي أنهم ظلموا وحملوا ما لا يطيقون، ثم التزم بأنه إذا مد الله في حياته أن يفرق مالاً على المسلمين والمستضعفين في أقطار الأرض، وألا يترك أحداً ولو أرملة أو فقيراً يحتاج إلى أحد بعده، أي: يجعل لهم مدداً ويجعل لهم مالاً، وقد كان قد جعل رزقاً للصحابة لما فتحت عليه البلاد، وكثر وارد المال، فدون ديواناً، وجعل فيه إعاشة سنويةً لكل المسلمين من المهاجرين والأنصار ونحوهم من أهل المدينة والمجاهدين الأولين، فأحب أيضاً أن يصل ذلك إلى أهل البلاد الإسلامية: في الشام، ومصر، والعراق، واليمن، وخراسان، وما أشبه ذلك، ولكن اخترمته المنية قبل ذلك، فبعد أن قال هذه الكلمة التي التزم فيها، ما أتى عليه إلا أربع ليالٍ حتى قتل.
الذي قتل عمر معروف مشهور، وهو غلام المغيرة ، ويقال له: أبو لؤلؤة ، وهو مجوسي غير مسلم، وكان صانعاً، يعني: كان له صناعة، يعمل الأرحاء، ويأخذ عليها أجراً معلوماً، وقد اتفق مع المغيرة على أن يؤدي إلى المغيرة كل يوم دراهم معدودة عن عمله، حيث قال له المغيرة : اعمل للناس بالأجرة، وأعطني كل يومٍ كذا وكذا درهماً، فكأنه تثاقل تلك الضريبة التي جعلها عليه المغيرة، فجاء إلى عمر ، وقال له: أريد أن تشفع لي عند المغيرة حتى يخفف عني، ولكنه قال: أنت رجل صنّاع، وبيدك صنعة تعمل فيها، وهذه الأجرة التي ضربت عليك خفيفة، وليست ثقيلة، فغضب على عمر وقال: وسع عدله الأرض كلها إلا أنا، وفي بعض الروايات أنه قال له: أريد أن تصنع لنا رحى، فقال: لأصنعن لك رحىً يتحدث بها أهل المشرق والمغرب، ففطن عمر أنه أراد أن يقتله، ولكنه لم يأخذ حذره، وفي بعض الروايات أنه قال: يتوعدني العلج، أو يريد قتلي، فلما عزم على قتله صنع سكيناً ذات رأسين محددين، وسقاها سماً، ثم لما قام عمر رضي الله عنه لصلاة الصبح، وكان يسوّي الصفوف قبل أن يكبر، وكان إذا كبر أطال القراءة في الركعة الأولى، بحيث إنه تارة يقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف أو سورة النحل، وهي أكثر من نصف الجزء، وقصده بذلك أن يجتمع الناس، وأن يدركوا الركعة الأولى، ولكنه ساعة ما كبر، ولم يبتدئ بعد بالقراءة، إذا هو يلتفت إلى من يليه ويقول: أكلني الكلب أو قتلني الكلب، ويعني بذلك هذا العلج الذي قتله، وقد طعنه ثلاثة طعنات في بطنه قطع بها أمعاءه، وبعد ذلك قام العلج في الناس يطعن فيهم، فطعن ثلاثة عشر من المصلين، مات منهم سبعة، ورآه بعض المصلين وهو يجول فيهم، فألقى عليه برنساً وضمه به، ووضعه على الأرض، ووطئ على ذلك البرنس، فعلم العجل أنه مقتول فقتل نفسه، ولما طعن عمر رضي الله عنه اجتذب عبد الرحمن فصلى بهم صلاة خفيفة، وكان الناس الذين حوله قد فطنوا أنه طعن لما سمعوا قوله: قتلني أو أكلني الكلب، وأما أهل الصفوف البعيدة وأطراف الصفوف فإنهم لم يشعروا بما حصل، لكنهم لما فقدوا صوت عمر ، وسمعوا صوت عبد الرحمن ، أخذوا يسبحون استنكاراً لما حصل، وبعدما صلوا صلاة خفيفة، سأل عمر رضي الله عنه ابن عباس : انظر من الذي قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء وقال: غلام المغيرة ، فقال: الصنع؟ -أي: الذي بيده صنعة-، قال: نعم. يعني: أنه مشهور بهذه الصنعة، ثم قال يخاطب ابن عباس : قد كنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج. والعلوج هم النصارى والمجوس، يعني: الكفرة الذين هم مماليك، وكان العباس له مماليك كثيرون، وغالبهم ليسوا بمسلمين، ولكنهم أسلموا بعدما ملكوا، ولكن ابن عباس يقول: إن شئت فعلنا؟ -يعني: قتلناهم- ولكن عمر يقول: بعدما دخلوا بلادكم، وتكلموا بكلامكم، وصلوا إلى قبلتكم، وحجوا بيتكم. يعني: قد فعلوا كما تفعلون، وكان يكره أن يأتي هؤلاء المماليك إلى هذه البلاد وهم على عاداتهم السيئة.
جعل عمر الأمر شورى من بعده
ولما عرف عمر رضي الله عنه أنه ميت أخذ يوصي الخليفة من بعده بهذه الوصايا: يوصيه بالمهاجرين، ويوصيه بالأنصار، ويوصيه بأهل القرى والمدن، ويوصيه بالأعراب، ويذكر ما لكلٍ منهم من المآثر، وما لكل منهم من الجهاد، ويوصيه بالسير الحسن، وعادة الناصحين المخلصين الوصية لمن بعدهم بالخير، وصية دينية، يقصد منها السير على نهج قويم، حتى تأمن البلاد في عهده، وحتى لا يخاف من جوره، وحتى لا يكون عليه اختلاف ولا خروج، ولا من ينكر عليه، وقد عمل الخليفة بعده بهذه الوصايا.
وسمعنا: أنه جاءه ذلك الغلام الذي كان مسبلاً إزاره فشهد له بالخير، ولكن عمر لما رأى إزاره يصل إلى الأرض نصحه، ولو كان في تلك الحال، ولو كان في مرض الموت، فنصحه بأن يرفع إزاره، وقال له: إنه أتقى للرب، وأنقى للثوب، فهكذا كانت عادته رضي الله عنه يحب للمسلمين الخير، ولا يدخر عنهم وسعاً.
وسمعنا كذلك قصة استئذانه أن يدفن مع صاحبيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، فاستأذن من أمنا عائشة ؛ لأن البيت مسكنها، وقد كانت تحب أن تكون في ذلك المكان مع زوجها وأبيها، ولكنها آثرت عمر رضي الله عنه لما جاءها الخبر بأنه قد طعن، فبقيت تبكي في بيتها، ولما دخلوا عليها وهي باكية، وذكروا لها ذلك لبت طلبه، ووافقت على ذلك، فدفن رضي الله عنه مع صاحبيه.
وقد مر بنا قول علي رضي الله عنه لما دفن عمر مع أبي بكر: كنت كثيراً ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جئت أنا و
وسمعنا أن هؤلاء الستة الذين اختارهم عمر رضي الله عنه، وجعل الأمر فيهم، اجتمعوا وجعل كل منهم أمره إلى واحد، فجعل الزبير أمره إلى علي ، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن ، وجعل طلحة أمره إلى عثمان ، فأصبح الأمر إلى ثلاثة: عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ، وكأن عبد الرحمن هو الذي اهتم بهذا الأمر، واشتد عليه أن يمضي وقت ولم يتم للمسلمين اختيار خليفة لهم يقوم بأمرهم، فبقي ثلاث ليالٍ لا يهنأ بالنوم، لا ينام إلا قليلاً؛ من شدة اهتمامه بأمر المسلمين، وكلما جاء أو جلس مع واحد منهم أخذ يناجيه، ويتكلم معه، ويأخذ عليه العهد والميثاق إذا تم له الأمر أن يسير سيرة حسنة، وأن يتبع سيرة الخليفتين قبله، حتى توثق منهما بذلك، فرأى أن الناس يميلون إلى عثمان ، وأن عثمان له تجربة، وله مكانة، وله أهلية، فأمره أن يبسط يده للمبايعة، فبايعه عبد الرحمن وبايعه علي ، وتمت البيعة، ولم ينقل أن علياً توقف، ولا قال: أنا أحق بها منه، أو أنا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، بل وافق على ذلك بما أُخذ عليه من العهد، ولا شك أن ذلك دليل على أنه رضي الله عنه لم يكن مخالفاً لما حصل، بل موافقاً له.
بعد أن انتهوا من الصلاة حمل عمر رضي الله عنه وجرحه يسيل، وكأن الناس لم يصابوا بمصيبة قبل هذه المصيبة؛ وذلك لأنها مصيبة عظيمة، وفاجعة كبيرة، قتل أمير المؤمنين الذي هو المثل الأعلى في العدل ، فلما حملوه قال بعضهم: إنه لا بأس عليه، وإنه سوف يعيش، وآخرون يقولون: نخاف عليه من هذه الطعنات المسمومة، فلما سقوه نبيذاً -والنبيذ هو عصير التمر- خرج من الجرح، ولكنهم لم يتفطنوا له واعتقدوه دماً، فلما سقوه لبناً خرج اللبن من الجرح أبيض، فعلموا حينئذٍ أنه ميت، فقالوا له: استخلف، أي: اختر من يكون بعدك خليفة، فقد نزل بك أمر الله، وعرفوا بأنه ميت، فأشاروا عليه أن يختار للمسلمين خليفة بعده، ولكنه رضي الله عنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر ، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعين خليفة بعينه، ولكنه جعل الأمر شورى في ستة من الصحابة، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لعشرة من الصحابة بالجنة، ومنهم أبو عبيدة ، ولكنه مات في خلافة عمر ، ومنهم سعيد بن زيد ، ولكنه قريب لـعمر ، فهو ابن ابن عمه، فلم يجعله من أهل الشورى لقرابته؛ مخافة المحاباة، وبقي ستة، وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة وسعد ، فهؤلاء هم الستة الذين جعلهم مستشارين، وجعل الخلافة شورى فيهم، وهم الذين يسمون أهل الشورى في ذلك الوقت.
ولما عرف عمر رضي الله عنه أنه ميت أخذ يوصي الخليفة من بعده بهذه الوصايا: يوصيه بالمهاجرين، ويوصيه بالأنصار، ويوصيه بأهل القرى والمدن، ويوصيه بالأعراب، ويذكر ما لكلٍ منهم من المآثر، وما لكل منهم من الجهاد، ويوصيه بالسير الحسن، وعادة الناصحين المخلصين الوصية لمن بعدهم بالخير، وصية دينية، يقصد منها السير على نهج قويم، حتى تأمن البلاد في عهده، وحتى لا يخاف من جوره، وحتى لا يكون عليه اختلاف ولا خروج، ولا من ينكر عليه، وقد عمل الخليفة بعده بهذه الوصايا.
وسمعنا: أنه جاءه ذلك الغلام الذي كان مسبلاً إزاره فشهد له بالخير، ولكن عمر لما رأى إزاره يصل إلى الأرض نصحه، ولو كان في تلك الحال، ولو كان في مرض الموت، فنصحه بأن يرفع إزاره، وقال له: إنه أتقى للرب، وأنقى للثوب، فهكذا كانت عادته رضي الله عنه يحب للمسلمين الخير، ولا يدخر عنهم وسعاً.
وسمعنا كذلك قصة استئذانه أن يدفن مع صاحبيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، فاستأذن من أمنا عائشة ؛ لأن البيت مسكنها، وقد كانت تحب أن تكون في ذلك المكان مع زوجها وأبيها، ولكنها آثرت عمر رضي الله عنه لما جاءها الخبر بأنه قد طعن، فبقيت تبكي في بيتها، ولما دخلوا عليها وهي باكية، وذكروا لها ذلك لبت طلبه، ووافقت على ذلك، فدفن رضي الله عنه مع صاحبيه.
وقد مر بنا قول علي رضي الله عنه لما دفن عمر مع أبي بكر: كنت كثيراً ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جئت أنا و
وسمعنا أن هؤلاء الستة الذين اختارهم عمر رضي الله عنه، وجعل الأمر فيهم، اجتمعوا وجعل كل منهم أمره إلى واحد، فجعل الزبير أمره إلى علي ، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن ، وجعل طلحة أمره إلى عثمان ، فأصبح الأمر إلى ثلاثة: عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ، وكأن عبد الرحمن هو الذي اهتم بهذا الأمر، واشتد عليه أن يمضي وقت ولم يتم للمسلمين اختيار خليفة لهم يقوم بأمرهم، فبقي ثلاث ليالٍ لا يهنأ بالنوم، لا ينام إلا قليلاً؛ من شدة اهتمامه بأمر المسلمين، وكلما جاء أو جلس مع واحد منهم أخذ يناجيه، ويتكلم معه، ويأخذ عليه العهد والميثاق إذا تم له الأمر أن يسير سيرة حسنة، وأن يتبع سيرة الخليفتين قبله، حتى توثق منهما بذلك، فرأى أن الناس يميلون إلى عثمان ، وأن عثمان له تجربة، وله مكانة، وله أهلية، فأمره أن يبسط يده للمبايعة، فبايعه عبد الرحمن وبايعه علي ، وتمت البيعة، ولم ينقل أن علياً توقف، ولا قال: أنا أحق بها منه، أو أنا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، بل وافق على ذلك بما أُخذ عليه من العهد، ولا شك أن ذلك دليل على أنه رضي الله عنه لم يكن مخالفاً لما حصل، بل موافقاً له.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2712 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2629 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2589 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2560 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2471 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2407 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2385 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2372 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2335 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2299 استماع |