خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [80]
الحلقة مفرغة
معلوم أن أشد البدع وأكثرها فشواً وانتشاراً بدعة التعطيل التي هي تعطيل الله عن صفات الكمال؛ وذلك لأن الذين روجوها وأدخلوها كأنهم اكتسبوا الناس بالعقول، وأقنعوا من اتصلوا به أو من دعوه إلى أن أدلتهم العقلية، وأن العقل هو الأصل في النقل، وأنهم ما عرفوا صدق الرسل إلا بالعقل، فلا يمكن أن يصدقوا الرسل فيما يخالف العقل أو فيما لا يقره العقل.
ومعلوم أن المعطلة يقال لهم الجهمية؛ لأن الجهم بن صفوان هو الذي نشر بدعة التعطيل التي أخذها عن الجعد بن درهم ، والجعد هو الذي قتله خالد القسري في يوم عيد الأضحى وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بـالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فقتله، وفي ذلك يقول ابن القيم في النونية:
ولأجل ذا ضحى بـجعد خالد الـ قسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
فكل صاحب سنة شكره على هذه الضحية، فهكذا أسس البدعة الجعد بن درهم ثم تبعه الجهم بن صفوان الذي قتله سلم بن أحوز ، ثم انتشرت هذه البدعة، وصارت عقيدة لطائفة تسموا بالمعتزلة أنكروا صفات الله تعالى، بل أنكروا أسماءه وجعلوها أعلاماً لا تدل على صفات، فقالوا: إن الله عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، رحيم بلا رحمة، وهكذا.. وأنكروا أيضاً صفات الأفعال وصفات الذات، فأنكروا علو الله تعالى على خلقه، وأنكروا ما أثبته لنفسه من صفات، حيث أثبت لنفسه الوجه في قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك [الرحمن:27]، وأثبت لنفسه اليدين في قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان [المائدة:64]، وأثبت لنفسه العين في قوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، فجاء المعطلة ونفوا ذلك كله.
كذلك نفوا الصفات الفعلية، فنفوا أن الله تعالى يرحم أو يحب أو يغضب أو يرضى، ووافقهم على هذا النفي طائفة متأخرة تسموا بالأشاعرة، انتسبوا إلى أبي الحسن الأشعري ، ولكن الأشعري تبرأ منهم ورجع عن طريقتهم، واعتقد معتقد الإمام أحمد ومن كان على طريقته من أهل السنة، لكن هؤلاء الذين تسموا بالأشاعرة اتخذوا طريقة عن الأشعري كان قد رجع عنها.
ومن عقيدتهم أنهم لا يثبتون إلا سبع صفات، وأنهم ينكرون صفات الأفعال، فصفة الغضب يثبتها أهل السنة ويقولون: إن الله يغضب لا كغضب المخلوق، ويرضى لا كرضا المخلوق، ويحب لا كمحبة المخلوق، ويسخط ويكره، كما أخبر عن نفسه في عدد من الآيات، ويبغض من يشاء كما يحب من يشاء، ويرحم من يشاء.
ولا شك أن هذه صفات كمال، ولو كانوا يتوهمون أنها مستحيلة فنحن نقول: نثبت أن الله تعالى يحب من يشاء، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِه [الصف:4]، ونثبت أن الله يرضى، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه [المائدة:119]، ونثبت أنه يغضب، كما قال تعالى وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُم [الفتح:6]، ونثبت أن الله يكره، كما قال تعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُم [التوبة:46]، وهكذا.. فهذه كلها تسمى صفات فعلية، ولكن ننزه الله أن تكون هذه الصفات كصفات المخلوقين، بل صفات المخلوق تناسبه وصفات الخالق تناسبه، ولا نفسرها تفسيراً أكثر من إثباتها وأنها حقيقة، فالذين نفوها قالوا: إنها لا يتصف بها إلا المخلوق، وإنه يلزم من إثباتها تشبيه الله بالمخلوق، وإن الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وأن المحبة هي ميل النفس إلى المحبوب، وأن الرحمة رقة تكون في الراحم، وأن هذا لا يليق أن يكون في الخالق، وما أشبه ذلك، ولكن عمدتهم أن العقل يستبعدها، أي أنه لا يمكن أن يتصف بها الخالق عقلاً، فقدموا العقل على النقل، واعتمدوه دليلاً.
فيقال لهم: ما دمتم قد اعترفتم بأن الرسل صادقون، وبأن عقولكم دلت على صدق الرسل، فعليكم أن تتقبلوا كل ما جاء عنهم، وألا تردوا شيئاً دون شيء؛ لأنكم إذا رددتم بعضاً دون بعض فقد صدقتم بشيء وكذبتم بشيء فيصدق فيكم قوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85]، ويتحقق فيكم الوعيد الذي توعد الله به اليهود.
وبذلك نعرف أننا إذا آمنا بجميع ما جاء في كتاب الله وفي شريعة رسوله فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالبعث والنشور، وفيما يتعلق بالعبادات والمعاملات، وفيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وفيما يتعلق بسائر الأحكام، آمنا بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، وآمنا بالكتاب كله، ووكلنا ما لا نعرف تأويله إلى عالمه وتوقفنا عن التأويلات التي يتأولها أولئك المحرفون للكلم عن مواضعه، فصرنا بذلك مؤمنين بكتاب الله، متبعين لرسول الله، مصدقين لما جاء به، وهذا هو الإيمان الذي أمر الله به وأمر به رسوله، وهذا هو معتقد أهل السنة.
فإن شاء الله أن أهل السنة الذين يعتقدون هذا سيحشرون مع سلف الأمة وأئمتها.
إنكار الجهمية لأسماء الله وصفاته
وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه، فقالوا: لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلاً، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته قديمة أزلية، فلا يرضى في وقت دون وقت، ولا يغضب في وقت دون وقت، كما قال في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب! وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) فيستدل به على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط، كما يحل السخط ثم يرضى، لكن هؤلاء أحل عليهم رضواناً لا يتعقبه سخط.
وهم قالوا: لا يتكلم إذا شاء، ولا يضحك إذا شاء، ولا يغضب إذا شاء، ولا يرضى إذا شاء، بل إما أن يجعلوا الرضا والغضب والحب والبغض هو الإرادة، أو يجعلوها صفات أخرى، وعلى التقديرين فلا يتعلق شيء من ذلك لا بمشيئته ولا بقدرته، إذ لو تعلق بذلك لكان محلاً للحوادث، فنفى هؤلاء الصفات الفعلية والذاتية لهذا الأصل، كما نفى أولئك الصفات مطلقاً بقولهم: ليس محلاً للأعراض.
وقد يقال: بل هي أفعال، ولا تسمى حوادث، كما سميت تلك صفات ولم تسمّ أعراضاً، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى، ولكن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلا م في الصفات في المختصر في مكان واحد، وكذلك الكلام في القدر ونحو ذلك، ولم يعتن فيه بترتيب.
وأحسن ما يرتب عليه كتاب أصول الدين، ترتيب جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) الحديث، فيبدأ بالكلام على التوحيد والصفات، وما يتعلق بذلك، ثم بالكلام على الملائكة، ثم .. وثم إلى آخره].
يتعلق هذا الكلام بالرد على الذين يثبتون بعض الصفات دون بعض، أو ينفون الصفات كلها، وعرفنا أن الجهمية ينفون الصفات بل ينفون الأسماء، وعلة النفي عندهم أنه ليس محلاً للحوادث، ويقولون: إننا ننزه الله عن الأعراض وعن الأبعاض، وما أشبه ذلك.
ولا شك أن هذا قول بعيد عن الصواب، وذلك لأنا لا نقول بالأعراض، بل نقول: إن الرب سبحانه وتعالى بصفاته واحد فلا أعراض هناك ولا أبعاض ولا حوادث ولا غير ذلك.
إنكار الأشاعرة لصفات الله الفعلية
والصفاتية منهم الكلابية أتباع محمد بن سعيد بن كلاب ، وكذلك الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري، وهؤلاء أنكروا الصفات الفعلية، فأنكروا قول الله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم [المائدة:119]، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم [الفتح:6]، فَلَمَّا آسَفُونَا [الزخرف:55]، وقوله لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُم [غافر:10] فأنكروا المقت والأسف والحب والبغض والغضب والرضا والكراهية والسخط والرحمة وما أشبهها، وكان سبب إنكارهم لها -على زعمهم- لأنها حوادث، والله لا تحل به الحوادث، ويعللون بهذا التعليل في كتبهم قديماً وحديثاً.
وكان من آخر علمائهم عالم مصري يقال له: زاهد الكوثري ، الذي مات في أواسط القرن الماضي، فهو في تعليقاته على كثير من الكتب، وفي تحقيقاته لها ينكر هذه الصفات، ويرد على من أثبتها بأنهم جعلوا الله محلاً للحوادث، بمعنى أنه حدث عليه الرضا بعد أن لم يكن راضياً، وحدث عليه المحبة بعد أن لم يكن محباً، وحدث عليه السخط بعد أن لم يكن ساخطاً، وحدث عليه المقت بعد أن لم يكن ماقتاً، والكراهية بعد أن لم يكن كارهاً، وهكذا، هذا معنى قولهم: إنه محل للحوادث.
ونحن نقول: ليس كذلك، بل الله تعالى يحب إذا شاء ويبغض إذا شاء وله المشيئة التامة، كما قال تعالى وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه [الإنسان:30]، فجعل له المشيئة والإرادة متى شاء، وكذلك أيضاً أخبر بأنه يكره متى شاء ويغضب متى شاء ويرضى إذا شاء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يغضب في وقت دون وقت، وذلك في حديث الشفاعة الذي يأتي فيه أهل الموقف إلى الأنبياء طلباً للشفاعة فيقولون: (يا آدم! اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباًلم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) وهكذا يقول نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، فأثبتوا أن الله تعالى غضب في ذلك اليوم غضباً شديداً، أي: على أولئك الذين وافوه بالكفر والشرك، ووافوه بالمعاصي والمخالفات، فلابد أن ينتقم منهم وأن يعذبهم وأن ينزلهم دار عذابه التي يستحقونها، فما ورد في هذا الحديث دل على مخالفة قول ابن كلاب ومن معه من أن الغضب لا يكون في وقت دون وقت.
فهؤلاء الصفاتية يقولون: هذه الصفات لا تتغير، فإن كان موصوفاً بالغضب فالغضب صفة له دائمة، وإن كان موصوفاً بالرضا فالرضا صفة له دائمة، وعلى هذا يكون موصوفاً بأنه غاضب وبأنه راض دائماً في آن واحد، وبأنه محب ومبغض في آن واحد، وكاره وراض في آن واحد، فيجمعون بين النقيضين، ويجعلونها صفات ملازمة له، فخالفوا بقولهم الأدلة، والتي فيها ما جاء في قول الله لأهل الجنة: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، فدل على أنه رضي عنهم رضاً مستمراً، وأن هذا الرضا هو الذي أحله بهم في دار الكرامة، وهو أكبر نعيم لهم، قال الله تعالى في سورة التوبة وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] أي: أكبر نعيم لهم هو هذا الرضا عنهم، فهذا دليل على أن الله يرضى إذا شاء ويغضب إذا شاء، وكذلك نقول في بقية الصفات.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2712 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2629 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2589 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2560 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2471 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2407 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2385 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2372 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2335 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2299 استماع |