شرح العقيدة الطحاوية [73]


الحلقة مفرغة

أثبت المسلمون عموم قدرة الله تعالى؛ لقوله عز وجل: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120] يدخل في ذلك الموجود والمعدوم، يدخل في ذلك الأعراض والجواهر، الأفعال والحركات، والمخلوقات كلها داخلة في عموم قدرة الله، وأن الله قادر عليها ولا يخرج عن قدرته شيء.

معنى قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله

كذلك مما دل على ذلك الأدعية المأثورة، فمن المأثور قول النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى : (ألا أدلك على كنز من كنوز العرش، أو من كنوز الجنة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله) .

تأمل معنى هذه الجملة: (لا حول) أي: لا تحول لأحد من حال إلى حال إلا بالله. (ولا قوة) أي: لا قدرة لأحد إلا بالله، فإن أقدره الله فهو قادر فاعل، وإن منعه وحال بينه وبين الفعل فليس بقادر وليس بفاعل.

هذه الكلمة كثيراً ما يتلفظ بها العباد، وهي: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فأهل السنة يدينون بمعناها، ويعتقدون أن الحول أي: التحول والانتقال من الفقر إلى الغنى أو من الضعف إلى القوة أو من القوة إلى الضعف أو كذلك من العطاء إلى المنع، ومن المنع إلى العطاء، ومن الهدى إلى الضلال، أو من الضلال إلى الهدى، الانتقال من حال إلى حال هو بقضاء الله وبقوته وبقدرته.

والقوة معناها: الاستطاعة، فالإنسان قوته التي يزاول بها الأعمال هي من الله، إذا شاء سلبك هذه القوة فأصبحت عاجزاً مقعداً، وإذا شاء منحك هذه القوة وزادك قوة إلى قوتك، فهو الذي خلق الإنسان من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة.

الإنسان مبدؤه أن الله خلقه ضعيفاً ثم أمده بقوة منه، إذا شاء سلب هذه القوة في أوانها وفي عنفوانها، وإذا شاء زادها ومكنها.

معنى قوله: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)

كذلك أيضاً من الأدعية المأثورة قول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأذكار: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ويقول بعضهم:

فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن

ما شاءه الله لا بد أن يحصل ولو كره العباد كلهم، وما لم يشأه فلا يحصل ولا يحدث ولا يقع ولو شاءوه ولو أرادوه ولو حاولوه، فالحول حوله، والقول قوله، والقوة والقدرة منه سبحانه.

ارتباط وتعلق فعل العبد وتركه بقدرة الله سبحانه

فالعباد مأمورون، ولكن القوة التي يزاولون بها فعل الأوامر هي من الله، كذلك منهيون والقوة التي يمتنعون بها عن النهي هي أيضاً من الله، هو الذي يمدهم بالقوة التي يمارسون بها الأفعال، ويمدهم بالقوة التي تحميهم من المنهيات، كذلك أيضاً إذا خذل من شاء من عباده، فعل ما فعل من المعاصي والمحرمات، فذلك أيضاً بقضاء الله وبقدره، ولو شاء لمنعهم من ذلك، ولحال بينهم وبينه، ولكن له الحكمة في ذلك، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] له التصرف في العباد، ولا يكون في الكون إلا ما يريد، لو شاء لهدى الناس أجمعين، ولو شاء لأضلهم، فإذا هداهم فبنعمته وفضله، وإذا أضلهم فبحكمته وعدله.

لكن إذا هداك الله وألهمك رشدك وسددك، فعليك أن تشكره على هذه الهداية، وأن تستعين بما أعطاك من القوة على الطاعة، وإذا رأيت من أضلهم الله ورأيت ومن حرمهم الخير، فإنك تحمد ربك على أنه لم يجعلك مثلهم، وتقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، فله سبحانه الأمر والنهي وله القدرة التامة، وله التصرف في العباد، هو الذي كلفهم وأمرهم ونهاهم، وهو الذي أعطاهم، ومنع من شاء منهم، وهو الذي يهدي ويضل، ويسعد ويشقي، ويمنع ويعطي، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.

وإذا من الله على بعض العباد، فإن ذلك فضل منه، فعليهم أن يشكروه على هذا الفضل، وإذا خذل بعضاً من العباد وخلّى بينهم وبين أهوائهم، وسلط عليهم أعداءهم وساموهم سوء العذاب، فذلك حكمة منه وعدل، فما حصل لهؤلاء محض فضل منه وحكمة، ويجب أن يشكروه عليها، وما حصل لهؤلاء من خذلان فهذا من حكمته سبحانه، ويجب عليهم أن يعرفوا السبب، فالسبب من قبل أنفسهم، كما يقول الله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] ويقول تعالى: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] أي: أنه يستحق ذلك بسبب ما جبل عليه، وبسبب الخلق السيئ الذي علم الله أنه لا يناسبه إلا أن يحرمه من الخير وغيره، ويحول بينه وبين الهداية، فهو الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها.

سهولة ويسر التكاليف الشرعية وسبب استثقالها عند البعض

قوله: (إن الله تعالى كلف العباد بما يطيقون، فلا يطيقون إلا ما كلفهم، ولم يكلفهم إلا ما في قدرتهم وفي وسعهم)، فهو سبحانه أمر العباد ولكن لم يأمرهم بما هو مستحيل، ولم يأمرهم بما يعجزون عن تطبيقه ولا عن فعله، لم يأمرهم إلا بالشيء الذي هو في وسعهم وفي قدرتهم وفي طاقتهم، ولا يخرج عن إرادتهم.

كذلك أيضاً ما كلفهم إلا بما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم به، فلو كلفهم بما يعجزون عنه لكان لهم حجة أنهم لا يستطيعون ذلك، فعند ذلك يقال: كيف يطيقون الشيء الذي فوق قدرتهم؟! فلذلك قال الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

فإذا علم العباد بذلك ونظروا إلى التكاليف التي أمروا بها وجودها سهلة ويسيرة ليس فيها مشقة، ولو استثقلتها بعض النفوس، فإن تلك النفوس التي تستثقلها إنما أتيت من ضعف في النفس، لا أن ذلك لعجز في الفعل كما هو مشاهد؛ فلأجل ذلك نجد أن الاثنين متفاوتان في العبادة، أحدهما يفرح بطول الصلاة ويطمئن بذلك ويعجبه، ولو كان بدنه نحيفاً ضعيفاً، وآخر يستثقل الصلاة ولو كانت خفيفة مع كونه بديناً قوياً، فإذاً هذا التفاوت من ضعف النفوس، لا أنه تكليف بما يعجز البشر، فالله ما كلفهم إلا بما فيه قدرتهم واستطاعتهم.

الرد على من يجعل الفعل المتروك غير مقدور عليه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يقول: يجوز تكليف الممتنع عادة، دون الممتنع لذاته؛ لأن ذلك لا يتصور وجوده، فلا يعقل الأمر به، بخلاف هذا.

ومنهم من يقول: ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده، فإنه يجوز تكليفه.

وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق؛ لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده، بدعة في الشرع واللغة، فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! وهم التزموا هذا، لقولهم: إن الطاقة -التي هي الاستطاعة وهي القدرة- لا تكون إلا مع الفعل، فقالوا: كل من لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه، وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف، وخلاف ما عليه عامة العقلاء، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة.

وأما ما لا يكون إلا مقارناً للفعل، فذلك ليس شرطاً في التكليف، مع أنه في الحقيقة إنما هناك إرادة الفعل.

وقد يحتجون بقوله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود:20]، إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:67] وليس في ذلك إرادة ما سموه استطاعة، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل، فإن الله ذم هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع، ولو أراد بذلك المقارن، لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع، فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى، ولكن هؤلاء؛ لبغضهم الحق وثقله عليهم، إما حسداً لصاحبه، وإما اتباعاً للهوى، لا يستطيعون السمع.

وموسى عليه السلام لا يستطيع الصبر، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع، وليس عنده منه علم.

وهذه لغة العرب وسائر الأمم، فمن يبغض غيره يقال: إنه لا يستطيع الإحسان إليه، ومن يحبه يقال: إنه لا يستطيع عقوبته؛ لشدة محبته له، لا لعجزه عن عقوبته، فيقال ذلك للمبالغة، كما تقول: لأضربنه حتى يموت، والمراد: الضرب الشديد، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه؛ لفسدت السماوات والأرض، قال تعالى: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]].

لا شك أن هذا الكلام معاتبة ومجادلة لبعض من خالف الحق في هذه المسألة، وأنه لا فائدة فيه، ولا طائل في مجادلتهم؛ لأنها أقوال تخالف المحسوس، وتخالف المعقول؛ وذلك لأن العبد قد أعطي قوة، ولا شك أن تلك القوة كامنة فيه، وأنه بواسطتها يستطيع أفعالاً وإن لم يفعلها، فهؤلاء المبتدعة من جبرية وقدرية ونحوهم عندهم أن الأفعال التي لم تفعل ولو كانت سهلة توصف بأنها غير مقدورة للعبد، فإذا رأوا إنساناً كافراً قالوا: هذا لا يقدر على أن يؤمن، مع أنه يقدر، وإذا رأوا إنساناً ما صلى قالوا: هذا لا يقدر أن يصلي، فكل شيء لم يفعله الإنسان مع قدرته عليه يقولون: إنه لا يقدر عليه، مع أنه في استطاعته، وهذا يخالف الحس ويخالف الظاهر.

فمثلاً: أنت لو رأيت إنساناً قوي البنية وقوي البدن تستطيع أن تقول: هذا يستطيع أن يحمل مثلاً كيساً ولو لم يحمله، ولو لم تره قد حمل هذا الكيس من قبل، ويكون ذلك أيضاً فيما سخر الله من الدواب التي تركب عليها، فيقال: إن هذا الجمل يستطيع أن يحمل مائة صاع ولو أنه ما حمل عليه.

فإذاً الاستطاعة والحمل ليسا بمحصلين لما فعل، بل بما توافر فيه واستقر فيه من الوصف، فهو يستطيعه ولو لم يباشره.

نفي القدرة والاستطاعة عن فعل الخير أو ترك الشر عند أهل البدع

بخلاف هؤلاء المبتدعة فإنهم إذا رأوا إنساناً ما قرأ، قالوا: هذا لا يستطيع أن يقرأ، ليس له أن يقرأ، إذا رأوا إنساناً لم يحترف حرفة كذا وكذا قالوا: هذا لا يستطيع أن يحرث الأرض، ولا أن يغرس الغرس، ولا أن يرعى الإبل أو يحلبها مثلاً، مع أنه يستطيع وبإمكانه فعله، هذا بالنسبة للأفعال المحسوسة.

ويقال كذلك أيضاً في التكاليف سواء كانت طاعات أو معاصي، في الطاعات يقولون لمن لم يصم: هذا لا يستطيع الصوم، لو كان يستطيع الصوم لصام، مع أنه قادر وقوي، كذلك يقولون: لا يستطيع أن يطعم الطعام، أو يخرج من الطعام ما يخرج مثله، مع أنه ذو مال وعنده ثروة، لكن لما رأوه لم يخرج قالوا: لو كان يستطيع أن يخرج لأخرج، لو كان يستطيع أن يتصدق لتصدق، كأنهم يقولون: إنه لا يستطيع لكون الله حال بينه وبين الصدقة.

الله تعالى أمره بالصدقة الواجبة في الزكاة والكفارة والنفقة على الأهل والولد ونحو ذلك، ومع ذلك بخل بها، فهو قادر، لو لم يكن قادراً لما أمره الله بذلك، ولو لم يكن قادراً على الصوم لما أمره.

فالله أمر الناس بالصوم، فمنهم من صام ومنهم من لم يصم، وأمر الناس كلهم بالصلاة، فمنهم من صلى ومنهم من لم يصل، ولا يقال لمن لم يصل: هذا لا يستطيع، نقول: بل هو مستطيع، ولكن حيل بينه وبينها، فهو محروم والعياذ بالله، ويوصف بأنه عاص، ويعاقب على هذا العصيان، كما يعاقب على تلك الأفعال.

وفي الأفعال المنهي عنها والمحرمة، يقولون في من زنى مثلاً أو ارتشى أو سكر: لا يستطيع ترك هذا المنكر ولو كان يستطيع تركه لما فعله، نقول: بل يستطيع ولو لم يستطعه لما نهي عنه، فالله تعالى ما نهى إلا من عنده قدرة على الانزجار وعلى ترك الشيء المنهي عنه، فقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] لو كانوا عاجزين عن الترك لما نهاهم، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء:33] لو كانوا عاجزين عن الترك لما نهاهم عنه، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31] لو كانوا لا يستطيعون ترك القتل لما نهوا عنه.

فكذلك يقال في الطاعات: لو كانوا عاجزين عن الصلاة لما أمروا بها، لو كانوا عاجزين عن الطهارة لما أمروا بها، فإن الله لا يأمر إلا بما هو مقدور، ولا يأمر بالشيء المستحيل أو الثقيل على النفوس الذي يكون فوق طاقتها.

وبذلك نعرف أن هذا القول مخالف للعقل، حتى في عرف الناس، فمثلاً: إذا كان لك ولد نشيط قوي، فقلت له: يا ولدي! اذهب فاشترِ لنا طعاماً. فإذا ذهب واشترى فقد أطاع، وإذ لم يذهب فهل يقال: إنه ليس بمستطيع؟! أو يقال: هو عاص لأبيه؟ لا شك أنه يوصف بالعصيان.

ولو كان لك ولد مريض -مثلاً- أو مقعد لا يستطيع أن يذهب، فهل تأمره بأن يذهب إلى السوق ليشتري لك حاجة؟ كيف تأمره وهو مريض مقعد لا يستطيع؟!

إذاً: فهذا بيان أن الله ما أمر إلا من هو مستطيع، ولأجل ذلك أسقط الحرج عن غير المستطيع، فلما أمر بالجهاد في سبيل الله أسقطه عن أهل الأعذار، فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91] يعني: لا حرج عليهم إذا لم يخرجوا في الجهاد، فدل على أنه ما أمر إلا من هو مستطيع وعنده قدرة، وبذلك نعرف أن التكاليف إنما هي على حسب قدرة العباد، فلم يأمرهم الله إلا بما هو في طاقتهم وفي وسعهم.

الفرق بين الكوني والشرعي من القضاء والإرادة ونحو ذلك

قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم به).. إلى آخر كلامه، أي: ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه، وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق، لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات.

(ولا حول ولا قوة إلا بالله) دليل على إثبات القدر، وقد فسرها الشيخ بعدها، ولكن في كلام الشيخ إشكال، فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي، وهو قد قال: لا يكلفهم إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد، ولا يصح ذلك؛ لأنهم يطيقون فوق ما كلفهم به، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف، كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28]، وقال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه، ولكنه تفضل علينا ورحمنا، وخفف عنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج.

ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم: أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق، لا من جهة التمكن وسلامة الآلات، ففي العبارة قلق، فتأمله.

وقوله: (وكل شيء يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره):

يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي، فإن القضاء يكون كونياً وشرعياً، وكذلك الإرادة والأمر والإذن والكتاب والحكم والتحريم والكلمات، ونحو ذلك.

أما القضاء الكوني: ففي قوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12].

والقضاء الديني الشرعي: في قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23].

وأما الإرادة الكونية والدينية: فقد تقدم ذكرها عند قول الشيخ: (ولا يكون إلا ما يريد).

وأما الأمر الكوني: ففي قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وكذا قوله: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، في أحد الأقوال، وهو أقواها.

والأمر الشرعي: في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].

وأما الإذن الكوني: ففي قوله تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102].

والإذن الشرعي: في قوله تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5].

وأما الكتاب الكوني: ففي قوله تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11]، وقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

والكتاب الشرعي الديني: في قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، وقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183].

وأما الحكم الكوني: ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب عليه السلام: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80]، وقول الله تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:112].

والحكم الشرعي: في قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، وقال تعالى: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:10].

وأما التحريم الكوني: ففي قوله تعالى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26]، وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95].

والتحريم الشرعي: في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3] ، وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] الآية.

وأما الكلمات الكونية: ففي قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [الأعراف:137]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) .

والكلمات الشرعية الدينية: في قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]].

رحمة الله بالعباد في عدم تكليف ما لا يطاق

نحن نعرف أن الله تعالى رحيم بعباده، وأنه ما أمرهم إلا بما يطيقونه، ولو أمرهم بزيادة عليه لأطاقوه، ولكنه تعالى رحمهم، فلم يكلفهم ما فيه مشقة وصعوبة عليهم، فلو فرض في السنة صيام شهرين لقدروا على ذلك، ولكن قد يكون فيه مشقة، ولو فرض عليهم في الطهارة الاغتسال بدل الوضوء لقدروا عليه، ولكن فيه مشقة، ولو فرض عليهم كل يوم عشر صلوات لقدروا على ذلك، ولكن مع صعوبة ومشقة، وكذلك لو فرض عليهم الحج مرتين في العمر أو أكثر لاستطاع كثير منهم ذلك، ولكن مع مشقة، ولو فرض عليهم في الزكاة خمس المال أو نصف الخمس بدلاً من ربع العشر لاستطاعوا ذلك، ولكن يكون عليهم شيء من المشقة، فلأجل ذلك خفف الله عنهم.

ولما فرض عليهم -أولاً- أن يثبت العشرة للمائة في الجهاد، وأن تثبت المائة للألف، ولا يفرون منهم، علم أن في ذلك شيئاً من المشقة؛ فخفف عنهم إلى أن لا يفر الواحد من الاثنين، فقد أنزل أولاً قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65] الواحد يغلب عشرة، ثم بعد ذلك خفف عنهم: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66] فالواحد يغلب اثنين بشرط الصبر، (مائة صابرة)، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:66]، فأخبر بأنهم يقدرون، ولكن خفف عنهم، يعني إذا كانوا صابرين محتسبين غلبوهم بإذن الله، وقد وقع هذا، فأهل بدر غلبوا المشركين مع أن المشركين أضعافهم -أي: مثلهم ثلاث مرات- ولكن هزموهم بإذن الله.

وكذلك حكى الله عن طالوت ومن معه أنهم قالوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249]، فحكى عن الذين يظنون أنهم ملاقو الله قولهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249].

والحاصل: أنه سبحانه وتعالى كلف العباد، ولكن كلفهم وهم يقدرون على ما كلفهم به، بل على أكثر منه، وإنما أمرهم بما فيه يسر وسهولة دون حرج ومشقة، ولما أمرهم بالطهارة بالماء علم أن فيهم مرضى لا يستطيعون استعمال الماء، وعلم أن فيهم مسافرين لا يستطيعون حمل الماء في الصحراء، فأباح لهم أن يعدلوا إلى التراب ليتطهروا به، ثم قال بعد ذلك: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6] يعني: أنه لو كلفكم وأحرجكم لأمركم بحمل الماء في الأسفار، ولكن أراد ألا يحرجكم، وكما في قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ولما أمر بالصيام علم أن هناك من يشق عليهم كالمرضى والمسافرين، فأباح لهم الفطر والقضاء، فقال تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، ثم قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، أي: لا يشق عليكم ولا يأمركم بما فيه كلفة وتعب.

فعلم بذلك أن هذه التكاليف التي أمرهم بها هي في وسعهم وفي قدرتهم وطاقتهم.. هذا بالنسبة إلى الأفعال المأمور بها.

ويقال كذلك بالنسبة إلى الأفعال المنهي عنها: الذنوب والمعاصي المنهي عنها يقدرون على تركها، ولو قال من قال: إنه لا يستطيع تركها، فإنه غير صادق في ذلك، وقد أشرنا إلى ذلك فيما مضى.

إيمان أهل السنة بما هو قدري وامتثالهم لما هو شرعي

بعد ذلك تكلم الشارح رحمه الله على القضاء الشرعي والقدري، يعني: أن الله سبحانه له القضاء والقدر، وله الشرع والأمر، فالمراد بالشرعي: الذي يكلف به ويؤمر به، والمراد بالقدري والكوني: الذي كتبه أزلاً، وقضاه وقدره في عالم الغيب، ولم يخير فيه، بل جعله أمراً أزلياً مقدراً مخلوقاً.

فعندنا -مثلاً- الإرادة تكون شرعية وقدرية، والأمر يكون شرعياً وقدرياً، والإذن يكون شرعياً وقدرياً، والحكم يكون شرعياً وقدرياً، والكتابة تكون شرعية وقدرية، والكلمات منها شرعية ومنها وقدرية، وأدلتها تقدمت في كلام الشارح رحمه الله.

والفرق بينهما: أن الأمر الشرعي كُلِفَ العباد به وبامتثاله، فإذا أمرهم أمراً شرعياً فإنهم يمتثلون ذلك الأمر.

وأما الأمر القدري: إذا أخبر بأن هذا مقدر عليهم، وهو أزلي، فإنه لا يُطلب منهم فعله؛ لأنه يخبر بأن هذا هو حكمه وهو قدره.

ويقال كذلك في التحريم: فإذا قيل: ما الفرق بين التحريم القدري، والتحريم الشرعي؟

فالجواب: أن التحريم القدري: إخبار بأن هذا الشيء لا يكون، وأن الله كتب تحريمه ومنعه بحيث لا يحصل ولا يتصور وجوده، وأما التحريم الشرعي فهو نهي، يعني: نهى الله العباد عن أن يفعلوا هذه الأشياء، وأخبرهم بأنها محرمة عليهم.

والتحريم معناه المنع، أي: منعناكم من هذه الأشياء، كقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] إلى آخره، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3] ، فليس هذا مثل قوله: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء:95]، فإن ذلك معناه أن الله قدر أنها لا تعود، وجعل ذلك ممتنعاً أصلاً.

فعرفنا بذلك أن هناك فرقاً ظاهراً بين الأوامر الشرعية والقدرية، وبين الإذن الشرعي والقدري، وبين الإرادة الشرعية والقدرية، والحكم الشرعي والقدري، والكتابة الشرعية والقدرية.. وما أشبه ذلك.

فالذي يهمنا أن نؤمن بالقدري، ونعتقد أنه حق وصدق، نقول: هذا قدر الله، وهذه كتابته، وهذا تقديره علينا، لا مفر لنا منه، هذا حكمه الذي حكم به أزلاً على العباد.

أما الشرعي فإننا نمتثله ونعمل به، فإن قوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45]، وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ [الأعراف:145] أمر شرعي، معناه: أنه أمر فيها بأوامر شرعية، من ذلك: أن النفس بالنفس... إلخ، بخلاف قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ [الأنبياء:105]، وقوله: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145] وما أشبه ذلك من الأمور الماضية السابقة.

والفرق بينهما: أن الشرعي يدين به العباد ويعملون به، والقدري يؤمنون به ويعتقدونه.

ولم يعرف أكثر المبتدعة الفرق بينهما؛ فوقعوا في الخطأ والضلال، فإنهم لما لم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والإرادة القدرية؛ جعلوا الجميع مراداً لله، وجعلوا إرادة الله للمعاصي رضاً بفعلها، فقالوا: إن الله لو لم يردها لما حصلت، ولو أراد الطاعات لحصلت. نقول: إن هذه إرادة قدرية، فلا تقيسوها بالإرادة الشرعية.

تقدم الفرق بين الإرادتين ودليلهما، فإن دليلة الشرعية: قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28] ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27] ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، هذه شرعية، بخلاف قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] فإن هذه إرادة قدرية دالة على أن قدرة الله تعالى أزلية قديمة، وأن العبد ليس له مفر مما قدره عليه.