شرح العقيدة الطحاوية [54]


الحلقة مفرغة

مبنى عقيدة الإسلام على كتاب الله وسنة نبيه، وعلى طاعة الله وطاعة رسوله، وقد وردت الأدلة في تأكيد الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية في آيات كثيرة، مثل قول الله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [النساء:13] إلى قوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا [النساء:14]، ومثل قوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة:92]، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32]، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1] في عدة آيات.

وأخبر تعالى بأن طاعة الرسول طاعة لله، قال تعالى: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن طاعة الله تعالى سبب لدخول الجنة، وكذلك معصيته سبب لدخول النار، وأن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام تعتبر العلامة لطاعة الرب تعالى، قال عليه الصلاة السلام: (كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).

طاعة ولاة الأمر بالمعروف من طاعة الله ورسوله

من طاعة الله تعالى وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام: طاعة أولي الأمر، الذين ذكرهم الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني)، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بطاعة ولاة الأمر، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، يقودكم بكتاب الله)، وفي حديث أبي ذر : (اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك).

وقد ذكر العلماء أن من عقيدة أهل السنة والجماعة: طاعة ولاة الأمور، الذين لهم الولاية والسيطرة على البلاد والعباد، وطاعتهم تعتبر جمعاً لكلمة المسلمين، وتعتبر قمعاً للمفسدين، ودفعاً للظالمين؛ لأن بولايتهم يثبت الحق ويظهر، وإذا لم يكن هناك ولاة صار الضعيف نهباً للقوي، ولم تثبت الكلمة، ولم يثبت الأمن، وحصلت الزعازع والفتن، وحصلت المخاوف، وحصل القتال وكثرت الفوضى، فلأجل ذلك شرعت طاعة ولاة الأمور.

ويشترط في طاعتهم: ألا تكون في معصية الله، ولا تخالف شيئاً من شرع الله، فلذلك ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال: (إنما الطاعة في المعروف)، وإذا كان اجتماع المسلمين على أميرهم أو على واليهم فيه مصلحة فإن من تمام مصلحتهم، ومن تمام طمأنينتهم وحياتهم وسعادتهم ألا ينزعوا يداً من طاعة، وألا يفارقوا جماعة المسلمين، وألا ينبذوا إليهم أمرهم، وألا ينقضوا بيعتهم؛ فبذلك تثبت البلاد وتطمئن، ويأمن العباد على أنفسهم وعلى أموالهم، وبذلك يؤخذ الحق للمظلوم من الظالم، ويؤخذ على يد الظالم، ويُقهر على الحق، ويقصر عليه، ويضرب على يد الظالم بيد من حديد؛ فتأمن البلاد كلها، ويذهب عنها الخوف والفتن والزعازع، هذا هو السبب الذي لأجله أمرنا بطاعة ولاة أمورنا.

من طاعة الله تعالى وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام: طاعة أولي الأمر، الذين ذكرهم الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني)، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بطاعة ولاة الأمر، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، يقودكم بكتاب الله)، وفي حديث أبي ذر : (اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك).

وقد ذكر العلماء أن من عقيدة أهل السنة والجماعة: طاعة ولاة الأمور، الذين لهم الولاية والسيطرة على البلاد والعباد، وطاعتهم تعتبر جمعاً لكلمة المسلمين، وتعتبر قمعاً للمفسدين، ودفعاً للظالمين؛ لأن بولايتهم يثبت الحق ويظهر، وإذا لم يكن هناك ولاة صار الضعيف نهباً للقوي، ولم تثبت الكلمة، ولم يثبت الأمن، وحصلت الزعازع والفتن، وحصلت المخاوف، وحصل القتال وكثرت الفوضى، فلأجل ذلك شرعت طاعة ولاة الأمور.

ويشترط في طاعتهم: ألا تكون في معصية الله، ولا تخالف شيئاً من شرع الله، فلذلك ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال: (إنما الطاعة في المعروف)، وإذا كان اجتماع المسلمين على أميرهم أو على واليهم فيه مصلحة فإن من تمام مصلحتهم، ومن تمام طمأنينتهم وحياتهم وسعادتهم ألا ينزعوا يداً من طاعة، وألا يفارقوا جماعة المسلمين، وألا ينبذوا إليهم أمرهم، وألا ينقضوا بيعتهم؛ فبذلك تثبت البلاد وتطمئن، ويأمن العباد على أنفسهم وعلى أموالهم، وبذلك يؤخذ الحق للمظلوم من الظالم، ويؤخذ على يد الظالم، ويُقهر على الحق، ويقصر عليه، ويضرب على يد الظالم بيد من حديد؛ فتأمن البلاد كلها، ويذهب عنها الخوف والفتن والزعازع، هذا هو السبب الذي لأجله أمرنا بطاعة ولاة أمورنا.

يجب علينا جميعاً أن نناصح من ولاه الله أمرنا، فإن هذا من تمام العقيدة، كان النبي صلى الله عليه وسلم من جملة ما يأخذه على أصحابه في البيعة قوله: (وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)، وهذه المناصحة تتمثل في أن نكون ناصحين لهم.

والناصح هو الخالص، والنصح مشتق من قولهم: نصح العسل، إذا خلصه وصفاه، والمعنى: ألا يكون في قلبه غل ولا حقد على مسلم، وأن يبدي لكل مسلم كبير أو صغير النصيحة، ويدله على الخير الذي يحبه لنفسه، وبالأخص ولاة الأمور، فينصح لهم، وليست النصيحة مقتصرة على أن تحبهم وأن تخلص لهم المودة، وأن تصفي لهم قلبك، بحيث لا يكون في قلبك حقد ولا غل، بل إن النصيحة تتمثل أيضاً بالتحذير من الشرور، والدلالة على الخيرات، والإرشاد عند الهفوات، والتحذير من الزلات ونحوها.

ولا شك أن ولاة الأمور ومن دونهم ممن لهم ولاية بشر، والبشر عرضة للخطأ، وإذا كانوا عرضة للخطأ، والإنسان ليس بمعصوم، وإذا أخطأ ينتظر من إخوته، وممن تحته وممن فوقه وممن هو أكبر منه وأصغر؛ أن يرشدوه وأن يدلوه ويهدوه إلى الحق، فإذا اجتمعوا عليه وبينوا له، وقالوا له: إن الصواب كذا وكذا؛ رجع إليه، وفرح بأن يكون من رعيته، وممن تحت يده من يدله ومن يعينه، ويكون ذلك رداً له إلى الحق، وخيراً للأمة وللولاة.

أما إذا ترك الولاة وما هم عليه من الخطأ، حتى ظنوا أن ما هم فيه هو الصواب، ولم يرشدهم من حولهم من وزير أو أمير أو أخ أو صديق أو عالم أو جاهل؛ ولم يبينوا لهم ما يعلمونه من حق، فإنها تعظم بذلك المصيبة.

ولا شك أن كل عاقل من ولاة الأمور، وكل ناصح وكل محب تقي مؤمن يفرح ويسر إذا أبديت له النصيحة، وإذا أظهرت له الزلة التي زل فيها، والكلمة التي أخطأ فيها؛ فيرجع إلى الصواب، ويعود إلى طلب الحق، وهذه هي السمة والصفة التي يجب أن يكون عليها كل أحد من صغير أو كبير من مأمور أو أمير، فإذا كانت الأمة كذلك، يحبون لولاتهم ما يحبون لأنفسهم، وينصحون لهم، ويطيعونهم، ويرشدونهم، ويهدونهم إلى الصواب، وينبهونهم على الأخطاء، فعند ذلك تجتمع كلمة الأمة، وعند ذلك يظهر الحق ويقوى أهله، هذا هو الواجب في حق ولاة الأمور: السمع والطاعة ممن تحت أيديهم.

أما عامة الأمة فواجب علينا أيضاً أن ننصح لهم، وذلك لأنهم من جملة إخواننا، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم النصيحة لهم بعد النصيحة للولاة في قوله: (ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فأمر بأن ننصح للعامة، والنصيحة للعامة تتمثل في إرشادهم إلى الخير، وتحذيرهم من الشر، ودلالتهم عليه، وتعليم جاهلهم، وإرشاد ضالهم، وتنبيه غافلهم، وأمرهم بالخير، وحثهم عليه، ونهيهم عن الشر، وتحذيرهم منه، وما أشبه ذلك.

ولا شك أنهم إذا كانوا عقلاء، وإذا كانوا أتقياء: فرحوا بهذه النصيحة وقبلوها، وسروا بمن نصحهم، وشجعوه، والتزموا بأن يؤدوا هذه النصيحة إلى أبنائهم، وإلى إخوانهم، وإلى أحفادهم، فعند ذلك تنتشر الشريعة والعمل بها، وتظهر كلمة الله التي وعد بإظهارها، ويظهر دين الله على الدين كله.

وقد مر بنا أن من عقيدة المسلمين: أنهم يدينون بالطاعة لولاة أمورهم، وأنهم يصلون على أهل التوحيد الذين يقولون: لا إله إلا الله، وأنهم لا ينزعون يداً من طاعة، فإذا اتصفوا بذلك كله سكنت أمورهم، واطمأنوا في حياتهم، وعملوا بشريعتهم، وإذا عرفوا ذلك عرفوا أن عقيدة الإسلام جاءت بكل ما فيه الخير، وبما فيه الأمن والاستقرار.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (والصلاة على من مات منهم) أي: ونرى الصلاة على من مات من الأبرار والفجار، وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطاع الطريق، وكذا قاتل نفسه خلافاً لـأبي يوسف ، لا الشهيد خلافاً لـمالك والشافعي رحمهما الله على ما عرف في موضعه، لكن الشيخ إنما ساق هذا؛ لبيان أنا لا نترك الصلاة على من مات من أهل البدع والفجور لا للعموم الكلي، ولكن المظهرون للإسلام قسمان: إما مؤمن وإما منافق، فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له، ومن لم يعلم ذلك منه صلي عليه، فإذا علم شخص نفاق شخص لم يصل هو عليه، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه، وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة ؛ لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين، وقد نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وأخبر أنه لا يغفر لهم باستغفاره، وعلل ذلك بكفرهم بالله ورسوله، فمن كان مؤمناً بالله ورسوله لم ينه عن الصلاة عليه، ولو كان له من الذنوب الاعتقادية البدعية أو العملية الفجورية ما له، بل قد أمره الله تعالى بالاستغفار للمؤمنين فقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] فأمره سبحانه بالتوحيد والاستغفار لنفسه، وللمؤمنين والمؤمنات، فالتوحيد أصل الدين، والاستغفار له وللمؤمنين كماله، فالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسائر الخيرات، إما واجب وإما مستحب.

وهو على نوعين: عام وخاص، أما العام فظاهر كما في هذه الآية، وأما الدعاء الخاص فالصلاة على الميت، فما من مؤمن يموت إلا وقد أمر المؤمنون أن يصلوا عليه صلاة الجنازة، وهم مأمورون في صلاتهم عليه أن يدعوا له، كما روى أبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)].

يقول: إننا مأمورون بأن نحسن الظن بالمسلمين، ولا نحكم على مسلم يتظاهر بالإسلام أنه مرتد وكافر، إذا كان ظاهره أنه من أهل الإسلام، ولو كان باطنه خفياً، فنصلي عليه بعد موته، وهذا معنى الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله)، فإن المراد على أهل لا إله إلا الله، ولا شك أن أهل لا إله إلا الله هم أهل التوحيد، وهم أهل الإسلام، وهم أهل العلم وأهل العمل، وهم الذين يعملون بلا إله إلا الله، فيفعلون ما توجبه لا إله إلا الله، ويتركون ما تحرمه هذه الكلمة من المحرمات، فإذا كانوا متمسكين بذلك في الظاهر فإننا لا نكفرهم، ونصلي عليهم، ولو وقعت منهم هفوات، ولو صدرت منهم زلات، ولو كان مذنبين، ولو رأينا منهم بعض الذنوب الظاهرة لم نحكم بكفرهم ولم نحكم بخروجهم من الإسلام؛ لأن من عقيدة أهل السنة -كما تقدم مراراً- أنهم لا يكفرون بالذنوب، ولو كانت ما كانت، ما لم تصل إلى الشرك، إلا ما ورد التكفير به كترك الصلاة يعني: الاستمرار على تركها، فقد ورد أنه كفر.

وأما بقية الأعمال فإذا أطلق على بعضها لفظ الكفر فإنه يراد به الكفر العملي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة)، فالطعن في النسب: كون الإنسان يعير نسبك ويقدح فيه، أو يقول: لست من قبيلة فلان، ولست ابن فلان، ونحو ذلك، هذا أطلق عليه أنه كفر، ولكنه عملي.

والنياحة: هي الصياح على الميت، أطلق عليه أنه كفر، ولكنه يراد به الكفر العملي، وكذلك قتال المسلمين أطلق عليه أنه كفر، وهو كفر عملي، وكل هذه لا توجب أن نتبرأ من هذا الإنسان، ولا أن نترك الصلاة عليه، بل هو أولى أن يصلى عليه.

فالمذنب الذي وقعت منه ذنوب وارتكب بعض السيئات يصلى عليه، ولا تترك الصلاة عليه، ولو كان قد زنى، ولو سرق، ولو أكل الربا أو أكل مال اليتيم، أو تولى عن الزحف، أو ما أشبه ذلك، ما عدا الذنوب التي توقعه في الكفر، وهي المكفرات المشهورة، التي إذا فعلها حكم بردته، كمسبة الله، فالذي يسب الله أو يسب الرسول عليه الصلاة والسلام أو ينتقص دين الإسلام أو نحو ذلك، فإن هذا يعتبر ردة وخروجاً من الإسلام.

وبكل حال فالمعاصي التي دون الشرك ودون الكفر يصلى على أهلها.

المنافقون الذين يضمرون الكفر ويظهرون للناس أنهم مؤمنون، لا ندري ما في بواطنهم، فنصلي عليهم عملاً بالظاهر، فهم يصلون معنا، ويجاهدون معنا، ويصومون ويفطرون مع المسلمين، فإذا كانوا يضمرون الكفر في نفس الأمر فأمرهم بينهم وبين الله.

لكن إن اطلع على نفاق حقيقي بأن نجم النفاق من هذا الإنسان وظهر منه ما يدل على نفاقه وإضماره الكفر، وأنه ما أسلم ولا عمل هذه الأعمال إلا تستراً؛ فإنه والحال هذه يحكم بكفره، ولا يصلى عليه، قال الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] نهاه الله أن يصلي على المنافقين الذين يعلم نفاقهم، والذين أطلعه الله عليهم؛ لأنه قد أطلعه على بعضهم، وبعضهم لم يعلمهم كما قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة:101] فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم أعيانهم، وإنما الله تعالى هو الذي يعلم أعيانهم فأطلعه على بعضهم، فالذين أطلعه على بعضهم نهاه أن يصلي عليهم، وأطلع عليه الصلاة والسلامحذيفة بن اليمان على بعض المنافقين الذين هموا بما لم ينالوا، فسماهم وأسرهم إلى حذيفة ، فكان حذيفة يسمى صاحب السر، وكان إذا قدمت جنازة مشكوك فيها لم يصل عليها عمر حتى يرى حذيفة يصلي عليها، فيعلم أنه ليس من المنافقين.

فإذا عرف أن هذا منافق، يؤذي الله ورسوله، ويؤذي المؤمنين، ويسب الإسلام -وإن كان يتظاهر أنه مع المسلمين- فلا يصلى عليه والحال هذه، بل إذا اطلع على حاله وزندقته فإنه يقتل؛ لأن ذلك ردة منه وتبديل للدين، فإنه (من بدل دينه فاقتلوه).

وكذلك أيضاً لا يصلى على أهل البدع الذين يظهرون بدعهم، مثل الرافضة الذين يظهرون للناس أنهم يحبون الإسلام، وأنهم يحبون القرآن وما أشبه ذلك، ولكنهم في الحقيقة يضمرون بغض الله وبغض رسوله، أو يضمرون بغض الصحابة الذين حملوا كتاب الله، ويعتقدون أنهم حرفوا كتاب الله وكذبوا على رسوله، ويبغضون أهل السنة، فمثل هؤلاء أعداء لله، ويعتبرون منافقين؛ لأنهم في الحقيقة يضمرون الكفر أو يضمرون البغض، ويعملون بما يسمونه التقية التي هي نوع من النفاق، وأشباههم من الملاحدة الذين يشك في عقيدتهم، فتترك الصلاة عليهم زجراً عن أفعالهم وعن معتقداتهم.

بعض الأشخاص تترك الصلاة عليهم لبعض الأسباب، فمثلاً: من قتل نفسه لا يصلي عليه الإمام الكبير أو العالم الكبير زجراً عن هذا الفعل، ولا يمنع ذلك أن يصلي عليه عامة الناس.

وكذلك تترك الصلاة على الشهداء؛ وذلك لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء المعركة، إما لعدم حاجتهم إلى ذلك، وإما لأنهم والحال هذه يعتبرون من الأتقياء، ويعتبرون من أهل الخير، وإما تخفيفاً لكثرتهم؛ لأنهم قد يكونون عدداً كبيراً.

وبكل حال فالأصل أننا نصلي على أهل لا إله إلا الله، وأن الصلاة عليهم تنفعهم؛ وذلك لأن الميت قد انقطع عمله، فهو في حاجة إلى أن يدعو له إخوته المسلمون؛ ولهذا يدعون له بالمغفرة وبالرحمة ونحو ذلك.

في حديث عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، يقول عوف : فحفظت من دعائه قوله: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله من الذنوب بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراًمن داره، وأهلاً خيراً من أهله)، يقول عوف : حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لمكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.

ولعل هذا الدعاء لأجل أن يتم لأمته هذه الأدعية ويعلمهم، ولم يخصص للصحابة دعاء، بل أمرهم بأن يدعو بما تيسر؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) أي: ادعوا له بما تحفظون وبما تيسر من هذا ومن غيره، ادعوا له بخير الدنيا وخير الآخرة، وأقصد بخير الدنيا: نعيم البرزخ ونعيم القبر، وخير الآخرة، يعني: ما بعد الموت، من الجنة وما قبلها، ادعوا له بذلك، وادعوا له بالمغفرة.

وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمؤمنين في قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وحكى الله تعالى عن بعض أنبيائه هذا الاستغفار، فحكى عن إبراهيم أنه قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:40-41] فلم يقتصر على والديه وعلى ذريته، بل دعا للمؤمنين يوم يقوم الحساب، وحكى عن نوح عليه السلام أنه قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28] فدعا للمؤمنين والمؤمنات عموماً فيدخل في ذلك الأولون والآخرون.

إذاً: نحن مأمورون بأن ندعو للمؤمنين، والصلاة عليهم تنفعهم، والصلاة عليهم بعد موتهم فيها دعاء لهم، واستغفار لهم، وزيادة في أعمالهم، فيحرص المسلم على أن يصلى على الميت، وينبغي الحرص على كثرة عدد المصلين؛ لأنه ربما يكون فيهم مجاب الدعوة، وربما يكون في الكثير من هو أتقى وأنقى، وأفضل معتقداً، فيجيب الله تعالى دعوته، ومع كثرتهم أيضاً يقبل الله دعوتهم، فقد ورد في الحديث: (ما من مسلم يقوم عليه مائة رجل، لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعوا فيه)، أو كما قال في الحديث، فهذا حث على أن يصلى على المسلم، حتى ولو لم يصدر منه شيء من الذنوب، ويستغفر له، ويطلب له من الله المغفرة والزلفى.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً).

يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم؛ لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ.

وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال:

أحدها: ألا يشهد لأحد إلا للأنبياء، وهذا ينقل عن محمد ابن الحنفية والأوزاعي.

الثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث.

الثالث: أنه يشهد بالجنة لهؤلاء، ولمن شهد له المؤمنون كما في الصحيحين: (أنه مر بجنازة فأثنوا عليها بخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ومر بأخرى فأثني عليها بشر، فقال: وجبت -وفي رواية كرر: (وجبت) ثلاث مرات- فقال عمر: يا رسول الله! ما وجبت؟ فقال رسول الله: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)، وقال صلى الله عليه وسلم: (توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن، والثناء السيئ)، فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار].

أول الكلام يتعلق بمن يشهد له بالجنة ومن يشهد له بالنار، وهل يجوز ذلك أم لا؟

نقول: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم شهد لبعض أصحابه بالجنة كالعشرة، في قوله صلى الله عليه وسلم: (النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة ..)، إلى آخر العشرة، فالعشرة مشهود لهم بالجنة، وهم الخلفاء الأربعة، والستة الباقون من العشرة هم الذين جمعهم الناظم بقوله:

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهر والزبير الممدح

هؤلاء شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وختم لهم بأعمال صالحة، ولم ينقل عنهم ما يكون سبباً لمخالفة ما شهد به النبي صلى الله عليه وسلم.

وممن شهد لهم بالجنة ثابت بن قيس بن شماس، لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخبره أنه من أهل الجنة)، يقول الراوي: فكان يمشي بيننا وهو من أهل الجنة. وكذلك بلال : فقد قال له: (إني أسمع دف نعليك في الجنة)، وغيره من الذين شهد لهم بذلك.

وقد ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأرجو ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وفي هذا شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل أحد منهم النار، كما أنهم من أهل الجنة؛ لأن من لم يدخل النار دخل الجنة ولابد. وكذلك أهل بدر الذين عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فمثل هؤلاء إذا كان الله قد غفر لهم فإن ذلك دليل على أنهم من أهل الجنة.

وبقية الصحابة رضي الله عنهم يرجى لهم الخير، ولسبقهم ولأعمالهم الصالحة قد أنزل الله فيهم آيات تدل على سبقهم وعلى فضلهم، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100] هؤلاء المهاجرون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، والأنصار الذين أسلموا بالمدينة وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] يعني: الذين أسلموا متأخرين من الصحابة، يقول تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [التوبة:100] فهذه تزكية من الله تعالى لهم، وشهادة لهم بأنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فهذا أيضاً دليل على أن المهاجرين والأنصار والذين أسلموا بعدهم ونصروهم يرجى لهم الخير.

تحقيق التوحيد يحرم دخول النار

وردت أحاديث في تغليب الرجاء، وأن أهل التوحيد لا يدخلون النار، مثل حديث عتبان بن مالك (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر عنده رجل يقال له: مالك بن الدخشم، فقال بعض الحاضرين: ذاك منافق، فقال: وما يدرك أنه منافق؟ أليس قد قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؟! فقالوا: إنا نرى وده وميله إلى المنافقين، فقال: إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، وكذلك من حقق التوحيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).

فهذه تزكية من الله، وهذه شهادة من الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن من أتى بهذه الشهادة حقيقة، وشهد بالجنة والنار، وشهد بالبعث بعد الموت، وشهد بما أخبر الله تعالى به، وكان بتلك الشهادة عن يقين وعن عقيدة راسخة صادقة؛ أثمرت تلك الشهادة العمل، وأثمرت شهادة أن لا إله إلا الله طاعة الله وعبادته، وأثمرت شهادة أن محمداً رسول الله اتباعه وتعظيم سنته، والسير على نهجه، وأثمرت شهادة أن الجنة حق: طلبها، والعمل لها، وكذلك أثمرت شهادة أن النار حق: الهرب منها، والبعد عن الأسباب التي توقع فيها.

وبلا شك فإن العمل الصالح يسبب لصاحبه دخول الجنة، والأحاديث كثيرة معروفة في أن الأعمال الصالحة قد رتب عليها دخول الجنة.

وهناك أحاديث كثيرة بينت أن هناك أعمالاً رتب على بعضها دخول النار، ولكن يظهر أن ذلك الدخول لأجل ذلك الذنب، ثم بعد التمحيص من ذلك الذنب الذي لم يصل بصاحبه إلى الشرك، وإلى الحكم بخلوده في النار، فإنه يعذب بقدر ذنبه، ثم يخرج من النار، وعليه تحمل أحاديث الشفاعة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه يشفع في أهل لا إله إلا الله، وأنه سوف يخرج من النار أهل الإيمان بالله، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، وحبسه القرآن، وهم الكفرة والملاحدة والمشركون ونحوهم.

الحكم العام فيمن يستحق الجنة ومن يستحق النار

نحن نحكم حكماً عاماً ونقول: أهل التوحيد، وأهل الإسلام، وأهل الإخلاص، وأهل العمل، هؤلاء نرجو لهم الجنة، والله تعالى لا يخيب رجاء المؤمنين؛ وأهل الكفر، وأهل الشرك، وأهل الزندقة والنفاق، هؤلاء نعلم أن الله توعدهم بالنار، أما أهل الكبائر فنخاف عليهم من عذاب الله، وكذلك نرجو لهم رحمة الله، نرجو أن الله تعالى يرحمهم، فهو واسع الرحمة، ولكن نخاف أن يعذبهم، وعذاب الله شديد؛ لأنه سبحانه قد توعد بالعذاب على دون ذلك، ووعد بالثواب على أعمال قليلة.

إذاً: نرجو لهؤلاء دون أن نجزم بأنهم من أهل الجنة، وإذا كانت عندهم كبائر فنخاف عليهم دون أن نجزم لهم بالنار، فلا نجزم لهؤلاء بجنة ولا نار، ولكن نخاف على المذنب، ونرجو للمحسن، هذه من عقائد أهل السنة.