شرح العقيدة الطحاوية [26]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق ).

قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172].

يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلَّا هو، وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم:

فمنها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قُبُلاً قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] إلى قوله: الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173]).

ورواه النسائي أيضاً وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه.

وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عزَّ وجلَّ إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار).

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان في صحيحه.

وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عينَي كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب! مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب! مَن هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داوُد. قال: رب! كم عمره؟ قال: ستون سنة. قال: أي رب! زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت قال: أوَلم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أوَلم تعطها ابنك داوُد؟! قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته)، ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه.

وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم. قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي) وأخرجاه في الصحيحين أيضاً.

وفي ذلك أحاديث أُخَر أيضاً كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه وميَّز بين أهل النار وأهل الجنة].

يؤمن أهل السنة بالميثاق الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وهي قوله تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173].

فهذه الآية فيها أن الله أخذ من ظهور بني آدم ذريتهم.

ذكر قول من قال بأن الذرية مأخوذة من ظهور بني آدم

وقد اختُلف في المراد بالذرية المأخوذين هل هم مأخوذون من ظهر كل إنسان، أو كلهم من آدم؟

وظاهر الآية أنهم من ظهور بني آدم، فقد قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف:172] أي: من كل إنسان أخرج ذريته.

ثم كلمهم وخاطبهم وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، ويكون هذا هو الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، كما في قوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].

وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البَهِيْمَة بُهَيْمَةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، فأخبر بأن الآدمي يولد على الفطرة، وإنما تتغير فطرته بسبب ما يتلقاه من أبويه أو من أقاربه أو من بيئته ومن ينشأ بينهم، وإلا فلو ترك كل أحد على فطرته لعرف ما خلق له، ولعرف أنَّ له رباً، ولعرف أنه مكلف ولبحث بعد ذلك عن التكاليف التي أُمر بها.

ويؤيد هذا أن الفطرة هي الخلقة والابتداء، كما في قوله تعالى: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلَاً [فاطر:1]: و(فاطرها): منشئها ومبدئها وموجدها، فالله تعالى هو الذي فطر الخلق، أي: ابتدأ خلقهم وأوجدهم على غير مثال سبق.

فطرة الله تعالى في خلقه وما يصرفها

فلما فطر الله الناس على الإسلام كانوا بذلك مستعدين لمعرفته ولمعرفة ما خلق له، ولكن صرفتهم الصوارف وصدتهم الصدود، واجتذبتهم الأهواء والأديان الباطلة التي تلقوها، هذا قول في هذه الآية.

وصحيح أن الله تعالى جعل للإنسان عقلاً وفكراً، وبدون هذا العقل والفكر يسقط عنه التكليف، فإذا سقط عقله وإذا سلب تفكيره وإدراكه سقطت عنه التكاليف، وما دام أن معه فطرته ومعه عقليته فإنه مكلف، حتى ولو لم تأتِه الشريعة، حتى ولو لم يسمع بها، ولكن إذا نشأ عاقلاً عرف أنه ليس بمُهمل، وأن هذا الكون كله لا بد له من موجِد، وأن الذي أوجده لا بد له من حقوق على عباده، فيبحث بعد ذلك.

ولما كانت الفطرة والعقليات لا يُمكن أن تفصل الحقوق التي لله سبحانه بعث الله الرسل وأنزل الكتب ليبينوا تلك الحقوق، فكأنه يقول: أنتم بفطركم وعقولكم تعرفون أنكم مخلوقون وأن لكم خالقاً وأن لخالقكم عليكم حقوقاً، ولكن هذه الحقوق نحن نبينها لكم ونفصلها لكم، فنقول: من حقوق الله كذا، ومن حقوقه كذا، ومما أمركم به كذا، ومما نهاكم عنه كذا، فامتثِلوا، وإذا امتثلتم فإن لكم الثواب على كذا، وإذا لم تمتثلوا بل خالفتم فإن عليكم العقاب.

وهذه وظيفة الرسل، جاءوا مبينين لما في فطرة الإنسان من العلوم مفصلين لها.

فهذا قولٌ من الأقوال في هذه الآية.

وقد دلت الأدلة على أن الله سبحانه جعل للإنسان معرفة بها يدرك ما أمامه وما خلفه، ولكن تلك الأدلة تتغير بتغير ما يفسدها وما يمازجها، إما من العلوم وإما من الأعمال وإما من الأشخاص.

فكثير من العلوم تصرف الفطرة، حتى يرى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وكثير من المجتمعات والمخالَطات تصرف الفطرة، فزملاؤه وأخلاؤه وإخوته ومعاشروه يفسدون عليه عقله ويفسدون عليه فطرته، وينكسون معرفته ويبقى لا يعرف إلا ما يألفه، فلا يعرف أن الخير خير ولا أن الشر شر، فيستحسن القبيح ويستقبح الحسن.

وكثير من الشبهات التي يروجها أهلها تفسد الفطرة أيضاً، فينقلب فيها الحق باطلاً والباطل حقاً، ولو سلم الناس من هذه الأشياء لبقوا على فطرتهم.

وعلى هذا فيقال: إن دين الإسلام هو دين الفطرة، هو الدين الذي تشهد العقول السليمة بحسنه وملاءمته، ولقد روي أن أعرابياً أسلم لأول ما دُعي وقال: إني رأيت هذا الدين ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه! ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به.

وقد ذهب بعض المبتدعة إلى أن العقل له دخل في التحسين والتقبيح، وجعلوه مقدماً على الشرع، وهذا قول خطأ، ولو قيل بالتحسين والتقبيح العقليين، ولكن لا دخل للعقل فيما يخالف الشرع، إذا جاء الشرع وجاءت النصوص قدمت على ما تستحسنه العقول مهما كانت تلك العقول، فليس للعقل مدخل ما دام أن الشرع وُجِد ناصاً على حكم من الأحكام، فيقدم حكم الشرع على جميع العقول.

ومع ذلك فإن العقول الصريحة لا يمكن أن تخالف النقول والأدلة الواضحة الصحيحة، وقد ألف في ذلك ابن تيمية كتاباً مشهوراً سماه: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) فـ(صحيح المنقول) يعني الأحاديث والأدلة الصحيحة، و(صريح المعقول) هو العقول السليمة؛ يعني أن العقول السليمة لا تخالف النقول الصحيحة.

ذكر قول من قال بأن الذرية مأخوذة من ظهر آدم

أما القول الثاني -وهو ما ذكر في هذه الأحاديث- فهو قول من الأقوال في معنى الآية، وإن كانت الآية بينها وبينه نوع مخالفة، فهو ينص في هذه الأحاديث على أن الله لما أخرج آدم مسح ظهره واستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، والله تعالى قادر على كل شيء، ولا يُعجزه شيء، ولما استخرجهم عرضهم على آدم، فعرفهم وأخبره بأنهم ذريته، وأنهم سوف يُخلقون من صلبه وأصلاب أبنائه إلى يوم القيامة.

وفي بعض الروايات أن الله استخرج أهل الخير وقال: (هؤلاء للجنة خلقتهم وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون)، فميزهم وهم في صلب آدم، وبيَّن مَن هم السعداء ومَن هم الأشقياء، وعلم أهلَ الجنة مِن أهل النار، وعلم من يعمل لهذه ومن يعمل لهذه.

علم الله بالسعداء والأشقياء لا يعني ترك العمل

وأشكل ذلك على بعض الصحابة فقالوا: ما دام أن الله قد كتب علينا ونحن في صلب أبينا من هو من أهل الجنة أو من أهل النار فلماذا نعمل؟ لأنه لا نحصل إلا على ما كُتب لنا، فأجيبوا: بأنكم مكلفون ومأمورون بالعمل، مأمورون بأن تعملوا، والله تعالى هو الذي يوفق كل إنسان لما خلقه له ولما كتبه عليه قبل أن يخلقه، وقرأ -في رواية- قول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10].

فأهل الخير يُيَسرون لعمل يكونون به سعداء، وأهل الشر يخذلهم ويصرفهم فيعملون بعمل أهل الشر وأهل الشقاوة والعياذ بالله، ولكن مع ذلك كله فإنهم مأمورون ومنهيون، ومكلفون بأن يمتثلوا هذا الفعل، وبأن يتركوا هذا الفعل، ويعتبرون إذا فعلوا ذلك مطيعين، وإذا لم يفعلوه يعتبرون عصاة.

وعلى كل حال لا يُستبعد أن الله سبحانه عندما خلق آدم أخرج ذريته كالذر لا يُحصي عددهم إلا الله، وكل من على وجه الأرض اليوم، وكل من على وجه الأرض فيما سبق، وكل من سيولد فيما بعد، كلهم قد علم الله تعالى عددهم، وقد علم أعمارهم، وقد كتب آجالهم، كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحج:70]، وكما في قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وكما في قوله: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22].

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب، وأن القلم كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فقوله: (ما هو كائن) يعني: كل موجود وكل من سوف يوجد، فإنه خلقهم وخلق أعمالهم وعرف آجالهم وعرف أزمنتهم، فهو على ذلك قدير، وعلى كل شيء قدير، لا يعجزه شيء ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة.

فيؤمن الإنسان بالأمرين:

يؤمن بأن الله خلق الخلق واستخرج ذرية آدم قبل أن يوجدهم، ويؤمن بأن كل إنسان رزق فطرةً وعقلاً بحيث يعرف الخير ويعرف الشر، وأن تلك الفطرة إما غَيَّرتها الأهواء والشهوات والمجتمعات، إما بقيت على حالتها وفطرتها، ولا يحمله ذلك على أن يعتمد على القضاء والقدر ويستسلم ويدع العمل، بل عليه أن يعمل، (فكل ميسر لما خلق له).

الكلام على معنى الميثاق المأخوذ وعلى خلق الروح والجسد

قال رحمه الله تعالى: [ومن هنا قال من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صوَّر النسَمة وقدَّر خلقها وأجلها وعملها، واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها وقدَّر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا يدل على أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودةً ناطقةً كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملةً بعد جملة كما قاله ابن حزم ، فهذا لا تدل الآثار عليه.

نعم. الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولاً، فيجيء الخلق الخارجي مطابقاً للتقدير السابق، كشأنه سبحانه في جمع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقداراً وآجالاً وصفاتٍ وهيئاتٍ، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقةً لذلك التقدير السابق.

فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم، وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومعنى قوله: (شَهِدْنَا) أي: قالوا: بلى، شهدنا أنك ربنا، وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب.

وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضَهم على بعض.

وقيل: (شَهِدْنَا) من قول الملائكة، والوقف على قوله: بَلَى وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي.

وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم.

والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول.

واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، كـالثعلبي والبغوي وغيرهما.

ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركَّبها الله فيهم، كـالزمخشري وغيره.

ومنهم من ذكر القولين، كـالواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة والثاني إلى المعتزلة].

في هذه الأحاديث أو في بعضها ما يُفهم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، وأن الذي خاطبها بقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) هي الأرواح.

ومن عقيدة أهل السنة أن الأرواح مخلوقة، فليست قديمة كما يقول الفلاسفة ونحوهم، بل هي مخلوقة خلقها الله بعد أن لم تكن، وذلك لأن الإنسان مركب من جسد وروح، والروح هي التي تحيا بها الأجساد، وإذا خرجت الروح مات الجسد، فهل الروح مخلوقة قبل الجسد أم مخلوقة مع الجسد؟

والصحيح أنها مخلوقة عندما خلق الله الجسد، فكلما خلق جسداً خلق له روحاً، وكلما مات ذلك الجسد بقيت روحه إما معذبة وإما منعمة إلى أن ترجع إليه في الآخرة.

وربما يأتينا شيء يتعلق بخلق الأرواح.

وعلى كل حال فالآية الكريمة وهي قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172] هناك من يقول فيها: إن الله أخرجهم من آدم، وأخذ عليهم العهد، وأشهدهم على أنفسهم، وإنهم قالوا: بلى.

ولعلك أن تقول: إننا لا نتذكر هذا الميثاق، ولا ندري ولا نعرف متى أُخرجنا، ولا ندري هل قيل لنا ذلك القول أم لا؟

فلذلك يقال: إن هذه هي الفطرة، وإن هذا الإشهاد هو ما فطروا عليه من المعرفة، وإن قولهم: (بَلَى شَهِدْنَا) يعني: شهدنا أن ربنا هو الذي خلقنا، فيكون ذلك خطاباً للأرواح قبل خلق الأجساد.

ومن العلماء من قال: إن هذا وإن لم يتذكره كل إنسان، لكنه حق وواقع، وإن لم يكن هناك ذاكرة عند كل إنسان.

ولعل القول الأول أن ذلك هو الفطرة التي فطروا عليها هو الأقرب.

ومن المفسرين من اقتصر على مدلول الأحاديث، فجعل الآية مفسَّرة بالأحاديث، فمعناها: أخرجهم من آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وردهم في صلب آدم، وأخرج منه أولاده، وأخرج من أولاده أحفاده -أي: أولادهم- وهكذا تسلسلت الولادة إلى ما شاء الله تعالى، إلى أن يحصل وجود من قدر الله خلقه إلى يوم القيامة.

ومن العلماء المفسرين من اقتصر على ذكر الفطرة، وأن المراد بالإشهاد هنا هو ما قذف في قلوبهم من المعرفة ومن الفطرة التي فطر الناس عليها.

ومنهم من ذكر القولين، والكل مجتهد، وكلٌّ اختار ما يناسبه.

فالذين تخصصوا في النقول وفي الحكايات ونحوها اقتصروا على الميثاق الذي ورد في الأحاديث.

والذي فسروا بالرأي أو فسروا بالاستنتاج ذكروا أيضاً الفطرة.

والرواية التي فيها أن الله تعالى أشهدهم وأنهم قالوا: شهدنا وتكلموا، يقول الشارح عنها: إنها موقوفة ليست مرفوعة، ويمكن أنها مما نُقل من كتب بني إسرائيل التي لا تُصدَّق ولا تكذَّب، إنما تقبل إذا وافقت النقل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما جاء في كتاب الله تعالى.

فعلى هذا نحن نعتقد معنى الآية إجمالاً، وإذا ثبتت لنا الأحاديث اعتقدناها ووكلنا كيفيتها إلى الله سبحانه.

آية أخذ الميثاق لا تدل على أخذ الذرية من ظهر آدم

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة.

والذي فيه الإشهاد -على الصفة التي قالها أهل القول الأول- موقوف على ابن عباس وابن عمرو ، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرِّجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين، والحاكم معروف تساهله رحمه الله.

والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر، وذلك شواهده كثيرة ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون.

وأما الأول فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة.

قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه.

فقال قوم: معنى الآية أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض، قالوا: ومعنى وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172] دلهم بخلقه على توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172] أي: قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، ذهب إلى هذا القفال وأطنب.

وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها.

ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك .. . إلى آخر كلامه].

هذه أيضاً أقوال في معنى الآية:

قولٌ: أن قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] معناه: كلما ولد مولود أخذ الله عليه العهد واستشهده بما فُطِر عليه ليعرف أن له رباً وأنه مربوب وأن عليه تكاليف، فكلما وُلد مولود أخذ عليه العهد، وذلك لأن الله قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف:172]، وبنو آدم جمع، يعني: كل آدمي من البشر أخذ الله من ظهره، يعني: استخرج ما في ظهره من ولد ثم استنطقهم واستشهدهم، ويكون ذلك ما علموه أو ما أقام أمامهم من البينات والبراهين على أنه ربهم، وعلى أنهم مربوبون والمربوب له رب، وعلى أنهم مخلوقون والمخلوق له خالق.

وأما القول بأنهم استُنْطِقوا لما أُخرجوا من آدم وشهدوا على أنفسهم و(قَالُوا بَلَى) لما قال الله لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ فهذا قول اعتُمد فيه على حديثين، ولكن الحديثين فيهما مقال.

ويقول: إن حديث ابن عباس الذي تقدم وحديث عبد الله بن عمرو لم يخرجا في الصحيح، وإنما أخرجهما الحاكم والحاكم رحمه الله يتساهل في تخريج الأحاديث، فلا يعتمد تصحيحه إذا انفرد به.

لذلك لعل الآية عامة في أنها أخذت العهود من بني آدم، وأن تلك العهود هي إما المعرفة التي ركبت في قلوبهم حيث يعرفون أنهم مخلوقون، وإما الفطرة التي فطر الناس عليها، يعني: جعل في فطرتهم ميلاً ومعرفةً، وهو ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة).

تضعيف الشارح للقول باستخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادها

قال رحمه الله تعالى: [وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول حديث أنس المخرَّج في الصحيحين الذي فيه: (قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي) ولكن قد روي من طريق أخرى: (قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيُرَد إلى النار) وليس فيه (في ظهر آدم) وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.

بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين:

أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة.

والثاني: أن الآية دلت على ذلك.

والآية لا تدل عليه لوجوه:

أحدها: أنه قال: (مِنْ بَنِي آدَمَ)، ولم يقل: من آدم.

الثاني: أنه قال: (مِنْ ظُهُورِهِمْ)، ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض أو بدل اشتمال وهو أحسن.

الثالث: أنه قال: (ذُرِّيَّتَهُمْ)، ولم يقل: ذريته.

الرابع: أنه قال: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، أي: جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار -كما تأتي الإشارة إلى ذلك- لا يذكر شهادة قبله.

الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

السادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.

السابع: قوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:173] ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد: ألا يدعوا الغفلة، أو يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره، ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.

الثامن: قوله: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173] أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم للرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.

التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقولهم: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:10].

العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:174] ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد على الفطرة، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه لا يتبدل ولا يتغير، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. والله أعلم.

وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات، ورجح القول الثاني وتكلم عليه ومال إليه].

ويمكن أن يجمع بينهما بأن الآية في ميثاق والأحاديث في ميثاق، فالآية يظهر أن المراد بها الميثاق الذي يأخذه على كل مولود يولد على الفطرة، وذلك الميثاق هو المعرفة التي فطر عليها، والأحاديث في خلق الأرواح أن الأرواح خلقت أولاً ثم أعيدت في صلب آدم وتكلمت، وأنها شهدت وإن لم تكن الأجساد موجودة.

وبكل حال فإن هذه الآية تؤيد أن الميثاق الذي فيها غير الميثاق الذي في الأحاديث من هذه الوجوه العشرة التي ذكرها، فإن الله تعالى قال: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) لم يقل: من آدم، والأحاديث فيها أنهم أخرجوا من ظهر آدم، فدل على الفرق بين ما في الآية وما في الأحاديث.

والآية فيها قوله: (مِنْ ظُهُورِهِمْ) والأحاديث فيها أنهم كلهم ذرية آدم.

والآية فيها أنه (أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ) وهذا الإشهاد قد لا يتذكرونه لأنه هو الفطرة، فلو كان هو الإشهاد عند خلق الأرواح لم يكن حجة عليهم، فدل على أن المراد أنهم فطروا على الإسلام، وأنه لا مانع من أن الله سبحانه أخرج أرواحهم وأنفاسهم من صلب آدم، وعرضهم عليه، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً، وأن منهم نبي الله داود وأنه وهبه من عمره أربعين إلى آخر ما تقدم.

لا مانع من أن نؤمن بأن الله استخرج الأرواح قبل أن يخلق الأجساد، وأنه أخذ الميثاق على الأجساد، وأن الميثاق الذي أخذه على الأجساد في الآية هو المعرفة والفطرة التي فطروا عليها، فبذلك لا يحصل اختلاف بين الآية والحديث، فيعتقد المسلم أن الله فطر الناس على المعرفة وعلى الديانة: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] ، وأن تلك الفطرة تتغير بتغير البيئة: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، ويعتقد مع ذلك بناء على الأحاديث أن الله استخرج ذرية آدم وعلم أهل الجنة وعلم أهل النار وقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي، وذلك يبين سابق القدر لله تعالى، وسابق علمه بالأشياء قبل وجودها، والله تعالى بكل شيء عليم.

وقد اختُلف في المراد بالذرية المأخوذين هل هم مأخوذون من ظهر كل إنسان، أو كلهم من آدم؟

وظاهر الآية أنهم من ظهور بني آدم، فقد قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف:172] أي: من كل إنسان أخرج ذريته.

ثم كلمهم وخاطبهم وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، ويكون هذا هو الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، كما في قوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].

وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البَهِيْمَة بُهَيْمَةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، فأخبر بأن الآدمي يولد على الفطرة، وإنما تتغير فطرته بسبب ما يتلقاه من أبويه أو من أقاربه أو من بيئته ومن ينشأ بينهم، وإلا فلو ترك كل أحد على فطرته لعرف ما خلق له، ولعرف أنَّ له رباً، ولعرف أنه مكلف ولبحث بعد ذلك عن التكاليف التي أُمر بها.

ويؤيد هذا أن الفطرة هي الخلقة والابتداء، كما في قوله تعالى: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلَاً [فاطر:1]: و(فاطرها): منشئها ومبدئها وموجدها، فالله تعالى هو الذي فطر الخلق، أي: ابتدأ خلقهم وأوجدهم على غير مثال سبق.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2715 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2631 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2591 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2565 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2472 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2409 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2387 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2373 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2336 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2301 استماع