شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [5]


الحلقة مفرغة

تقدم معنا الإشارة إلى أن ما يتعلق بمسائل العقائد -وعلى سبيل الخصوص مسائل الأسماء والصفات- أنه لا حاجة إلى علم الكلام فيها؛ باعتبار أن الإنسان يثبتها على ما جاء في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن الزيادة عن ذلك المعنى هي تهكم وتكييف, وربما يكون تعطيلاً أو تشبيهاً لذلك الاسم أو لتلك الصفة لله سبحانه وتعالى, ولذلك نقول: إن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون الصفة والاسم لله جل وعلا, وينفون معرفتهم بما لم يرد به النص, فيثبتون الاسم والصفة, ويثبتون الحقيقة, وما لهذا الاسم والصفة من أثر, وأما بالنسبة لهذا الأثر فهذا بربطه بالواقع مما لا حد له؛ فإذا رأى الإنسان حاكماً باغياً ظالماً قد تجبر وبغى وظلم وطغى فإنه يستحضر صفة الحلم لله سبحانه وتعالى, وأن الله عز وجل يمهل الظالم إلى أجل معلوم.

وما يتعلق بصفات الله عز وجل وأسمائه وربطها بالحوادث والنوازل هذا فقه من فقه المعاني لها, والذي ينبغي للإنسان أن يستحضرها, وهي المرادة في أحد الوجوه في قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن لله تسعة وتسعين اسماً, من أحصاها دخل الجنة ), فالمراد بالإحصاء: معرفتها عداً, وكذلك أيضاً معرفة آثارها في الناس, والعمل بها, وذلك أن الإنسان يسأل الله عز وجل بأسمائه, ويؤمن كذلك بالأسماء والصفات, وأن يربطها أيضاً بوقائع وحوادث الكون.

قال المؤلف رحمه الله: [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: قرأت بخط أبي عمرو المستملي سمعت أبا عثمان سعيد بن إشكاب يقول: سألت إسحاق بن إبراهيم عن اللفظ بالقرآن, فقال: لا ينبغي أن يناظر في هذا, القرآن كلام الله غير مخلوق ].

وهذا كما تقدم أنه ينبغي للإنسان ألا يضيف شيئاً من الألفاظ فيما يتعلق في أسماء الله عز وجل وصفاته, حتى لو كان ذلك في أمر النفي إلا أن ينفي شيئاً مشاعاً, وهذا قد تقدم تقريره, ولهذا العلماء كانوا يقولون: إن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي. ومرادهم بذلك: أن مثل هذا الكلام ينبغي للإنسان أن يبتعد عنه؛ لعدم وروده وعدم الحاجة إليه, بل يمر الأشياء كما جاءت, والغاية التي وصل إليها أهل البدع والضلال في مسائل الأسماء والصفات هو بإيغالهم بالدخول في التفاصيل والجزئيات وتحليل كثير من المعاني, ولهذا جاء عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله قوله: إن العلم نقطة كبرها الجهال. يعني: أنهم دخلوا في كثير من التفاصيل والجزئيات حتى أوجدوا شيئاً من الجهل مما لا يحتاجون إليه, وعلم الشريعة كما جاء في كلام الله عز وجل, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, والذي توفى عنه نبينا عليه الصلاة والسلام هو كامل تام, لا ينبغي للإنسان أن يستزيد في ذلك إلا ما يتعلق بمسائل النوازل, فإذا كان ثمة نازلة فإنه يعالجها على نظائرها التي عالجها في ذلك من سبقه من أهل العلم, ولهذا لما ظهرت مسألة: لفظي بالقرآن مخلوق, وهي مسألة اللفظية الذين يتكلمون على أن القرآن هو كلام الله وليس بمخلوق, فجاء لديهم تبعاً ما يتعلق بمسألة اللفظ, وهو لفظ الإنسان أي: تلفظه, وحركة شفتيه ولسانه, والصوت, والهواء الذي يخرج منه, هل هذا مخلوق أو ليس بمخلوق؟ ويصعب عليهم في إدراكهم أن يفصلوا بين ذلك وبين كلام الله سبحانه وتعالى, وهذا على ما تقدم أن عقيدة السلف الصالح في هذا أنهم يقولون: إن الكلام كلام البارئ, والصوت صوت القارئ, كما أن المكتوب هو كلام الله سبحانه وتعالى, وأما بالنسبة للخط والمداد فهذا خط فلان والمداد من حبر أو نحوه, فنقول: إن هذا هو منهج أهل السنة والجماعة في ذلك, وإنما كان العلماء يحذرون من الدخول في أمثال هذه التفاصيل والغلو فيها والمبالغة في ذلك إيغالاً أن هذا مما يفضي إلى شيء من المخالفات في أمر الله سبحانه وتعالى, والوقوع في البدعة.

ومسألة اللفظية إنما أوردها المؤلف استدراكاً على من قال والتزم بمنهج السلف الصالح؛ أن القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى وليس بمخلوق, فجاءوا في مسألة اللفظ؛ هل اللفظ مخلوق أو ليس بمخلوق؟ يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة, وإذا كان كذلك فيلزم من هذا أن يكون اللفظ مخلوقاً, فكيف نقول: إن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق؛ ثم نقول: إن قراءة الإنسان مخلوقة؟ وهم يقولون: إن الله عز وجل خلق الناس وما يعملون, فإذا كان كذلك فقولهم فعل وعمل, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112], فالله عز وجل ذكر القول ثم سماه فعلاً, وينبغي أن نعلم أن أهل السنة والجماعة يجعلون للقلب عملاً, وكذلك للسان عملاً, وللجوارح عملاً, فقول الإنسان وإن كان قولاً إلا أنه فعل, وإنما يختلفون في جعل ذلك عملاً, فمن العلماء من يقول: نسميه قولاً ولا نسميه عملاً, لكن نقول: إن للقول عملاً, وللقلب عملاً, وللجوارح عملاً وفعلاً, وهذا يؤيده ظاهر الشرع من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومسألة لفظي بالقرآن مخلوق؛ امتحن بذلك جماعة من الأئمة في هذا الباب, وكانوا يمسكون حتى ظهرت ثم حذر العلماء منها, ولهذا الإمام أحمد رحمه الله كان يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر, ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي. بل من العلماء من يقول: من قال: إن لفظي بالقرآن ليس بمخلوق فهو مبتدع؛ باعتبار أنه ابتدع شيئاً لا ينبغي للإنسان أن يخوض فيه, وأن يمر ما جاء من عقيدة أهل الإسلام في كلام الله سبحانه وتعالى كما جاء من غير أن يزيد في ذلك شيئاً من التفاصيل, ولا تقريرات المسائل التي لم تكن معلومة عند السلف الصالح عليهم رحمة الله.

قال المؤلف رحمه الله: [ وذكر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في كتاب الاعتقاد الذي صنفه في هذه].

ابن جرير الطبري له كتاب في مسائل الاعتقاد اسمه التبصرة, وقد تكلم فيه على جملة من المسائل فيما يتعلق بمسائل الإيمان, وكذلك أيضاً ما يتعلق بمسائل كلام الله سبحانه وتعالى, وامتحن على ما تقدم الإمام البخاري في هذا الأمر لما كان في حلقة من حلق العلم, فسئل عن لفظي بالقرآن, فقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق, وأفعال العباد مخلوقة, أطلق كلاماً عاماً, فحمل كلام البخاري في قوله: (القرآن كلام الله ليس بمخلوق, وأفعال العباد مخلوقة) على هذا العموم أي: على أنه قال: إن لفظي بالقرآن مخلوق, وهو أراد أن يجري على طريقة السالفين في هذا الباب؛ أن يبتعد عن مسائل التفصيل في مسألة اللفظ, فهو إذا قرر أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى وليس بمخلوق انتهى هذا الأمر؛ فلماذا يخوض في مسائل التفاصيل؟ فحمل قوله في ذلك وجعل له جملة من اللوازم التي هي ليست بلازمة, حتى هجرت حلقته في العلم, وقد مكن الله عز وجل له في ذلك, وله عقيدة مصنفة, وأشار إلى مسألة القرآن وكلام الله سبحانه وتعالى في هذا, وقد أسندها عنه اللالكائي في كتاب الاعتقاد عن الإمام البخاري رحمه الله بإسناد صحيح.

قال المؤلف رحمه الله: [ أما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي ولا تابعي, إلا عمن في قوله الغنى والشفاء, وفي اتباعه الرشد والهدى ].

تقدم الكلام معنا أن قولنا: القرآن كلام الله وهذا مستقر في الوحي وكذلك في السنة, أما أنه ليس بمخلوق لم يكن موجوداً بالنص في الوحي, ولا عن الصحابة عليهم رضوان الله على ما تقدم, وجاء في ذلك عن عبد الله بن عباس وجاء عن عبد الله بن مسعود عليهما رضوان الله, باعتبار أن هذه المسألة جاءت حادثة, إذاً فمسألة اللفظ هي أيضاً بعد ذلك, ولم تكن موجودة في كلام الصحابة ولا في كلام التابعين, وإنما جاءت بعد ذلك لما احتد الصراع, وكان ثمة لوازم, ومنهم من يحتج بهذا اللازم, فإذا قلت: إن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق فيلزم من ذلك أن تقول: إن كلامنا ليس بمخلوق كذلك؛ لأننا نتكلم بكلام الله سبحانه وتعالى.

والتفرق الذي طرأ على الأمة الإسلامية إنما هو بالإيغال في الجزئيات, وهذا تقدم الإشارة إليه, ولو بقوا على ما كان عليه في هذا بإمرار الأمر على ما كان عليه السلف الصالح من إطلاقات, والتسليم بها, وعدم الخوض في مثل هذا لكانت كلمة الأمة واحدة في مسائل الأصول, وكذلك مسائل الفروع, وهذا للأسف الشديد يجري عند كثير من الطوائف والفرق الدخول في التفصيلات والجزئيات وتوليد مسائل, خاصة فيما يتعلق بالغيبيات لم يكن عليه دليل.

وعلى ما تقدم في اعتقاد أهل السنة والجماعة خالف أهل السنة في ذلك طوائف, منهم المعتزلة الذين قالوا: إن كلام الله عز وجل مخلوق وصرحوا بذلك؛ باعتبار أنهم يرون أن أفعال العباد يخلقها العباد, وهم يرون انفراد العبد بخلق أفعاله على خلاف طريقة أهل السنة في ذلك, ويرون أن إضافة الكلام لله عز وجل إضافة تشريف؛ كإضافة السماء لله سبحانه وتعالى, وخلق الأرض والجبال وغير ذلك, فيقال: سماء الله, وأرض الله, وناقة الله, وغير ذلك, فيقولون: هذه إضافة تشريف, وتبع ذلك جملة من اللوازم التي ضلوا فيها, حتى فيما يتعلق بمسائل التكفير ونحو ذلك, فيقولون: إذا قلنا: إن كلام الله سبحانه وتعالى مخلوق فيلزم من هذا أنه كحال الجبل والشجر والتراب وغير ذلك, فإذا أخذ الإنسان حصاة ثم قام برميها هل يكفر أو لا يكفر؟ لا يكفر, وعلى هذا إذا أخذ شيئاً من المصحف ثم قام برميه, فهذا رمى شيئاً مخلوقاً ليس من الله سبحانه, وليس صفة منه جل وعلا, فقالوا: حينئذ لا يكفر.

حتى أيضاً الأشاعرة في هذا الباب, من قال منهم بأن القرآن هو كلام الله عز وجل وهو مخلوق, التزموا بجملة من اللوازم؛ وهم قلة من الأشاعرة, لكن أغلبية الأشاعرة يقولون: إن القرآن هو معنى قائم في نفسه, أوجده الله عز وجل خارجها, وهذا أيضاً يقول بنحوه الكلابية الذين يقولون بأن القرآن هو حكاية كلام الله, أو حكاية ما قام في نفس الله سبحانه وتعالى, والأشاعرة لا يقولون بأنه حكاية؛ باعتبار أن الحكاية يكون فيها زيادة أو نقصان, ولا تعني بذلك المطابقة, فإن الإنسان إذا حاكى فعلاً أو حاكى قولاً يزيد فيها أو ينقص, ولا يكون ثمة مطابقة, وهذا فيه اختلال في جانب الوحي, والأشاعرة على معاني في هذا الباب؛ منهم من قال: إن كلام الله سبحانه وتعالى هو المعنى القائم في نفسه, وأوجده الله عز وجل هكذا في الهواء, ومنهم من قال: خطه جبريل عن الله سبحانه وتعالى, وبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويتشبثون ببعض المتشابهات في هذا عضداً لقولهم, وهذا من المواضع التي ينبغي أن يتنبه لها؛ أن كثيراً من الطوائف حينما تقرر مسألة من المسائل تبحث عن دليل تجد من الأدلة ما يؤيد قولها, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40], وهذا في سورة الحاقة, وكذلك في سورة التكوير, وهذا المعنى على ما حملوه قالوا: إنه ليس بكلام الله عز وجل, وإنما هو كلام الرسول, تكلم به من عنده, وعبر بما في نفس الله سبحانه وتعالى, فنسب ذلك القول هو لذلك الرسول, وما جاء في الحاقة هو في الرسول, والمقصود في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما في سورة التكوير المراد بذلك هو جبريل, وعلى كل نقول: إن المراد بذلك هو بشارة أن الله عز وجل قد جاء إلى نبيه عليه الصلاة والسلام بكلام بلغه إليه غيره, ولو كان هذا المعنى صحيحاً أنه هو القول منه على سبيل التلفظ والإيجاد والخلق فلا معنى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغاً, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور:54]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67], فالنبي صلى الله عليه وسلم مبلغ ما جاء عن الله عز وجل, فالكلام كلام الله, فيدعون المحكم من كلام الله سبحانه وتعالى ويتشبثون بالمتشابه, وهذا على ما تقدم الكلام عليه أن الإنسان إذا قعد مسألة في نفسه ثم أخذ يقلب الأدلة من الوحي من كلام الله وكلام رسول الله يجد من الشواهد والأدلة ما يؤيد ذلك, وكثيراً من المسائل التي يطلقها أهلها ابتداء من غير تمحيص أول مرة, ثم إذا رد عليهم وعنف عليهم في القول في التجاوز في ذلك بحثوا عن شواهد تؤيد ذلك, ثم أصبحت عقيدة ثم أصبحت عناداً ثم قلدهم الناس في ذلك وأخذوها مذهباً متبوعاً, ولهذا نقرر دائماً أنه ما من شبهة طرأت على الإنسان إلا وأصلها شهوة كامنة, ولهذا نقول: الطوائف والفرق والمذاهب التي نشأت أصلها شهوات؛ إما حب البروز أو نزوة من نزوات النفس بمطمع من الدنيا بطلب جاه أو إرضاء ملك أو رئيس أو قبيلة أو نحو ذلك, أو ربما حفاظاً على مكانة الإنسان, ثم ولدوا كثيراً من المسائل فكانت زلة زلة, ثم عنف عليه الناس فأراد تقعيد هذه الزلة, وهي نوع من الشهوة أن يحافظ الإنسان على مقامه ورفعته في الناس, ثم تحولت بعد ذلك إلى منهج تبعه الناس عليه, ويظنون أنه مررها بالحق المحض, ولهذا نقول: إنه ما من شبهة إلا وقد تولدت عن طريق شهوة, ثم تحولت هذه الشهوة إلى شبهة, ثم انفصل ذلك الجيل من شهوته الماضية إلى أن تكون شبهة مستقلة, ثم أصبحت منهجاً متبوعاً يقاتل الناس عليه ويناضلون عليه, وهذا يظهر كثيراً لمن تتبع مسائل الخلاف, فيما يتعلق بمسائل العقيدة, وكذلك أيضاً فيما يتعلق بمسائل الفروع.

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن يقوم قوله مقام الأئمة الأولى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله، فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: اللفظية جهمية, قال الله عز وجل: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6], ممن يسمع؟ قال: ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم ].

فبين أن الذي يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كلام الله, وما أشار إلى شيء من اللفظ, ولا فصل المسألة وفرق بين صوت القارئ وبين كلام البارئ, فتقول: هذا كلام الله سبحانه وتعالى, وهذا دليل على ما تقدم الكلام عليه أنه ينبغي للإنسان أن يمر مسائل الدين كما جاءت في كلام الله, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعن الصحابة والتابعين, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6], وهل يسمعه من الله أم من نبيه؟ من نبيه, فإذا كان من نبيه فلماذا يقول: كلام الله سبحانه وتعالى, ولم يقل: كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأن الكلام لله سواء تكلم به جبريل أو تكلم به رسول الله أو تكلم به غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما بالنسبة لما يطرأ من ذلك من قولهم: إن لفظي بالقرآن مخلوق أو لفظي بالقرآن غير مخلوق, فهذا لا يخلو من أن يكون جهمياً, يريد من ذلك الوصول إلى جعل كلام الله مخلوقاً, وإما أن يكون مبتدعاً؛ جاء بمعنى يؤدي إلى حق ولكنه ابتدع هذه اللفظة, ولهذا الأئمة عليهم رحمة الله تعالى يحذرون من الدخول في أمثال ذلك إلا في رد بدعة من البدع.

قال المؤلف رحمه الله: [ ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه رضي الله عنه أنه كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن ].

على ما تقدم الكلام عليه أن بعض العلماء إذا أراد أن يثبت مسألة لتقريبها للناس ربما يبالغوا في مسألة الإثبات, ولهذا تقدم في كلام المصنف أن أهل الحق يعرفون ويفهمون ولا يحرفون, أي: لا يأتون بشيء من المعاني الجديدة, ولهذا يروى عن بعض الأئمة عليهم رحمة الله أنهم يثبتون صفة الفم لله سبحانه وتعالى لا على سبيل الالتزام بها, وإنما من باب تقريب أن الله عز وجل تكلم على الحقيقة, وقد ذكر القاضي ابن أبي يعلى في كتابه الطبقات رواية عن الإمام أحمد أنه قال: تكلم الله كلاماً بفيه, يعني: يريد من ذلك أن الله عز وجل تكلم على الحقيقة, وهذا إثبات صفة الفم لله سبحانه وتعالى, لا دليل عليها من كلام الله عز وجل, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, والإمام أحمد رحمه الله لا يريد من ذلك إقراراً لهذه الصفة, وإنما يريد إثبات أن الله سبحانه وتعالى تكلم على الحقيقة, لا أنه عبر بمعنى قائم في نفسه, أو خلق الله عز وجل أو أوجد الكلام في الهواء, فأراد أن يحسم هذه المسألة بتقريبها تقريباً لا يدانيه لبس.

قال المؤلف رحمه الله: [ كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي, ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع.

قال محمد بن جرير : ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله, إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع ].

وهذا أيضاً يدل على جملة من المسائل فيما يتعلق بتمسك الإمام أحمد رحمه الله وشدة وقوفه في هذه المسألة؛ لأن هذه المسألة مسألة مفصلية تقتضي التبديل, فلو أقر فيها الإمام أحمد لأصبح القول قولاً واحداً بعد ذلك, فاستمسك بهذا الأمر.

كذلك أيضاً مسائل الدين -وإن لم يتعطل في ذلك عمل العقائد القلبية- ينبغي أن تؤصل وأن ترسخ في الناس, فقد يقول قائل كما يقوله بعض الكلاميين من المعاصرين وغيرهم, الذين يقولون: ما المانع أن يكون كلام الله عز وجل مخلوقاً, إذا كانت المعاني هي المعاني, والصلاة هي الصلاة, والحج هو الحج, ولم نغير من ذلك شيئاً, ونتعبد بما فيه من أحكام, وأن الله سبحانه وتعالى أرادها سواء كان ذلك مخلوقاً أو ليس بمخلوق؛ فالصلاة لن تتغير, والأخبار عن أمور الغيب لن تتغير, والعصمة بجهة حتميته وعدم ورود الباطل إليه من بين يديه ولا من خلفه, لا يمكن أن يرد على هذا المعنى, إذاً ما الإشكال في هذا أن يكون هذا الخلاف هو خلاف يسير جداً ولا يعنف في مثل هذا الأمر؟ نقول: إن إقرار مسائل العقائد ورسوخها هو أمر من أصول الدين, فلا يجوز للإنسان أن يقول: إن هذه المسائل هي خلاف لفظي لا يؤثر ذلك على العمل, نقول: إن تأثيرها على العمل الباطن أشد خطراً من تأثيرها على العمل الظاهر, فبمجرد اعتقاد الإنسان أن هذا هو كلام لله سبحانه وتعالى وأنه مخلوق يلزم من ذلك جملة من اللوازم الفاسدة, ولو لم يؤثر ذلك على عمله, فيؤثر ذلك على اعتقاده من جملة من اللوازم من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى الظاهرة بالنسبة لكلام الله جل وعلا, كذلك أيضاً من أنه يلزم من ذلك جملة من اللوازم التي ربما يتشبث بها بعض أهل الطوائف الذين يأتون بعد ذلك, الذين يقولون بقول ثم لا يحسبون لوازمه تطرأ بعد قرن أو بعد قرنين, فالذين يقولون: إن كلام الله عز وجل مخلوق, يلزم من ذلك أنهم يأتون بصفة أخرى, والصفة الأخرى أنها مخلوقة, وهكذا, ويتسلسلون حتى ينتهي ذلك الأمر, ولهذا وقف أئمة السنة في هذا الباب حجر عثرة في كثير من أمثال هذه الأقوال, وأوقفوا كثيراً من مد الأقوال الضالة, ولهذا نقول: إن الأقوال الباطلة الكفرية ما تسلسلت إلا وقد سبقها شبهات, لهذا نقول: إن الإنسان لا يمكن أن يكفر ابتداء إلا وقد وقع في كبيرة, ولا يقع في كبيرة إلا وقد وقع في صغيرة, ولا يقع في صغيرة إلا وقد وقع في مكروه, ولا يقع في مكروه إلا وقد أوغل في المباح, فسنة لله عز وجل هي كونية, وكثير من المسائل التي ترد ويتسامح فيها الناس تولد شيئاً من المعاني, انظروا مثلاً إلى كلام المتكلمين فيما يتعلق في الأخبار ظناً ويقيناً, يقولون: الأخبار تنقسم إلى قسمين: ظني, ويقيني, وهذا كان بعد قولهم: متواترة وآحاد, فجاء بعد ذلك الظن واليقين, قال بعض العلماء: إن هذا التقسيم تقسيم سهل جداً ويسير, فإنه لا حرج على الناس أن يأخذوا بذلك, جاء بعدهم جيل آخر فقالوا: أخبار الظن -أي: أخبار الآحاد- لا نأخذ بها في الدين؛ لأن الله عز وجل يقول: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[الحجرات:12]؛ فهذا الجيل الجديد جاء إلى علم مدون يريد أن يبتكر مسائل, فابتكر جملة من المسائل جديدة بناها على قول ينبغي ألا يكون, ثم تولد لدى الأمة طوائف في هذا الأمر, فمنهم من رد أخبار الآحاد في العقائد, ومنهم من ردها كلها, ومنهم من ردها في أصول الديانة وأعلام المسائل وقبلها فيما عدا ذلك. ولهذا ننبه أن بعض المسائل يراها الإنسان صغيرة, ويجد أن أهل السنة يقفون وقوفاً شديداً, ليس لذاتها, لو علموا أنها تتوقف عليها ربما لما شددوا عليها تشديداً كبيراً, ولكن للوازمها العظيمة التي ربما تطرأ عليها التي تنقض دين الإنسان بالكلية.

قال المؤلف رحمه الله: [ قال رحمه الله: هذه ألفاظ محمد بن جرير التي نقلتها نفسها إلى ما هاهنا من كتاب الاعتقاد الذي صنفه.

قلت: وهو- أعني محمد بن جرير- قد نفى عن نفسه بهذا الفصل الذي ذكره في كتابه كل ما نسب إليه، وقذف به من عدول عن سبيل السنة، أو ميل إلى شيء من البدعة، والذي حكاه عن أحمد رضي الله عنه وأرضاه أن اللفظية ].

ودائماً في أزمنة الفتن والصراعات والخلافات في مسائل العقائد, وكذلك الفروع تنسب أقوال ليست بصحيحة, خاصة من الأئمة المعتبرين, كل ينقل قولاً يؤيد قولاً, كما جاء عن البخاري رحمه الله -وهو إمام في السنة- في إشاعة هذا القول؛ مسألة اللفظ عنه عليه رحمة الله, وهو ما قال إلا كلاماً مجملاً صحيحاً, حينما سئل: لفظي بالقرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله وأفعال العباد مخلوقة, يعني: لا تدخل في مسألة بينهما, قد كفيت ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: [ قال: والذي حكاه عن أحمد رضي الله عنه وأرضاه أن اللفظية جهمية فصحيح عنه، وإنما قال ذلك لأن جهماً وأصحابه صرحوا بخلق القرآن، والذين قالوا باللفظ تدرجوا به إلى القول بخلق القرآن، وخافوا أهل السنة في ذلك الزمان ].

وهذا ما أشار إليه المصنف رحمه الله, وكما تقدم أنه قد عاش في القرن الرابع أنهم يريدون أن يتدرجوا في ذلك ليصلوا إلى القول بخلق القرآن, ولهذا الطوائف الذين يقولون: إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق يقولون: إن لفظي بالقرآن مخلوق, هذه الطائفة إن وجدت عددها ألف أو نحو ذلك, بعد عشر سنوات أو عشرين سنة ستنقسم إلى أقسام سيذهب نصفها ويلتزم بلازم أن القرآن مخلوق, ولهذا يرد هذا القول للازمه, وهذا ما ينبغي أن يكون عليه العالم والمفتي؛ ألا ينظر نظراً قاصراً إلى مسألة, بل ينظر إلى لوازمها التي تؤدي وتفضي إليها.

قال المؤلف رحمه الله: [ وخافوا أهل السنة في ذلك الزمان من التصريح بخلق القرآن، فذكروا هذا اللفظ وأرادوا به أن القرآن بلفظنا مخلوق، فلذلك سماهم أحمد رحمه الله جهمية. وحكي عنه أيضا أنه قال: اللفظية شر من الجهمية ].

وذلك أن اللفظية في قولهم: لفظي بالقرآن مخلوق؛ أن الجهمية جهمية صريحة, وأما الذين يقولون باللفظ يريدون جر من لم يسلم لقولهم إلى القول بقول متوسط عتبة إلى القول بقول الجهمية, فالجهمية الناس تنفر من قولهم؛ باعتبار أن الكلام صفة من صفات الله سبحانه وتعالى, لا يقولون بخلقه, فهؤلاء يجرون من لم يقل بقول الجهم ونفر منه إلى القول به, ولهذا قوله: (شر) أي: أخطر من الجهمية, فالكافر الصريح أو المبتدع الضال صراحة دون من التبس على الناس أمره وهو يدعو الناس إلى عقيدة من كان ضالاً صراحة فيكون ذلك أخطر, ولهذا كثير من العلماء يتكلمون على بعض الطوائف ويقولون: إنهم شر من اليهود والنصارى أو أخطر من اليهود والنصارى, وإن كان اليهود والنصارى قد اجتمع فيهم الشر كله إلا أن أمرهم بين ظاهر, وأما طوائف من المبتدعة والضلال الذين دخلوا في كثير من أبواب المكفرات لأنهم يلبسون الحق بالباطل ببعض الأدلة وبعض الأصول, من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهؤلاء هم الذين يستقطبون الناس إلى أقوالهم ليكونوا عتبة إلى الضلال أكثر من اليهود والنصارى.

قال المؤلف رحمه الله: [ وأما ما حكاه محمد بن جرير عن أحمد رحمه الله أن من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، فإنما أراد أن السلف من أهل السنة لم يتكلموا في باب اللفظ ].

وهذا على ما تقدم؛ أن مسألة الابتداع الإحداث, لست بحاجة إلى القول بمثل هذا.

قال المؤلف رحمه الله: [ ولم يحوجهم الحال إليه، وإنما حدث الكلام في اللفظ من أهل التعمق وذوي الحمق الذين أتوا بالمحدثات، وعتوا عما نهوا عنه من الضلالات وذميم المقالات، وخاضوا فيما لم يخض فيه السلف ].

ولهذا العلماء يشددون في مسائل الإحداث في مسائل الديانة وفي العقائد أكثر من مسائل الفروع؛ باعتبار أن مسائل الفروع أمرها سهل, فما يرد من مصطلحات في كلام العلماء تجد أن العلماء لا يشددون في ذلك, فمثلاً: في الفروع فيما يتعلق مثلاً بمصطلح تحية المسجد, تحية المسجد كمصطلح هل هو موجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ ليس بموجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم, فهو من الألفاظ الحادثة, فالمراد بالصلاة في المسجد أن يأتي الإنسان ويصلي في المسجد ركعتين حتى لا تكون المساجد موضعاً للمبيت والحديث كالمجالس التي يغشاها الناس, فينبغي للإنسان ألا يدخل المسجد إلا وقد صلى ركعتين؛ لأننا لو قلنا بهذا المصطلح أي: بتحية المسجد لزم من ذلك جملة من الأقوال, لكن لم تكن شديدة كمسألة العقائد؛ لأنه يلزم من ذلك أقوال كبيرة جداً مكفرة, أما مثل هذه المسألة تجد العلماء في كتب الفقه يتسامحون فيها من باب التقرير؛ لأنه يتنازعها أمران:

الأمر الأول: هو التقريب, أي: مصلحة التقريب.

الأمر الثاني: اللوازم الأخرى, قالوا: نستطيع أن نتدارك اللوازم الأخرى, ومصلحة التقريب هي مسألة نفارق بينها وبين بقية المسائل, وذلك أن تجد من يتكلم على المسألة مثلاً مسألة تحية المسجد ويقول: يلزم من ذلك بعض اللوازم, من ذلك: ما يذكره بعض الفقهاء يقولون: إذا دخل الإنسان يصلي تحية المسجد هل يجوز له أن يجمع بينها وبين نية الوضوء أو صلاة الاستخارة أو غير ذلك؟ لكننا نقول: نحن لسنا بحاجة إلى ذلك؛ لأن تحية المسجد في هذه اللفظة لا وجود لها, وأن المراد بذلك هو عمارة المسجد؛ عمراتها بصلاة استخارة أو بصلاة توبة أو صلاة وضوء أو غير ذلك فلا حرج في هذا؛ لأنا لو جعلناها مستقلة لجعلنا الإنسان إذا دخل المسجد يريد أن يصلي الوتر نقول: لا يقبل منك حتى تصلي ركعتين, هذه ركعة واحدة, ولو كنا ظاهرية لالتزمنا ودخل الإنسان أراد أن يصلي أربع ركعات متصلات نقول: لا, حتى تصلي ركعتين, نقول: ليس المراد بذلك أن تأتي بركعتين بالنص كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المراد من ذلك أن تأتي بصلاة والغالب ركعتين, سواء أتيت بركعة للوتر, صليت بمسجد ثم خرجت, أتيت بعمارة المسجد, وإذا أتيت بأربع أو أكثر من ذلك نقول: مما لا حرج عليك, بل هو زيادة خير.

قال المؤلف رحمه الله: [ وخاضوا فيما لم يخض فيه السلف من علماء الإسلام، فقال الإمام: هذا القول في نفسه بدعة، ومن حق المتسنن أن يدعه، ولا يتفوه به, ولا بمثله من البدع المبتدعة، ويقتصر على ما قاله السلف من الأئمة المتبعة؛ أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا يزيد عليه إلا تكفير من يقول بخلقه].