شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث [10]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [ ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة].

قوله هنا: (الإيمان قول وعمل ومعرفة) هذا يحتاج إلى شيء من الوقفات:

ينبغي أن نعلم أن الإيمان الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه من الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, وبالقدر خيره وشره, وبالبعث بعد الموت, وما جاء كذلك في تعريف الإسلام, كل هذا داخل في دائرة الإيمان.

الإيمان: قول وعمل واعتقاد, الاعتقاد: قول وعمل, فالقلب له قول وله عمل.

ما هو قول القلب؟ قول القلب التصديق, أن يصدق بأن الله واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته, ويصدق فيما أخبر الله عز وجل به في كتابه, وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعمل القلب هو حب الله جل وعلا, وحب ما يحبه الله، وبغض ما يبغضه الله, والرضا بقضاء الله.

كذلك الإخلاص لله عز وجل عند العمل, كثير من الناس يصدق بوجود الله وأيضاً بوحدانية الله، ولكنه لا يحب ما يحبه الله، ولا يبغض ما يبغضه الله, فذلك لم يتحقق فيه الإيمان.

وأما قول اللسان فيسمى قولاً، ويسمى فعلاً, قول اللسان يسمى فعلاً؛ لأن الله عز وجل يقول في كتابه العظيم: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112], فجعله الله عز وجل فعلاً بعد أن سماه قولاً, وهذا أيضاً من مواضع الخلاف عند أهل السنة؛ أن يسمى القول فعلاً أو لا يسمى.

وكذلك عمل الجوارح، وهذه كلها إيمان.

ولهذا العلماء يقولون: الإيمان قول وعمل واعتقاد, لا يقولون: إنه يركب, أو أجزاؤه, أو يتكون من, أو غير ذلك؛ كما جرى عليه كثير من المتأخرين, وإنما يقولون: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد, كيف يكون هذا؟ أنه لا نقول: إن هذه ليست أقساماً ولا أنواعاً ولا تركيباً وغير ذلك؟ نقول: لأننا إذا قلنا: يتكون من؛ فانتفى واحد منها أصبح شيئاً ناقصاً, وإنما نقول: كلها قول وعمل واعتقاد, إذا نقص واحد منها انتفى الباقي.

وحتى تقرب المسألة: نبينا عليه الصلاة والسلام اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، هذه ثلاثة أسماء, إذا جاءت محمد بن سليمان بن عبد المطلب؛ هذا رسول الله؟ ليس برسول الله, وإذا جاءك عبد الله بن عبد الله بن عبد المطلب؛ هذا رسول الله؟ ليس برسول الله, فهذه الثلاثة: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, هي رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا نقص واحد منها هل نقول: نبوة ناقصة أم نبوة منتفية؟ نبوة منتفية, ولهذا تجد في عبارات السلف السابقين يقولون: الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ كقولهم: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, إذا نقص العمل كقولنا: محمد بن عبد الله، هل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا قلنا: أين ابن عبد المطلب؟ قالوا: لا يوجد شيء في هذا, هل هذا رسول الله؟ ليس برسول الله؛ كذلك هذا ليس الإيمان, يقولون: أليس هذا قولاً وهذا عملاً؟ نقول: هذا قول وهذا عمل، ولكن ليس قولاً ولا عمل الإسلام, ويقولون: أليس هذا محمداً وأبوه عبد الله؟ هذا محمد وأبوه عبد الله لكن ليس نبينا.

ولهذا نقول: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد, وهي هذه الثلاثة هي الإيمان.

والمراد بالعمل الذي يأتي هنا في كلام الأئمة عليهم رحمة الله هو ما انفردت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم, وليس المراد بذلك سائر الطاعات؛ لأنه لا يخلو أحد في هذه الأرض من عمل طاعة وعمل بر, هناك من يبذل التحية, وهناك من يغيث الملهوف, وهناك من يقضي حاجة المحتاج, وغير ذلك من الأعمال, وهناك من يبر والديه حتى لو كان ملحداً, بدافع الفطرة, هل هذه الأعمال هي المقصودة بقولنا: قول وعمل واعتقاد؟ لا, المراد بذلك العمل الذي لا يكون الإيمان إلا به, هو العمل الذي اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم, من الصلاة, الصيام, الزكاة, الحج, أو غير ذلك من الأعمال التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لماذا؟ حتى يدل عمله على أنه آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام, ليس بدعوى, جاء بشيء من هذه الخصائص, وما جاء بأمور تدل عليها الفطرة, أو دلت عليها شرائع سابقة.

فقول العلماء عليهم رحمة الله في الإيمان: إنه قول وعمل واعتقاد, نقول: هذه ليست أجزاء ولا أقساماً ولا تراكيب، بل هي الإيمان؛ كما نقول في النبي صلى الله عليه وسلم في اسمه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؛ ليست تكويناً ولا أقساماً ولا أجزاء, بل هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ انتفى واحد منها وعدم ليس هذا بنبي الأمة, وإنما هو غيره.

وكذلك إذا كان ثمة قول واعتقاد، ولم يكن ثمة عمل نقول: هذا إيمان، ولكنه ليس بإيمان الإسلام, وإذا كان ثمة قول وعمل ولم يكن ثمة اعتقاد نقول: هذا إيمان، ولكنه ليس بإيمان الإسلام.

وكثير من الشراح حينما يتكلمون عن أمثال هذه الألفاظ الواردة عن السلف في قولهم: (قول وعمل واعتقاد) يوغلون في مسائل التفصيل, وبعض الكلام مؤداه صحيح, ولذلك تجد من العلماء من يقول: إن هذه الثلاثة هي أركان الإيمان, إذ انتفى ركن انتفى الإيمان, ولكن مثل هذه التقسيمات وقول بعضهم: إن العمل شرط صحة للإيمان, وقول بعض المرجئة يقولون: إنه شرط كمال, إذا انتفى ذلك العمل فإنه لا يكون من الإيمان, نقول: هذا إرجاء, وليس على عقيدة السلف الصالح, بل نقول: إن اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح هي الإيمان.

ومثل هذه التقسيمات وكثرة كلام الشراح في هذا, وتقسيماتهم وجعلها شروطاً, ومنهم من يجعلها شرط صحة, ومنهم من يجعلها شرط كمال, ومنهم من ينفي العمل أصلاً في دخوله في شرط الصحة أو شرط الكمال, وهذه كلها دائرة بسبب الخلل في فهم قول السلف الصالح عليهم رحمة الله اعتماداً على ما جاء في ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة في قولهم: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد.

ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العظيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:1-3] فقط؟ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3], وإلا فالأصل فهو خسران, فلا بد من العمل, فالعمل الشامل هنا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في نفيه خسارة, المراد بذلك هو عمل الجوارح, ولا يمكن أن يتحقق للإنسان عمل الجوارح واعتقاد القلب إلا وقد جاء في وسطها قول اللسان.

نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.