شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث [12]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [ ومن قول أهل السنة والجماعة في أكساب العباد أنها مخلوقة لله تعالى، لا يمترون فيه، ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا القول وينفيه.

ويشهدون أن الله تعالى يهدي من يشاء لدينه, ويضل من يشاء عنه، لا حجة لمن أضله الله عليه، ولا عذر له لديه، قال الله عز وجل: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149], وقال: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13], الآية, وقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179], الآية, سبحانه خلق الخلق بلا حاجة إليهم، فجعلهم فرقتين: فريقاً للنعيم فضلاً، وفريقاً للجحيم عدلاً، وجعل منهم غوياً ورشيداً، وشقياً وسعيداً، وقريباً من رحمته وبعيداً، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54], وقال عز وجل: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:29-30], وقال: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ [الأعراف:37], قال ابن عباس : هو ما سبق لهم من السعادة والشقاوة.

أخبرنا أبو محمد المجلدي أخبرنا أبو محمد العباس السراج حدثنا يوسف عن موسى أخبرنا جرير عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ( إن خفق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات، رزقه وعمله وأجله، وشقي أو سعيد، فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخله, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له من كتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) ].

عدل الله في ختم حياة الإنسان على الخير أو الشر

هذا يحتاج إلى بيان أن ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ), هل هذا المعنى على إطلاقه أو هو مقيد؟ باعتبار أن الإنسان يعمل بعمل أهل الجنة حتى إذا بقي على وفاته نحو الذراع سبق عليه الكتاب فعمل بعمل أهل النار. هو مقيد فيما يبدو للناس, يعني: أنه نفاق, وهذا جاء في الصحيح من حديث سهل عليه رضوان الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يعمل بعمل أهل الحنة فيما يبدو للناس )؛ لأن الله أعدل من أن يقوم الإنسان بطاعته سبحانه وتعالى سنين طويلة، حتى إذا بقي من وفاته ساعة أو ساعتان عمل بعمل أهل النار، ثم مات على هذا.

وكذلك في مسألة أهل النار, قال: ( يعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس ), يظنون أنه من أهل النار، وله خبيئة من عمل وخبيئة من عذر, فسبق عليه الكتاب فكانت خاتمته حسنة.

ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى أعدل من أن يجعل عمل الإنسان لسنين طويلة هباء منثوراً، فيضرب عليه الأمر، فيكتب له بساعة السوء، ولهذا نقول: إن الله عز وجل يعلم باطن الإنسان وظاهره, وإذا أظهر شراً أو أظهر خيراً يعلم بإيمانه ودافعه إلى ذلك, فالعبرة بالخواتيم, كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما الأعمال بالخواتيم ), يعني: ما وجد من عمل الإنسان ظاهراً وباطناً فيما يعلمه الله يختم عليه الإنسان, ولهذا الشخص الذي يخالف أمر الله عز وجل بالزنا والسرقة وغير ذلك من الموبقات أن الغالب أن يختم له بسوء إذا كان على هذا الأمر زمناً طويلاً, فلا تكون ميتته ميتة حسنة, فيموت ساجداً أو نحو هذا, كذلك من كان طائعاً لله, صواماً, قواماً, لسنين طويلة, لا يختم الله عز وجل له بآخر ساعة من عمره أن يموت على شرب الخمر, أو يموت على السرقة أو على الزنا أو نحو ذلك, والله عز وجل عدل في هذا الأمر.

وأما ما يتعلق بجانب العمل السيئ سواء كان كفراً أو كان ذنباً يفعله الإنسان؛ نقول: قد يستمر الإنسان على ذلك دهوراً، ويختم الله عز وجل للإنسان بعمل الخير, كما جاء أن أحد الصحابة أسلم في المعركة, وكان قبل ذلك كافراً, ثم قتل ولم يعمل خيراً قط إلا ما مات عليه من الجهاد والشهادتين وما لحقها من عمل يسير, نقول في مثل هذا: هذا أغلب ظهوراً من الثاني؛ أن يكون الإنسان طائعاً لله عز وجل مدى الدهر, ثم يجعل الله عز وجل ميتته ميتة سوء في آخر ساعة من عمره, أما الثاني لأن الله عز وجل رحمته سبقت غضبه جل وعلا يختم لعباده الذين كانوا على سوء على عمل صالح في آخر حياته أكثر من الأول وأظهر؛ لأن رحمة الله عز وجل ولطفه تسبق غضبه سبحانه وتعالى.

والغالب في الأمرين أن الله عز وجل يجعل أمر الإنسان على ما كان عليه قبل ذلك, ولكن يظهر ميتته وخاتمته على ما كان عليه من عمل الباطن وعمل الظاهر, والله عز وجل لا ينظر إلى العمل الظاهر مجرداً, بل إذا صح الظاهر جزي الإنسان على عمله الظاهر بالإحسان, وإذا فسد باطنه ولو عمل وأحسن بالظاهر, فإن عمله الظاهر لن يكون إلا فساداً ووبالاً عليه بسوء باطنه؛ لأنه فعل ذلك نفاقاً.

هذا يحتاج إلى بيان أن ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ), هل هذا المعنى على إطلاقه أو هو مقيد؟ باعتبار أن الإنسان يعمل بعمل أهل الجنة حتى إذا بقي على وفاته نحو الذراع سبق عليه الكتاب فعمل بعمل أهل النار. هو مقيد فيما يبدو للناس, يعني: أنه نفاق, وهذا جاء في الصحيح من حديث سهل عليه رضوان الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يعمل بعمل أهل الحنة فيما يبدو للناس )؛ لأن الله أعدل من أن يقوم الإنسان بطاعته سبحانه وتعالى سنين طويلة، حتى إذا بقي من وفاته ساعة أو ساعتان عمل بعمل أهل النار، ثم مات على هذا.

وكذلك في مسألة أهل النار, قال: ( يعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس ), يظنون أنه من أهل النار، وله خبيئة من عمل وخبيئة من عذر, فسبق عليه الكتاب فكانت خاتمته حسنة.

ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى أعدل من أن يجعل عمل الإنسان لسنين طويلة هباء منثوراً، فيضرب عليه الأمر، فيكتب له بساعة السوء، ولهذا نقول: إن الله عز وجل يعلم باطن الإنسان وظاهره, وإذا أظهر شراً أو أظهر خيراً يعلم بإيمانه ودافعه إلى ذلك, فالعبرة بالخواتيم, كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما الأعمال بالخواتيم ), يعني: ما وجد من عمل الإنسان ظاهراً وباطناً فيما يعلمه الله يختم عليه الإنسان, ولهذا الشخص الذي يخالف أمر الله عز وجل بالزنا والسرقة وغير ذلك من الموبقات أن الغالب أن يختم له بسوء إذا كان على هذا الأمر زمناً طويلاً, فلا تكون ميتته ميتة حسنة, فيموت ساجداً أو نحو هذا, كذلك من كان طائعاً لله, صواماً, قواماً, لسنين طويلة, لا يختم الله عز وجل له بآخر ساعة من عمره أن يموت على شرب الخمر, أو يموت على السرقة أو على الزنا أو نحو ذلك, والله عز وجل عدل في هذا الأمر.

وأما ما يتعلق بجانب العمل السيئ سواء كان كفراً أو كان ذنباً يفعله الإنسان؛ نقول: قد يستمر الإنسان على ذلك دهوراً، ويختم الله عز وجل للإنسان بعمل الخير, كما جاء أن أحد الصحابة أسلم في المعركة, وكان قبل ذلك كافراً, ثم قتل ولم يعمل خيراً قط إلا ما مات عليه من الجهاد والشهادتين وما لحقها من عمل يسير, نقول في مثل هذا: هذا أغلب ظهوراً من الثاني؛ أن يكون الإنسان طائعاً لله عز وجل مدى الدهر, ثم يجعل الله عز وجل ميتته ميتة سوء في آخر ساعة من عمره, أما الثاني لأن الله عز وجل رحمته سبقت غضبه جل وعلا يختم لعباده الذين كانوا على سوء على عمل صالح في آخر حياته أكثر من الأول وأظهر؛ لأن رحمة الله عز وجل ولطفه تسبق غضبه سبحانه وتعالى.

والغالب في الأمرين أن الله عز وجل يجعل أمر الإنسان على ما كان عليه قبل ذلك, ولكن يظهر ميتته وخاتمته على ما كان عليه من عمل الباطن وعمل الظاهر, والله عز وجل لا ينظر إلى العمل الظاهر مجرداً, بل إذا صح الظاهر جزي الإنسان على عمله الظاهر بالإحسان, وإذا فسد باطنه ولو عمل وأحسن بالظاهر, فإن عمله الظاهر لن يكون إلا فساداً ووبالاً عليه بسوء باطنه؛ لأنه فعل ذلك نفاقاً.

قال المصنف رحمه الله: [ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخير والشر والنفع والضر بقضاء الله وقدره، لا مرد لها، ولا محيص ولا محيد عنها، ولا يصيب المرء إلا ما كتبه له ربه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروه بما لم يقضه الله لم يقدروا, على ما ورد به الخبر عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107], الآية )].

الإيمان بقضاء الله عز وجل وقدره واجب؛ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإيمان قال: ( الإيمان أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, وبالبعث بعد الموت, وبالقدر خيره وشره ).

نسبة الخير والشر لله

والقدر يكون خيراً وشراً, كله إلى الله سبحانه وتعالى, ولكن الإنسان لا ينسب الشر منفرداً إلى الخالق سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن الشر لا ينسب لله سبحانه وتعالى إلا على سبيل قرنه مع الخير, كذلك يكون على سبيل الإضمار إضمار الفاعل, ولهذا تأدب الجن مع الله سبحانه وتعالى فقالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10], أضمروا الفاعل عند ذكر الشر تأدباً مع الله, وأما بالنسبة للخير فأظهروا الفاعل, وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10], وفي الخير أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10], أراد الله عز وجل بهم خيراً.

والله سبحانه وتعالى لا يقدر لعبده المؤمن شراً إلا إن اختار الإنسان أن يجعل ذلك الأمر شراً باختياره, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند من حديث صهيب قال: ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ), يعني: حتى لو كان في ظاهره شر, ( إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ), وإذا لم يصبر هو الذي اختار أن يسيطر الأمر على الشر, وأما تقدير الله عز وجل فقدره الله وأمره بأن يجعل الشر بظاهره باطناً خيراً وظاهراً له بصبره عليه.

منزلة الإيمان بالقدر

والإيمان بقدر الله سبحانه وتعالى هو من الأمور الواجبة التي لا يصح إيمان العبد إلا بها, ولهذا نقول: إن من لم يؤمن بالقدر لم يكن مؤمناً بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل سبق علمه عمل الخلق، وقدر سبحانه وتعالى على الناس المقادير الخير والشر, وقدر على الناس كونهم فريقين, فريق في النعيم وفريق في الجحيم, وقدر الله عز وجل لكل أحد عملاً, وقدر الله عز وجل لغير الناس من المخلوقات في الجمادات والبهائم؛ قدر الله سبحانه وتعالى مجراها وسيرها, وما تزيد فيه وما تنقص وأعراضها وأماكنها، وما من شيء إلا ويعلمه الله عز وجل، وعنده سبحانه وتعالى في كتاب.

اختلاف الطوائف في مسألة القدر

ولما ظهرت مسألة نفي القدر، وهذا في زمن أواخر الصحابة عليهم رضوان الله، كما جاء في مسلم من حديث عبد الله بن بريدة لما قال: ( أتينا عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى وهو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله, فقلنا: إنه ظهر قبلك أقوام يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنُف, قال: فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني, وأن الله لا يتقبل من أحد عملاً حتى يؤمن بالقدر ).

ومسألة القدر من المسائل الشائكة على كثير من الأفهام, والواجب على المؤمن التسليم.

وقد ظهرت الطوائف لما قاموا بالإيغال في أمثال هذه المعاني، ووجدوا لوازم كثيرة يرون أنها لوازم لا تجري على بقية معاني النصوص, فمنهم من قال بنفي القدر, ومنهم من قال بالجبر، ومؤدى الطائفتين في ذلك في ظاهر أمرهم أنهم يريدون تنزيه الخالق سبحانه وتعالى, ولكن الله جل وعلا قد جعل أحكام الدين للناس وبينها، وأمر عباده التسليم بذلك.

ومسألة القدر وإجراء الكون ومعرفة الغيب وما يأتي بعد ذلك من تقدير الأشياء والخلق هذا من الأمور المشكلة حتى عند كثير من الطوائف التي لا تؤمن بالنبوات سواء آمنت بالنبوات أو غيرها, فتجد أن البابليين يقولون بما يتعلق من تقدير مقادير المخلوقات يؤمنون بتأثير الكواكب, فيجعلون لكل كوكب تصريفاً في جانب من جوانب الكون, فيؤمنون بأن هذا يصرف ذلك الأمر، وهذا يصرف ذلك الأمر, فيكون بينها نوع من التداخل والتنازع والتصرف في هذا الكون, ولهذا يريدون من ذلك حلاً لما يجدونه من إشكال في معرفة القدر وتقديره.

وأما ما يتعلق بالفرس وأضرابهم الذين يقولون بتعدد الإلهة؛ إله للشر وإله للخير, فيجعلون مقادير الخير لإله الخير, وما يتعلق بمقادير الشر لإله الشر, وهي النور والظلمة, وغير ذلك من الأقوال المعروفة عنهم.

وأما بالنسبة لفلاسفة الهند فإنهم يجعلون إله القدر إلهاً خاصاً منفكاً عن معبوده, هو الذي يقدر المقادير ويقوم بتصريفها.

وكذلك ما يتعلق باليونان وفلاسفتهم في هذا الباب, منهم من يحاول التنزيه, يؤمن بوجود الخالق، ولكن يتحيرون في مسألة تقدير الشر على أناس يرتضون أمره، ويسلم أقواماً لا يرتضون أمره، فيجعلون الخالق خارج تدبير الكون, وعلى هذا يجري أفلاطون و سقراط و أرسطو , يجعلون أن الخالق موجود، ولكن أوجد الكون وأوجد قانون السببية الحتمية، ثم بعد ذلك الناس يجرون في هذه المعادلة، والخالق بعيد عنها, ويقولون: إن الله عز وجل أعدل من أن يقدر بعباده أمثال هذه الحوادث, قالوا: فالله عز وجل خلق الكون، ثم تركه على معادلة يجري عليها الناس.

وجرى بعد ذلك تعظيم العقل والحذق في كثير من الأمور وعدم التسليم بتدخل الخالق, ولهذا ضعف عند الفلاسفة التعلق بالخالق سبحانه وتعالى, وهؤلاء منهم من يؤمن بخالق يختلف عن الخالق الآخر من جهة حقيقته وماهيته ونحو ذلك.

واجب المسلم نحو مسألة القدر

وهذه المسألة هي مسألة القدر وحكمة الله عز وجل ودقائق الغيب هذه من المعاني التي يجب على الإنسان أن يسلم بها, وبحث كثير من دقائقها المسكوت عنها في الشريعة هو الواجب, ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: هذه المسألة مضلة الأفهام ومزلة الأقدام، ويقول عليه رحمة الله: ما من أحد من الناس إلا وفي قلبه حسكة من هذه المسألة, وهي مسألة القدر.

وقبل ذلك أيضاً أبو حنيفة عليه رحمة الله يقول: هذه مسألة مقفلة، وضاع مفتاحها, يعني: البحث في هذا يحتاج إلى علم الغيب, وهي قدره, والبحث عن مثل هذه الأمور المغيبة هو خارج إدراك الإنسان, ونظر الإنسان فيها يزيده تحيراً؛ كشمس الظهيرة إذا نظر الإنسان كلما ازداد نظره ازداد تحيراً؛ لماذا؟ لأن آلة إدراكهم العقلية وحاستهم العقلية كحاستهم البصرية إذا نظر لشمس الظهيرة زادته ألماً وتحيراً, وكذلك إذا نظر عقله إلى شمس الحقيقة زاد تحيراً وعجزاً, وهذا لضعفه.

فواجبه في ذلك أن يسلم الأمر لله سبحانه وتعالى, والذي يؤمن أن الله عز وجل قدر المقادير على خلقه سبحانه وتعالى خيراً وشراً, ولكن الله جل وعلا لا يقدر لعباده إلا الخير, وجعل لهم مشيئة، وهداهم الله عز وجل السبيل, منهم من يريد الخير، ومنهم من يريد الشر.

ولهذا نقول: إن الإيمان بالقدر, وأن الله عز وجل قدر مقادير الخلائق, وأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما كان, ويعلم ما يكون, ويعلم ما سيكون, ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون, حتى ما يسمى بعلم المستحيل, لو قدر الله عز وجل وجوده, ولهذا نقول فيما تكلم عليها المتكلمون بمسألة السببية أو قانون الحتمية ونحو ذلك, وإيغال المعتزلة في هذا الباب, وخلاف المعتزلة مع الأشاعرة في هذه المسألة وفي مسألة الكسب وخلافهم مع أهل السنة لعله يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

عدم إضافة ما يتوهم منه النقص بالنسبة لله

قال المصنف رحمه الله: [ومن مذهب أهل السنة وطريقتهم مع قولهم بأن الخير والشر من الله وبقضائه، أنه لا يضاف إلى الله ما يتوهم منه نقص على الانفراد، فيقال: يا خالق القردة والخنازير والخنافس والجعلان، وإن كان لا مخلوق إلا والرب خالقه، وفي ذلك ورد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: ( تباركت وتعاليت ). ومعناه والله أعلم: والشر ليس مما يضاف إليك إفراداً وقصداً، حتى يقال لك في المناداة: يا خالق الشر! ويا مقدر الشر! وإن كان هو الخالق والمقدر لهما جميعاً، لذلك أضاف الخضر عليه السلام إرادة العيب إلى نفسه، فقال فيما أخبر الله عنه في قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79], فلما ذكر الخير والبر والرحمة أضاف إرادتها إلى الله عز وجل، فقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82], ولذلك قال مخبراً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80], فأضاف المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربه، وإن كان الجميع منه].

وهذا على ما تقدم؛ أن ما يتضمن لفظ نقص نثبته بالإجمال, وأما ما يتضمن نسبته لله عز وجل مدحاً لا حرج في إثباته بالتفصيل؛ كقولنا: خالق السمع, والبصر, ومصور الإنسان, ومدور الكواكب والأفلاك, ومجري السحاب والرياح, والفلك التي تجري في البحر, وغير ذلك من الأمور التي يستعظمها الإنسان, والدخول في مسائل التفصيل هذا لا حرج فيه.

أما ذكر ما يوجد في الكون من مخلوقات الله عز وجل التي يستقبحها الإنسان نسبتها على سبيل التفصيل، وإن كانت صحيحة المعنى إلا أنها لا تجوز؛ لأنها تتضمن نقصاً على سبيل الانفراد, وإنما نثبتها؛ خلق الله عز وجل المخلوقات, وإذا جاء من ينفيها, من خلق العذرة؟ نقول: الله, إذا جاء من ينفيها أو يسأل عنها نثبتها بهذا الأمر، ونثبت الجميع لله سبحانه وتعالى خلقه.

والقدر يكون خيراً وشراً, كله إلى الله سبحانه وتعالى, ولكن الإنسان لا ينسب الشر منفرداً إلى الخالق سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن الشر لا ينسب لله سبحانه وتعالى إلا على سبيل قرنه مع الخير, كذلك يكون على سبيل الإضمار إضمار الفاعل, ولهذا تأدب الجن مع الله سبحانه وتعالى فقالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10], أضمروا الفاعل عند ذكر الشر تأدباً مع الله, وأما بالنسبة للخير فأظهروا الفاعل, وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10], وفي الخير أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10], أراد الله عز وجل بهم خيراً.

والله سبحانه وتعالى لا يقدر لعبده المؤمن شراً إلا إن اختار الإنسان أن يجعل ذلك الأمر شراً باختياره, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند من حديث صهيب قال: ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ), يعني: حتى لو كان في ظاهره شر, ( إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ), وإذا لم يصبر هو الذي اختار أن يسيطر الأمر على الشر, وأما تقدير الله عز وجل فقدره الله وأمره بأن يجعل الشر بظاهره باطناً خيراً وظاهراً له بصبره عليه.

والإيمان بقدر الله سبحانه وتعالى هو من الأمور الواجبة التي لا يصح إيمان العبد إلا بها, ولهذا نقول: إن من لم يؤمن بالقدر لم يكن مؤمناً بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل سبق علمه عمل الخلق، وقدر سبحانه وتعالى على الناس المقادير الخير والشر, وقدر على الناس كونهم فريقين, فريق في النعيم وفريق في الجحيم, وقدر الله عز وجل لكل أحد عملاً, وقدر الله عز وجل لغير الناس من المخلوقات في الجمادات والبهائم؛ قدر الله سبحانه وتعالى مجراها وسيرها, وما تزيد فيه وما تنقص وأعراضها وأماكنها، وما من شيء إلا ويعلمه الله عز وجل، وعنده سبحانه وتعالى في كتاب.

ولما ظهرت مسألة نفي القدر، وهذا في زمن أواخر الصحابة عليهم رضوان الله، كما جاء في مسلم من حديث عبد الله بن بريدة لما قال: ( أتينا عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى وهو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله, فقلنا: إنه ظهر قبلك أقوام يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنُف, قال: فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني, وأن الله لا يتقبل من أحد عملاً حتى يؤمن بالقدر ).

ومسألة القدر من المسائل الشائكة على كثير من الأفهام, والواجب على المؤمن التسليم.

وقد ظهرت الطوائف لما قاموا بالإيغال في أمثال هذه المعاني، ووجدوا لوازم كثيرة يرون أنها لوازم لا تجري على بقية معاني النصوص, فمنهم من قال بنفي القدر, ومنهم من قال بالجبر، ومؤدى الطائفتين في ذلك في ظاهر أمرهم أنهم يريدون تنزيه الخالق سبحانه وتعالى, ولكن الله جل وعلا قد جعل أحكام الدين للناس وبينها، وأمر عباده التسليم بذلك.

ومسألة القدر وإجراء الكون ومعرفة الغيب وما يأتي بعد ذلك من تقدير الأشياء والخلق هذا من الأمور المشكلة حتى عند كثير من الطوائف التي لا تؤمن بالنبوات سواء آمنت بالنبوات أو غيرها, فتجد أن البابليين يقولون بما يتعلق من تقدير مقادير المخلوقات يؤمنون بتأثير الكواكب, فيجعلون لكل كوكب تصريفاً في جانب من جوانب الكون, فيؤمنون بأن هذا يصرف ذلك الأمر، وهذا يصرف ذلك الأمر, فيكون بينها نوع من التداخل والتنازع والتصرف في هذا الكون, ولهذا يريدون من ذلك حلاً لما يجدونه من إشكال في معرفة القدر وتقديره.

وأما ما يتعلق بالفرس وأضرابهم الذين يقولون بتعدد الإلهة؛ إله للشر وإله للخير, فيجعلون مقادير الخير لإله الخير, وما يتعلق بمقادير الشر لإله الشر, وهي النور والظلمة, وغير ذلك من الأقوال المعروفة عنهم.

وأما بالنسبة لفلاسفة الهند فإنهم يجعلون إله القدر إلهاً خاصاً منفكاً عن معبوده, هو الذي يقدر المقادير ويقوم بتصريفها.

وكذلك ما يتعلق باليونان وفلاسفتهم في هذا الباب, منهم من يحاول التنزيه, يؤمن بوجود الخالق، ولكن يتحيرون في مسألة تقدير الشر على أناس يرتضون أمره، ويسلم أقواماً لا يرتضون أمره، فيجعلون الخالق خارج تدبير الكون, وعلى هذا يجري أفلاطون و سقراط و أرسطو , يجعلون أن الخالق موجود، ولكن أوجد الكون وأوجد قانون السببية الحتمية، ثم بعد ذلك الناس يجرون في هذه المعادلة، والخالق بعيد عنها, ويقولون: إن الله عز وجل أعدل من أن يقدر بعباده أمثال هذه الحوادث, قالوا: فالله عز وجل خلق الكون، ثم تركه على معادلة يجري عليها الناس.

وجرى بعد ذلك تعظيم العقل والحذق في كثير من الأمور وعدم التسليم بتدخل الخالق, ولهذا ضعف عند الفلاسفة التعلق بالخالق سبحانه وتعالى, وهؤلاء منهم من يؤمن بخالق يختلف عن الخالق الآخر من جهة حقيقته وماهيته ونحو ذلك.

وهذه المسألة هي مسألة القدر وحكمة الله عز وجل ودقائق الغيب هذه من المعاني التي يجب على الإنسان أن يسلم بها, وبحث كثير من دقائقها المسكوت عنها في الشريعة هو الواجب, ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: هذه المسألة مضلة الأفهام ومزلة الأقدام، ويقول عليه رحمة الله: ما من أحد من الناس إلا وفي قلبه حسكة من هذه المسألة, وهي مسألة القدر.

وقبل ذلك أيضاً أبو حنيفة عليه رحمة الله يقول: هذه مسألة مقفلة، وضاع مفتاحها, يعني: البحث في هذا يحتاج إلى علم الغيب, وهي قدره, والبحث عن مثل هذه الأمور المغيبة هو خارج إدراك الإنسان, ونظر الإنسان فيها يزيده تحيراً؛ كشمس الظهيرة إذا نظر الإنسان كلما ازداد نظره ازداد تحيراً؛ لماذا؟ لأن آلة إدراكهم العقلية وحاستهم العقلية كحاستهم البصرية إذا نظر لشمس الظهيرة زادته ألماً وتحيراً, وكذلك إذا نظر عقله إلى شمس الحقيقة زاد تحيراً وعجزاً, وهذا لضعفه.

فواجبه في ذلك أن يسلم الأمر لله سبحانه وتعالى, والذي يؤمن أن الله عز وجل قدر المقادير على خلقه سبحانه وتعالى خيراً وشراً, ولكن الله جل وعلا لا يقدر لعباده إلا الخير, وجعل لهم مشيئة، وهداهم الله عز وجل السبيل, منهم من يريد الخير، ومنهم من يريد الشر.

ولهذا نقول: إن الإيمان بالقدر, وأن الله عز وجل قدر مقادير الخلائق, وأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما كان, ويعلم ما يكون, ويعلم ما سيكون, ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون, حتى ما يسمى بعلم المستحيل, لو قدر الله عز وجل وجوده, ولهذا نقول فيما تكلم عليها المتكلمون بمسألة السببية أو قانون الحتمية ونحو ذلك, وإيغال المعتزلة في هذا الباب, وخلاف المعتزلة مع الأشاعرة في هذه المسألة وفي مسألة الكسب وخلافهم مع أهل السنة لعله يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.