شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث [14]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [ويحرم أصحاب الحديث المسكر من الأشربة المتخذة من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الذرة أو غير ذلك مما يسكر، يحرمون قليله وكثيره، وينجسونه ويوجبون به الحد].

وهذه من المسائل الفرعية على ما تقدم الإشارة إليها، أن بعض الأئمة يذكرون بعض المسائل الفرعية لوجود خلاف بعض الطوائف فيها، وهذه المسألة كمسألة الخمر وذلك لالتباسها بالنبيذ، وربما بعض الأهواء يريدون أن يصلوا إلى تحليل الخمر بواسطة استحلال النبيذ، فينظرون من استحلاله باعتبار أن الشارع أباحه باليوم واليومين، فيجعلون ذلك وسيلة لاستحلاله، فيذكر العلماء في بعض مسائل العقائد ما يتعلق بمسائل النبيذ، ويذكرون أن الله عز وجل حرم الخمر، وجعله من الكبائر، بل هو أم الخبائث، باعتبار ما يطرأ عليه يتبعه في ذلك الكبائر البقية، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص عليه رضوان الله قال: (لئن أزني أحب إلي من أن أشرب الخمر، وذلك أني إن شربت الخمر تركت الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد كفر)، يعني: أن الخمر يجر الإنسان للبقية، يجره للزنا، يجره لترك الصلاة، يجره للموبقات، ولهذا أصبح الخمر هو أم الكبائر، أو أم الخبائث؛ لأنه لا يأتي منفرداً، ولا يمكن أن يكون الإنسان يشرب الخمر، ويكون ذنبه الوحيد إلا وثمة كبائر مقترنة معه.

أما غيرها من الكبائر فقد يوجد لدى الإنسان كبيرة من الكبائر ويبتلى بها، ولا يشاركها غيرها، بخلاف شرب الخمر.

قال المصنف رحمه الله: [ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات، وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات، ويوجبون قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام].

وهنا في مسألة القراءة قراءة الفاتحة والجهر بها في الصلاة الجهرية باعتبار أنها علم من أعلام المسائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يقرأ أيضاً المأموم خلف الإمام في الصلاة السرية، أما الجهرية فهذا من مواضع الخلاف حتى عند السكت في القراءة الجهرية يقرأ المأموم ذلك، وهي من مواضع الخلاف، والأرجح في ذلك أنه لا يقرأ؛ لعموم قول الله عز وجل: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، فأمر الله عز وجل بالإنصات، وقد جاء هذا عن مجاهد بن جبر ، والمراد بذلك هو أنها نزلت في الصلاة.

قال رحمه الله: [ويأمرون بإتمام الركوع والسجود حتماً واجباً، ويعدون إتمام الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما، والارتفاع من الركوع والانتصاب منه والطمأنينة فيه، وكذلك الارتفاع من السجود، والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه من أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها ].

كأن المصنف في هذه المسائل التي أوردها، كأنه من الرد على مذهب الكوفيين أهل الرأي، وذلك أن هذه المسائل اشتهر بالمخالفة فيها أهل الكوفة في مسألة النبيذ ومسألة الطمأنينة في الصلاة، ومسألة قراءة الفاتحة.

قال المصنف رحمه الله: [ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والمنكح والملبس].

هذه المسائل التي يريدها المصنف رحمه الله في مسائل أعمال البر والخير من الإنفاق والصدقة وحث الناس وحب الخير لهم، واستصلاحهم ونحو ذلك، هذه أيضاً من الإسلام، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح: ( الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )، فهو يبين أن هذه أيضاً من شعب الإيمان، فتزيد من إيمان الإنسان إذا زادت، وتنقص من إيمان الإنسان إذا نقصت، وإيمان الإنسان حسب المكاثرة بأمور الطاعات يكثر ويقوى في ذلك إيمانه.

وكذلك فيه إشارة إلى أن الدين ليس هو مسائل مجردة علمية، بل هو عمل أيضاً، فأشار إلى مسائل الصلاة وإقامتها، وكذلك ما يتعلق بأمور الطاعات ونحو ذلك، أنه ينبغي للإنسان ألا يهملها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مكة يدعو الناس إلى التوحيد، وفي دعوته إلى التوحيد يحث الناس على العفاف والصدق، وأداء الأمانة، وإكرام الضيف، والإحسان إلى الجار، وغير ذلك، ولما سئل أبو سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: (إلى ماذا يدعوكم؟ قال: يدعونا إلى العفاف، وأداء الأمانة، والصدق).

فهذه الأمور التي ينبغي للإنسان أنه يخرج نفسه منها، سواءً كان مصلحاً عاماً أو داعية إلى الله عز وجل أو غير ذلك أن يجعل دعوته ليست هي مسائل علمية مجردة في أحكام الصلاة والخلاف في ذلك هذه أمور مهمة جداً، لكن لا يهمل الجوانب القلبية من التعاملات من جهة الدعوة إلى الصدق والأمانة وتعليم الناس وتربيتهم على الحق ونحو ذلك، أداء الأمانة، إكرام الضيف، الإحسان إلى الناس، الصبر على أذاهم وإطعام الطعام، وبذل السلام وغير ذلك، هذه أمور حسنة تدعو أيضاً إلى الفطرة الصحيحة، وكذلك تدفع دعوى أهل الباطل على الإنسان أنه له مآرب أخرى في دعوته وقوله.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفحم أهل الشرك بمكة بإغلاق منافذ دعوى الكذب عليه، فكان يدعو إلى الصدق ويطبقه، ويدعو إلى أداء الأمانة ويطبقه، وإلى إطعام الطعام ويطبقه، فلا يدعو إلى العقيدة المجردة بالدعوة إليها، وإن كانت الدعوة إليها هي أصل الرسالة، لكن ينبغي ألا يخلي دعوته أيضاً من تلك الجوانب، حتى لا يوجد عليه مدخل باتهام النفس واتهام الديانة أو المكر والخديعة بالنفس.

قال المصنف رحمه الله: [ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، واتقاء سوء عاقبة الطمع، ويتوافون بالحق والصبر].

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أصل الخيرية لهذه الأمة؛ لأنه لا يمكن أن تقوم الأمة إلا بالأمر بالمعروف، التوحيد لا يقوم إلا بالأمر به، الصلاة لا تقوم إلا بالأمر بها، الشرك لا يدفع إلا بالنهي عنه، وترك الصلاة لا يدفع إلا بالنهي عنه، وهكذا، كل ما علا العمل لا يمكن أن يستقر إلا بالأمر به والنهي عن ضده، ولهذا يقول الله جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وقول الله عز وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104].

ولهذا نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أصل الدين، لماذا؟ لأن المعروف إذا أتاك لا بد أن يأتيك بواسطة الأمر، الوحي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر لبقي الأمر لازماً عليه، ولكنه حينما يدعو الناس إلى الخير كان آمراً بالمعروف، وينهاهم عن ضده، ينهاهم عن المنكر.

ونقول: إن أبواب الخير مراتب، كذلك أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب متعددة.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم، وسهام الإسلام عظيمة، بل جعله الله ركناً من أركان الإسلام كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الإيمان ثمانية أسهم، وذكر منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ).

قال المصنف رحمه الله: [ويتحابون في الدين، ويتباغضون فيه، ويتقون الجدال في الله والخصومات فيه].

الحب في الله والبغض في الله

ويذكرون المحبة في الدين، أي: في الله، والبغض في الله، وهذا أوثق عرى الإيمان، أي: أن الإنسان لا يغلب حظ دنياه على حظ دينه وحظ الله عز وجل.

أما ما يوجد في قلب الإنسان من الميل أو الإعجاب ببعض ما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى قد يوجد، ولكن ليس للإنسان أن يعمل به، والله عز وجل يقول في كتابه العظيم: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، والخطاب للمؤمنين، فأثبت أنه فيه إعجاب قلبي، ولكن يجب عليك ألا تعمل بهذا الإعجاب القلبي.

قد يوجد كره قبلي في نفس في ذات الإنسان لبعض الأمور والتكاليف الشاقة، وذلك في قول الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، يكره الإنسان القتل، ويكره فقد المال، ومفارقة الأهل ونحو ذلك، لكن ليس له أن يقول: أنا أكره القتال، أنا أكره هذا التشريع أو غير ذلك.

ولهذا نقول: إن ما يوجد في نفس الإنسان مما يستثقل معه التكاليف ينبغي ألا يجعل ذلك عقيدة، فهو نوع من الابتلاء والاختبار، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح: ( وإسباغ الوضوء على المكاره )، يعني: الإنسان ربما يستثقل في حال الشتاء أن يتوضأ في البرد ونحو ذلك، هناك مشقة أن يتوضأ لكل صلاة وهو على طهارة، يجد في ذلك مشقة، إذا اغتسل وهو كاره فذلك لمرضاة الله سبحانه وتعالى تجد أن هذا من أعلى الأعمال عند الله سبحانه وتعالى.

فنقول: يحب في الله ويبغض في الله، ولو كان ذلك على حساب ما يجده في نفسه، يميل إلى إعجاب بهذا وحبه، وكذلك الميل له، ولو كان كافراً يقدمه على مسلم هذا ضعف في إيمان الإنسان، وربما زوال له.

تقديم الكافر الصادق الأمين على المسلم الظالم

قد يقول قائل: لماذا لا أقدم الكافر إذا كان صادقاً أميناً عادلاً محسناً مكرماً رحيماً أقدمه على المسلم الظالم الباغي؟

نقول: هذه نظرة مادية، تقدم الإحسان إليك في الدنيا على الظلم في حق الله، وهذا يقع عند الماديين الذين يتعلقون بالمادة، ويتعلقون بالدنيا، والإنسان إذا أحسن إليه شخص، وتعلم أن هذا الشخص قد أساء إلى والدك؛ ضربه وآذاه وسرق ماله، ويسب أباك في المجالس ونحو ذلك، ولكنه معك محسن ومنصف، ويقوم بالعدل معك في البيع والشراء، ويهديك الهدايا والعطايا أتحبه أو لا تحبه؟ لا تحبه؛ لماذا؟ مع أنه ما ضرك في ذلك، لكنه ضر أباك، فإذا كان انفصال بينك وبين أبيك وعدم محبة بينك وبين أبيك وضعف محبة لأبيك ظاهرة حينئذٍ لا يؤثر ذلك الأمر، وتحب هذا الرجل لو آذى أباك.

ولهذا نقول: إن الإنسان الذي يقدم الإحسان إليه على عدم العدل مع الله لديه انفصال بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، وعليه أن يوثق إيمانه بالله حتى تقوى لديه النظرة كحال الصلة بين الأب وبين أبيه؛ لا يحب أن يعقد معه إذا أساء عليه؛ فيرى أن الإساءة لأبيه ظلم له، وكذلك الظلم في حق الله سبحانه وتعالى وعدم العدل معه إساءة له وظلم لله، وتربطه بينه وبين الله عز وجل من المحبة لله ومحبة ما يحبه الله، ولو عدل معك وأحسن معك وأكرمك تغضبه لما فيه من عدم العدل مع الله جل وعلا، ولهذا كان الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.

وهذا يظهر لكثير من الناس الذين قد يعجبون بكافر أو بشخص من إنصافه وعدله، إتقاناً وإحساناً بعمله، لينه أو لأخلاقه، وهو ظالم في حق الله سبحانه وتعالى، فأثبت الله عز وجل أنه لا يؤاخذ الإنسان على ما يجول في قلبه من ميل وإعجاب ونحو ذلك، لكن يجب عليه ألا يعمل بذلك، وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ[البقرة:221]، ربط المسألة بالآخرة، وليست المسألة مسألة دنيوية.

من لوازم محبة الله

قال رحمه الله: [ ويجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات، ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم ].

وهذا من لوازم المحبة، فإذا أحب الإنسان الله، وما يحبه الله أحب الطاعات، ولزم من ذلك أن يكره المعاصي، وأن يكره أهل المعاصي، ويحب الطاعات، ويحب أهل الطاعة، والمحبة تتجزأ، وأن يجتمع في الإنسان حب وكره، تحبه لما فيه من خير، وتكرهه لما فيه من شر، والإيمان يزيد، فإن زاد زادت المحبة، والمعصية تزيد، فإن زادت زاد الحب والكره وضعف في ذلك المحبة.

ولهذا كما أننا نقول: إن الإيمان يزيد كذلك الكفر يزيد، ولهذا الله عز وجل يقول: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، الكفر يزيد يتمايل، فيه زيادة وفيه نقصان، وإن كان كله داخل في دائرة الكفر، وصاحبه مخلد في النار، على خلاف مسألة الشرك والكفر الأصغر، فإن صاحبه لا يخلد بذلك في النار، كذلك مسألة الإيمان فإن المؤمن في ذلك يزيد إيمانه وينقص إيمانه بحسب قربه وطاعته من الله سبحانه وتعالى، وقد يزول إيمانه بحسب وقوعه بشيء من المكفرات.

ويذكرون المحبة في الدين، أي: في الله، والبغض في الله، وهذا أوثق عرى الإيمان، أي: أن الإنسان لا يغلب حظ دنياه على حظ دينه وحظ الله عز وجل.

أما ما يوجد في قلب الإنسان من الميل أو الإعجاب ببعض ما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى قد يوجد، ولكن ليس للإنسان أن يعمل به، والله عز وجل يقول في كتابه العظيم: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، والخطاب للمؤمنين، فأثبت أنه فيه إعجاب قلبي، ولكن يجب عليك ألا تعمل بهذا الإعجاب القلبي.

قد يوجد كره قبلي في نفس في ذات الإنسان لبعض الأمور والتكاليف الشاقة، وذلك في قول الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، يكره الإنسان القتل، ويكره فقد المال، ومفارقة الأهل ونحو ذلك، لكن ليس له أن يقول: أنا أكره القتال، أنا أكره هذا التشريع أو غير ذلك.

ولهذا نقول: إن ما يوجد في نفس الإنسان مما يستثقل معه التكاليف ينبغي ألا يجعل ذلك عقيدة، فهو نوع من الابتلاء والاختبار، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح: ( وإسباغ الوضوء على المكاره )، يعني: الإنسان ربما يستثقل في حال الشتاء أن يتوضأ في البرد ونحو ذلك، هناك مشقة أن يتوضأ لكل صلاة وهو على طهارة، يجد في ذلك مشقة، إذا اغتسل وهو كاره فذلك لمرضاة الله سبحانه وتعالى تجد أن هذا من أعلى الأعمال عند الله سبحانه وتعالى.

فنقول: يحب في الله ويبغض في الله، ولو كان ذلك على حساب ما يجده في نفسه، يميل إلى إعجاب بهذا وحبه، وكذلك الميل له، ولو كان كافراً يقدمه على مسلم هذا ضعف في إيمان الإنسان، وربما زوال له.

قد يقول قائل: لماذا لا أقدم الكافر إذا كان صادقاً أميناً عادلاً محسناً مكرماً رحيماً أقدمه على المسلم الظالم الباغي؟

نقول: هذه نظرة مادية، تقدم الإحسان إليك في الدنيا على الظلم في حق الله، وهذا يقع عند الماديين الذين يتعلقون بالمادة، ويتعلقون بالدنيا، والإنسان إذا أحسن إليه شخص، وتعلم أن هذا الشخص قد أساء إلى والدك؛ ضربه وآذاه وسرق ماله، ويسب أباك في المجالس ونحو ذلك، ولكنه معك محسن ومنصف، ويقوم بالعدل معك في البيع والشراء، ويهديك الهدايا والعطايا أتحبه أو لا تحبه؟ لا تحبه؛ لماذا؟ مع أنه ما ضرك في ذلك، لكنه ضر أباك، فإذا كان انفصال بينك وبين أبيك وعدم محبة بينك وبين أبيك وضعف محبة لأبيك ظاهرة حينئذٍ لا يؤثر ذلك الأمر، وتحب هذا الرجل لو آذى أباك.

ولهذا نقول: إن الإنسان الذي يقدم الإحسان إليه على عدم العدل مع الله لديه انفصال بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، وعليه أن يوثق إيمانه بالله حتى تقوى لديه النظرة كحال الصلة بين الأب وبين أبيه؛ لا يحب أن يعقد معه إذا أساء عليه؛ فيرى أن الإساءة لأبيه ظلم له، وكذلك الظلم في حق الله سبحانه وتعالى وعدم العدل معه إساءة له وظلم لله، وتربطه بينه وبين الله عز وجل من المحبة لله ومحبة ما يحبه الله، ولو عدل معك وأحسن معك وأكرمك تغضبه لما فيه من عدم العدل مع الله جل وعلا، ولهذا كان الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.

وهذا يظهر لكثير من الناس الذين قد يعجبون بكافر أو بشخص من إنصافه وعدله، إتقاناً وإحساناً بعمله، لينه أو لأخلاقه، وهو ظالم في حق الله سبحانه وتعالى، فأثبت الله عز وجل أنه لا يؤاخذ الإنسان على ما يجول في قلبه من ميل وإعجاب ونحو ذلك، لكن يجب عليه ألا يعمل بذلك، وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ[البقرة:221]، ربط المسألة بالآخرة، وليست المسألة مسألة دنيوية.

قال رحمه الله: [ ويجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات، ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم ].

وهذا من لوازم المحبة، فإذا أحب الإنسان الله، وما يحبه الله أحب الطاعات، ولزم من ذلك أن يكره المعاصي، وأن يكره أهل المعاصي، ويحب الطاعات، ويحب أهل الطاعة، والمحبة تتجزأ، وأن يجتمع في الإنسان حب وكره، تحبه لما فيه من خير، وتكرهه لما فيه من شر، والإيمان يزيد، فإن زاد زادت المحبة، والمعصية تزيد، فإن زادت زاد الحب والكره وضعف في ذلك المحبة.

ولهذا كما أننا نقول: إن الإيمان يزيد كذلك الكفر يزيد، ولهذا الله عز وجل يقول: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، الكفر يزيد يتمايل، فيه زيادة وفيه نقصان، وإن كان كله داخل في دائرة الكفر، وصاحبه مخلد في النار، على خلاف مسألة الشرك والكفر الأصغر، فإن صاحبه لا يخلد بذلك في النار، كذلك مسألة الإيمان فإن المؤمن في ذلك يزيد إيمانه وينقص إيمانه بحسب قربه وطاعته من الله سبحانه وتعالى، وقد يزول إيمانه بحسب وقوعه بشيء من المكفرات.

قال المصنف رحمه الله: [ ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الذين هم كالنجوم، ففيهم اقتدوا واهتدوا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم، ويقتدون بالسلف الصالحين من أئمة الدين وعلماء المسلمين، ويتمسكون بما كانوا به متمسكين من الدين المتين والحق المبين].

والصحابة عليهم رضوان الله على مراتب من جهة الاقتداء، ليسوا على مرتبة واحدة، أقربهم من النبي عليه الصلاة والسلام منزلة وفضلاً هم أكثرهم فقهاً؛ لأنه لازم القرب المنزلة والفضل أنه استفاد من النبي فقهاً وعلماً، ولهذا لما كان أبو بكر أكثر الصحابة ملازمة للنبي وقرباً منه أعلم الناس بما يريده النبي وما يميل إليه، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في السنن من حديث العرباض : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ )، هؤلاء الخلفاء الراشدين الأربعة، بل يكاد يكون الأمر إجماعاً؛ أنه إذا اجتمع الخلفاء الراشدون الأربعة على مسألة من المسائل أنه لا يجوز الخروج عنها، وأنه قطعاً أنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، إذا اجتمعوا على هذا الأمر، وإلا إذا اختلفوا فالأمر في ذلك الشأن فالغالب أن ما يقوله أبو بكر و عمر أنه هو الأقرب إلى الحق والصواب، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر و عمر )، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام في تفضيل الصحابة وأنهم أهل أمان للأمة كما جاء في مسلم من حديث أبي موسى قال: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ).

والعلماء الذين ظهر فيهم الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم هم علامات، ومواضع للدلالة، وجسور يصل عليهم الإنسان إلى الحق، وليسوا هم الحق بذاته؛ لأنه لو قلنا أنهم هم الحق بذاتهم لكانوا معصومين، ولا عصمة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت ليست للصحابة فهي لمن جاء بعدهم أيضاً من باب من فيها من باب أولى، ولكن نثبت لهم الفضل المجمل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث عمران: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، فأفضل القرون هي هذه القرون الثلاثة من جهة الفضل والمنزلة، فيأخذ الإنسان منهم بهديهم، ويأخذ بأحوالهم، فأقرب الأمم وتلك القرون هم أهل المدينة، أقرب للنبي عليه الصلاة والسلام، باعتبار أن الموضع للنبي عليه الصلاة والسلام وفقهاً، ونقلوا عمله، وكذلك أيضاً عايشوه وعرفوا حركات النبي وسكناته ومأكله ومشربه وعبادته، ظهوره وخفائه عليه الصلاة والسلام، ما يحب وما يكره، وغير ذلك مما لا يدركه الإنسان إذا وجده في العصور المدونة.

ثم أهل مكة، فإنهم يلونهم في معرفة هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنهم بعد ذلك بالمعاشرة والقرب، ثم بعد ذلك يأتي بلدان الإسلام ما يتعلق بالشام، والعراق، واليمن، ومصر وغيرها من بلدان الإسلام.

قال المصنف رحمه الله: [ ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم].

تعريف البدعة وأقسامها

وهذا هو المقصود من هجر أهل البدع.

والبدع في ذلك على أنواع: بدع مغلظة، وبدع مخففة، وتقسم على بدع المكفرة، وبدع غير مكفرة، وهي تتباين، وتقسم أيضاً إلى بدع أصلية وبدع إضافية على أقسام في ذلك.

والبدعة المراد بذلك هي الإحداث في دين الله عز وجل ما ليس منه، وهي تتضمن ضمناً اتهام الدين بالنقص، بلسان الحال، وإن لم يقل الإنسان ذلك بلسانه باعتبار أن الله عز وجل أتم الدين، وهي أقرب من البدعة الأصلية من البدعة الإضافية، ويحذر الإنسان من ذلك لماذا؟ لأن في ذلك إضافة وإدخالاً في دين الله عز وجل ما ليس منه.

العلة من التحذير من القرب من أهل البدع

السلف إنما يحذرون من القرب من أهل البدع لماذا؟ حتى لا يكثر السواد.

وقد يقول: أريد أن نأخذ الحق منه، أو لديه علم أريد أن أستفيد به، إذا أتيت أنت وأتى فلان، وأتى فلان، وعشرة وعشرون ونحو ذلك، العوام لا يميزون ما يحسن هذا، وما لا يحسن، فإذا كنت تقتدي به في باب من الأبواب اقتدوا به في باب آخر، فكنت سبباً في نشئ أقواله وإشاعتها ونحو ذلك.

ولهذا نقول: إن القرب من أهل البدع وإشهارهم وإظهارهم المخالفين لكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يقررون تلك المخالفة ديناً أن ذلك مخالف لنهج الحق من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أصحابه ومن جاء بعدهم.

قال رحمه الله: [ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب ضرت، وجرت إليها الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت، وفيه أنزل الله عز وجل: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا [الأنعام:68] ].

وهذا أمر ملموس أن الإنسان يأتيه الحمية للدين، إذا سمع بدعة، ولكنه إذا قرب من صاحبها لان وهان معهم، لماذا؟ لأن اللين يضعف القلب، والإحسان يضعف النفس وينسبها، فحينئذٍ يغطي تلك المساوئ على حساب الحق، فكأنه قتل نفسه، ولهذا يكون الإنسان متجرداً إذا أبعد، ومنصفاً إذا فارق، فارق الشيء نظر إليه عن بعد وأنصفه، فلا يقدم حظوظ النفس، فإذا أتيت إلى مبتدع وأكرمك وأحسن إليك، وأعطاك ووهبك، وابتسم في وجهك، ولان معك ونحو ذلك حينئذٍ تنظر إلى بدعته بخلاف من كان بعيداً، ولهذا كلما كان الإنسان بعيداً كان أفضل في تقييم البدعة والرد عليها وتقييمها.

علامات أهل البدع

قال المصنف رحمه الله: [ وعلامات البدع على أهلها ظاهرة بادية، وأظهر آياتهم وعلاماتهم شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم حشوية وجهلة وظاهرية، ومشبهة، اعتقاداً منهم في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنها بمعزل عن العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتاج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة، وحججهم بل شبههم الداحضة الباطلة، أولئك الذين لعنهم الله، فأصمهم وأعمى أبصارهم، قال عز وجل: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].

سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ يقول: سمعت جعفر بن أحمد بن مناف الواسطي يقول: أحمد بن سنان القطاف يقول: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، فإذا ابتدع الرجل نزعت حلاوة الحديث من قلبه].

قد جعل الله عز وجل لأهل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزية والمنزلة ما هو معروف ومستفيض، جعل الله عز وجل لهم من النضارة والقبول في الأرض (نضر الله من سمع مقالتي فوعاها) يعني: حفظها وضبطها وأدرك مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بفهم مرادهم، وجمع الوارد عنه في ذلك الباب، وفهم مراد الصحابة في ذلك، وفهم أقوالهم، وتقريب الحق للناس على هذا النحو، هم أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب الناس إلى الله؛ لأنهم أحبوا الله فأحبوا رسوله، وأحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوا قوله وفعله وهديه واستمسكوا بذلك؛ لأنهم أبصر الناس بأقواله وأفعاله، لم ينظروا إلى الأذواق والحس والفهم والنظر والاستحسان العقلي المجرد، بل نظروا إلى الأدلة، فما استحسنه الشرع هو الحسن، وما استقبحه الشرع فهو القبيح، واتهموا أنفسهم عند ورود المخالفة، واتهموا أذواقهم وحسهم، واتهموا الرأي في دين الله سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: [ وسمعت الحاكم يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن أحمد الحنظلي ببغداد يقول: سمعت محمد بن إسماعيل الترمذي يقول: كنت أنا و أحمد بن الحسن الترمذي عند إمام الدين أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، فقال له أحمد بن الحسن : يا أبا عبد الله ! ذكروا لـابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد بن حنبل وهو ينفض ثوبه ويقول: زنديق.. زنديق.. زنديق، حتى دخل البيت].

وذلك لأنه قال: أصحاب الحديث، فعمم في ذلك، فدل على أن الكراهة إنما هي لما يحملونه؛ لأنهم لا يشتركون في شيء إلا في الحديث، يختلفون في ألوانهم منهم الأبيض ومنهم الأحمر، ومنهم الأسود، ومنهم الكريم ومنهم اللئيم، ومنهم الضعيف، ومنهم القوي، ومنهم الطويل، ومنهم القصير، ومنهم العربي ومنهم الأعجمي، لا يتفقون على شيء، لا يجتمعون إلا على الحديث، فحينما أطلق مثل ذلك الوصف بأنهم قوم سوء، فإنه أراد بذلك ما هم عليه من التبصر في سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

والزندقة هي الخروج عن الحق، وأصل هذه اللفظة فارسية، كانت في كسرى ، وهم أتباع ديصان و مزدك ، وقد قتل أتباعهم كسرى ، فكانوا منبوذين حتى عند فارس، وذلك لأنهم خرجوا عن منهج فارس في اعتقاد الإلهين ونحو ذلك، لا إلى اعتقاد آله واحد، وإنما إلى ضرب من ضروب الجحود، جحود الخالق أو غير ذلك.

ويقول المتنبي في بيانه بطلان تلك العقيدة الذين يقولون بوجود خالقين في الكون، أو النور الذي يخلق الخير، والظلام الذي يخلق الشر، يقول:

وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب

يعني: أن ظلام الليل في لقاء المحبوبين والعشاق وغير ذلك أن الظلام كله ملتقى العشاق في الليل، وأننا في النهار لا يلتقي في ذلك العشاق؛ لأنه يراهم الناس، فعلى هذا استدل ببطلان العقيدة.

قال رحمه الله: [وسمعت الحاكم أبا عبد الله يقول: سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى يقول: سمعت أبا نصر بن سلام الفقيه يقول: ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته بإسناده.

وسمعت الحاكم يقول: سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الفقيه وهو يناظر رجلاً، فقال الشيخ أبو بكر : حدثنا فلان، فقال له الرجل: دعنا من حدثنا! إلى متى حدثنا؟ فقال الشيخ له: قم يا كافر، فلا يحل لك أن تدخل داري بعد هذا أبداً، ثم التفت إلينا وقال: ما قلت لأحد ما تدخل داري إلا هذا ].

وما صد أحد عن السنة وكره أهلها إلا وآل أمره إلى زندقة، وهذا أمر ظاهر، ومن سبر أحوال الناس فإنهم وإن ابتدءوا بشيء من الأعمال المخالفة إلا أنهم يبتدءون بالاعتراض بالشبر ثم ينتهون بالكفر والعياذ بالله.

قال رحمه الله: [وسمعت الأستاذ أبا منصور محمد بن عبد الله بن حماد العالم الزاهد يقول: سمعت أبا القاسم جعفر بن أحمد المقري الرازي يقول: قرأ علي عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وأنا أسمع: سمعت أبي يقول: عني به الإمام في بلده أباه أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي يقول: علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر حشوية، يريدون بذلك إبطال الأثر، وعلامة القدرية تسميتهم أهل السنة مجبرة، وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، وعلامة الرافضة تسميتهم أهل الأثر نابتة وناصبة].

القدرية هم مجوس هذه الأمة، ويسمون بالمجوس؛ لأنهم فيهم شبه بعقيدة المجوس الذين يؤمنون بوجود خالقين، والقدرية يقولون: إن الأمر أنف، يعني: مستأنف، لا يوجد قدر، والله لم يقدر شيئاً، وأن الإنسان هو الذي يوجد هذه الأشياء والأفعال، وعلى هذا يلزم من ذلك أن المخلوق يخلق، والخالق يخلق أيضاً، فإذا كان الإنسان يخلق أفعالاً فردت عن المخلوق، فهذا إيمان بوجود خالقين كحال المجوس الذين يؤمنون بوجود خالقين: الظلام الذي يخلق الشر، والنور الذي يخلق الخير.

قال رحمه الله: [قلت: وكل ذلك عصبية، ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد وهو أصحاب الحديث، قلت: أنا رأيت أهل البدع في هذه الأسماء التي لقبوا ].

فإذا لحق النبي صلى الله عليه وسلم من أوصاف الذم بالسحر، والكذب، والشعر، والكهانة، وغير ذلك، ألا يلحق أتباع النبي عليه الصلاة والسلام من مثل ذلك أو ما دونه؟ نعم، ولهذا لحق النبي عليه الصلاة والسلام تلك الألفاظ الشنيعة؛ حتى يعلم الإنسان أن ما لحقه من أذى وأوصاف هي دون ذلك، ولا ينبغي له أن ينظر الكرامة، وأن يطلب الرضا أو السلامة، ولم تتحقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالله عز وجل أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام من الشدائد واللأواء، وثبته الله عز وجل حتى يعلم أتباعه في ذلك صبروا، وأنه ليسوا بأفضل على الله، فإذا قدر الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وجاء في فضله ومناقبه قدر لا يحصى من ذلك.

ولهذا نقول: إن الإنسان إذا أصيب بمصيبة، أو نزل به في سبيل الحق نازلة أو عير أو أصيب، أو لقب بشيء من ألقاب السوء فليتذكر ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن سلامة الدنيا ليست هي الكرامة، وإنما سلامة الدين والآخرة هي الكرامة، والله عز وجل حينما عاهد عباده على اتباع الحق ما ضمن لهم سلامة الدنيا، ولكن ضمن لهم سلامة الآخرة، والله عز وجل يقدر على نبيه من الأذى والشدائد وهو يرى ويسمع، ويقدر له من الشدة وضيق النفس.

والنبي صلى الله عليه وسلم أشد ما جاءه هل هو الضيق البدني أو الضيق النفسي؟ الضيق النفسي، وقد جاء في الصحيح من حديث عائشة عليها رضوان الله، قالت: (قلت: يا رسول الله! هل أتى عليك مثل أحد). و عائشة عليها رضوان الله صغيرة، ولم تدرك كامل الإدراك ما أدركته في المدينة من قتال النبي عليه الصلاة والسلام، وخاصة غزوة أحد التي شج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، فذكرت ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لقد وجدت من قومك يا عائشة ما وجدت، وإن أشد ما وجدت حينما عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ) وذلك في الطائف من أهل ثقيف، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فطردوني، فخرجت مهموماً على وجهي، فلم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، وقرن الثعالب يبعد عن الطائف ستة وأربعين كيلو، والإنسان يخرج من بيته مهموماً لكنه يفيق بعد أمتار، إما لهم أو خلاف، أو مشكلة نفسية مالية أو نحو ذلك، لكن يفيق في نهاية الطريق، أو إذا وصل إلى موضع معين، ولكن ستة وأربعين كيلو! يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ولم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب).

الذي أخرجه من الطائف وهو يرى أنه بهذا الضيق لماذا لم يبادره بالتسكين، وتركه يتألم ستة وأربعين كيلو وهو يراه ويسمع، لماذا؟ لأن سلامة الدنيا ليست مطلباً، المطلوب هو سلامة الآخرة.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فنظرت فإذا بياض فإذا هو جبريل، فيقول: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك)، بعد ستة وأربعين كيلو. وهذه المرحلة والفترة الذي ربما الإنسان ينظر إليها بمنظار عاطفي، فالأم والأب حينما يرى ابنه حزين وهو يريد أن يخرج من المنزل وذهب يريد أن يتداركه حتى لا يتألم لربع ساعة أو نصف ساعة، يريد أن يرضيه؛ حتى لا يستمر معه الألم النفسي، هذا من ضعف البشر، لكن الله عز وجل يرى ويسمع، ويعلم ما في نفس النبي عليه الصلاة والسلام، فتركه على هذا الأمر كله ستة وأربعين كيلو.

فقال: (قد سمع الله عز وجل قول قومك لك، وإن الله بعث إليك ملك الجبال، ويستأذنك من أن يطبق عليهم الأخشبين)، هل النبي عليه الصلاة والسلام أشبع نزوته ورغبته النفسية بذاته؟ بحيث يظهر انتصاره أم أراد الحق؟ قال: ( لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك معه شيئاً ).

ولهذا نقول: الداعية إلى الله المصلح المتبع للحق لا يبحث عن انتصارات ذاتية، وإنما يريد من ذلك إحقاق الحق، ولهذا يوسف عليه السلام بقي في السجن بضع سنين وخرج، وما طلب تصفية الحسابات والأمور ونحو ذلك؛ لماذا؟ لأن الأمة انشغلت بمراقبة ذلك، وما جاء ذكر السجن على لسانه إلا بالحمد، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100]، وذلك بأنه رأى حاجة الأمة في ذلك، ولما رأى حاجة الناس واضطراب حال الناس من جهة الاقتصاد، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، جعله على ذلك، قدم، فحفظ الذين ظلموا، وحفظ الناس فيهم، لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يفسد هؤلاء عن هؤلاء إلا بفساد عام يعم الناس.

ولهذا المصلح الداعي لله عز وجل يهمه صلاح العامة لا صلاح نفسه وذاته، صلاح العامة، لا تصفية الحسابات، وكذلك إشباع نزوات النفس ونحو هذا، ومن نظر إلى هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجد أن أمرهم على ذلك، ويتباينون في ذلك عزماً وقوة وصبراً.

قال رحمه الله: [قلت: أنا رأيت أهل البدع في هذه الأسماء التي لقبوا بها أهل السنة سلكوا معهم مسلك المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اقتسموا القول فيه، فسماه بعضهم ساحراً وبعضهم كاهناً، وبعضهم شاعراً، وبعضهم مجنوناً، وبعضهم مفتوناً، وبعضهم مفترياً مختلفاً كذاباً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من تلك المعائب بعيداً بريئاً، ولم يكن إلا رسولاً مصطفى نبياً، قال الله عز وجل: انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء:48]، كذلك المبتدعة -خذلهم الله- اقتسموا القول في حملة أخباره، ونقلة آثاره، ورواة أحاديثه، المقتدين بسنته، فسماهم بعضهم حشوية، وبعضهم مشبهة، وبعضهم نابتة، وبعضهم ناصبة، وبعضهم جبرية، وأصحاب الحديث عصابة من هذه المعايب البرية نقية زكية تقية، وليسوا إلا أهل السنة المضية والسيرة المرضية والسبل السوية، والحجج البالغة القوية، قد وفقهم الله جل جلاله لاتباع كتابه ووحيه وخطابه، والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم في أخباره التي أمر فيها أمته بالمعروف من القول والعمل، وزجرهم فيها عن المنكر منها، وأعانهم على التمسك بسيرته والاهتداء بملازمة سنته، وشرح صدورهم لمحبته، ومحبة أئمة شريعته، وعلماء أمته، ومن أحب قوماً فهو منهم يوم القيامة بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المرء مع من أحب )].