خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/68"> الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/68?sub=33611"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
رحمة الضعفاء
الحلقة مفرغة
يمتن الله عز وجل على عباده بنعم جزيلة، ويدعوهم إلى التأمل في بديع خلقها وعجيب تسخيرها لهم، فهذا النخل والعنب في عظيم فوائده وكثير استخداماته، فهو الرزق الحسن ومنه يصنع الخمر، لكن أين العقلاء؟ وهذا النحل في بديع خلقه ولذيذ عسله وسهولة تربيته على الناس، وكيف أن الله ألهمه المسكن والمطعم، وهداه سبحانه إلى طريق مرعاه ومأواه، وأخرج من بطنه العجب العجاب، وجعله ألواناً مختلفة تناسب مرعاه، ثم جعل في هذا العسل شفاءً للناس، وهذه دعوة ربانية للتفكر في عظمة الخالق سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يخلق من شاء ويتوفى متى شاء وهو على كل شيء قدير.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يليق بجلال ربنا وعظمته وكماله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبدٍ يخاف من لقائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وعلى من سار على نهجه ومنواله.
أما بعد:
فأحييكم بتحية الإسلام: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61] السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وفي بداية هذا اللقاء .. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي المشايخ الفضلاء الذين تسببوا في هذا اللقاء خيراً، وأسأل الله العظيم أن يكتب لكم الخطا، وأن يوجب بها الحب والرضا، فإن الدنيا فانية وكل ما عليها زائل، ولا يبقى إلا ما أريد به وجه الله، ومن ابتغى ما عند الله أقر الله عينه، والقليل من العبد في معاملته مع الله كثيرٌ عند الله بمنه وفضله وكرمه، فقد تكون الخطوة إلى طاعةٍ وبر موجبةً لمحبة الله للعبد محبةً لا يسخط بعدها أبداً، وقد تكون الكلمة من محبة الله لا يلقي لها العبد بالاً يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، فأسأل الله العظيم أن يجعل أعمالنا مقبولةً عنده، وهو أهل الفضل والتكريم.
أيها الأحبة في الله: إن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة لعلمه سبحانه أن عباده أفقر ما يكونون إلى رحمته .. كتب على نفسه الرحمة وقسمها بين خلقه وعباده، فإذا أراد الله أن يسعد عبداً من عباده ملأ قلبه بالرحمة، حتى يعظم خيره، ويضاعف أجره، وتكفر خطيئته وترفع درجته.
إنها الرحمة التي قام عليها الإسلام وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
إنها الرحمة التي لا تنـزع إلا من شقي، قال: (يا رسول الله! إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً، قال: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!).
إنها الرحمة التي إذا دخلت إلى القلوب اطمأنت وانشرحت، وإلى الخير سابقت وأسرعت فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] من دخلت في قلبه الرحمة صار ليّن القلب يهش لطاعة الله، ويبش في مرضاة الله، سباقاً إلى كل شيءٍ يشتري به رحمة الله.
الرحمة هي: أمرٌ غيبـي لا يعلمه إلا الله علام الغيوب، الله أعلم كم أسكن من رحمته في القلوب، فإذا أراد سبحانه بعبده خير الدنيا والآخرة جعل حظه من ذلك وافراً، فمن سكنت في قلبه الرحمة رحمه الله في الدنيا والآخرة.
رحمه الله في الدنيا فلطف به في النكبات، وأحاطه بلطفه ورحمته، كما رحم المؤمنين والمؤمنات هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60] ورحمه الله عند موته فلطف به في السكرات وأحسن له الخاتمة، قال بعض أهل العلم: أشهد أني ما علمت إنساناً رحيماً فساءت خاتمته. فغالباً ما يكون المرحوم الذي ملئ قلبه بالرحمة قرير العين عن ربه، حتى في آخر لحظات عمره، إذا أسكن الله الرحمات في قلب عبده رحمه في لحده، ورحمه في قبره حتى بدعوات المؤمنين والمؤمنات.
فكم من رحماء توطنوا القبور وهم بشرى ما قدموه من القول والعمل، ماتوا وما ماتت مكارمهم، ماتوا وقد أتبعهم الله بصالح الدعوات، فكم من أرملة ترفع كفها إلى الله داعيةً بالخير لـه، وكم من يتيمٍ ومحروم يسأل الله أن يجعل مضاجعهم مضاجع الروح والريحان والنعيم والجنان.
إنها الرحمة التي ينبغي للمسلم أن يتخلق بها، وأن يكون من أهلها.
العصاة والمذنبون من أحوج الناس للرحمة
هذا الالتزام وهذه الاستقامة وهذه الهداية رحمة منحها الله لك، فإذا أردت أن ترحم بها عباده رحمك الله عز وجل، وبارك لك فيها، فما دعيت إلى هدىً إلا كان لك أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء.
الرحمة أفضل ما تكون بالدلالة على الخير، فكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ودلوا إلى المَعلَم والدليل فأصابوا رحمة الله العظيم الجليل.
والعصاة والمذنبون وإن أذنبوا وأخطئوا لكنهم ينتظرون الكلمة وينتظرون التوجيه والله يعينك ويسددك ويلهمك ويوفقك، ومن كان لله كان الله لـه، فقد تتكلم بالكلمة داعياً إلى رحمة الله، يكتب الله بها رضوانه إلى يوم أن يلقاه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله لـه بها رضوانه إلى يوم يلقاه) قد تمر على العاصي، وهو في غفلته وشهوته وسكرته فتوقظه من الغفلة وتنبهه من المنام، وتأخذ بمجامع قلبه إلى الله، فتقول لـه: اتقِ الله، واعلم أنك صائرٌ إلى الله، وأن الله سائلك ومحاسبك ومجازيك، فترعد فرائصه من خشية الله، وقد تخرج منك لا تلقي لها بالاً ويكتب الله عز وجل بها رضوانه.
الوالدان والأقارب أولى الناس أن يرحموا
كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه إذا دخل على أمه قال: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! رحمكِ الله يا أمي كما ربيتيني صغيراً، فكانت تقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! رحمك الله يا بني كما بررتني كبيرة].
فأحوج الناس إلى رحمتك الوالدان، وذلك بقضاء حوائجهما، والسعي في تفريج الكربات عنهما، وإدخال السرور عليهما، حتى قال العلماء: من الرحمة أن لا تظهر لهما ما أنت فيه من الشجى والحزن، فإذا كنت مهموماً محزوناً فعليك أن تحرص كل الحرص ألا يريا منك الحزن وألا يريا منك الألم، فإنهما يتألمان أشد من ألمك.
الرحمة بالوالدين تكون بقضاء الحوائج في الدنيا، وكثرة الدعاء لهما في الآخرة، فإذا كانا أمواتاً فإنهما أحوج ما يكونان إلى دعوة صالحة منك، أن تسأل الله أن يصب عليهما شآبيب الرحمات، وأن يجعل القبور لهم رياضاً من رياض الجنات، فتلك رحمة أودعها الله في قلوب الأبناء والبنات، لو أن الإنسان سبق والديه، فمات قبلهما لتفطر القلب من الوالدين، وللهجت الألسنة صباح مساء بالترحم عليه.
ومن أحوج الناس إلى رحمتك أبناؤك وبناتك، وإدخال السرور على الأبناء والبنات واللطف بهم والتيسير لهم، وإدخال السرور عليهم من أجلِّ ما تشرى به رحمة الله، ولذلك ثبت بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قصت عليه عائشة رضي الله عنها: (أن امرأةً دخلت عليها ومعها بنتان، فاستطعمت أم المؤمنين ، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدةٍ منهما تمرة ثم أخذت الثالثة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين فأطعمتها، فعجبت أم المؤمنين رضي الله عنها من صنيعها، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصت عليه الخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: أتعجبين مما صنعت؟ إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك).
الرحمة بالأبناء والبنات حسنةٌ عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات فأدبهن فأحسن تأديبهن، ورباهن فأحسن تربيتهن، إلا كن له ستراً من النار).
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إمام الرحماء بولده صلى الله عليه وسلم، ولذلك ثبت عنه (أنه كان يقبل
وتوفي ابنه إبراهيم ففاضت عيناه من الدمع صلى الله عليه وسلم، فقيل: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده).
فمن أراد أن يكون رحيماً فليبدأ بأولاده، وليبدأ بأهله وزوجه، فإن الرحمة بالأقربين من أعظم الحسنات، ومن أجلِّ الطاعات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
أحوج الناس إلى رحمتك إخوانك وأخواتك، فيتفقد الإنسان حوائج الإخوان والأخوات، ويدخل السرور عليهم ابتغاء رحمة الله، لا من باب القرابة، ولكن من باب الطاعة والقربة والمحبة وشراء مرضاة الله عز وجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن صدقة القريب: (إنها صدقةٌ وصلة) فكل ما تقدمه لإخوانك وأخواتك وقرابتك مما تُشْتَرى به رحمة الله، كل ذلك إنما يكون عن رحمة أسكنها الله في قلبك.
وكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ولكنهم في غفلة عن حقوق الإخوان والأخوات، فقد تجد الإنسان حليماً رحيماً بالغرباء، ولكنه فظٌ غليظ بالأقرباء، فأول ما يبدأ الإنسان بقرابته من أهله وولده ووالديه، وإخوانه وأخواته، فإذا انطلق المسلم من بيته حليماً رحيماً فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، من ابتدأ ببيته فكان والداً رحيماً، وكان أخاً رحيماً، وكان كذلك ابناً رحيماً بوالديه، فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، والله تعالى ييسر لليسرى من جاهد نفسه على ذلك.
الضعفاء والمساكين والأرامل من المتعطشين للرحمة
فالسعيد العاقل من تزيده نعمة الله تواضعاً لعباد الله، ومن تزيده نعمة الله توطئة للكنف لعباد الله وإماء الله، يشتري رحمة الله بالإحسان إلى الضعفاء والفقراء والبؤساء، فيكفكف دموع اليتامى، ويجبر قلوب الأرامل والثكالى، يشتري بذلك رحمة الله.
وقد أثر عن علي بن زين العابدين رحمه الله أنه كان إذا جن عليه الليل حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام -وكان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين ومع ذلك تواضع لله عز وجل؛ لعلمه أن الله يحب منه تلك الخطوة، ولعلمه أن جبر تلك القلوب يجبر الله به كسر العبد في الدنيا والآخرة- فخرج رحمه الله في الظلام بعيداً عن الرياء والسمعة والثناء، يشتري بذلك رحمة الله سبحانه، فلما توفي رحمه الله فقدت تلك البيوت من كان يقرع عليهم في جوف الليل، وفي بعض الروايات: كان ما يقرب من ثلاثين بيتاً من ضعفة المسلمين، كان يمشي إليها بخطواته، فمات رحمه الله وما ماتت تلك الخطا، وسيراها بعينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
المشي إلى الضعفاء، والمشي إلى البؤساء له لذة يعرفها من يعرفها .. المشي إلى المحرومين البائسين له رحمة يجدها من وجدها، فهؤلاء الأئمة الأخيار الصفوة الأبرار، عرفوا مقدار المعاملة مع الله، فاختاروا لنهارهم العلم والعمل، واختاروا لليلهم جبر القلوب المكسورة، وإدخال السرور عليها، فلما أرادوا أن يغسلوه رحمه الله خلعوا ثيابه فوجدوا ظهره متشحطاً من كثرة ما حمل عليه من الطعام، فرحمه الله برحمته الواسعة!
كانوا أئمة في الإحسان وجبر القلوب، قد تمر على أرملة في ليلة ظلماء، وقد لا يكون عندها الطعام وهي في شدة الحاجة وشدة المسغبة، فتصيبها برحمة ساقك الله عز وجل بها من طعام أو مال، فتقف حائرة لا تدري ما الذي تقدمه لك، فلا تجد إلا أن ترفع كفها إلى الله داعيةً لك بخيري الدنيا والآخرة، فترجع إلى بيتك قرير العين عن الله، تقول: ربي إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقير.
فجبر مثل هذه القلوب وإدخال السرور عليها عظيمٌ عند الله سبحانه: (مرت بغي من بغايا بني إسرائيل على كلب فرأته في شدة العطش والهاجرة يلهث -يأكل الثرى- فنـزلت فملأت موقها من الركية -أي البئر- وسقت الكلب، فشكر الله لها -أي أن الله أعظم منها هذه الرحمة- فغفر لها ذنوبها) وفي رواية: (فشكر الله لها -أي أن الكلب لا يدري كيف يجازيها فاتجه إلى الله جل جلاله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً فسأل الله أن يشكرها- فغفر الله لها ذنوبها).
الله أكبر! لن تجد ألذ من ساعة -بعد الإيمان بالله عز وجل وحلاوة مناجاته- مثل ساعة تحس فيها أنك أدخلت السرور فيها على محزون، أو نفَّست كربة مكروب، أو قضيت ديناً عن مديون تشتت ذهنه وعظم همُّه وظنه فأصابه ذل النهار وهمُّ الليل، فجئت بكل عزيمة إيمانية صادقة، والله مطلعٌ على قلبك، وأنت ماضٍ إليه تشتري رحمة الله لا تريد ثناءً ولا سمعةً ولا رياءً ولكن تريده سبحانه، فيعظم الله لك الثواب والأجر، إنها رحمات يوفق الله لها من أحب، أعطى الله الدنيا لمن أحب ومن كره، ولم يعطِ الدين والرحمة إلا لمن أحب، فالإحسان إلى الناس خاصةً الضعفاء والبؤساء أمرٌ عظيم.
ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الإحسان إلى الأرملة والقيام على حوائجها ينزل صاحبه منزلة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم: كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) وكان بعض العلماء يفضل السعي في قضاء حوائج المسلمين، حتى إن بعض أئمة السلف كان يفضل قضاء حاجة الأرملة على الاعتكاف في المسجد؛ لأنها إذا سألت ربها وابتهلت إلى خالقها سألت من قلب ودعت بصدق، فينال الإنسان بهذه الدعوة خيري الدنيا والآخرة.
الأيتام من أشد المحتاجين إلى الرحمة
يقول العلماء: أعظم ما يكون القهر لليتيم إذا جاء في شدة الحاجة والمسغبة منكسر القلب، مهموماً محزوناً فصفعته على وجهه فخيبت أمله، أصعب ما يكون على اليتيم إذا جاء في شدة الحاجة والضيق ملتجئاً إليك بعد الله سبحانه أن تفرج كربته وأن تحسن إليه، والأمل منعقد بك، وإذا بك تخيب أمله -لا قدر الله- وترده، فذلك أعظم ما يكون من القهر وهو قادرٌ على أن يقوم بحاجته.
وعلى المسلم أن يعلم أن الله تعالى لا يمكن أن يوفق للخير إلا من أحب، ولذلك قال العلماء: إن السعي في حوائج الناس لا يكون إلا بقوة الإيمان، ورجاء ما عند الله سبحانه وتعالى.
لن تجد إنساناً حريصاً على إسداء الخير إلى الناس، وتفريج كرباتهم، والعطف عليهم، وإدخال السرور عليهم، إلا مؤمناً يرجو الله والدار الآخرة.
وأحوج الناس إلى الرحمة هم العصاة والمذنبون، ولكنهم يحتاجون إلى رحمة التوجيه والهداية لطاعة الله، فإن الإسلام رحمة، والهداية والالتزام رحمة، وهناك أممٌ تنتظر منك أن تدلهم عليها، وأن تهديهم بإذن الله إليها، وأن تأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله، فتحببهم في طاعة الله ومرضاته، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا رحمة مهداة).
هذا الالتزام وهذه الاستقامة وهذه الهداية رحمة منحها الله لك، فإذا أردت أن ترحم بها عباده رحمك الله عز وجل، وبارك لك فيها، فما دعيت إلى هدىً إلا كان لك أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء.
الرحمة أفضل ما تكون بالدلالة على الخير، فكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ودلوا إلى المَعلَم والدليل فأصابوا رحمة الله العظيم الجليل.
والعصاة والمذنبون وإن أذنبوا وأخطئوا لكنهم ينتظرون الكلمة وينتظرون التوجيه والله يعينك ويسددك ويلهمك ويوفقك، ومن كان لله كان الله لـه، فقد تتكلم بالكلمة داعياً إلى رحمة الله، يكتب الله بها رضوانه إلى يوم أن يلقاه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله لـه بها رضوانه إلى يوم يلقاه) قد تمر على العاصي، وهو في غفلته وشهوته وسكرته فتوقظه من الغفلة وتنبهه من المنام، وتأخذ بمجامع قلبه إلى الله، فتقول لـه: اتقِ الله، واعلم أنك صائرٌ إلى الله، وأن الله سائلك ومحاسبك ومجازيك، فترعد فرائصه من خشية الله، وقد تخرج منك لا تلقي لها بالاً ويكتب الله عز وجل بها رضوانه.
أحوج الناس إلى رحمتك أقرب الناس منك، وأولى الناس بذلك الوالدان إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24].
كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه إذا دخل على أمه قال: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! رحمكِ الله يا أمي كما ربيتيني صغيراً، فكانت تقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! رحمك الله يا بني كما بررتني كبيرة].
فأحوج الناس إلى رحمتك الوالدان، وذلك بقضاء حوائجهما، والسعي في تفريج الكربات عنهما، وإدخال السرور عليهما، حتى قال العلماء: من الرحمة أن لا تظهر لهما ما أنت فيه من الشجى والحزن، فإذا كنت مهموماً محزوناً فعليك أن تحرص كل الحرص ألا يريا منك الحزن وألا يريا منك الألم، فإنهما يتألمان أشد من ألمك.
الرحمة بالوالدين تكون بقضاء الحوائج في الدنيا، وكثرة الدعاء لهما في الآخرة، فإذا كانا أمواتاً فإنهما أحوج ما يكونان إلى دعوة صالحة منك، أن تسأل الله أن يصب عليهما شآبيب الرحمات، وأن يجعل القبور لهم رياضاً من رياض الجنات، فتلك رحمة أودعها الله في قلوب الأبناء والبنات، لو أن الإنسان سبق والديه، فمات قبلهما لتفطر القلب من الوالدين، وللهجت الألسنة صباح مساء بالترحم عليه.
ومن أحوج الناس إلى رحمتك أبناؤك وبناتك، وإدخال السرور على الأبناء والبنات واللطف بهم والتيسير لهم، وإدخال السرور عليهم من أجلِّ ما تشرى به رحمة الله، ولذلك ثبت بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قصت عليه عائشة رضي الله عنها: (أن امرأةً دخلت عليها ومعها بنتان، فاستطعمت أم المؤمنين ، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدةٍ منهما تمرة ثم أخذت الثالثة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين فأطعمتها، فعجبت أم المؤمنين رضي الله عنها من صنيعها، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصت عليه الخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: أتعجبين مما صنعت؟ إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك).
الرحمة بالأبناء والبنات حسنةٌ عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات فأدبهن فأحسن تأديبهن، ورباهن فأحسن تربيتهن، إلا كن له ستراً من النار).
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إمام الرحماء بولده صلى الله عليه وسلم، ولذلك ثبت عنه (أنه كان يقبل
وتوفي ابنه إبراهيم ففاضت عيناه من الدمع صلى الله عليه وسلم، فقيل: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده).
فمن أراد أن يكون رحيماً فليبدأ بأولاده، وليبدأ بأهله وزوجه، فإن الرحمة بالأقربين من أعظم الحسنات، ومن أجلِّ الطاعات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
أحوج الناس إلى رحمتك إخوانك وأخواتك، فيتفقد الإنسان حوائج الإخوان والأخوات، ويدخل السرور عليهم ابتغاء رحمة الله، لا من باب القرابة، ولكن من باب الطاعة والقربة والمحبة وشراء مرضاة الله عز وجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن صدقة القريب: (إنها صدقةٌ وصلة) فكل ما تقدمه لإخوانك وأخواتك وقرابتك مما تُشْتَرى به رحمة الله، كل ذلك إنما يكون عن رحمة أسكنها الله في قلبك.
وكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ولكنهم في غفلة عن حقوق الإخوان والأخوات، فقد تجد الإنسان حليماً رحيماً بالغرباء، ولكنه فظٌ غليظ بالأقرباء، فأول ما يبدأ الإنسان بقرابته من أهله وولده ووالديه، وإخوانه وأخواته، فإذا انطلق المسلم من بيته حليماً رحيماً فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، من ابتدأ ببيته فكان والداً رحيماً، وكان أخاً رحيماً، وكان كذلك ابناً رحيماً بوالديه، فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، والله تعالى ييسر لليسرى من جاهد نفسه على ذلك.
ينبغي للمسلم أن يبدأ أول ما يبدأ بالقرابة، فإذا وفقه الله برحمة الأقرباء، نظر الإنسان إلى أحوج الناس للرحمة، وقد ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الإحسان إلى الضعفاء وإدخال السرور عليهم، وكما أن المسلم يرجو رحمة الله في سجوده وركوعه، فإنه يشتري رحمة الله في اللطف والإحسان بضعفة المسلمين، وقد ابتلى الله الأغنياء بالفقراء، وابتلى الأقوياء بالضعفاء، ورفع درجات بعضهم على بعض ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.
فالسعيد العاقل من تزيده نعمة الله تواضعاً لعباد الله، ومن تزيده نعمة الله توطئة للكنف لعباد الله وإماء الله، يشتري رحمة الله بالإحسان إلى الضعفاء والفقراء والبؤساء، فيكفكف دموع اليتامى، ويجبر قلوب الأرامل والثكالى، يشتري بذلك رحمة الله.
وقد أثر عن علي بن زين العابدين رحمه الله أنه كان إذا جن عليه الليل حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام -وكان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين ومع ذلك تواضع لله عز وجل؛ لعلمه أن الله يحب منه تلك الخطوة، ولعلمه أن جبر تلك القلوب يجبر الله به كسر العبد في الدنيا والآخرة- فخرج رحمه الله في الظلام بعيداً عن الرياء والسمعة والثناء، يشتري بذلك رحمة الله سبحانه، فلما توفي رحمه الله فقدت تلك البيوت من كان يقرع عليهم في جوف الليل، وفي بعض الروايات: كان ما يقرب من ثلاثين بيتاً من ضعفة المسلمين، كان يمشي إليها بخطواته، فمات رحمه الله وما ماتت تلك الخطا، وسيراها بعينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
المشي إلى الضعفاء، والمشي إلى البؤساء له لذة يعرفها من يعرفها .. المشي إلى المحرومين البائسين له رحمة يجدها من وجدها، فهؤلاء الأئمة الأخيار الصفوة الأبرار، عرفوا مقدار المعاملة مع الله، فاختاروا لنهارهم العلم والعمل، واختاروا لليلهم جبر القلوب المكسورة، وإدخال السرور عليها، فلما أرادوا أن يغسلوه رحمه الله خلعوا ثيابه فوجدوا ظهره متشحطاً من كثرة ما حمل عليه من الطعام، فرحمه الله برحمته الواسعة!
كانوا أئمة في الإحسان وجبر القلوب، قد تمر على أرملة في ليلة ظلماء، وقد لا يكون عندها الطعام وهي في شدة الحاجة وشدة المسغبة، فتصيبها برحمة ساقك الله عز وجل بها من طعام أو مال، فتقف حائرة لا تدري ما الذي تقدمه لك، فلا تجد إلا أن ترفع كفها إلى الله داعيةً لك بخيري الدنيا والآخرة، فترجع إلى بيتك قرير العين عن الله، تقول: ربي إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقير.
فجبر مثل هذه القلوب وإدخال السرور عليها عظيمٌ عند الله سبحانه: (مرت بغي من بغايا بني إسرائيل على كلب فرأته في شدة العطش والهاجرة يلهث -يأكل الثرى- فنـزلت فملأت موقها من الركية -أي البئر- وسقت الكلب، فشكر الله لها -أي أن الله أعظم منها هذه الرحمة- فغفر لها ذنوبها) وفي رواية: (فشكر الله لها -أي أن الكلب لا يدري كيف يجازيها فاتجه إلى الله جل جلاله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً فسأل الله أن يشكرها- فغفر الله لها ذنوبها).
الله أكبر! لن تجد ألذ من ساعة -بعد الإيمان بالله عز وجل وحلاوة مناجاته- مثل ساعة تحس فيها أنك أدخلت السرور فيها على محزون، أو نفَّست كربة مكروب، أو قضيت ديناً عن مديون تشتت ذهنه وعظم همُّه وظنه فأصابه ذل النهار وهمُّ الليل، فجئت بكل عزيمة إيمانية صادقة، والله مطلعٌ على قلبك، وأنت ماضٍ إليه تشتري رحمة الله لا تريد ثناءً ولا سمعةً ولا رياءً ولكن تريده سبحانه، فيعظم الله لك الثواب والأجر، إنها رحمات يوفق الله لها من أحب، أعطى الله الدنيا لمن أحب ومن كره، ولم يعطِ الدين والرحمة إلا لمن أحب، فالإحسان إلى الناس خاصةً الضعفاء والبؤساء أمرٌ عظيم.
ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الإحسان إلى الأرملة والقيام على حوائجها ينزل صاحبه منزلة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم: كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) وكان بعض العلماء يفضل السعي في قضاء حوائج المسلمين، حتى إن بعض أئمة السلف كان يفضل قضاء حاجة الأرملة على الاعتكاف في المسجد؛ لأنها إذا سألت ربها وابتهلت إلى خالقها سألت من قلب ودعت بصدق، فينال الإنسان بهذه الدعوة خيري الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة في الله: أحوج الناس هم الضعفاء الأيتام، واليتيم قد انكسر قلبه بفراق أبيه، فهناك يتيمٌ لا يعرف أباه ألبتة، وهناك يتيم عاش مع أبيه أجمل اللحظات وقضى معه أفضل الساعات، وإذا به فجأة يختبئ عنه إذ صار في عداد الأموات، فأصبح منكسر القلب، مهموماً محزوناً يمضي مع الناس، فيرى كل ابنٍ مع أبيه، يمسح عليه ويحسن إليه، ويقف وحيداً فريداً كأنه يسائل أين أباه، وأين الرحمة التي أسدى إليه وأولاه، ولذلك إذا أراد الله بعبده الرحمة جاء إلى مثل هذا فمسح على رأسه، وجبر قلبه، وأحسن إليه بالقول والعمل، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة) فلليتيم حق ينبغي أن يحفظ، والله من فوق سبع سماوات يخاطب أفضل عباده وأشرفهم منزلةً عنده ويقول له: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى:9].
يقول العلماء: أعظم ما يكون القهر لليتيم إذا جاء في شدة الحاجة والمسغبة منكسر القلب، مهموماً محزوناً فصفعته على وجهه فخيبت أمله، أصعب ما يكون على اليتيم إذا جاء في شدة الحاجة والضيق ملتجئاً إليك بعد الله سبحانه أن تفرج كربته وأن تحسن إليه، والأمل منعقد بك، وإذا بك تخيب أمله -لا قدر الله- وترده، فذلك أعظم ما يكون من القهر وهو قادرٌ على أن يقوم بحاجته.
وعلى المسلم أن يعلم أن الله تعالى لا يمكن أن يوفق للخير إلا من أحب، ولذلك قال العلماء: إن السعي في حوائج الناس لا يكون إلا بقوة الإيمان، ورجاء ما عند الله سبحانه وتعالى.
لن تجد إنساناً حريصاً على إسداء الخير إلى الناس، وتفريج كرباتهم، والعطف عليهم، وإدخال السرور عليهم، إلا مؤمناً يرجو الله والدار الآخرة.