شرح زاد المستقنع باب الرجعة [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمن طلق زوجته الطلقة الأخيرة، فاستتم العدد الذي جعله الله في الطلاق.

الحكمة في اشتراط نكاح الزوجة بزوج آخر حتى تحل لزوجها الأول

ومن حكم الله سبحانه وتعالى في المطلق ثلاثاً أنه لا تحل له زوجته حتى تنكح زوجاً غيره، وبيّن هذا الحكم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء كتاب الله عز وجل باشتراط النكاح الثاني، وجاءت السنة باشتراط الوطء وحصول ما يشترط من الإيلاج المعتبر للحكم بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.

ونظراً إلى أن هذه المسألة مترتبة على الطلاق ذكرها المصنف رحمه الله في ختام كتاب الطلاق، فذكر أن المطلق إذا استتم العدد وذلك في قوله: [ إذا استوفى ما يملك ] أي: إذا استتم العدد الذي جعله الله له.

فكأن الزوج يملك الطلاق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل له الطلاق، فإذا استتم العدد المعتبر فإنه لا تحل له الزوجة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] أي: الطلقة الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].

وذلك بعد قوله سبحانه: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] فبيّنت هذه الآية الكريمة من سورة البقرة أن من طلق الطلقة الثالثة أنه لا تحل له هذه الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأن كلا الزوجين أعطي المهلة.

فالطلقة الأولى والثانية كان بإمكان كل منهما أن يصحح خطأه، فلو حصل أن الزوج تسرع في الطلقة الأولى فإن تسرعه يستطيع أن يتلافاه بما بقي له من الطلقتين.

فإن كان الخطأ صادراً منه لأنه ربما يكون أول سبب للطلاق هو الزوج، ولربما كان السبب الزوجة، فإذا وقع من الزوج الطلقة الأولى بسبب خطأ أو تقصير منه؛ فإنه بوقوع الطلقة سيندم ويتأثر ويرجع إلى زوجته.

فلو أنه استقام ربما أخطأت الزوجة، فجعل الشرع له أن يعطيها مهلة كما أعطى لنفسه المهلة، فجاءت الطلقة الثانية على فرضية أن يكون الخطأ من الزوجة، فبقيت الطلقة الثالثة فيصلاً بينهما، حتى ولو حصل أنه تكرر خطأ من الزوج مرتين فطلق الطلقة الأولى بقيت الثالثة، فيحترز كل منهما؛ لأنه إذا أخطأ الزوج المرة الأولى، وأخطأ المرة الثانية حرصت المرأة على أسلوب أشد من حالها في الطلقة الثانية على أن تعامل زوجها وتحافظ عليه إذا كانت تريد هذا البيت.

فإذا طلقها فلا يخلو إما أن يكون الطلاق -في الثلاث تطليقات- بسبب الزوج أو يكون بسبب الزوجة، أو يكون مشتركاً بينهما.

فإن كان بسبب الزوج فإنه يكتوي بنار الغيرة حينما يحس أن زوجاً آخر قد استمتع بهذه الزوجة، وعندها يتألم ألماً شديداً، بحيث لو فكر أن يتزوج امرأة ثانية فإنه يخاف من الطلاق ويهاب.

كذلك أيضاً جعل الشرط تحقيقاً لهذا المقصود، أنها لا تحل له حتى يطأها الزوج الثاني، وهذا أبلغ ما يكون تأثيراً وزجراً ومبالغة في دفع الأذية من الأزواج.

فإذا ما نكحت الزوج الثاني -والشرع اشترط أن يدخل بها الزوج الثاني- تأثر الزوج الأول واكتوى بنار الغيرة، هذا إذا حرص وعرف قيمة زوجته الأولى.

ثم الفرض الثاني: أن يكون الخطأ من الزوجة فإذا كانت الزوجة هي التي تستفز زوجها، وهي التي ألجأته إلى الطلقة الأولى أو الثانية، أو ألجأته إلى أغلب الطلاق، أو إلى الطلقة الأخيرة التي بسببها حصل الفراق، فإن الزوج لا يحل لها أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره.

وحينئذٍ فالغالب أنه لا يصبر وسيتزوج امرأة ثانية، أو يفكر في زواج الثانية، فتكتوي هي أيضاً بنار الغيرة، ولكنها لابد لحلها للزوج الأول من أن تتزوج الزوج الثاني، فإذا نكحت الثاني إما أن يكون الثاني أفضل من الأول فتحرص على عشرته على أحسن ما تكون الزوجة لزوجها.

وإما أن يكون أسوأ من الأول، فتحرص على أن ترجع للأول، والشرع من كماله ووفائه راعى المعاني النفسية ولم يهدرها، ولذلك جاءت امرأة رفاعة حينما طلقها فبت طلاقها ونكحها عبد الرحمن بن الزبير؛ جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إن ما معه مثل هدبة الثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته).

فاكتوت بنار الحرص على أن ترجع إلى زوجها الأول قبل أن ينكح غيرها؛ لأنها عرفت قيمة زوجها الأول.

وهذا لا شك أنه من أكمل ما يكون، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] وقوم يعقلون.. وقوم يتقون.. وقوم يؤمنون؟ فالله يحكم ولا معقب لحكمه.

فمن حكمته سبحانه وتعالى أن شرع هذا الأمر، وهو أن تحل الزوجة المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول بشرط أن ينكحها زوج آخر.

ولهذا النكاح شروط شرعية وأحكام ومسائل وتفصيلات يعتني العلماء رحمهم الله بذكرها، وهذا ما سيبينه رحمه الله في هذا الفصل.

جاء القرآن باشتراط الزوج الثاني، وهذا الشرط محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمن طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله.

[ إذا استوفى ما يملك من الطلاق ] حراً كان أو عبداً على التفصيل المذكور عند العلماء، وقد تقدم بيان هذه المسألة وكلام العلماء رحمهم الله.

[ إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت ]

حكم بحرمة المرأة المطلقة، وهذا النوع من التحريم يوصف عند العلماء بالتحريم المؤقت؛ لأن تحريم المرأة ينقسم إلى قسمين:

إما أن تحرم حرمة مؤبدة.

وإما أن تحرم حرمة مؤقتة.

فالحرمة المؤقتة من أمثلتها المطلقة ثلاثاً فإنها تحرم على الزوج الاول حتى تنكح زوجاً غيره، فأقتت باشتراط أن ينكحها زوج آخر، ومن التحريم المؤقت أن يكون عنده أربع نسوة، فلا تحل له الخامسة حتى يطلق واحدة من الأربع وتخرج من عدتها، ويسمى مانع العدد.

ومن أمثلة الموانع المؤقتة مانع الرق ومانع الكفر مثل المجوسية قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم).

فالمرأة إذا كانت مجوسية والعياذ بالله فلا يحل للمسلم أن ينكحها، وهكذا إذا كانت وثنية أو مشركة أو ملحدة أو لا دين لها والعياذ بالله، هذه لا يحل نكاحها.

فيعتبر وجود هذا الكفر مانعاً؛ لكنه مانع مؤقت بحيث لو أسلمت أو صارت كتابية حل نكاحها على التفصيل الذي تقدم معنا.

الحرمة المؤبدة: مثل النكاح المحرم من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة، وقد تقدم بيان هذه الموانع وتفصيلها.

قوله: [ حرمت ]

أي: لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ [البقرة:230] عند علماء الأصول أن من صيغ التحريم الصريح القوية نفي الحل عن الشيء، مثل قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب:52] ، وَلا يَحِلُّ لَكُمْ [البقرة:229].

هذه كلها تدل على تحريم الشيء، فقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] نص في تحريم المطلقة على من طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره.

صفات النكاح المعتبر في تحليل الزوج الثاني للمطلقة ثلاثاً

[ حتى يطأها زوج في قبل ] إذاً يشترط أن يكون هناك نكاح، فلو وطأها والعياذ بالله بالزنا فإنه لا يحللها لزوجها الأول، بل يجب رجمها.

وأما إذا كان وطؤها بين الحل والحرمة وهو الذي يسمى بوطء الشبهة، بأن ظنها زوجته فوطأها ثم تبين أنها أجنبية مطلقة من زوج ثلاثاً فلا تحل أيضاً، فوطء الشبهة والحرام لا يحلل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، بل يحللها الواطئ في نكاح صحيح.

إذاً يشترط وجود النكاح وأن يحصل مع النكاح وطء، وأن يكون هذا الوطء على الصفة التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).

قال رحمه الله: [ ولو مراهقا ]

(ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: لو وطأها مراهق وحصل به ما يحصل بالبالغ من الاستمتاع واللذة فإنه يحللها، ولا شك أن المراهق الصغير لا يحصل بمثله الاستمتاع وذوق العسيلة الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذلك قالوا: (ولو مراهقاً) لأن ما قارب الشيء يأخذ حكمه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).

فلو أن مراهقاً عقد على امرأة مطلقة ثلاثاً ودخل بها، وحصل منه الوطء فقالوا: إن هذا الوطء معتبر، فلو طلقها هذا المراهق حلت لزوجها الأول، ولو طلقت بعد بلوغه حلت لزوجها الأول ورجعت؛ لأن الوطء من المراهق يحصل به ذوق العسيلة.

وأما إذا كان صغيراً فمثله لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر.

التحليل للمرأة المطلقة ثلاثاً له ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن يكون مقصوداً يراد به تحليل المرأة لزوجها الأول باتفاق من أهل الزوج والزوجة، فهذا حرام بالإجماع، وملعون من فعله، والإعانة عليه من الكبائر؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها عند طائفة من العلماء رحمهم الله لورود الوعيد الشديد فيه، ولما فيه من التحايل على شرع الله عز وجل، ومخالفة مقصوده.

لأن مقصود الشرع والمقصود من الآيات الكريمة في اشتراط نكاح الزوج الثاني أن يتألم الزوج الأول، فإذا حصل ترتيب من أنه يدخل بها وبمجرد دخوله بها يطلقها، فحينئذٍ الزوج الأول لا يتألم ذلك الألم، ولا يتحقق المقصود شرعاً من اشتراط هذا الزوج.

ولذلك كان وجود نكاح المحلل وعدمه على حد سواء، ونص طائفة من العلماء على أنه من كبائر الذنوب لورود اللعن فيه كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له.

فالزوج الذي يحلل له يقول: يا فلان اذهب إلى فلانة وانكحها وحللها لي، وحتى إن بعضهم والعياذ بالله ربما يقول له: وأنا أدفع المهر، فليس لك إلا أن تحللها.

ولربما والعياذ بالله اتفق معه على أن يأخذ عقداً صورياً وأنه لا يدخل بها، ثم يدعي أنه دخل بها وتدعي هي أنه أصابها، ثم ترجع إلى زوجها الأول.

وهذا كله والعياذ بالله اعتداء لحدود الله عز وجل وتحليل لما حرم الله، وجرأة على محارم الله، نسأل الله السلامة والعافية.

الصورة الثانية: أن يكون مقصود الشخص أن يحللها ولا يطلع الزوجين على ذلك، ولا أهل الزوجة على ذلك ويفعله، ففيه الخلاف، وشدد فيه طائفة من السلف، حتى أن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( إن الله لا يخادع ) جاءه رجل وقال له: إن عمي طلق زوجته ثلاثاً وأنا أريد أن أنكحها حتى أحلها له، فقال له رضي الله عنه: (ويحكم! إن الله لا يخادع).

يعني: أتخادع الله عز وجل؟ فإن الله لا يخادع سبحانه وتعالى يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9] نسأل الله السلامة والعافية، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] .

فمن اجترأ على هذا الفعل أفتى ابن عباس رضي الله عنهما بأنه في حكم المحلل، وأنه اعتداء لحرمات الله عز وجل.

وقال بعض العلماء: إذا لم يطلع أحد على ذلك وغيب ذلك في نيته فلا بأس ولا حرج، وفي الحقيقة الأصل في الظاهر قد يقتضي الحل بناءً على الظاهر، ولكن بالنظر إلى المعنى يقتضي التحريم، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمهم الله يقول: هذا النوع لا يفتى بحله ولا بحرمته زجراً للناس ومنعاً لهم عنه.

لأنه ليس على السنن الوارد شرعاً، وليس بمخالف لكل وجه، ولذلك منعوا منه وقالوا: إنه يكون في هذه المرتبة فلا يفتى للناس بحله، ولا يفتى لهم بحرمته؛ لأن النية مغيبة، كما لو تزوج امرأة وفي نيته طلاقها.

وأياً ما كان فإنا إذا نظرنا إلى معاني الشرع وجدنا أن الأصل يقتضي تحريم هذه الصورة، والسبب في هذا أن المعنى الذي أراده الشرع وهو زجر الزوج الأول، وحصول الرفق للمرأة بتغيير حياتها، فلربما وجدت الزوج الثاني أكرم من الأول، فانتظمت بيوت المسلمين، ووجدت كل زوجة ما يناسبها من الأزواج، واستقام النكاح على الوجه المعتبر.

الصورة الثالثة من النكاح الذي يحصل به التحليل: أن يتزوج الرجل المرأة المطلقة ثلاثاً وفي نيته أنها إن كانت صالحة أمسكها، وإن كانت غير صالحة طلقها، ونكحها نكاحاً على السنن المعتبر شرعاً لا يقصد تحليلها للأول، ولم يدر بخلده ذلك، فهذا لا إشكال أنه معتبر شرعاً وأنه نكاح صحيح تنبني عليه الآثار الشرعية من حلها لزوجها الأول بشرط حصول الوطء.

قال رحمه الله في بيانه للشروط التي ينبغي توفرها في هذا النكاح الثاني: [ ويكفي تغييب الحشفة أو قدرها ] فهذا شرط وطء الزوج الثاني للزوجة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فهذا نص في المطلقة ثلاثاً أنها لا تحل لزوجها الأول إلا إذا دخل بها الزوج الثاني.

قوله: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أدب من رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه، حيث عبر بالألفاظ التي تتضمن المعاني مع مراعاة الأدب والحشمة والكمال في الخطاب فلم يصرح لها تصريحاً، ولا شك أن النساء كن على فطنة ومعرفة، واللسان العربي فيه أسرار عجيبة، ودلائل بليغة؛ ولذلك جعله الله لأفضل كتبه، وأفضل ما أنزل على عباده، تشريفاً لهذا اللسان وإكراماً له.

ضابط الوطء المحلل للمطلقة ثلاثاً لزوجها الأول

فقال لها: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) هذه الكلمة تنتظم شروطاً مهمة:

أولاً: اشتراط الدخول؛ لأن المرأة قد عقد عليها زوجها الثاني، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحليلها لزوجها الأول حتى يدخل بها، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم على تفصيل.

ثم لما قال: (حتى تذوقي عسيلته) دل على أنه لابد من الإصابة التي يتحقق بها الإيلاج والجماع المعتبر الذي يترتب على مثله ما يترتب من أحكام الشريعة.

فبيّن رحمه الله أنه يشترط تغييب الحشفة في الفرج.

فقال رحمه الله: [ ويكفي تغييب الحشفة ] الحشفة: هي رأس الذكر، ومعناه: هو الذي عبر عنه بمجاوزة الختان للختان.

وتغييب رأس الذكر يترتب عليه من الأحكام الشرعية ما يقارب ثمانية أحكام ما بين العبادات والمعاملات، ومنها هذه المسألة، أنه إذا اشترط الوطء فلابد من تغييب الحشفة وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وسيأتي تفصيل ذلك أكثر في أحكام الجنايات والحدود في باب الزنا، فبيّن رحمه الله أنه لا بد من حصول الإيلاج.

فلو أنه دخل بالمرأة وحصلت المباشرة دون إيلاج لم تحل، بل لابد من الجماع وأن يحصل إيلاج في الفرج فقال: [يكفي تغييب الحشفة]، إذاً لا يشترط أن يكون الوطء بكامل الذكر وإنمـا يكفي أن يكون ببعضه.

وصرح العلماء رحمهم الله بهذا تصريحاً واضحاً؛ لأن المسائل الشرعية في بعض الأحيان يكتفى فيها بألفاظ الكنايات، ويتأدب ويؤتى بها مخفية، لكن في تعليم العلم وشرحه وبيانه لا بد من التوضيح والتفصيل؛ لأنه ربما فهم أحد غير المراد.

وحينئذٍ كان العلماء رحمهم الله والأئمة في مجالسهم يصرحون ويبينون حتى يفهم الناس، حتى يعذروا إلى الله عز وجل ببيان العلم وتوضيحه، ولا يقع الإنسان في لبس.

فمن هنا قالوا: لابد كما صرح رحمه الله [ ويكفي تغييب الحشفة ] أي: لابد من حصول إيلاج رأس الذكر في فرج المرأة المطلقة ثلاثاً.

فإذا حصل المسيس دون إيلاج من رأس العضو فإنها لا تحل، والدليل على اشتراط هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته) ولا يمكن أن يوصف بهذا الوصف إلا إذا حصل الجماع، ويكفي قدر الإجزاء وهو رأس الذكر، فلو حصل الإيلاج الكامل فهذا من باب أولى وأحرى.

قوله: [ أو قدرها ] جمهور العلماء أن المسائل المترتبة على الحشفة وهي رأس الذكر، إذا كان الشخص مقطوع الحشفة فإنه ينظر إلى قدرها من المقطوع، فإذا أولج في فرج المرأة هذا القدر حلت لزوجها الأول.

وأما إذا حصل الاستمتاع بما دونه ولو وضع الفرج على الفرج فإنه لا يوجب الغسل، ولا يحكم بالإحصان، ولا بثبوت المهر كاملاً؛ ولا تحل لمطلقها ثلاثاً، إلى غير ذلك من الأحكام المعتبرة، وهكذا الزنا لا يحكم بثبوت حده ما لم يحصل إيلاج رأس العضو أو قدره من مقطوع الحشفة.

قال رحمه الله: [ مع جب في فرجها مع انتشار ].

(مع جب) أي: إذا كان مقطوع العضو وبقي منه شيء ينظر إلى القدر، فإذا كان هذا القدر المعتبر شرعاً والذي نص العلماء والأئمة على اعتباره موجوداً مثله مما بقي من العضو فإنه يكفي للحكم بالأحكام الشرعية التي ذكرناها، ومنها تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.

قوله: [ مع انتشار ]:

أي: فإذا كان العضو غير منتشر أي: غير منتصب فإنه لا يحكم بحلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ولذلك يقول بعض العلماء: من بلاغة السنة أن الكلمة الواحدة والجملة الواحدة تتضمن من المسائل كثرة.

فهو عليه الصلاة والسلام بهذه الكلمة الجامعة أفتى، وفرع العلماء الأبواب والمسائل فيقولون: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل، وله مرابط وأوصاف لا بد من تحققها حتى يحكم بكون المرأة قد حلت لزوجها الأول.

ومن هنا قالوا باشتراط الانتشار، وهذا معنىً ظاهر من الحديث وواضح؛ فإنه إذا كان العضو غير منتشر فإن المرأة لا يتحقق فيها هذا الوصف من إصابة العسيلة.

قال رحمه الله: [ وإن لم ينـزل ].

أي: لا يشترط الإنـزال، ومن هنا صح وطء المراهق، وأن المراهق إذا جامع المرأة المطلقة ثلاثاً حللها للأول.

وقالوا: إنه لا يشترط الإنـزال لأن الشرع رتب الحكم على ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يشترط فيه ألا تزال، فالقدر المعتبر للإجزاء هو حصول الإيلاج، وأما الإنـزال فإنه ليس بشرط.

الأحوال التي لا يصح بها تحليل المرأة لزوجها الأول

قال رحمه الله: [ ولا تحل بوطء دبر ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط ذوق العسيلة، والمراد به الوطء المعتبر شرعاً، فالوطء المحرم شرعاً وهو وطء الدبر الذي لا يحل للزوج ولا لغيره؛ فإنه لا يحصل به التحليل ولا يحكم به بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.

فلا تحل بوطء في غير المكان المعتبر، وهو مكان الحرث.

[ وشبهة ]

فلو أنها طلقت ثلاثاً ونكحها شخص نكاح الشبهة أو وطئها وطء شبهة، فإنها لا تحل بهذا الوطء لزوجها الأول.

فلو أنها كانت نائمة مع امرأة ومعها زوجها، فجاء زوجها يظنها زوجته، أو أخطأ وجاء ووطئها يظنها زوجة له، فهذا الوطء وطء شبهة لا يوجب الحد كما سيأتي إن شاء الله، ولا يعتبر موجباً لحلها لزوجها الأول.

والدليل على اشتراط أن يكون الوطء في نكاح صحيح قوله تعالى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ [البقرة:230] فبيّن هذا الشرط وجوب النكاح، والنكاح حقيقة شرعية لابد من وجود نكاح معتبر شرعاً، ونكاح الشبهة ليس بنكاح معتبر شرعاً للتحليل.

قال رحمه الله: [ وملك يمين ]

وهكذا لو وطئت يملك يمين، فلو أنها كانت أمة وطلقها زوجها الرقيق واستوفى عدد التطليقات ورجعت لسيدها، ثم بعد أن استبرأها سيدها وطئها وطء ملك اليمين، فإنه في هذه الحالة لو أرادت أن ترجع إلى زوجها الأول لم تحل له، بل لابد أن تنكح، فإذا حصل نكاحها فإنه حينئذٍ تحل لزوجها الأول بشروطها المعتبرة.

قال رحمه الله: [ ونكاح فاسد ]

وهكذا إذا كان النكاح فاسداً، بأن طلقها ثلاثاً فنكحها رجل نكاح شغار أو نكاح متعة، فنكاح الشغار والمتعة نكاح فاسد شرعاً، فلا تحل بهذا النوع من النكاح لزوجها الأول.

قال رحمه الله: [ ولا في حيض ].

أي: ولو أنه تزوجها الزوج الثاني فوطئها أثناء الحيض، ثم طلقها في الطهر، فإنه حينئذٍ لا يحكم بحلها لزوجها الأول.

وهكذا لو وطئها في الحيض ثم مات عنها، وخرجت من حدادها وأراد زوجها الأول أن ينكحها نقول له: لا؛ لأن الوطء الذي حصل من الزوج الثاني حصل على غير الصورة المعتبرة شرعاً، ووطء الحيض والنفاس محرم شرعاً، والمحرم لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء.

لأن الله عز وجل حرم الوطء في الحيض، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فالمراد به الذوق المأذون به والمعتبر شرعاً.

فلما كان ذوقه لها في حال النقص وحال غير معتبرة شرعاً، كان وجوده وعدمه على حد سواء.

قال رحمه الله: [ ونفاس ]

أي: سواء كانت في حيض أو في نفاس، وقد تقدم أن الوطء لا يحل فيهما حتى تطهر وتغتسل.

قال رحمه الله: [ وإحرام وصيام فرض ]

أي: وهكذا لو كانت محرمة فقال بعض العلماء: إن الوطء في الإحرام محرم شرعاً، وكل وطء محرم شرعاً لا يوجب التحليل.

لأن المراد بالوطء المشترط الوطء الذي أذن به الشرع، ووطء المحرمة لا يحل، فلو أنه عقد عليها قبل الإحرام، ثم أحرمت، ثم وطئها وهي محرمة، ثم مات عنها أو طلقها، فإنها لا تحل لزوجها الأول في قول طائفة من العلماء بهذا النوع من الوطء؛ لأنه محرم شرعاً، فوجوده وعدمه على حد سواء لا يوجب الحكم بتحقق الشرط المعتبر شرعاً.

ادعاء المرأة أنها قد حلت لزوجها الأول بنكاح حال غيابها

[ ومن ادعت مطلقته المحرمة وقد غابت نكاح من أحلها، وانقضاء عدتها منه، فله نكاحها إن صدقها وأمكن ].

امرأة طلقها زوجها ثلاثاً وغابت عنه، وقوله: [ غابت ] يقتضي أنها لو كانت حاضرة عنده في المدينة ويعرف أحوالها وأخبارها فلا إشكال.

من المعلوم أن النكاح يشهر ولا يستر، ويعرف ولا يخبأ عادة؛ فإذا كانت موجودة ويطلع على أحوالها، ثم ادعت يوماً من الأيام بعد مرور أشهر قالت: أنا تزوجت ثم طلقني، فحينئذٍ يعرف أنها لم تتزوج ولم تطلق، ولم يحصل الأمر المعتبر شرعاً، وأنها تريد أن تحتال لرجوعها إليه، فحينئذٍ لا يجوز له أن يعمل بهذا لأنها تدعي شيئاً لمصلحتها.

لأنه من مصلحتها أن تعود لزوجها الأول، ولربما طلقت المرأة فلم ينكحها أحد؛ لأن الغالب أن النساء المطلقات يحصل شيء من امتناع الأزواج منهن فتدعي شيئاً لمصلحتها.

فإذا قالت: تزوجت ووطئت بالزواج، وحصل تحليل، وخرجت من عدتي، وكانت حاضرة ويعلم أخبارها فالظاهر أنها غير صادقة، والأصل بقاء ما كان على ما كان، أنها امرأة محرمة عليه، فلا ينبني على مثل هذا القول حكم ولا يعول عليه.

لكن لو أنه طلقها ثلاثاً، ثم سافرت إلى بلدها وغابت عنه، أو سافر هو وانقطعت أخبارها وغابت عنه، أو كانت في موضع لا يتيسر له العلم بحالها أو معرفة صدقها من كذبها.

فإنه في هذه الحالة إذا جاءت وادعت أنها نكحت، وأنه دخل بها الناكح ثم طلقها، فإن كان الزمان الذي ادعت ممكناً في مثله حصول النكاح وحصول الطلاق مع العدة، فإن له أن يعمل بقولها، ولا حرج عليه في ذلك.

إذاً: يشترط أن يكون ذلك ممكناً.

لكن لو أنه طلقها وخرجت من عدتها، وبعد أسبوع جاءت وقالت: والله تزوجت! فلا، لأنها لم تخرج من عدتها فلا يمكن؛ لأنها مازالت تابعة لزوجها الأول، لكن لو أنها خرجت من عدتها وادعت الإصابة بعد خروجها من عدتها، وجاءت بعد أسبوع فنقول: لا يمكن؛ لأنه لابد من حصول طلاق حتى تحل للزوج الأول وحصول العدة من الطلاق الصادر من الزوج الثاني.

ففي هذه الحالة لا يصح دعواها لأنه غير ممكن، لأنه لابد من وجود العدة والاستبراء، وهذا لا يتحقق في هذه المدة الوجيزة، فحينئذٍ لا يقبل قولها ولا يعول عليه.

فاشترط رحمه الله غيابها، بأن لا تكون شاهدة يمكنه أن يعرف حالها وأن يطلع على صدقها من كذبها.

ثانياً: أن يكون ما ادعته ممكناً، أما إذا كان غير ممكن فإنها لا تعطى بدعواها ما ادعت، وعليه أن يبقى على الأصل من كونها محرمة عليه.

والله تعالى أعلم.

ومن حكم الله سبحانه وتعالى في المطلق ثلاثاً أنه لا تحل له زوجته حتى تنكح زوجاً غيره، وبيّن هذا الحكم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء كتاب الله عز وجل باشتراط النكاح الثاني، وجاءت السنة باشتراط الوطء وحصول ما يشترط من الإيلاج المعتبر للحكم بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.

ونظراً إلى أن هذه المسألة مترتبة على الطلاق ذكرها المصنف رحمه الله في ختام كتاب الطلاق، فذكر أن المطلق إذا استتم العدد وذلك في قوله: [ إذا استوفى ما يملك ] أي: إذا استتم العدد الذي جعله الله له.

فكأن الزوج يملك الطلاق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل له الطلاق، فإذا استتم العدد المعتبر فإنه لا تحل له الزوجة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] أي: الطلقة الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].

وذلك بعد قوله سبحانه: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] فبيّنت هذه الآية الكريمة من سورة البقرة أن من طلق الطلقة الثالثة أنه لا تحل له هذه الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأن كلا الزوجين أعطي المهلة.

فالطلقة الأولى والثانية كان بإمكان كل منهما أن يصحح خطأه، فلو حصل أن الزوج تسرع في الطلقة الأولى فإن تسرعه يستطيع أن يتلافاه بما بقي له من الطلقتين.

فإن كان الخطأ صادراً منه لأنه ربما يكون أول سبب للطلاق هو الزوج، ولربما كان السبب الزوجة، فإذا وقع من الزوج الطلقة الأولى بسبب خطأ أو تقصير منه؛ فإنه بوقوع الطلقة سيندم ويتأثر ويرجع إلى زوجته.

فلو أنه استقام ربما أخطأت الزوجة، فجعل الشرع له أن يعطيها مهلة كما أعطى لنفسه المهلة، فجاءت الطلقة الثانية على فرضية أن يكون الخطأ من الزوجة، فبقيت الطلقة الثالثة فيصلاً بينهما، حتى ولو حصل أنه تكرر خطأ من الزوج مرتين فطلق الطلقة الأولى بقيت الثالثة، فيحترز كل منهما؛ لأنه إذا أخطأ الزوج المرة الأولى، وأخطأ المرة الثانية حرصت المرأة على أسلوب أشد من حالها في الطلقة الثانية على أن تعامل زوجها وتحافظ عليه إذا كانت تريد هذا البيت.

فإذا طلقها فلا يخلو إما أن يكون الطلاق -في الثلاث تطليقات- بسبب الزوج أو يكون بسبب الزوجة، أو يكون مشتركاً بينهما.

فإن كان بسبب الزوج فإنه يكتوي بنار الغيرة حينما يحس أن زوجاً آخر قد استمتع بهذه الزوجة، وعندها يتألم ألماً شديداً، بحيث لو فكر أن يتزوج امرأة ثانية فإنه يخاف من الطلاق ويهاب.

كذلك أيضاً جعل الشرط تحقيقاً لهذا المقصود، أنها لا تحل له حتى يطأها الزوج الثاني، وهذا أبلغ ما يكون تأثيراً وزجراً ومبالغة في دفع الأذية من الأزواج.

فإذا ما نكحت الزوج الثاني -والشرع اشترط أن يدخل بها الزوج الثاني- تأثر الزوج الأول واكتوى بنار الغيرة، هذا إذا حرص وعرف قيمة زوجته الأولى.

ثم الفرض الثاني: أن يكون الخطأ من الزوجة فإذا كانت الزوجة هي التي تستفز زوجها، وهي التي ألجأته إلى الطلقة الأولى أو الثانية، أو ألجأته إلى أغلب الطلاق، أو إلى الطلقة الأخيرة التي بسببها حصل الفراق، فإن الزوج لا يحل لها أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره.

وحينئذٍ فالغالب أنه لا يصبر وسيتزوج امرأة ثانية، أو يفكر في زواج الثانية، فتكتوي هي أيضاً بنار الغيرة، ولكنها لابد لحلها للزوج الأول من أن تتزوج الزوج الثاني، فإذا نكحت الثاني إما أن يكون الثاني أفضل من الأول فتحرص على عشرته على أحسن ما تكون الزوجة لزوجها.

وإما أن يكون أسوأ من الأول، فتحرص على أن ترجع للأول، والشرع من كماله ووفائه راعى المعاني النفسية ولم يهدرها، ولذلك جاءت امرأة رفاعة حينما طلقها فبت طلاقها ونكحها عبد الرحمن بن الزبير؛ جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إن ما معه مثل هدبة الثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته).

فاكتوت بنار الحرص على أن ترجع إلى زوجها الأول قبل أن ينكح غيرها؛ لأنها عرفت قيمة زوجها الأول.

وهذا لا شك أنه من أكمل ما يكون، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] وقوم يعقلون.. وقوم يتقون.. وقوم يؤمنون؟ فالله يحكم ولا معقب لحكمه.

فمن حكمته سبحانه وتعالى أن شرع هذا الأمر، وهو أن تحل الزوجة المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول بشرط أن ينكحها زوج آخر.

ولهذا النكاح شروط شرعية وأحكام ومسائل وتفصيلات يعتني العلماء رحمهم الله بذكرها، وهذا ما سيبينه رحمه الله في هذا الفصل.

جاء القرآن باشتراط الزوج الثاني، وهذا الشرط محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمن طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله.

[ إذا استوفى ما يملك من الطلاق ] حراً كان أو عبداً على التفصيل المذكور عند العلماء، وقد تقدم بيان هذه المسألة وكلام العلماء رحمهم الله.

[ إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت ]

حكم بحرمة المرأة المطلقة، وهذا النوع من التحريم يوصف عند العلماء بالتحريم المؤقت؛ لأن تحريم المرأة ينقسم إلى قسمين:

إما أن تحرم حرمة مؤبدة.

وإما أن تحرم حرمة مؤقتة.

فالحرمة المؤقتة من أمثلتها المطلقة ثلاثاً فإنها تحرم على الزوج الاول حتى تنكح زوجاً غيره، فأقتت باشتراط أن ينكحها زوج آخر، ومن التحريم المؤقت أن يكون عنده أربع نسوة، فلا تحل له الخامسة حتى يطلق واحدة من الأربع وتخرج من عدتها، ويسمى مانع العدد.

ومن أمثلة الموانع المؤقتة مانع الرق ومانع الكفر مثل المجوسية قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم).

فالمرأة إذا كانت مجوسية والعياذ بالله فلا يحل للمسلم أن ينكحها، وهكذا إذا كانت وثنية أو مشركة أو ملحدة أو لا دين لها والعياذ بالله، هذه لا يحل نكاحها.

فيعتبر وجود هذا الكفر مانعاً؛ لكنه مانع مؤقت بحيث لو أسلمت أو صارت كتابية حل نكاحها على التفصيل الذي تقدم معنا.

الحرمة المؤبدة: مثل النكاح المحرم من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة، وقد تقدم بيان هذه الموانع وتفصيلها.

قوله: [ حرمت ]

أي: لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ [البقرة:230] عند علماء الأصول أن من صيغ التحريم الصريح القوية نفي الحل عن الشيء، مثل قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب:52] ، وَلا يَحِلُّ لَكُمْ [البقرة:229].

هذه كلها تدل على تحريم الشيء، فقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] نص في تحريم المطلقة على من طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع