نداءات الرحمن لأهل الإيمان 29


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. وهذا هو [ النداء الثامن والعشرون: في وجوب الوفاء بالعهود، وفي المنة بحلية بهيمة الأنعام إلا ما استثني منها

الآية (1) من سورة المائدة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] ]

سبب مناداة الله عز وجل لعباده المؤمنين دون غيرهم

معاشر المستمعين من المؤمنين والمؤمنات! هذا هو [ الشرح ] لهذا النداء العظيم. قال الشارح غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم ولسائر المؤمنين: [ ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبلقائه ] والوقوف بين يديه للحساب، ثم الجزاء إما في الملكوت الأعلى أو في الملكوت الأسفل [ وبرسوله ] محمد الخاتم، رسول الله إلى الناس أجمعين [ وبوعده لأوليائه ] المؤمنين به عز وجل رباً وإلهاً، لا رب غيره، ولا إله سواه. ولله وعد، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55] [ و] أولياؤه [ هم أهل طاعته ] الذين أهلهم لأن يطيعوه عز وجل فأطاعوه، فيما أمر وفيما نهى. فهؤلاء المؤمنين هم الذين يناديهم الله، ومن لم يكن من هؤلاء فلا نداء له، ولا يوجه إليه شيء؛ لأنه في حكم الموتى؛ لأن الحي من الناس المؤمن الصادق الإيمان، المتقي لمساخط الرحمن، والميت هو كل كافر، فلا قيمة لحياته البهيمية القائمة على أساس الأكل والشرب والكفر [ وبوعيده لأعدائه ] بالنار والعذاب الأليم [ وهم أهل الكفر به والفسق عن أمره ] فهؤلاء هم أعداء الله؛ لأنهم كافرون به، فاسقون عن أمره، أي: لا يمتثلون الأمر، فإذا قيل لهم: قوموا ناموا، أو تكلموا سكتوا، أو امشوا هرولوا، ولا يطيعون [ يناديهم بعنوان الإيمان ] ولم يناديهم: يا بني فلان! وإنما ناداهم بالإيمان لأنه هو القوة الدافعة والطاقة الموجهة للعبد، فصاحب الإيمان قادر على أن يصوم السنة كلها، وعلى أن يقدم نفسه ضحية لله؛ لكمال حياته، وسر النداء بالإيمان [ لأنه يريد أن يكلفهم بما لا يقدر عليه إلا المؤمنون ] وذلك [ لكمال حياتهم بإيمانهم وولاية ربهم ] حيث يشاء الله عز وجل. والمؤمنون المتقون هم أولياء الله، ومن كان الله وليه لا يهزم ولا ينكسر، ولا يذل ولا يحطم؛ لولاية الله عز وجل، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].

أمر المسلم بالوفاء بعقده مع الله

قال: [ فما الذي كلفهم به هنا يا ترى؟ والجواب أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد: إنه كلفهم بأمر عظيم، ألا وهو الوفاء بالعقود والعهود ] كما قال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]. ونقول: أوفينا ربنا، والحمد لله على إنعامك لنا، وعلى إقدارك لنا حتى وفينا بالعهود، هذا جوابنا. والعقود والعهود كثيرة، فأنت إذا عقدت عقداً مع أحد فيجب أن تفي به، ولا يحل نقضه ولا إهماله والبعد عنه.

قال: [ وأولها: الوفاء بالعهود التي بينهم وبينه سبحانه وتعالى ] ونبدأ بالعقد الأول، وهو الذي بيننا وبينه تعالى، وقد تم هذا العقد قبل أن توجد هذه العوالم كلها، حين ( مسح الله ظهر آدم واستخرج من صلبه ذريته وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] ) . فكل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقد أعطى لله عهداً وميثاقاً بأن لا يعبده إلا من طريق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. هذا أول عقد من العقود. وهذا تم بيننا وبين ربنا ونحن وفي عالم الذر، فلما أخرجنا إلى الحياة وأصبحنا مكلفين بالعقول والبلوغ قلنا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فيجب أن نعبد الله وحده، ولا نشرك بعبادة غيره أبداً، ونعبده من طريق محمد صلى الله عليه وسلم، لا من طريق موسى ولا عيسى ولا إبراهيم؛ لأن العقد الذي تم نصه: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أقر وأعترف أنه لا يعبد إلا الله، وأنا عابده، وأشهد أن محمداً رسول الله، أي: حتى نعبد الله من طريقه، ومن بياناته وتفصيلاته وشرائعه التي استقاها من كتاب الله، ولا تصح العبادة من غير طريق محمد صلى الله عليه وسلم. وقبل أن ينبئه الله ويرسله كان الناس يعبدون الله بما شرع لهم على أيدي أنبيائهم ورسلهم. هذا هو أقدم عقد، فهيئ نفسك لأن تعبد الله عز وجل.

فعلينا أولاً: أن لا نلتفت إلى أي كائن إلا لله، ولا يرضى الله أن ننظر يميناً أو شمالاً، بل إليه عز وجل. وهذا هو الإسلام، إي: إسلام القلب والوجه لله.

وثانياً: أن لا نعبده إلا بما بين لنا رسوله، وحدد لنا وشرع وقنن؛ إذ بعثه لهذه المهمة، فمن أنكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم فوالله لن يستطيع أن يعبد الله، ولا يتهيأ له ذلك أبداً، بل لابد من رسول يبين له كيف يركع ويسجد، وكيف يصوم ويفطر. فأوفوا بهذا العقد لربكم يا عباده! ولو قتلتم وصلبتم وحرقتم، فلا تعبدوا إلا الله، ولا تتخلوا عن عبادته أبداً ما بقيت الحياة فيكم، ولا تعبدوه لا بأهوائكم ومقالات شيوخكم، بل اعبدوه بما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس هناك فرق بين العقد والعهد.

قال: [ إذ قال تعالى من سورة النحل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [النحل:91]. وقال من هذه السورة المائدة ] أيضاً: [ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [المائدة:7] ] وهذا الذي قلناه، فمن قال: لا إله إلا الله محمداً رسول الله يجب أن يفي لله بعهده، وليعبد الله ولا يعبد معه غيره [ فنعمة الله تعالى هي الإيمان به والإسلام والإحسان، وميثاقه تعالى الذي أخذه عليهم هو: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقد قطع لله تعالى على نفسه عهداً وميثاقاً بأن يعبد الله تعالى وحده، وبما جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع والأحكام. وهكذا كل من نذر لله نذراً، فقد قطع على نفسه عهداً، فليوف به، إن كان صياماً صام، وإن كان قياماً قام، وإن كان رباطاً رابط، وإن كان صدقة تصدق ] فمن نذر لله نذراً كأن يقول: لك عليّ أن أصوم الإثنين والخميس، أو قال: لله عليّ أن أتصدق اليوم بألف، أو قال: لله عليّ أن لا أفارق بيته ما حييت، فهذه عهود، والنذر عهد، فعلى عبد الله الناذر أن يفي؛ لأن الله فرض هذا الوفاء، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] والعهود، والعقود جمع عقد.

حكم من عجز عن الوفاء بالنذر

قال: [ وإن عجز كفر كفارة يمين ] فمن نذر أن يصوم شهرا فعليه أنً يصوم، وكذلك من نذر أن يخرج من ماله، ومن نذر أن يمشي إلى مكة حافياً على رجليه يجب أن يف، ثم إن حصل له العجز الكامل ولم يستطع ولم يقدر فمن باب الرحمة الإلهية لعباده المؤمنين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن من عجز عن النذر يكفر كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين إن وجد، أو صيام ثلاثة أيام إن لم يجد، ويخرج من تلك العقدة أو العهدة التي عقدها وعجز عن الوفاء بها [ واستغفر الله وتاب إليه ].

حكم النذر لغير الله عز وجل

هنا بالمناسبة: نسمع أن عوام المسلمين من النساء والرجال ينذرون لغير الله. والبلاد التي فيها قباب وأضرحة وتوابيت وسدنة لها هؤلاء يوجد بينهم الآلاف ممن ينذرون لغير الله، والنذر لغير الله لا يجوز؛ إذ النذر عبادة، قال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177]. وقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]. فالنذر لغير الله شرك - والعياذ بالله- في عبادة الله. وبعضهم ينذر نذراً لطيفاً، فيقول: يا سيدي فلان! أو يا سيدي عبد القادر ! أو يا عبد الرحمن! أو يا مولاي فلان! إذا كان الله نجح ابنتي في عملها أصوم شهراً، وهو هنا خلط بين اثنين، أو تقول المرأة: يا سيدي فلان! إذا رجع ولدي من البلاد التي سافر إليها أذبح شاة لسيدي عبد القادر .

وهذا النذر إن شئتم أن تهولوا القضية فقولوا: هذا كفر بالله، وإعراض عن الله، وعدم إيمان برسول الله، فالله عز وجل شرح ألوان النذور، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، والحمد لله قد استفقنا بعد تلك الغفلة الطويلة، أو النومة، فقَل من ينذر لغير الله، وسواء تقول: يا سيدي فلان! إذا كان كذا حصل كذا، أو تقول: إذا كان الله فعل بي كذا أفعل لك كذا فكلا اللونين محرم، ورد لشرع الله وكفر به.

أمر المسلم بالوفاء بعقوده مع العباد

قال: [ ومثل عهود الله تعالى في وجوب الوفاء بها: عهود الناس فيما بينهم؛ إذ الكل أمر تعالى بالوفاء به، لاسيما العهود الموثقة بالأيمان، وما كان متعلقاً بحقوق الناس؛ كحقوق النكاح ] فلا يجوز لك أن تعقد الليلة على سلمى وغداً تطلقها وتلعب بالعقد، وأن تعطيها عهداً وميثاقاً على أن تعيش معها، وأنت تريد أن تقضي معها أسبوعاً واحداً وتمزق عهدها، وتنقض عقدها، فهذا لا يحل أبداً، فمن أراد أن يتزوج فليتزوج لله، إما لأن ينجب عباداً يعبدون الله، أو من أجل أن يحصن نفسه حتى لا يقع في معصيته الله، ومن هنا: إذا عقد العقد بينه وبين المرأة يجب الوفاء به منهما معاً الزوج والزوجة، ولا يحل هذا ولا يمزق إلا للضرورة الداعية إلى ذلك، ولا يجوز بأن تعقد وتنقض رغبة في الهوى والشهوة، فهذا والله ما يجوز، وحرام هذا، وصاحبه قد خالف ما جاء به الشارع. بل اعقد على المرأة على أساس أن تعيش معها، وأن تعبد الله وإياها، فاعقد بهذه النية، أو إما لتنجب أولاداً يعبدون الله، وتريد أن تخلد ذكرك، وإما لتحصن نفسك وتحصنها هي أيضاً، أو من أجل أن تؤيها حيت لا مأوى لها، وتطعمها وتسقيها شكراً لله على نعمة الإنعام، فإذا عقدت فلا نقض إلا لرفع الضرر، كأن تخاف أن لا تستطيع أن تعبد الله معها، أو تخاف هي أيضاً أن لا تستطيع أن تعيش معك، أو خافت على نفسها وعلى نفسك، ففي هذه الحال يأتي الطلاق، فتأتي باثنين من الصالحين وتقول: أشهدكما أني طلقت فلانة، وانتظرها في بيتها حتى تحيض ثلاث حيض أو أطهار، فإذا طهرت، فقل لها: أم فلان! مع السلامة، وابعث بها إلى أهلها، هذا هو النكاح والطلاق. وأما ما عليه عامة الناس فليس من الطلاق الشرعي في شيء، بل هذه إملاءات تمليها الشياطين، ففجأة يقول: إنك طالق بالثلاث، أو إنك طالق طالق طالق، فهذا عبث وباطل في دين الله، وهذا عقد عقدته بإذن الله وباسم الله، فلا يحل بهذه الصورة. فهذا العقد بموجبه استحللت فرجاً كان محرماً عليك، ولو أتيته فإنك تقتل، ثم أصبح حلالاً لك تتناوله متى شئت بهذا العقد الإلهي، فيجب على المتزوج أن يفي لامرأته، فلا يطالب بحل العقد، ولا يطلق، وهي لا تطالب بالطلاق أبداً، اللهم إلا في حال العجز، إلا إذا عجز فيشهد عليها اثنين، وتبقى في عهدته إلى أن تنقضي العدة ومع السلامة، أما حلف العوام بالطلاق وأنت طالق وعليّ الطلاق وطلقتك فهذا كله هراء، ينطق به الشيطان على ألسنة الغافلين.

والمؤمن ينظر إلى تلك المؤمنة ويحاول إصلاحها وهدايتها وتربيتها، وهي تنظر إليه بتلك العين يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، فإذا رأى أن بقاء هذه المؤمنة فيه أذى عليها فلا نرضى لها أن تعيش شقية، أو هي ترى الزوج أيضاً إذا بقيت معه ما يسعد ولا يكمل فمع هذا العجز يكون الطلاق، فيأتي باثنين من الصالحين يشهدان، فيجلسون في الغرفة أو في الحجرة عند الباب، ويقول: يا أم فلان! لقد طلقتك، واشهد يا فلان وفلان! وتبقى في بيتها حتى تنقضي عدتها بثلاثة أقراء، حيضاً كانت أو أطهار، وإن كانت لا تحيض فتنتظر ثلاثة أشهر، وإن كانت حبلى فحتى تضع ولدها. هذا العقد الثاني.

قال: [ والبيع والشراء ] فإذاً بعتك الدار وقلت أنت: قبلت ورضيت أنا وانصرفنا فلا يجوز لك أن ترجع بعد ساعة وتقول: لا، من فضلك أنا أبطل البيع، وإذا بعتك السيارة بعشرة آلاف فأخذتها، وأخذت أنا العشرة آلاف فلا يجوز أن ترجعها من الغد وتأخذ مالك، فهذا لا يجوز؛ إذ هذا خلف للوعد وخون ونكث له، فلا يصح أبداً، وفي الحديث: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ). فإذا بعته كل ما تملك وقال: قبلت ورضيت وأخذت الثمن فلا يجوز أن تنقض هذا بعد يوم أو أسبوع، ولا أن تأتي برجال قبيلتك وتعود في بيعك، فهذا لا يجوز أبداً؛ لأننا أولياء الله، مؤمنين به متقين له، وقد فرض علينا وأوجب الوفاء بالعقود في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] [ والإيجار ] فإذا استأجرت منه بغلة أو سيارة أو داراً وتم العقد وأخذت مقابل الإيجار فلا يجوز أن تنقض هذا، وترجع إليه وتقول: رد عليّ، وإلا نفعل ونفعل، ولا يصح أبداً [ وكالأمانات مطلقاً، فمن اؤتمن أمانة وجب عليه أداؤها، وحرم عليه إضاعتها أو خيانتها؛ لأمر الله تعالى بذلك، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. وفي قوله ] تعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] ] فنحن مأمورون بالوفاء بالعقود، وإن نقض العقود الكفار والفجار فأهل الإيمان والتقوى ليس هذا من شأنهم أبداً، ولو يخرج من داره كاملة ما يتردد، وما نشاهده اليوم من ضعف فهو للجهل وعدم العلم والمعرفة.

قال: [ ولنذكر أيها القارئ! في هذا الأمر الإلهي بالوفاء بالعقود ما قاله الحسن البصري - أحد سادات التابعين فقد قال: يعني: عقود الدين. وهي ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء، وإجارة وكراء ] واستئجار [ ومناكحة وطلاق، ومزارعة ومصالحة ] فإذا تصالح اثنان على شيء، وأصبح هذا عقداً بينهم، فلا يصلح أن يرجع بعد يوم أو يومين وينقض [ وتمليك وتخيير، وعتق وتدبير. فقد شمل هذا القول ] الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] [ سائر أنواع العقود والعهود ] فيا مؤمن! ويا مؤمنة! يجب الوفاء بالعقود والعهود، ولا يحل لمؤمن أن ينقض عقده أو يتمرد ويهرب فلا يفِ به؛ لأننا المؤمنون أولياء الله، وأما الكفار ممكن، لأنهم أموات غير أحياء [ ألا فلنذكر هذا ولا ننسه] غداً.

امتنان الله على عباده بحلِّية بهيمة الأنعام

قال: [ وأما قوله تعالى في هذا النداء: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [المائدة:1]] فالنداء اشتمل أولاً: على الوفاء بالعقود، واشتمل ثانياً: على بيان حلية لحوم الأنعام التي خلقها الله لنا، فقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [المائدة:1]. فالذي أحلها هو الله [ فإنه تذكير بالنعمة لتشكر ولا تكفر ] ومن أجل أن نذكره ونشكره، ولو حرم علينا لحوم البهائم لما عرفنا اللحم أبداً ولما أكلناه، كما حرم علينا لحوم الخنازير ولحوم البشر، فالآدمي لا يأكل لحم أخيه، فلما أحل لنا لحوم بهيمة الأنعام ذكرنا بذلك لنقول: الحمد لله، والشكر لله [ والمراد من بهيمة الأنعام: هي الأزواج الثمانية: الإبل، والبقر، والغنم، وهي: ضأن وماعز، والكل ذكر وأنثى ] فأصبحت ثمانية أزواج، كما قال تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143]. وقال: وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]. فالبعير والناقة زوج، والثور والبقر زوج.

ما حرم أكله من بهيمة الأنعام

قال: [ وقوله تعالى: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، أي: تحريمه منها ] أي: إلا ما يقرأ عليكم عما قريب مما حرم الله من بهيمة الأنعام؛ إذ جاء بعده آية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]. فهذا مستثنى، فقد قال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [المائدة:1]. وليست كلها، فبعضها ليس حلالاً، وقد بين ذلك في نفس هذه الآيات [ وهو الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ] كلها، وكذلك ما ذبح لغير الله [ إذ جاء هذا في هذه السورة وبعد آيات محدودة، إذ قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3] ] ومعنى قوله: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3] [ أي: أدركتم فيه الروح ] والحياة مستقرة فذبحتموه. ومعنى النطيحة كأن ينطحها كبش فتقع على الأرض ميتة، فهذه نطيحة على وزن فعيلة، بمعنى: منطوحة على وزن مفعولة. ومعنى الموقوذة أي: ضربها بحجر - أي: وقذها بحجر- فطاحت على الأرض تصرخ، فإن أدركها حية ذبحها وأكلها، وإن تركها حتى خرجت روحها فلا تحل، والمتردية هي: كأن تكون في الجبل وترمي نفسها، أو تكون طالعة مع الجبل فتعجز، فتنقلب وتتردى إلى الأرض، فإن أدركها صاحبها حية والروح كاملة فيها فيذكيها ويأكلها، وإن فارقت الحياة لا تحل. والنطيحة هي التي ينطحها أخوها أو أختها برأسه فيقتلها. والمنخنقة هي: التي تكون مربوطة في حبل فتحاول أن تتخلص منه فتنخنق، أو كأن تدخل بين شجرتين فتنخنق، فهذه مخنوقة أو المنخنقة. وقوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة:3] هذا كأن يقول: هذا كبشك يا سيدي عبد القادر ! فهذا لا يحل أكله أبداً، أو يقول: هذا باسمك يا رسول الله! فلا يؤكل والله، ولا يؤكل بإذن الله إلا ما أذن الله في أكله، وما لم يأذن فهو حرام؛ لأن المال ماله، فإن أذن في شيء تفضل، وإن لم يأذن لا يحل لك. وقوله: وَمَا أُهِلَّ [المائدة:3] أي: رفع الصوت بالإهلال؛ لأن العرب كان من عادتهم إذا شاهدوا الهلال طلع يرفعون أصواتهم: الهلال .. الهلال، فأصبح كل من يرفع صوته كأنه يهل، فإذا أهل هذه شاة سيدي عبد القادر لم تؤكل، وإذا قال: هذه شاتك يا سيدي مبروك ! لم تؤكل، وإذا قال: هذه شاتك يا رسول الله! يا أبا فاطمة ! والله ما تؤكل، وأحلف لأن الذي وهبنا هذه الشاة وأذن لنا في أكلها حرمها علينا إذا كانت لغيره، أو كانت ميتة، فهو الذي منع [ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]. وهو ما ذبح لغير الله تعالى، كالذبح للأصنام والأضرحة والقبور أو الجان ] أيضاً [ وما إلى ذلك ] والذبيحة للجان تكون لما يصاب المرء بجني خبيث أو عفريت يأتي إلى الشيخ يرقيه، فيقول له: ولدك هذا ضربه ابن الأحمر، وجن بني الأحمر هؤلاء لا يطاقون، وليس أمامك إلا أن تبحث عن ديك ريشه أزرق أو أبيض أو أسود؛ حتى يتركه يعيش أسبوعاً يبحث، ولا يجده، حتى يموت الولد، فيقول له: أنا قلت لك ما تفعل، وأنت ما فعلت. أو يقول له: اذبح تيساً أسود، فيذبح التيس الأسود خوفاً من الجن.

وأقص قصة شاهدتها في ديار النبوة في دار الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عجب، فالجهل يقع معه كل ظلام وكل باطل: بنى أحد الإخوان منزلاً بجوارنا باباً باباً، وكان يبنيه العمال، فلما كمل البناء جئت فوجدت كبشاً ظننته ثوراً بسبب ظلام البيت مع المساء، فتعجبت من هذا وسألته عنه، فقال: هذا المعلم في جدة وهو رائد قال لنا: إذا تم البناء اذبحوا هذا الكبش للجن؛ حتى ما يؤذوا الساكنين، فذبح الكبش على العتبة. وبعضهم يلطخ أعتاب الباب كاملاً بالدم؛ إرضاءً للجن؛ حتى ما يؤذيهم، وبعد ذلك يوزعون اللحم، وقلت له: هذا لا يحل أكله أبداً؛ لأنه ذبح لغير الله، هذا كالجيفة، ولم يستمع؛ لأنه يقول: هذا ممكن وهابي أو كذا. فوزع اللحم ووجدته في بيتنا فأخرجته له، وقلت له: خذ نجاستك؛ فهذا ما يؤكل. هذا في مدينة الرسول! فكيف بمدائن أخرى ما عرفت رسول الله!

وحرم َمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة:3] لأن الله لا يريد أن يسمع صوت كائن من الكائنات مع صوته، بل لا بد أن يكون لله فقط، وأما هذا لك ولله فلا، ولا يجوز، وهذا هو الشرك بعينه، ولا تخف من الجن وخف الله رب الجن، فاطرح بين يديه تبكي طول ليلك وتذرف الدموع، وهم لا يخافون الله، ويخافون من الجن، فزادهم ذلك الخوف خوفاً، والعياذ بالله. ولا لوم؛ لأنهم ما عرفوا، فهم لم يجلسوا هذا المجلس كما جلستم، ولا درسوا هذه الآية كما درستموها، ووالله ما كان هذا، فلم يتعلموا، وظنوا أنهم فقط بدخولهم في الإسلام علموا كل شيء، وهذا مستحيل.

الأمر بطلب العلم وسؤال العلماء

فرض الله طلب العلم، فقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]. فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، واحفظوا هذه الحكمة، وهي: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله تعالى فيه بالمنع أو الجواز، وأما أن يعمل الشيء وهو لا يدري أفيه رضى الله أو سخطه فهذا بالنسبة إلى المؤمنين لا يوجد عندهم، ولهذا قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]. فقبل أن تعقد وقبل أن تقول وقبل أن تأكل وقبل أن تلبس اسأل أهل القرآن عن حكمه، فإن قالوا: نعم يجوز فافعل، وإن قالوا: ممنوع وهو حرام، فهو حرام، ولا تزال تسأل وتعلم ولا تمضي عليك سنة إلا وأنت عالم بمحاب الله ومكارهه.

حكم الصيد للمحرم

قال: [ وقوله تعالى في هذا النداء: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1] ] هذا مما استثنى الله تعالى: أنه لم يأذن للمحرم إذا قال: لبيك اللهم لبيك عمرة - لا رياء فيها ولا سمعة- أو حجاً أن يصيد، فمن تلبس بهذه العبادة فلو مرت غزالة بين يديه لا يمسها، ولو نام في الطريق وجاءت غزالة ونامت عنده وتوسدته فلا يمسها، فلا يحل له أبداً أن يحل الصيد وهو محرم، وكانت تمر بين أيديهم الغزلان والأرانب وتتساقط عليهم أيام أن شرع هذا الله عز وجل؛ امتحاناً لهم، فما كانوا ينالونها بسوء. وقد قال تعالى مبيناً هذا الحكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]. والشاهد عندنا قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1]، أي: لا تحلوا الصيد وأنتم محرمون. فالذي يصيد وهو محرم ويأكله فهو كالذي يأكل الخنزير أو لحم الكلب أو اللحم الحرام، وهذا لا يحل. وإن قلت: الآن ما في صيد فاذكر: أن المسافرين من المدينة للعمرة كانوا يحتاجون عشرة أيام وهم على إبلهم أو على أرجلهم حتى يصلوا إلى مكة، وأما الذي يأتي من الشام والعراق فيحتاج إلى شهرين أو ثلاثة وهو يمشي في الصحراء، فيعرض له غزال أو أرنب وهو محتاج، فمن هنا امتحنهم الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [المائدة:94]. ونجحوا. وكانوا يذكرون رضوان الله عليهم أنه كان الغزال يأتي بين أرجلهم، ونجحوا في الامتحان، وأما الآن فنحن نطير كالملائكة من دمشق إلى المدينة بالطائرة، ولا نصيد، ولكن في الإمكان أن أهل المملكة من ينبع .. من المدينة .. من كذا يمشون على البر، ويجدون أيضاً غزالاً أو أرنباً، فيبقى الحكم، وسيأتي يوم تنتهي فيه هذه الطاقة الكهربائية، ونعود كما بدأنا، نركب الخيول ونقاتل عليها والله العظيم، فالطاقة ستنتهي، وقد قالوا: إنها في طريقها إلى نهايتها.

قال: [ هو إضافة إلى تحريم ما حرم على عباده المؤمنين من اللحوم الفاسدة المخبثة للنفس، الملوثة لها؛ إذ حرم على المحرم بحج أو عمرة أن يصيد؛ لما في الصيد من اللهو والغفلة عن ] ترك [ ذكر الله] وهذه علة كون الصيد حراماً على المحرم، لأنه في عبادة، متلبس بها، فإذا خرج منها يصيد فهذا معناه: أنه يلهو ويلعب، والذي يقول: الله أكبر ويصلي لا يضحك، ولا يقول: يا فلان! أغلق الباب، ولا يتكلم؛ لأنه متلبس بالعبادة. فالذي تلبس بعبادة العمرة والحج فهو كالمصلي لا يقول ولا يفعل إلا ما أذن له الشارع، فكل ما من شأنه لهو ولعب وغفلة فهو ممنوع [ وعليه فلا يحل للمحرم أن يصيد، ولا أن يأكل ما صاده وهو محرم، أو صاده له غيره بأمره له، أو برضاه عنه] ولا يحل له أن يقول: فلان! عليك بالأرنب، فيصيدها له، وهي لا تحل له، وكذلك إذا ما أذن ولكن رضي، فعرف أن فلاناً يصيد ورضي بذلك وسكت، فإذا جاءه بالأرنب فلا يحل له أكلها [ فما صاده المحرم وما صِيد له هو محرم ] أيضاً [ كسائر المحرمات الأكل مما أنزل الله تعالى في كتابه، أو على لسان رسوله ] صلى الله عليه وسلم [ إذا ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ) ] فكل ذي ناب من السباع حرام، الذئب والفهد والنمر، وكل ذات الناب، وكذلك القط، فالقط له ناب، وذي المخلب من السباع كالغربان وأنواع السباع من الطيور مما له مخالب، فذو المخلب لا يصح أكله؛ لأنه يعيش على الجيفة الممتنة.

معنى قوله تعالى: (إن الله يحكم ما يريد)

قال: [ وقوله تعالى في هذا النداء العظيم: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، أي: يبيح ويمنع، ويحل ويحرم، يبيح ما يريد إباحته، ويمنع ما يريد منعه، ويحل ما يريد حله، ويحرم ما يريد تحريمه، وكل ذلك تابع لعلمه وحكمته ورحمته وقدرته، فلذا الحلال ما أحل الله ورسوله، والحرام ما حرم الله ورسوله.

فلنذكر هذا أيها القارئ والمستمع! حتى نقدر على طاعة الله ورسوله بالوفاء بالعقود، ومنها: أن نشكر الله تعالى على نعمه، ولا نحرم ما أحل الله لعباده، ولا نحل ما حرم الله عليهم، ولنفوض ذلك لله الذي يحكم ما يريد؛ لعلمه الذي أحاط بكل شيء، وحكمته التي لا يخلو منها شيء، ورحمته التي وسعت كل شيء، وقدرته التي لا يعجزها شيء. ولنقل: آمنا بالله. والحمد لله ] في كل ما يشرع ويقنن. ولنعم هذا التعقيب على هذا النداء في قوله: والله يحكم. فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، ولا تتدخل أبداً في شئون كهذه، واتركها للعليم الحكيم، وأنت فقط إذا بلغك أن الصيد حرام فهو حرام، وإذا بلغك أن كل ذي ناب من السباع حرام فقل: حرام، ولا تأكل. واعلم أن الله الذي حرم وأحل ذو علم وحكمة، لا يخلو منها التشريع قط، ولا تجد تشريعاً يقوم به المؤمنون بلا علة،ولا حكمة؛ وذلك لكونه تعالى العليم الحكيم.

اللهم ارزقنا العلم والعمل به.

معاشر المستمعين من المؤمنين والمؤمنات! هذا هو [ الشرح ] لهذا النداء العظيم. قال الشارح غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم ولسائر المؤمنين: [ ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبلقائه ] والوقوف بين يديه للحساب، ثم الجزاء إما في الملكوت الأعلى أو في الملكوت الأسفل [ وبرسوله ] محمد الخاتم، رسول الله إلى الناس أجمعين [ وبوعده لأوليائه ] المؤمنين به عز وجل رباً وإلهاً، لا رب غيره، ولا إله سواه. ولله وعد، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55] [ و] أولياؤه [ هم أهل طاعته ] الذين أهلهم لأن يطيعوه عز وجل فأطاعوه، فيما أمر وفيما نهى. فهؤلاء المؤمنين هم الذين يناديهم الله، ومن لم يكن من هؤلاء فلا نداء له، ولا يوجه إليه شيء؛ لأنه في حكم الموتى؛ لأن الحي من الناس المؤمن الصادق الإيمان، المتقي لمساخط الرحمن، والميت هو كل كافر، فلا قيمة لحياته البهيمية القائمة على أساس الأكل والشرب والكفر [ وبوعيده لأعدائه ] بالنار والعذاب الأليم [ وهم أهل الكفر به والفسق عن أمره ] فهؤلاء هم أعداء الله؛ لأنهم كافرون به، فاسقون عن أمره، أي: لا يمتثلون الأمر، فإذا قيل لهم: قوموا ناموا، أو تكلموا سكتوا، أو امشوا هرولوا، ولا يطيعون [ يناديهم بعنوان الإيمان ] ولم يناديهم: يا بني فلان! وإنما ناداهم بالإيمان لأنه هو القوة الدافعة والطاقة الموجهة للعبد، فصاحب الإيمان قادر على أن يصوم السنة كلها، وعلى أن يقدم نفسه ضحية لله؛ لكمال حياته، وسر النداء بالإيمان [ لأنه يريد أن يكلفهم بما لا يقدر عليه إلا المؤمنون ] وذلك [ لكمال حياتهم بإيمانهم وولاية ربهم ] حيث يشاء الله عز وجل. والمؤمنون المتقون هم أولياء الله، ومن كان الله وليه لا يهزم ولا ينكسر، ولا يذل ولا يحطم؛ لولاية الله عز وجل، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].