شرح العقيدة الطحاوية [23]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق).

الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياً، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير تغمده الله برحمته في آخر تاريخه الكبير المسمى بـ(البداية والنهاية)، فمنها ما رواه البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء).

وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليَردن علي ناس من أصحابي الحوضَ حتى إذا عرفتهم اختُلجوا دوني فأقول: أصيحابي! فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك) رواه مسلم .

وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: (أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاة فرفع رأسه متبسماً -إما قال لهم، وإما قالوا له-: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه نزلت علي آنفاً سورة. فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] حتى ختمها، ثم قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يُختلج العبد منهم فأقول: يا رب إنه من أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، ورواه مسلم ولفظه: (هو نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترِد عليه أمتي يوم القيامة)، والباقي مثله.

ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض، والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يُختلج عنه ويُمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط.

وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا فَرَطكم على الحوض)، والفَرَط: الذي يسبق إلى الماء.

وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني فرطكم على الحوض، من مَرَّ علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليرِدن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم)، قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا فقال: هكذا سمعتَ من سهل ؟ فقلت: نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعتُه وهو يزيد فيها: (فأقول: إنهم من أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي) سحقاً أي: بُعداً].

هذا من الإيمان بالغيب أيضاً، وهو الإيمان بيوم القيامة وما يكون فيه، وقد أخبر الله تعالى بالبعث بعد الموت وبحشر الأجساد، وبإعادة الأرواح إلى أجسامها، وبجمع الناس كلهم ليوم لا ريب فيه.

يقول تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] يعني: يقوم أولهم وآخرهم.

ويقول تعالى: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50].

فالإيمان بالبعث بعد الموت ركن من أركان الإيمان بالله تعالى، ويؤمن العبد بما يكون في ذلك اليوم مما أخبر الله به، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وتفاصيل ذلك مذكورة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومجملها وارد في كلام الله سبحانه وتعالى.

فمن ذلك ذكر الحوض الذي ذكر، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر حيث زادت على رواية أربعين صحابياً، رووا ذكر الحوض عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواها أئمة السنة وعلماء الأمة في مؤلفاتهم بألفاظ متعددة، وطرق كثيرة وروايات مجموعُها يُقطع بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فيُقبل خبره ولا يُلتفت إلى من أنكره.

وقد ورد أيضاً دليل ذلك في القرآن في سورة الكوثر، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكوثر في هذا الحديث بأنه نهر في الجنة أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وكذلك أخبر بأنه أعطي هذا الحوض في الأرض في يوم القيامة، وهو جزء أو فرع أو امتداد للكوثر الذي أعطيه في الجنة.

والحوض عند العرب هو الإناء الذي يتخذ من الجلود تسقى به الإبل والغنم ونحوها، وعادةً يحملونه على ظهور الإبل، فإذا وردوا أو أقبلوا على المياه أرسلوا وارداً يصلح لهم الورد، ويسمى ذلك الوارد الذي يتقدمهم (الفَرَط)، فيقولون: أنت فَرَطنا يا فلان. أي: أنت الذي تتقدم أمامنا إلى ذلك المورد وتصلح لنا الورد، فإذا وردوا بدوابهم إذا هو قد ملأ الحوض ماءً وقد ركب البكرة التي يُستقى عليها وقد انتزع من الماء بقدره، فيبدءون في سقي دوابهم إلى أن تنهل وتروى، فتشرب من ذلك الحوض.

سعة الحوض وبعض أوصافه

والحوض الذي أعطاه الله نبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة هو نهر ليس مصنوعاً من جلود ولا من أوانٍ، والله أعلم بما صُنع منه، ولكنه ممتد، وقد روي أنه (مسيرة شهر في شهر) يعني: طوله مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر بالسير المعروف في ذلك الزمان، وقُدِّر في بعض الروايات بأنه من صنعاء إلى أيلة، وصنعاء عاصمة اليمن، وأيلة مدينة في الشام، يعني: طوله من ذلك المكان إلى ذلك المكان، وفي بعض الروايات أنه (من صنعاء إلى عدن)، وكلتاهما معروفتان في اليمن، ولعل ذلك باختلاف جهاته.

وعلى كل حال فإنه على هذا حوضٌ واسع ممتلئ ماءً، وورد في هذه الروايات أنه يشخب فيه ميزابان من الجنة أو من الكوثر، أي: يصب فيه ميزابان من الجنة، وأن فيه آنية -الآنية الكئوس التي يُشرب بها- وآنيته عدد نجوم السماء في الكثرة، ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

يرد عليه المؤمنون، ويُذاد عنه المنافقون، وأخبر بأنه يرِد عليه أناس فيعرفهم، فإذا أقبلوا إليه وعرفهم اختلجوا دونه، وحيل بينه وبينهم، فيقول: أصحابي -يعني: ممن أسلموا معي وعرفتهم- فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. يعني أنهم إما من المرتدين، وإما من المنافقين، وإما من المتسمين بالإسلام وليسوا بمسلمين، أما المؤمن حقاً الذي ثبت على الإيمان سواءٌ من الصحابة أو ممن بعد الصحابة فإنه يرد على ذلك الحوض ويشرب منه شربة هنيئة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، وذلك لما جعل الله في ذلك الماء من الشفاء، ولما جعل فيه من اللذة، إذ كان ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل الذي هو غاية في الحلاوة وفي اللذة، وأن الشربة منه لا يعدلها شيء، فيؤمن العبد المؤمن بذلك.

وورد في بعض الروايات أن لكل نبي حوضاً، ولكن نبينا صلى الله عليه وسلم أكثرهم وارداً، أي: أوسعهم حوضاً وأكثرهم وروداً. يعني: أمته المتبعون له أكثر من غيرهم من الأمم، وذلك لأن الذين صدقوه واتبعوه وحققوا اتباعه لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى.

مكان الحوض ووقت وروده

والصحيح أن الحوض في عرصات القيامة قبل أن يعبروا الصراط، لكن ورد في بعض الروايات أنهم (إذا نزلوا من الصراط نزلوا ظمأى، فيرِدون عليه كورود الناس التي على حوضها)، ولعله يمتد أيضاً إلى طرف الصراط، فلا مانع من أن يكون معظمه في عرصات القيامة وقبل أن يركبوا الصراط، ثم بعدما ينزلون من الصراط يجدون له طرفاً، ثم بعد ذلك يشربون منه ويدخلون الجنة كما أخبر الله تعالى.

فيؤمن العباد بذلك وإن لم تدركه عقولهم، ويؤمنون بما أخبر به نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا من كرامة هذا النبي عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أنه يقف على الحوض وينظر من يرد عليه، وكذلك يكون معه ملائكة يأذنون في ورود بعض أمته، ويردُّون الذين ليسوا من الأمة حقاً.

فالذي يُردُّ يبقى على ظمئه وعلى جهده وعلى ما يلاقيه من الشقاوة.

والذين يردون يطمئنون بالشرب ويسعدون بذلك ويَعرفون أنهم من أهل السعادة ومن أهل الخير.

ولا شك أيضاً أن أهله الذين يردون عليه هم أهل السنة والجماعة، أهل الاتباع لا أهل الابتداع، ولأجل ذلك يُرد المبتدعة والمرتدون الذين أحدثوا، (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فالذي يرجو أن يكون من أصحاب الحوض المورود ويرجو أن ينهل منه عليه باتباع السنة، وعليه بالتصديق بما جاء عن نبي الأمة، وعليه بالعمل الصالح، وتحقيق التصديق الذي التزمه، فبذلك يكون من أهل السعادة إن شاء الله.

أوصاف الحوض ومن يستحق وروده

قال رحمه الله تعالى: [والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض أنه حوض عظيم ومورد كريم، يُمد من شراب الجنة من نهر الكوثر الذي هو أشد بياضاً من اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الاتساع عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر، وفي بعض الأحاديث أنه كلما شُرِب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في حالٍ من المسك، والرضراض من اللؤلؤ وقضبان الذهب، ويثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء!

وقد ورد في أحاديث أن لكل نبي حوضاً، وأن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها وأجلها وأكثرها وارداً، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.

قال العلامة أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في التذكرة: واختُلف في الميزان والحوض: أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل: الميزان، وقيل: الحوض.

قال أبو الحسن القابسي : والصحيح أن الحوض قبل.

قال القرطبي : والمعنى يقتضيه؛ فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم فيقدم قبل الميزان والصراط.

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب كشف علم الآخرة: حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله.

قال القرطبي : هو كما قال. ثم قال القرطبي : ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض، بل في الأرض المبدلة، أرض بيضاء كالفضة، لم يُسفك فيها دم، ولم يُظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء. انتهى.

فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض، وأخْلَق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر!].

في هذا ملخص صفة الحوض المورود، فله أربع زوايا، أي: أنه مربع، وكل زاوية منه مسيرة شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن- واللبن في غاية البياض- وأحلى من العسل الذي هو أشد الأشياء حلاوةً، وأطيب ريحاً من المسك، أي: أنه مع ذلك له رائحة عبقة طيبة.

وذكر أيضاً أنه ينبت في جوانبه وفي رضراضه من النبات الذي يكون مبهجاً للنفوس من اللؤلؤ والمرجان وأنواع الجواهر ما الله تعالى به عليم، والله على كل شيء قدير، وأنه يرِده المؤمنون ويذاد عنه الكافرون والمكذبون والمنافقون، وأنه يكون قبل الميزان وقبل الصراط، وذلك لأن الناس عندما يُبعثون من قبورهم حفاةً عراة غرلاً بُهماً يكونون في تلك الحال شديدٌ عطشهم، فهم بلا شك بحاجة إلى ما يدفعون به ذلك العطش، فيرِدون لينهلوا من ذلك الحوض، حتى إذا رووا واطمأنوا عند ذلك يُفصل بينهم، فتنصب الموازين، وينصب الصراط، وتوزن الأعمال، وتتطاير الصحف، ويُعرف بذلك أهل السعادة من أهل الشقاوة حتى يفصل الله بينهم.

والذين أنكروا هذه الأمور الواردة خليق بهم وحري أن يحال بينهم وبين وروده كما أنهم كذبوه، وكما أن الذين كذبوا برؤية الله تعالى حري أن يكونوا عن ربهم محجوبين.

فالذين أنكروا الأمور التي أخبر الله بها أو أخبر بها رسوله، لا شك أنهم مكذبون، لم يصدقوا التصديق اللازم عليهم، ولم يأتوا بما يجب عليهم، إنما صدقوا بما يناسب أهواءهم، والواجب على المسلم أن يصدق بكل ما جاءه من الله تعالى، سواءٌ أدركه عقله أم لا، فيكون بذلك حقاً من الذين يؤمنون بالغيب، ومن الذين يصدقون الله تعالى ويصدقون رسله، ومن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.