شرح العقيدة الطحاوية [10]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: ( قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء ).

قال الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِر [الحديد:3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، فقول الشيخ: (قديم بلا ابتداء، دائم لا انتهاء) هو معنى اسمه: الأول والآخر.

والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته؛ قطعاً للتسلسل، فإنا نشاهد حدوث الحيوان، والنبات، والمعادن، وحوادث الجو، كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجوبها، ووجودها ينفي امتناعها.

وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث، أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم، لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.

وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية، وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:33].

ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية، والأدلة النظرية، فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى.

وأيضاً فالمقدمات وإن كانت خفية، فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته من البحث والنظر، ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية].

الأدلة العقلية والنقلية في إثبات الأولية والآخرية لله تعالى

نعرف أن هذا الوصف وهو قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) وصف ثابت للإله، ولكن العبارة التي في القرآن والسنة أوضح، وهي قول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، وفسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، وفسره أيضاً في حديث عمران بقوله: (كان الله ولم يكن شيء قبله).

وهذا دليل على أن الله تعالى قديم ولم يسبق بعدم، وأنه دائم ولا يلحقه فناء، وأن المخلوقات حادثة معدومة ثم وجدت، ثم يأتي عليها العدم، ويستدل على هذا بحدوث الحوادث، فيقال: هذه الحوادث لا بد لها من محدث.

وهذا قد يعتبر دليلاً عقلياً، ولكن قيدته الآيات كهذه الآية التي في سورة الطور، وهي قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، يقول: فإذا تحققوا أنهم لم يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم وتحقق أنهم لم يخلقوا من غير شيء، تعين أنهم خلقوا من شيء وأن لهم خالقاً خلقهم، ويستدل بهذا على الطبائعيين الدهريين، والذين يسمون في هذه الأزمنة بالشيوعيين الذين ينكرون الخالق، وقديماً كانوا يسمون بالطبائعيين، ومنهم الفلاسفة الطبائعيون، فهناك فلاسفة يقرون بالخالق ويسمون الفلاسفة الإلهيين.

فهؤلاء جميعاً يحتج عليهم بالعقل فيقال: هذه الموجودات نشاهد أنها كانت معدومة ثم وجدت، فلا بد لها من موجد، نشاهد مثلاً: أن السماء ليس فيها سحاب ثم يتراكم فيها السحاب، فلا بد له من موجد، ونشاهد أن الأرض تكون يابسة ثم نشاهدها بعد ذلك تهتز خضراء وفيها أشجار وثمار، فلا بد لها من موجد، ونشاهد مثلاً أن الإنسان يكون صغيراً ثم نشاهده بعد ذلك قد حصل له أولاد وصاروا بجانبه، لقد كانوا معدومين ثم وجدوا، فلا بد لهم من موجد، وهكذا توالد الحيوانات والدواب ونحوها لا بد لها من موجد، فإن الإنسان ليس هو الذي يوجد نفسه، وليس هو الذي يخلق أولاده، ولو كان هو الذي يتصرف بنفسه لحرص على أن يكون خلقه أحسن من خلق غيره، ولو كان هو الذي يوجد ولده لحرص على أن يكون أولاده ذكوراً أو نحو ذلك، فتعين أن هناك خالقاً يتصرف في هذا الكون، فهو الذي يعطي ويمنع، يصل ويقطع، يخفض ويرفع، يسعد ويشقي، يفقر ويغني.

فإذاً لا بد أن هذه الموجودات تنتهي إلى موجد، وذلك الموجد لا بد أن يكون غنياً بنفسه، وأن ما سواه فقير إليه، وهذا الوصف هو وصف الخالق تعالى، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]، أي: ليس ذلك شاقاً ولا صعباً على الله، بل هو سهل يسير: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

اعتقاد أهل السنة في أولية الله وأزليته

يعتقد أهل السنة أن رب هذا الكون واحد، وأنه الذي يتصرف في الكون، وأنه قديم ليس له بداية وأنه دائم ليس له نهاية، وقد ذكر الله تعالى أن كلامه لا ينفد بقوله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف:109]، وما ذاك إلا أن كلام الله ليس له بداية ولا نهاية، فالبحر ولو كان معه سبعة أبحر تمده، وكانت الأشجار من أول الدنيا إلى آخرها أقلاماً، فكتب بتلك الأقلام بمداد هذه البحار، لنفدت البحار ولتكسرت الأقلام ولم ينفد كلام الله؛ وذلك لأنه لا بداية له ولا نهاية، ولا شك أن هذه من الحجج العقلية التي تقطع مخاصمة أولئك.

وإذا عرف المسلمون أن لهم خالقاً خلقهم وخلق هذا الكون، عرفوا أنهم ما خلقوا عبثاً، فلا بد أن للخالق الذي خلقهم وأنعم عليهم حقاً عليهم، فيعرف العبيد حق الله عليهم وهو عبادته وحده لا شريك له، فيكون هذا دافعاً لهم إلى أن يقوموا بهذا الحق، ثم بعد ذلك يعلقون آمالهم راجين الثواب الذي رتب لهم على تلك العبادة.

والحاصل أن كل عاقل إذا فكر في هذا الكون ورأى تواجده ورأى أنه حدث بعد أن كان معدوماً، عرف أنه قد كان معدوماً وأنه لا بد له من محدث، وذلك المحدث لو كان مفتقراً إلى محدث آخر لكان فقيراً، ثم قد يقال أيضاً: من الذي أحدث المحدث الأول، وإذا كان له محدث فمن الذي أحدث الذي قبله؟ فيلزم من ذلك التسلسل.

فإذا قيل: إن المحدث واحد، وإنه غير مسبوق بعدم، وإنه الأول بلا بداية، انقطع التسلسل ولم يكن هناك تسلسل في الماضي ولا في المستقبل.

وهذه حجة عقلية، ولكن تكفي عنها هذه الآية النقلية وما يشابهها من الآيات التي يحتج الله بها على عباده، ففي قدرته وكمال تصرفه في هذا الكون، وما فيه من الآيات عبرة وعظة، ولكن تلك العبرة والعظة إنما ينتفع بها أهل العقول.

نعرف أن هذا الوصف وهو قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) وصف ثابت للإله، ولكن العبارة التي في القرآن والسنة أوضح، وهي قول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، وفسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، وفسره أيضاً في حديث عمران بقوله: (كان الله ولم يكن شيء قبله).

وهذا دليل على أن الله تعالى قديم ولم يسبق بعدم، وأنه دائم ولا يلحقه فناء، وأن المخلوقات حادثة معدومة ثم وجدت، ثم يأتي عليها العدم، ويستدل على هذا بحدوث الحوادث، فيقال: هذه الحوادث لا بد لها من محدث.

وهذا قد يعتبر دليلاً عقلياً، ولكن قيدته الآيات كهذه الآية التي في سورة الطور، وهي قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، يقول: فإذا تحققوا أنهم لم يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم وتحقق أنهم لم يخلقوا من غير شيء، تعين أنهم خلقوا من شيء وأن لهم خالقاً خلقهم، ويستدل بهذا على الطبائعيين الدهريين، والذين يسمون في هذه الأزمنة بالشيوعيين الذين ينكرون الخالق، وقديماً كانوا يسمون بالطبائعيين، ومنهم الفلاسفة الطبائعيون، فهناك فلاسفة يقرون بالخالق ويسمون الفلاسفة الإلهيين.

فهؤلاء جميعاً يحتج عليهم بالعقل فيقال: هذه الموجودات نشاهد أنها كانت معدومة ثم وجدت، فلا بد لها من موجد، نشاهد مثلاً: أن السماء ليس فيها سحاب ثم يتراكم فيها السحاب، فلا بد له من موجد، ونشاهد أن الأرض تكون يابسة ثم نشاهدها بعد ذلك تهتز خضراء وفيها أشجار وثمار، فلا بد لها من موجد، ونشاهد مثلاً أن الإنسان يكون صغيراً ثم نشاهده بعد ذلك قد حصل له أولاد وصاروا بجانبه، لقد كانوا معدومين ثم وجدوا، فلا بد لهم من موجد، وهكذا توالد الحيوانات والدواب ونحوها لا بد لها من موجد، فإن الإنسان ليس هو الذي يوجد نفسه، وليس هو الذي يخلق أولاده، ولو كان هو الذي يتصرف بنفسه لحرص على أن يكون خلقه أحسن من خلق غيره، ولو كان هو الذي يوجد ولده لحرص على أن يكون أولاده ذكوراً أو نحو ذلك، فتعين أن هناك خالقاً يتصرف في هذا الكون، فهو الذي يعطي ويمنع، يصل ويقطع، يخفض ويرفع، يسعد ويشقي، يفقر ويغني.

فإذاً لا بد أن هذه الموجودات تنتهي إلى موجد، وذلك الموجد لا بد أن يكون غنياً بنفسه، وأن ما سواه فقير إليه، وهذا الوصف هو وصف الخالق تعالى، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]، أي: ليس ذلك شاقاً ولا صعباً على الله، بل هو سهل يسير: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

يعتقد أهل السنة أن رب هذا الكون واحد، وأنه الذي يتصرف في الكون، وأنه قديم ليس له بداية وأنه دائم ليس له نهاية، وقد ذكر الله تعالى أن كلامه لا ينفد بقوله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف:109]، وما ذاك إلا أن كلام الله ليس له بداية ولا نهاية، فالبحر ولو كان معه سبعة أبحر تمده، وكانت الأشجار من أول الدنيا إلى آخرها أقلاماً، فكتب بتلك الأقلام بمداد هذه البحار، لنفدت البحار ولتكسرت الأقلام ولم ينفد كلام الله؛ وذلك لأنه لا بداية له ولا نهاية، ولا شك أن هذه من الحجج العقلية التي تقطع مخاصمة أولئك.

وإذا عرف المسلمون أن لهم خالقاً خلقهم وخلق هذا الكون، عرفوا أنهم ما خلقوا عبثاً، فلا بد أن للخالق الذي خلقهم وأنعم عليهم حقاً عليهم، فيعرف العبيد حق الله عليهم وهو عبادته وحده لا شريك له، فيكون هذا دافعاً لهم إلى أن يقوموا بهذا الحق، ثم بعد ذلك يعلقون آمالهم راجين الثواب الذي رتب لهم على تلك العبادة.

والحاصل أن كل عاقل إذا فكر في هذا الكون ورأى تواجده ورأى أنه حدث بعد أن كان معدوماً، عرف أنه قد كان معدوماً وأنه لا بد له من محدث، وذلك المحدث لو كان مفتقراً إلى محدث آخر لكان فقيراً، ثم قد يقال أيضاً: من الذي أحدث المحدث الأول، وإذا كان له محدث فمن الذي أحدث الذي قبله؟ فيلزم من ذلك التسلسل.

فإذا قيل: إن المحدث واحد، وإنه غير مسبوق بعدم، وإنه الأول بلا بداية، انقطع التسلسل ولم يكن هناك تسلسل في الماضي ولا في المستقبل.

وهذه حجة عقلية، ولكن تكفي عنها هذه الآية النقلية وما يشابهها من الآيات التي يحتج الله بها على عباده، ففي قدرته وكمال تصرفه في هذا الكون، وما فيه من الآيات عبرة وعظة، ولكن تلك العبرة والعظة إنما ينتفع بها أهل العقول.

قال المؤلف رحمه الله: [وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى (القديم)، وليس هو من الأسماء الحسنى، فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى : حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39]، والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول قديم.

وقال تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ [الشعراء:75-76]، فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله تعالى.

وقال تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً، كما يقال: أخذت ما قدم وما حدث، ويقال : هذا قَدُمَ هذا وهو يقدمه، ومنه سميت القدم قدما؛ لأنها تقدم بقية بدن الإنسان.

وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى، فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، منهم ابن حزم .

ولا ريب أنه إذا كان مستعملا في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها، فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به.

والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه (الأول)، وهو أحسن من القديم؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له بخلاف القديم، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة].

وصف المتكلمين لله بالقديم ومعناه عندهم

مشهور في كلام المتكلمين وصف الله بأنه قديم، بل عندهم أن القديم أخص أوصاف الله، ويعنون بذلك أنه الذي لم يتقدمه شيء، ولذلك فهم ينفون الصفات، ويقولون: إن تعدد الصفات يلزم منه تعدد القدماء، يعني: أن القديم واحد وهو الله، فلا يكون هناك قدماء غيره، فلو قيل: إن لله صفات لكانت أيضاً موصوفة بالقدم، أي فيقال: الله قديم وسمعه قديم وبصره قديم ونحو ذلك.

وقد أجاب أهل السنة عليهم بأجوبة منها:

أولاً: أن لفظة القديم لا تدل على الأولية.

ثانياً: أن نفي الصفات لاستلزامها تعدد القدماء لا يلزم هذا الاستلزام؛ وذلك لأن القديم ليس بلفظ شرعي ولا لغوي، ولأن الله تعالى واحد بذاته وبصفاته، وأن الصفات من جملة الذات، فلا يكون في إثباتها تعدد.

وهاهو الشارح ينكر على هؤلاء الذين يقولون إن القديم من أسماء الله، ويذكر أن الاسم الصحيح الذي سمى الله به نفسه هو: الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، فأما القديم أو الأزلي فهي أسماء اصطلاحية، لا يلزم من الاصطلاح عليها ثبوتها.

قصدهم بالقديم عدم تقدم شيء عليه، وقصدهم بالأزلي أو بالدائم عدم إتيان الفناء عليه، ولو أتوا على هذه الآية أو على هذين الاسمين في هذه الآية وهما قول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، لكان ذلك كافياً، ولكان التفسير واضحاً، ولكانت الأسماء واقعة موقعها.

معنى كلمة (القديم) في لغة العرب

يقول: إن كلمة القديم عند العرب لا تدل على تقدم الإنسان على غيره كله، وإنما تدل على تقدمه على جنسه، فإذا وجد له جنس جديد سمي الأول قديماً، ومنه قوله تعالى: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39]، فإن العراجين هي قنوان النخل، يعني: العذوق التي يكون فيها التمر، ومتى يكون قديماً؟ إذا حملت النخل مرة ثانية قيل للعراجين التي من العام الماضي: هذه عراجين قديمة.

وكذلك قوله تعالى: أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ [الشعراء:76]، يعني: أن آباءكم قد تقدموا عليكم، ومعلوم أن الآباء قبلهم أجداد وقبل الأجداد أجداد وهلم جراً، فسمي الآباء القريبون أقدمين، فدل على أن القديم لا يدل على السبق المطلق، وإنما يدل على سبق بعض الجنس.

فالوصف بأن الله هو الأول أبلغ من الوصف بأنه القديم، وهذه الكلمة (الأول) تعطي معنى الأولية، و(الآخر) تعطي معنى الأزلية، يعني الأبدية والديمومة؛ وذلك لأن الله موصوف بأنه دائم أبدي وأزلي، لا يأتي عليه الفناء ولا التغير، وأنه هو كما وصف نفسه بأنه الحي الذي لا يموت: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)، يعني: بعد موت الناس في هذه الحياة وفناء المخلوقات يبقى الله تعالى، كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].

فإذا كان هو الباقي فإنه أيضاً هو الذي يبعث العباد.

وهو سبحانه لا يأتي عليه فناء أبداً، وذلك هو الأصل في الدوام، وهو الأصل في البقاء الذي هو وصف الله وحده.

فيعتقد المسلمون أن ربهم سبحانه الذي خلق هذا الكون لم يسبق بعدم بل هو قديم، وأنه لا يأتي عليه الفناء بل هو دائم، ولكن يعبرون بالأول والآخر، فهما أوضح من القديم والدائم أو الأزلي أو نحو ذلك.

مشهور في كلام المتكلمين وصف الله بأنه قديم، بل عندهم أن القديم أخص أوصاف الله، ويعنون بذلك أنه الذي لم يتقدمه شيء، ولذلك فهم ينفون الصفات، ويقولون: إن تعدد الصفات يلزم منه تعدد القدماء، يعني: أن القديم واحد وهو الله، فلا يكون هناك قدماء غيره، فلو قيل: إن لله صفات لكانت أيضاً موصوفة بالقدم، أي فيقال: الله قديم وسمعه قديم وبصره قديم ونحو ذلك.

وقد أجاب أهل السنة عليهم بأجوبة منها:

أولاً: أن لفظة القديم لا تدل على الأولية.

ثانياً: أن نفي الصفات لاستلزامها تعدد القدماء لا يلزم هذا الاستلزام؛ وذلك لأن القديم ليس بلفظ شرعي ولا لغوي، ولأن الله تعالى واحد بذاته وبصفاته، وأن الصفات من جملة الذات، فلا يكون في إثباتها تعدد.

وهاهو الشارح ينكر على هؤلاء الذين يقولون إن القديم من أسماء الله، ويذكر أن الاسم الصحيح الذي سمى الله به نفسه هو: الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، فأما القديم أو الأزلي فهي أسماء اصطلاحية، لا يلزم من الاصطلاح عليها ثبوتها.

قصدهم بالقديم عدم تقدم شيء عليه، وقصدهم بالأزلي أو بالدائم عدم إتيان الفناء عليه، ولو أتوا على هذه الآية أو على هذين الاسمين في هذه الآية وهما قول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، لكان ذلك كافياً، ولكان التفسير واضحاً، ولكانت الأسماء واقعة موقعها.

يقول: إن كلمة القديم عند العرب لا تدل على تقدم الإنسان على غيره كله، وإنما تدل على تقدمه على جنسه، فإذا وجد له جنس جديد سمي الأول قديماً، ومنه قوله تعالى: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39]، فإن العراجين هي قنوان النخل، يعني: العذوق التي يكون فيها التمر، ومتى يكون قديماً؟ إذا حملت النخل مرة ثانية قيل للعراجين التي من العام الماضي: هذه عراجين قديمة.

وكذلك قوله تعالى: أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ [الشعراء:76]، يعني: أن آباءكم قد تقدموا عليكم، ومعلوم أن الآباء قبلهم أجداد وقبل الأجداد أجداد وهلم جراً، فسمي الآباء القريبون أقدمين، فدل على أن القديم لا يدل على السبق المطلق، وإنما يدل على سبق بعض الجنس.

فالوصف بأن الله هو الأول أبلغ من الوصف بأنه القديم، وهذه الكلمة (الأول) تعطي معنى الأولية، و(الآخر) تعطي معنى الأزلية، يعني الأبدية والديمومة؛ وذلك لأن الله موصوف بأنه دائم أبدي وأزلي، لا يأتي عليه الفناء ولا التغير، وأنه هو كما وصف نفسه بأنه الحي الذي لا يموت: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)، يعني: بعد موت الناس في هذه الحياة وفناء المخلوقات يبقى الله تعالى، كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].

فإذا كان هو الباقي فإنه أيضاً هو الذي يبعث العباد.

وهو سبحانه لا يأتي عليه فناء أبداً، وذلك هو الأصل في الدوام، وهو الأصل في البقاء الذي هو وصف الله وحده.

فيعتقد المسلمون أن ربهم سبحانه الذي خلق هذا الكون لم يسبق بعدم بل هو قديم، وأنه لا يأتي عليه الفناء بل هو دائم، ولكن يعبرون بالأول والآخر، فهما أوضح من القديم والدائم أو الأزلي أو نحو ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (لا يفنى ولا يبيد).

إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضا مقرر ومؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء)].

أي: أن قوله: (لا يفنى ولا يبيد) مؤكد لقوله: ( دائم بلا انتهاء )، ودليله من القرآن قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)، مثل بالجن والإنس لأنهم الثقلان المكلفان.

إذاً: كل شيء يفنى إلا وجه الله تعالى، وذلك دليل على الكمال، والذي يكون له الكمال يستحق أن يقدس وأن يعبد وحده، وأن يقوم عباده الذين هم خلقه وملكه بواجبهم نحوه، وذلك بالعبادة المستمرة له سبحانه.

قال المؤلف رحمه الله: [قوله: ( ولا يكون إلا ما يريد ).

هذا رد لقول القدرية والمعتزلة، فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم، والكافر أراد الكفر، وقولهم فاسد مردود؛ لمخالفته الكتاب والسنة، والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

وسموا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر: (قدرية) أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب.

أما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال : والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله، وإن كان واجباً أو مستحباً، ولو قال : إن أحب الله حنث، إذا كان واجباً أو مستحباً].

قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) هذا مثل قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107] يعني: أن ما أراده تعالى فإنه لا بد أن يحصل وما لم يرده فإنه لا يكون، والمراد هنا الإرادة الكونية؛ وذلك لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية.

فالله تعالى قدر الكائنات فلا يحدث في الوجود شيء إلا بإرادته، وهذا أكثر ما تطلق الإرادة عليه.

الإرادة الكونية: كما في قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125]، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)، والآيات في هذه الإرادة كثيرة.

فأهل السنة يعتقدون أنه لا يكون شيء في الوجود إلا بإرادته، ولو شاء لهدى الناس جميعاً، ولكن لا يتخذون ذلك حجة في المعصية كما تفعله طائفة الجبرية الذين يزعمون أنهم لا اختيار لهم، وأن العباد مجبورون على المعاصي وعلى الكفر، وليس لهم أي اختيار.

ونقول: بل الإرادة الكاملة لله سبحانه فلا يُعصى قسراً ولا قهراً، ولا تكون إرادة الخلق أقوى من إرادة الله، ولكن قد منحهم سبحانه إرادة تناسبهم، وهي مغلوبة بقدرة الله، فللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة، ولكن إرادتهم وقدرتهم مسبوقة بإرادة الله تعالى وبقدرته.

أقسام القدرية وحكم كل قسم

القدرية ينقسمون إلى قسمين: قدرية نفاة، وقدرية مجبرة، وكلاهما ضلال.

النفاة: هم الذين نفوا قدرة الله، وقالوا: إن الله لا يقدر على أفعال العباد.

والمجبرة: هم الذين يقولون: إن الله أجبر العباد على المعاصي وعلى الطاعات وقسرهم عليها، تعالى الله عن ذلك.

وهدى الله أهل السنة فقالوا: إن الله على كل شيء قدير، ولكن منح العبد قدرة يكلف بها، فإذا اعتقدنا ذلك سلمنا من الاعتراضات.

القدرية ينقسمون إلى قسمين: قدرية نفاة، وقدرية مجبرة، وكلاهما ضلال.

النفاة: هم الذين نفوا قدرة الله، وقالوا: إن الله لا يقدر على أفعال العباد.

والمجبرة: هم الذين يقولون: إن الله أجبر العباد على المعاصي وعلى الطاعات وقسرهم عليها، تعالى الله عن ذلك.

وهدى الله أهل السنة فقالوا: إن الله على كل شيء قدير، ولكن منح العبد قدرة يكلف بها، فإذا اعتقدنا ذلك سلمنا من الاعتراضات.

قال المؤلف رحمه الله: [والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.

فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا.

والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهذا كقوله تعالى : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، وقوله تعالى عن نوح عليه السلام : وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، وقوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].

وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية: فكقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26]، وقوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:27-28]، وقوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة:6]، وقوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33].

فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.

وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل، فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة المعلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى.

فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر، فقد يريد إعانة المأمور على ما أمر به، وقد لا يريد ذلك وإن كان مريداً منه فعله، وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى: هل هو مستلزم لإرادته أم لا ؟

فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله عليهم السلام بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل، ويجعله فاعلاً له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة، وهو سبحانه إذ أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان، كان قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله، أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو، أو جعل المأمور فاعلاً له، فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟!

فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريداً النصيحة، ومبيناً لما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل، إذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده، فجهة أمره لغيره نصحاً غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين، فهو في حق الله أولى بالإمكان].

الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية

هذا الكلام يوضح ما قلنا: من أن الإرادة قسمان:

إرادة دينية شرعية أمرية، وإرادية كونية قدرية خلقية.

والفرق بينهما: أن الإرادة الكونية لا بد من وجود المراد فيها، فكل شيء أراده الله كوناً وقدراً فلا بد من وجوده، ولكن قد يحبه وقد لا يحبه.

والذي يريده شرعاً وديناً قد لا يوجد، فالطاعات والأعمال الصالحة أرادها الله ديناً وشرعاً من جميع الخلق، وأحبها منهم، ولكن قد تحصل من بعضهم وقد لا تحصل من البعض الآخر.

فيقول: إن الله أراد من فرعون وأبي لهب أن يؤمنا؛ أراد ذلك ديناً وشرعاً وأمراً، ولكن ما أراد ذلك كوناً ولا قدراً ولا خلقاً، فلذلك لم يوجد منهما الإيمان والأعمال الصالحة.

وأراد من الأنبياء وأتباعهم الإيمان ديناً وشرعاً، وأراده منهم كوناً وقدراً فوجد.

فكل الأعمال الصالحة محبوبة عند الله، وإذا وقعت فإنها مرادة ديناً وشرعاً، ومرادة كوناً وقدراً، وكل الحوادث حتى المعاصي والكفر والمخالفات، فهي واقعة لإرادة الله الكونية القدرية الخلقية، ولكنها ليست محبوبة ولا مَرْضية ولو كان الله قد أرادها، قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر ولكن يرضى الشكر.

ذكر الآيات الدالة على الفرق بين الإرادة الشرعية والقدرية

ذكر الشارح الأدلة من الآيات على الفرق بين الإرادتين، فإن قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [الأنعام:125]، هذه إرادة كونية، يعني: من قدر الله له كوناً أنه يهديه، فإنه يشرح صدره للإسلام، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ [الأنعام:125]، أي: من قدر الله له أنه يضل ولا يهتدي، فإنه يجعل صدره ضيقاً حرجاً، فهذه إرادة كونية قدرية.

ومثلها قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، وقوله: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وقوله: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34] هذه إرادة كونية، يعني: إذا كان الله يريد كوناً وقدراً أن يغويكم فلا راد لما أراده، وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

لكن إذا احتج بعض العصاة وقال: إن الله ما أراد هدايتي، فكيف أهتدي والله لم يرد؟ نقول له: اسأل الله الهداية حتى يستجيب لك وافعل السبب، فإن الله أعطاك قدرة وأعطاك استطاعة على الأسباب، وأقدرك على الأسباب المحسوسة، فافعلها حتى تكون أسباباً في حصول الإرادة ووجودها.

وإذا قال بعض العصاة مثلاً: هكذا أراد الله مني هذه المعصية، نقول: أرادها كوناً ولم يردها شرعاً، الله تعالى أراد منك الإيمان شرعاً وأمرك به، بل أمر الناس كلهم أن يتقوا الله، وأن يؤمنوا به، وأحب ذلك منهم: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36].

وبلا شك أن الخير دائماً ينسب إلى الله تعالى، وأما الشرور فلا يجوز نسبتها إليه، كما حكى الله عن مؤمني الجن أنهم قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، فالإرادة هنا في هذه الآية إرادة شرعية، يعني: أراد الله بهم الخير إرادة شرعية، والإرادة في الأولى: أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10] إرادة كونية، وبهذا يحصل للمؤمن معرفة الفرق بين الإرادتين.

اجتماع الإرادة الشرعية والقدرية في إيمان المؤمن وعمله الصالح

هو يقول: كل ما في الوجود من الحوادث فهو مراد كوناً وقدراً، ولكن قد لا يكون محبوباً، قد يكون محبوباً كالطاعات وقد يكون مكروهاً كالمعاصي، وكل الطاعات التي تحدث من أهلها فإنها مرادة ديناً وشرعاً، أرادها الله ديناً وشرعاً، فهي مرادة ومحبوبة.

يعني: أن الله تعالى أراد الإيمان من الناس كلهم ديناً وشرعاً، ولكن تحقق ذلك في المؤمنين، فأصبح إيمان المؤمنين وأعمالهم الصالحة مجتمعاً فيها الإرادتان: الشرعية، والكونية القدرية، فإيمان المؤمنين وصلاتهم وعباداتهم مرادة كوناً وقدراً لوجودها، ومرادة ديناً وشرعاً للأمر بها ولمحبتها.

ومع ذلك فإن على المسلم أن يسأل ربه الهداية، حتى ييسر له هذه الأسباب ويجعله من أهلها، فإذا قام بالأسباب وفعلها رُجي بذلك أن يكون ممن أراد الله تعالى هدايته كوناً وقدراً، ووفقه لذلك ديناً وشرعاً، ولا يبقى على حاله التي هو عليها ويقول: ما أراد الله هدايتي، ويستمر على الضلال والعياذ بالله، فإن الذين يحتجون بالقدر يحتجون به في أمر دون أمر، حيث إنهم لا يسلمون ذلك في الأمور الدنيوية بل تراهم مجدين ومجتهدين ومشمرين، بخلاف أمورهم الدينية فإنهم يحتجون بالقضاء وبالقدر، ويحتجون بأن الله ما أراد منهم كذا وكذا، فيقال لهم: الباب واحد، فإذا اجتهدتم في أمور الدنيا فاجتهدوا في أمور الدين، والله تعالى هو الموفق لمن أراد الخير والعمل الصالح.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2715 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2631 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2591 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2565 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2472 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2408 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2387 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2373 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2336 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2301 استماع