شرح العقيدة الطحاوية [7]


الحلقة مفرغة

توضيح معنى توحيد الخاصة وخاصة الخاصة عند الصوفية

مر بنا بيان شيء مما أوضحه الله تعالى من العلم الذي هو أهم العلوم، وأن الله بينه عن طريق السمع، وعن طريق البصر، وعن طريق العقل، فبينه بالآيات السمعية، وذلك بالقرآن والسنة التي تسمع وتتلى، وكذلك بالآيات النظرية وهي المخلوقات التي جعلها الله علامات ودلالات يعتبر بها أولو الألباب.

وهكذا بينه عن طريق العقل، حيث أعطى الإنسان فكراً وعقلاً وذكاء يعقل به ما أمامه وما بين يديه، وبكل ذلك ينتج نتيجة وهي معرفة المرء نفسه ومعرفة ربه، ومعرفة ما خلق له وما أمر به، جملة وتفصيلاً.

ونتيجة هذه المعرفة وثمرتها هي العبادة الخالصة لله وحده، وترك عبادة ما سواه، فهذه هي نتيجة هذه المعرفة ومدار كلمة الإخلاص التي هي كلمة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فإن أول ما دعت إليه الرسل كلمة التوحيد، وهو ما جاءت به وما بلغته، وهو ما عليه جماهير الأمة، وهو ما تعلمه المسلمون قديماً وحديثاً، ولا عبرة بمن خالف في ذلك من الصوفية الذين جعلوا هذه الكلمة توحيد العامة.

وذلك أنهم قسموا الناس إلى: عامة، وخاصة، وخاصة خاصة. وقالوا: إن كلمة (لا إله إلا الله) توحيد العامة، وكلمة (الله الله) توحيد الخاصة، وكلمة (هو هو) توحيد خاصة الخاصة، يعني خلاصة الخلاصة.

فعند هؤلاء -قبحهم الله- أن الأنبياء والرسل والصحابة وعلماء الأمة كلهم من العامة الذين لا يعرفون ولا يفقهون، وعندهم أن الصوفية هم الخاصة، يدخل في ذلك أفرادهم وعلماؤهم، والواصلون منهم إلى الذروة هم خاصة الخاصة، فلأجل ذلك تجدهم في ذكرهم لا يزيدون على كلمة (هو هو)، مع أنها لا تدل على معنى، وأما كلمة الإخلاص فإنها دالة على معنى فهمه المدعوون، فدلت على إخلاص العبادة لله والتبرؤ مما سواه، ولهذا تشتمل على ولاء وبراء، فإن قوله: (لا إله) براء، (إلا الله) ولاء، فتشتمل على اتصال وانفصال، فـ(لا إله) انفصال عن المألوهات، (إلا الله) اتصال بالإله وحده.

فيقال: فيها نفي وإثبات، وفيها اتصال وانفصال، وفيها: ولاء وبراء، فلما كانت كذلك كانت جامعة لمعنى التوحيد الذي هو توحيد الرسل، ولكن كما هو معروف أنه لا بد من معرفة معناها، وذلك لأنه وجد من المتأخرين من يتكلم بها وهو لا يفهم مدلولها؛ فيجب على المسلم أن يفهم ما دلت عليه حتى يعبد الله تعالى بمقتضاها.

كمال توحيد الرسل وبيان أكملهم في ذلك

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أكمل الناس توحيداً الأنبياء صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيدا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.

وأكملهم توحيدا الخليلان: محمد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ومعرفة وحالا ودعوة للخلق وجهادا، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه.

ولهذا أمر سبحانه نبيه أن يقتدي بهم فيه، كما قال تعالى بعد ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد، وذكر الأنبياء من ذريته: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].

فلا أكمل من توحيد من أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: (أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين)، فملة إبراهيم التوحيد، ودين محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة].

إن أكمل التوحيد هو توحيد الأنبياء، وأكملهم الرسل، فإن الرسل هم الذين قاموا بالدعوة والجهاد، وكلفوا بالدعوة، وأكمل الرسل هم أولو العزم، وهم خمسة ذكرهم الله تعالى في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، وقوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13]، هؤلاء هم أولو العزم الذين عناهم الله تعالى بقوله: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]؛ وذلك لأنهم هم الذين صبروا وصابروا ولهم مكانة ومقام، فهم أفضل الرسل.

وأفضل الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فالخليلان لهما مقام سام رفيع، وهما اللذان جاهدا في الله، ودعوا إلى التوحيد أتم دعوة، ولقيا في سبيل ذلك ما لقيا.

ومعلوم أن الرسل كلهم دعوا إلى التوحيد، وقد أمر الله نبيه بأن يقتدي بهم كلهم، كما في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، أي: فاقتدِ بهديهم وبما جاءك عنهم وبما بلغك.

ولا شك أن من هداهم التوحيد، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، كل رسول يوحى إليه بهذا، فهذا من جملة هداهم الذي أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتدي به، وأمته تبع له، وكذلك هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه يقول: (قولوا: أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص..) إلى آخره، وذلك لأنه قول جامع؛ وذلك لأن فيه ذكر ملة إبراهيم، يعني: أن من جملة ما تمسكنا به ملة أبينا إبراهيم الذي أمرنا الله تعالى بأن نقتدي به، وملة الأنبياء الذين أُمِر نبينا بأن يقتدي بهم، فإذا تمسك المسلمون بذلك فإنهم إن شاء الله على طريق النجاة.

توحيد الصوفية يفضي إلى الفناء والاتحاد

قال المؤلف رحمه الله: [فهذا توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى : وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130-131].

وكل من له حس سليم وعقل يميز به، لا يحتاج في الاستدلال إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به.

ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة، ينتهي إلى الفناء الذي يشمّر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر يفضي إلى الاتحاد، انظر إلى ما أنشد شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول شعراً:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد

وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الاتحاد، لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوباً منا لنبه الشارع عليه، ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟! أو ما يقرب من هذا المعنى، أو أشار إليه؟].

توحيد الصوفية ليس هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل

نعرف أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل -حقاً- توحيد واحد ليس فيه فروع، وليس هناك توحيد خاصة وخاصة خاصة وعامة، بل الرسول دعا الناس كلهم إلى شيء واحد، وأمرهم بأن يتمسكوا به، وهو الإخلاص لله تعالى، بحيث يعبدونه ويتركون عبادة ما سواه بعد المعرفة، فأما هذا التقسيم الذي تدّعيه هذه الطوائف فإنه مبتدع، فالطائفة التي ادعت ذلك -وهم الصوفية- قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام:

فجعلوا كلمة لا إله إلا الله، توحيد العامة.

والخاصة كلمة: الله.

وخاصة الخاصة كلمة: هو.

من الذي سبقهم من الرسل إلى هذا التقسيم؟! لو كان حقاً لبينته الرسل لأممهم، فهذا يدل على أنهم لم يسبقوا إليه ولا دليل عليه.

ومع كونه لا دليل عليه فإنه يئول بسالكيه إلى الهلاك المعنوي، بحيث يضل صاحبه ويتيه، ويؤدي به إلى الحيرة والريب.

كثير من الذين خاضوا في هذا العلم أدى بهم ذلك إلى الشك وإلى الحيرة، ويأتينا إن شاء الله لذلك أمثلة في هذا الكتاب.

كذلك يؤدي بهم إلى طريقة أخطر من ذلك وهي طريقة الاتحاد، وهو مذهب باطل، وقد أشار إليه الشارح فيما سبق وهو مذهب الذين يجعلون الخالق متحداً بالمخلوق! يقال لهم: ما الدليل على ذلك؟ ومن الذي سبقكم إلى ذلك؟ فلا يجدون دليلاً ولا سابقاً من أهل العلم.

ويؤدي بهم أيضاً إلى طريق يسمونها الفناء، والفناء عندهم هو غاية المنازل، وأعلى المراتب، متى وصل إليها العارف -عندهم- وصل إلى حضيرة القدس! وهو الذي -في نظرهم- يهنأ بعبادته عن معبوده.. يهنأ بوجوده عن موجوده، بحيث يتلاشى عن نفسه ويفنى لخالقه كما يقولون، ولهم عبارات بشعة لا حاجة بنا إلى أن نعرفها، والجهل بها أولى؛ وذلك لأن تلك المعارف وتلك الشطحات التي وقعوا فيها سببها هذا الخوض، وهو الحصول على رتبة خاصة الخاصة.

فذكر المؤلف أن هذا طريق خطر، وأنه لا يجوز سلوكه.

أبيات الهروي موهمة وإن كان معتقده سليماً

ذكر المؤلف تلك الأبيات التي أنشدها أبو إسماعيل الهروي في آخر كتابه الذي سماه منازل السائلين، والذي شرحه ابن القيم في كتابه الذي سماه: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وذكر هذه الأبيات في أول مدارج السالكين، وحرص على أن يحملها محملاً حسنا، ولكن فيها شيء من الإجمال، وفيها شيء من الإيهام؛ لأن ظاهرها أن الناس كلهم لم يوحدوا الله، ولا يقدر على توحيد الله إلا الله، فقوله:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

ظاهره أن كل الناس حتى الأنبياء لم يكونوا موحدين وإنما الله الذي وحد نفسه، ولكن حملوه على أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف ذلك إلا بمعرفة من الله وتعريف منه، وحمله الاتحاديون على مذهبهم، واجتذبوا أبا إسماعيل رحمه الله إليهم، وأقسموا بالله جهد أيمانهم إنه لمنهم، وكلامه في الحقيقة موهم ولكن عقيدته سليمة وله مؤلفات تدل على أنه من أهل السنة، بينها العلماء في ترجمته.

وعلى كل حال فطريقة الرسل وأتباعهم والأئمة والعلماء هي معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، وذكره بما ورد وبما أمر به وبما بلغته رسله، وبذلك يكون الإنسان من العارفين ومن الموحدين، دون أن يحتاج إلى معرفة الاصطلاحات الصوفية والشطحات، وتلك الكلمات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

بيان أن مصطلح الفناء ونحوه غلو في الدين

قال المؤلف رحمه الله: [هذه النقول والعقول حاضرة، فهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جاء ذكر الفناء فيها، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟

وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النصارى في دينهم، وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه فقال : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ [النساء:171] ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77] وقال صلى الله عليه وسلم : (لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن من كان قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) رواه أبو داود] .

أولاً: ذكر أن هذه الاصطلاحات لم يأت بها كتاب ولا سنة، يعني كلماتهم الاصطلاحية التي يتغالون فيها، كتقسيم التوحيد إلى ثلاثة، وتقسيم الفناء أيضاً إلى ثلاثة، وما أشبه ذلك، فكلها ليس عليها دليل، وإنما هي اصطلاحات من عندهم.

ثانياً: ذكر أن هذا بسبب الغلو والغلو هو الزيادة عن المطلوب أو على الوارد، والتشدد فيه، وقد حكى الله أن النصارى غلوا في عيسى حيث قالوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17] أو ثالث ثلاثة: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] أو ابن الله: وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] هذا من الغلو الذي ذمهم الله به، وقد وقع الغلو في هذه الأمة في العبادات وفي غيرها، كما فعلت الخوارج، فإنهم غلوا حتى كفروا بالذنوب.

ووقع الغلو في بعض الأشخاص كالرافضة حيث غلوا في أهل البيت، حتى اعتقدوا فيهم العصمة، وفضلوهم على كثير من الرسل، وأعطوهم شيئاً من حق الله.

وقد ذم الله تعالى الغلو ونهى عنه كما في سورة النساء: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ [النساء:171] وفي سورة المائدة: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ... [المائدة:77] الآية.

وكذلك في الأحاديث؛ ففي هذا الحديث الذي ذكره النهي عن التشدد، وذم المتشددين فإن من المتشددين النصارى (فإن قوماً شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها)، وكذلك جاء الذم بلفظ الغلو في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، ذكر أنه أهلك من كان قبلنا، ودين الله تعالى وسط بين الغالي والجافي، والغالي هو الزائد، والجافي هو المقصر، ولعله يأتينا في الغلو ما هو أوسع من هذا البحث إن شاء الله.

مر بنا بيان شيء مما أوضحه الله تعالى من العلم الذي هو أهم العلوم، وأن الله بينه عن طريق السمع، وعن طريق البصر، وعن طريق العقل، فبينه بالآيات السمعية، وذلك بالقرآن والسنة التي تسمع وتتلى، وكذلك بالآيات النظرية وهي المخلوقات التي جعلها الله علامات ودلالات يعتبر بها أولو الألباب.

وهكذا بينه عن طريق العقل، حيث أعطى الإنسان فكراً وعقلاً وذكاء يعقل به ما أمامه وما بين يديه، وبكل ذلك ينتج نتيجة وهي معرفة المرء نفسه ومعرفة ربه، ومعرفة ما خلق له وما أمر به، جملة وتفصيلاً.

ونتيجة هذه المعرفة وثمرتها هي العبادة الخالصة لله وحده، وترك عبادة ما سواه، فهذه هي نتيجة هذه المعرفة ومدار كلمة الإخلاص التي هي كلمة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فإن أول ما دعت إليه الرسل كلمة التوحيد، وهو ما جاءت به وما بلغته، وهو ما عليه جماهير الأمة، وهو ما تعلمه المسلمون قديماً وحديثاً، ولا عبرة بمن خالف في ذلك من الصوفية الذين جعلوا هذه الكلمة توحيد العامة.

وذلك أنهم قسموا الناس إلى: عامة، وخاصة، وخاصة خاصة. وقالوا: إن كلمة (لا إله إلا الله) توحيد العامة، وكلمة (الله الله) توحيد الخاصة، وكلمة (هو هو) توحيد خاصة الخاصة، يعني خلاصة الخلاصة.

فعند هؤلاء -قبحهم الله- أن الأنبياء والرسل والصحابة وعلماء الأمة كلهم من العامة الذين لا يعرفون ولا يفقهون، وعندهم أن الصوفية هم الخاصة، يدخل في ذلك أفرادهم وعلماؤهم، والواصلون منهم إلى الذروة هم خاصة الخاصة، فلأجل ذلك تجدهم في ذكرهم لا يزيدون على كلمة (هو هو)، مع أنها لا تدل على معنى، وأما كلمة الإخلاص فإنها دالة على معنى فهمه المدعوون، فدلت على إخلاص العبادة لله والتبرؤ مما سواه، ولهذا تشتمل على ولاء وبراء، فإن قوله: (لا إله) براء، (إلا الله) ولاء، فتشتمل على اتصال وانفصال، فـ(لا إله) انفصال عن المألوهات، (إلا الله) اتصال بالإله وحده.

فيقال: فيها نفي وإثبات، وفيها اتصال وانفصال، وفيها: ولاء وبراء، فلما كانت كذلك كانت جامعة لمعنى التوحيد الذي هو توحيد الرسل، ولكن كما هو معروف أنه لا بد من معرفة معناها، وذلك لأنه وجد من المتأخرين من يتكلم بها وهو لا يفهم مدلولها؛ فيجب على المسلم أن يفهم ما دلت عليه حتى يعبد الله تعالى بمقتضاها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أكمل الناس توحيداً الأنبياء صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيدا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.

وأكملهم توحيدا الخليلان: محمد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ومعرفة وحالا ودعوة للخلق وجهادا، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه.

ولهذا أمر سبحانه نبيه أن يقتدي بهم فيه، كما قال تعالى بعد ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد، وذكر الأنبياء من ذريته: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].

فلا أكمل من توحيد من أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: (أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين)، فملة إبراهيم التوحيد، ودين محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة].

إن أكمل التوحيد هو توحيد الأنبياء، وأكملهم الرسل، فإن الرسل هم الذين قاموا بالدعوة والجهاد، وكلفوا بالدعوة، وأكمل الرسل هم أولو العزم، وهم خمسة ذكرهم الله تعالى في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، وقوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13]، هؤلاء هم أولو العزم الذين عناهم الله تعالى بقوله: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]؛ وذلك لأنهم هم الذين صبروا وصابروا ولهم مكانة ومقام، فهم أفضل الرسل.

وأفضل الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فالخليلان لهما مقام سام رفيع، وهما اللذان جاهدا في الله، ودعوا إلى التوحيد أتم دعوة، ولقيا في سبيل ذلك ما لقيا.

ومعلوم أن الرسل كلهم دعوا إلى التوحيد، وقد أمر الله نبيه بأن يقتدي بهم كلهم، كما في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، أي: فاقتدِ بهديهم وبما جاءك عنهم وبما بلغك.

ولا شك أن من هداهم التوحيد، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، كل رسول يوحى إليه بهذا، فهذا من جملة هداهم الذي أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتدي به، وأمته تبع له، وكذلك هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه يقول: (قولوا: أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص..) إلى آخره، وذلك لأنه قول جامع؛ وذلك لأن فيه ذكر ملة إبراهيم، يعني: أن من جملة ما تمسكنا به ملة أبينا إبراهيم الذي أمرنا الله تعالى بأن نقتدي به، وملة الأنبياء الذين أُمِر نبينا بأن يقتدي بهم، فإذا تمسك المسلمون بذلك فإنهم إن شاء الله على طريق النجاة.




استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2708 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2626 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2584 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2557 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2467 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2403 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2382 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2367 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2330 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2295 استماع