شرح أخصر المختصرات [80]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى:

[فصل:‏

وكل شراب مسكر يحرم مطلقاً، إلا لدفع لقمة غص بها مع خوف تلف، ويقدم عليه بول. ‏

فإذا شربه أو احتقن به مسلم مكلف مختاراً عالماً أن كثيره يسكر حد حر ثمانين وقن نصفها. ‏

ويثبت بإقراره مرةً كقذف، أو شهادة عدلين.

وحرم عصير ونحوه إذا غلى أو أتى عليه ثلاثة أيام.

فصل:

ويقطع السارق بثمانية شروط:‏

السرقة، وهي أخذ مال معصوم خفيةً، وكون سارق مكلفاً مختاراً عالماً بمسروق وتحريمه، وكون ‏مسروق مالاً محترماً، وكونه نصاباً وهو ثلاثة دراهم فضةً أو ربع مثقال ذهباً أو ما قيمة أحدهما، ‏وإخراجه من حرز مثله، وحرز كل مال ما حفظ به عادةً، وانتفاء الشبهه، وثبوتها بشهادة عدلين ‏يصفانها، أو إقرار مرتين مع وصف ودوام عليه، ومطالبة مسروق منه، أو وكيله أو وليه.

فإذا وجب قطعت يده اليمنى من مفصل كفه وحسمت، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من ‏مفصل كعبه وحسمت، فإن عاد حبس حتى يتوب.

ومن سرق تمراً أو ماشيةً من غير حرز غرم قيمته مرتين ولا قطع، ومن لم يجد ما يشتريه أو ‏يشتري به زمن مجاعة غلاء لم يقطع بسرقة.

فصل:

وقطاع الطريق أنواع:

فمن منهم قتل مكافئاً أو غيره كولد وأخذ المال قتل ثم صلب مكافئ حتى يشتهر.

ومن قتل فقط قتل حتماً ولا صلب.

ومن أخذ المال فقط قطعت يده اليمنى، ثم رجله اليسرى في مقام واحد، وحسمتا وخلي.

وإن أخاف السبيل فقط نفي وشرد، وشرط ثبوت ذلك ببينة أو إقرار مرتين، وحرز ونصاب.

ومن تاب منهم قبل القدرة عليه سقط عنه حق الله تعالى وأخذ بحق آدمي.

ومن وجب عليه حد لله فتاب قبل ثبوته سقط.

ومن أريد ماله أو نفسه أو حرمته ولم يندفع المريد إلا بالقتل أبيح ولا ضمان.

والبغاة ذوو شوكة يخرجون على الإمام بتأويل سائغ فيلزمه مراسلتهم وإزالة ما يدعونه من شبهة ومظلمة، فإن فاءوا وإلا قاتلهم قادر].

من جملة الحدود حد الخمر، أي: حد شرب المسكر. والخمر هي كل ما أسكر، والإسكار هو إزالة العقل بالذي إذا شربه يزول معرفته ويهذي في كلامه، ولا يعرف ما يقول فيتصرف تصرفاً سيئاً، فحرم هذا لأنه يزيل العقل، ويلحق الذي يتعاطاه بالمجانين أو أقل حالة من البهائم.

وكانت الخمر مشهوراً شربها عند العرب قبل الإسلام، بل قد يفتخرون بها، كما في قول حسان في جاهليته:

ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً لا ينهنهنا اللقاء

فلما جاء الإسلام لم تحرم دفعة واحدة؛ لأنهم منهمكون فيها، بل حرمت على مراتب، حرمت على مرات شيئاً فشيئاً، فأول ما نزل فيها قول الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] ، قال العلماء أو بعضهم: إن هذه الآية هي التي حرمت بها الخمر؛ لأنه ذكر أن فيها إثماً كبيراً، وإثمها أكبر من نفعها، فيدل على أنها محرمة، والله تعالى قد حرم الإثم في قوله تعالى في سورة الأعراف وهي مكية: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ [الأعراف:33]، فتكون هذه الآية دالة على تحريمها.

ولكن لم يحرمها الناس لهذه الآية، حيث ذكر أن فيها منافع للناس، إما في التجارة فيها، وإما بالتلذذ بشربها، ولما نزلت تاب كثير وتركوها، وقدر بعد ذلك أن قوماً شربوها من الصحابة، وحصل منهم قتال حتى ضرب بعضهم صاحبه بلحي جمل وشجه، وصلى بعضهم وقرأ في الصلاة: (قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، أنتم تعبدون ما أعبد) وخلط في قراءته، عند ذلك نزلت آية في سورة النساء: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، نهاهم أن يصلوا في حالة السكر، وذلك لما يترتب على الصلاة في حالة السكر من الهذيان ومن الكلام السيء، فتاب ناس وتركوها تركاً كلياً، وبقي آخرون يشربونها في الأوقات الطويلة، يشربها بعد الفجر فيصحو قبل أن يدخل وقت الظهر، ويشربها بعد العشاء فيصحو قبل دخول وقت الفجر.

العشرة الأوجه الواردة في الآيات في تحريم الخمر

ولما عرفوا آثارها السيئة نزل تحريمها بعد ذلك بالآيات التي في سورة المائدة، وأخذوا تحريمها من الآيات من عشرة أوجه:

الوجه الأول: أن الله قرنها بالأصنام فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ [المائدة:90] التي هي الأصنام.

الوجه الثاني: قوله تعالى: (رِجْسٌ)، والرجس هو النجس.

الوجه الثالث: قوله تعالى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، والشيطان لا يدعو إلا إلى الحرام وإلى الآثام.

الوجه الرابع: قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوهُ) والاجتناب هو الابتعاد، فهو أبلغ من قول: اتركوه.

الوجه الخامس: قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: يتوقف فلاحكم على تركها.

الوجه السادس قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ [المائدة:91]، فالعداوة بينكم يوقعها الشيطان بسبب هذا الخمر.

الوجه السابع قوله تعالى: الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91].

الوجه الثامن قوله تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المائدة:91] أي: إن مجالسها مجالس باطل تصد عن ذكر الله.

الوجه التاسع: قوله تعالى: وَعَنْ الصَّلاةِ [المائدة:91] أي أنها تشغل عن الصلاة.

الوجه العاشر قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فقالوا: انتهينا انتهينا.

فحرمت الخمر بهذه الآية، ووردت الأدلة في عقوبة شاربها، وأن من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة، مع أن خمر الآخرة ليست مثل خمر الدنيا؛ لقول الله تعالى: لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:47] ، وقوله: وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:18-19] مما يدل على أنها منزهة عما يكون في خمر الدنيا.

كذلك ورد في الحديث أن الذي يشربها ويموت وهو يشربها يسقيه الله من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار.

حد شارب الخمر

ثم ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما حد لها حداً محدداً، ولكن إذا جيء بشارب الخمر يقول: اضربوه، فمنهم من يضربه بيده، ومنهم من يضربه بنعل، ومنهم يضربه بعصا نحو الأربعين، هكذا كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بسكران، وكذلك أيضاً في عهد أبي بكر يضرب نحو الأربعين، ولما كان في عهد عمر كثر الذين يتعاطون شرب الخمر، ولم تردعهم أربعون جلدة، وتهاونوا بها، فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة فقالوا: إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون جلدة. والافتراء هو الكذب والقذف، فأمر عمر أن يجلد ثمانين، فصار يجلد هكذا، ولو أن ذلك لم يحدد في العهد النبوي؛ لأن هذا من باب التشديد عليه.

فأكثر الفقهاء على أن حده ثمانون؛ لأن عمر أفتى بذلك ووافقه عليه الصحابة، وذهب بعض المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الحد أربعون، وأن الزيادة تعزير تستعمل عند الحاجة، أي: متى تهافت الناس على ذلك وكثر الذين يتعاطونه وتهاونوا بالأربعين زيد إلى الثمانين، وإن لم تردعهم الثمانون وكثروا وتهاونوا بهذه العقوبة زيد إلى المائة، أو إلى مائة وعشرين؛ لتكون الزيادة تستعمل وقت الحاجة عندما يكثرون، ويتمكنون من الشرب، فعند ذلك يجلد إلى ثمانين، ويجلد إلى مائة، ويجلد إلى مائة وعشرين، ولو احتيج إلى الزيادة زيد لأجل أن يرتدع الناس.

ثم ورد حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شرب أحد الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه) ، هذا الحديث رواه بعض العلماء، وقال بعضهم: إنه منسوخ. وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل شرب الرابعة فلم يقتله، فجزموا بأنه منسوخ، والترمذي لما خرجه قال في آخر كتابه: إنه لم يجد من يعمل به. يعني: لم يكن عليه عمل، ولكن الحديث روي من طرق جمعها الشيخ أحمد محمد شاكر الذي حقق أول المسند، وحقق أول تفسير الطبري، فإنه عندما روى الحديث في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص خرجه وذكر الشواهد عليه، حتى بلغ أحد عشر حديثاً، واستدل به على أنه متواتر.

ثم إنه أفرد هذا القدر وطبعه في رسالة مستقلة في قتل الشارب بعد الرابعة، وقال: إنه لا عذر لأحد في ترك العمل به، وكون النبي صلى الله عليه وسلم ما قتله بعد الرابعة قد يكون لعذر، وقد يكون ذلك الذي جلده ثلاث مرات أو أربع لم يكن متهاوناً، ولم يكن من المتساهلين، ولعل له عذراً، وهو واحد وقصتة واحدة، ولا يبطل لأجل هذه القصة العمل بأحد عشر حديثاً مروياً من عدة طرق يقوي بعضها بعضاً بمجموعها يكون كالمتواتر، فلا عذر لأحد من المفتين والعلماء أن يتركوا العمل بهذا الحديث، سيما في الأزمنة المتأخرة التي تساهل الناس فيها بشرب الخمر وصاروا لا يبالون، ويجلد أحدهم ثم يعود، ويذكر الآن أن بعضهم جلد عشر مرات، وربما عشرين، ومع ذلك يخلى سبيله، أو يسجن أياماً ثم يخلى سبيله.

وحيث إن عندنا هذا الحديث الذي أمر فيه بقتله نقول: إن ترك العمل به تهاون وتساهل، حيث وجد سببه، فلا عذر لأحد أن يفتي إذا أفتى بعدم قتله مع وجود الأحاديث، ولو قتل واحد لارتدع الكثيرون، فإنه إذا كان الحد شديداً صار بذلك رادعاً لأولئك الكثير الذين يتعاطون شرب الخمر بالعشرات وبالمئات وبالألوف يومياً أو أسبوعياً ولا يبالون.

خلاف العلماء في المسكر مم يكون ؟

يقول: [وكل شراب مسكر يحرم مطلقاً] بشرط أن يكون مسكراً، وذهب الحنفية إلى أن الخمر تختص بعصير العنب، وقالوا: إنه الخمر المعروف. وأما بقية ما يعصر من المأكولات ونحوها فلا يسمى خمراً، ولا يحرم عندهم إلا إذا بلغ حد الإسكار، وخالفهم بذلك الجمهور الذين يرون أنه خمر من أي شيء صنع، وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن الخمر من خمسة -يعني: في العهد النبوي- يقول: إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من الشعير خمراً، وإن من الذرة خمراً) يعني: ما عصر من هذه وبلغ حد الإسكار فإنه يسمى خمراً، فلا يجوز شربه ولو كان قليلاً.

ودليل ذلك أيضاً الحديث الذي يمكن أنه متواتر ولفظه: (كل مسكر حرام) ، (كل مسكر خمر) ، وقصة أبي موسى لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً من الأشربة في اليمن، منها ما يسمى (البتع)، ومنها ما يسمى: (المزر)، وذكر لـ عمر شراب يسمى الطلاء يشرب في مصر، فكلها ألحقوها بالخمر، ولما سأل أبو موسى النبي صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: (أمسكر هو؟ قال: نعم، قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام) ، فيحرم شرب المسكر، واستثنوا من ذلك إذا كان [لدفع لقمة غص بها مع خوف تلف] ولم يجد ما يدفعها إلا بكأس خمر [ويقدم عليه بول]، فإذا وجد بولاً ووجد خمراً فأيهما يدفع به هذه الغصة؟ يدفعه بالبول، فإذا لم يجد إلا الخمر دفعها به وعفي عنه، هكذا يمثلون، مع أن هذا نادر، نادر أن لا يجد إلا خمراً؛ لأنه يجد المياه، ويجد الألبان، ويجد العصيرات المباحة يدفع بها هذه اللقمة التي غص بها، وإنما ذكروا ذلك تقديراً، فلو قدر أنه ما وجد إلا خمراً فله أن يشرب منه جرعة يدفع تلك الغصة.

شروط حد الخمر

يقول: [فإذا شربه أو احتقن به مسلم مكلف مختاراً عالماً أن كثيره يسكر حد حر ثمانين وقن نصفها].

الاحتقان كونه يحتقن بها مع أنفه مثلاً أو مع شدقه، يعني: أدخل طرف أو حافة المحقن في شدقه وصبها. ولو أدخلها مع دبره صدق عليه أنه أدخلها إلى جوفه، ويشترط لإقامة الحد عليه شروط:

الشرط الأول: أن يكون مسلماً. وذلك لأن أهل الذمة يستبيحون شرب الخمر، أي: اليهود والنصارى، كما في قول الأخطل:

ولكني سأشربها ثمولاً وأسجد عند منبلج الصباح

يفتخر بأنه سيشربها.

الشرط الثاني: أن يكون مكلفاً والمكلف: هو البالغ العاقل، فإذا كان صغيراً لا يعرف أو كان مجنوناً لا يعقل فلا حد عليه؛ لأنه غير مكلف.

الشرط الثالث: أن يكون مختاراً. ويخرج به إذا أكره على شربها وهدد وقيل: إن لم تشربها قتلناك، أو: إن لم تشربها ضربناك ضرباً مبرحاً لا تتحمله. فإن تهاون وشربها مختاراً حد.

الشرط الرابع: العلم، أن يكون عالماً بالتحريم، فإذا كان جاهلاً لا يدري أنها محرمة فلا حد عليه، وكذلك كونه عالماً أنها تسكر، أو أن الكثير منه يسكر ولو كان القليل لا يسكر، فإذا تمت هذه الشروط أقيم عليه الحد إن كان حراً ثمانون جلدة،وإن كان قناً أربعون جلدة، هكذا يجب عليه.

ما يثبت به حد الخمر

الجلد يكون جلداً وسطاً، ليس شديداً وليس خفيفاً وسهلاً، بل يكون جلداً متوسطاً، ذكروا أنه فوق جلد القذف ودون جلد الزنا، ثم لا بد من ثبوت الشرب، وبأي شيء يثبت؟

بإقراره مرة، أو بشهادة عدلين، فإذا أقر بأنه شرب الخمر التي تسكر ثبت عليه الجلد، وإذا شهد عليه شاهدان بأنه قد اعترف فقالا: نشهد أنه اعترف عندنا أنه شرب الخمر أقيم عليه الحد.

وذكروا أيضاً أن القذف يثبت بإقراره، فإذا قال: أنا الذي قذفت فلاناً، أنا الذي قلت: إنه زانٍ، أو: إن فلانة زانية. إذا شهد على اعترافه عدلان فإنه يحد.

وكذلك إذا شهد عدلان على شربه وقالا: رأيناه يشرب فإنه يحد.

مم يكون الخمر ؟

كذلك يقول: [وحرم عصير ونحوه إذا غلى أو أتى عليه ثلاثة أيام].

العصير هو عصير العنب، أو -كذلك- عصير التمر ويسمى النبيذ، فيطرح التمر في الماء إلى أن يكتسب حلاوة، أو يحرك في الماء إلى أن يكسبه حلاوة، وكذلك أيضاً الزبيب إذا خمر في الماء إلى أن يذوب، فإذا غلى ورمى بالزبد فإنه يقرب من الإسكار، وكذلك إذا أتى عليه ثلاثة أيام، ذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في سقاء، يطرح في ذلك السقاء تمر ويصب عليه ماء، فيشرب منه ثلاثة أيام أو يومين ونصف، وإذا بقي بعد ذلك شيء منه أمر أن يشرب أو يراق، يخشى أنه ينعقد ويبلغ حد الإسكار، ففيه دليل على إباحة النبيذ، وكان قد نهى بعضهم عن الانتباذ في بعض الأسقية، ثم رخص لهم أن ينتبذوا فيما شاءوا، ولا يشربوا مسكراً، ففي الحديث: (نهى عن النبيذ في الحنتم والمزفت والنقير والدباء) ، والدباء هو نوع من القرع رأسه دقيق، إذا يبس فإنهم يأخذون جرمه فيجعلون فيه دهناً يحفظون فيه الدهن أو العصير، وحيث إن رأسه دقيق يسرع إليه التغير، فنهى عن النبيذ فيه، وكذلك الحنتم، ويسمى (الزير) الذي يصنع من الطين ونحوه أو الجرار، وكذلك الذي هو مبني بقار أو زفت يسرع إليه التغير، ولكن إذا تحقق أنه لا يتغير جاز الانتباذ فيه.

ولما عرفوا آثارها السيئة نزل تحريمها بعد ذلك بالآيات التي في سورة المائدة، وأخذوا تحريمها من الآيات من عشرة أوجه:

الوجه الأول: أن الله قرنها بالأصنام فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ [المائدة:90] التي هي الأصنام.

الوجه الثاني: قوله تعالى: (رِجْسٌ)، والرجس هو النجس.

الوجه الثالث: قوله تعالى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، والشيطان لا يدعو إلا إلى الحرام وإلى الآثام.

الوجه الرابع: قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوهُ) والاجتناب هو الابتعاد، فهو أبلغ من قول: اتركوه.

الوجه الخامس: قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: يتوقف فلاحكم على تركها.

الوجه السادس قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ [المائدة:91]، فالعداوة بينكم يوقعها الشيطان بسبب هذا الخمر.

الوجه السابع قوله تعالى: الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91].

الوجه الثامن قوله تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المائدة:91] أي: إن مجالسها مجالس باطل تصد عن ذكر الله.

الوجه التاسع: قوله تعالى: وَعَنْ الصَّلاةِ [المائدة:91] أي أنها تشغل عن الصلاة.

الوجه العاشر قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فقالوا: انتهينا انتهينا.

فحرمت الخمر بهذه الآية، ووردت الأدلة في عقوبة شاربها، وأن من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة، مع أن خمر الآخرة ليست مثل خمر الدنيا؛ لقول الله تعالى: لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:47] ، وقوله: وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:18-19] مما يدل على أنها منزهة عما يكون في خمر الدنيا.

كذلك ورد في الحديث أن الذي يشربها ويموت وهو يشربها يسقيه الله من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار.

ثم ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما حد لها حداً محدداً، ولكن إذا جيء بشارب الخمر يقول: اضربوه، فمنهم من يضربه بيده، ومنهم من يضربه بنعل، ومنهم يضربه بعصا نحو الأربعين، هكذا كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بسكران، وكذلك أيضاً في عهد أبي بكر يضرب نحو الأربعين، ولما كان في عهد عمر كثر الذين يتعاطون شرب الخمر، ولم تردعهم أربعون جلدة، وتهاونوا بها، فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة فقالوا: إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون جلدة. والافتراء هو الكذب والقذف، فأمر عمر أن يجلد ثمانين، فصار يجلد هكذا، ولو أن ذلك لم يحدد في العهد النبوي؛ لأن هذا من باب التشديد عليه.

فأكثر الفقهاء على أن حده ثمانون؛ لأن عمر أفتى بذلك ووافقه عليه الصحابة، وذهب بعض المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الحد أربعون، وأن الزيادة تعزير تستعمل عند الحاجة، أي: متى تهافت الناس على ذلك وكثر الذين يتعاطونه وتهاونوا بالأربعين زيد إلى الثمانين، وإن لم تردعهم الثمانون وكثروا وتهاونوا بهذه العقوبة زيد إلى المائة، أو إلى مائة وعشرين؛ لتكون الزيادة تستعمل وقت الحاجة عندما يكثرون، ويتمكنون من الشرب، فعند ذلك يجلد إلى ثمانين، ويجلد إلى مائة، ويجلد إلى مائة وعشرين، ولو احتيج إلى الزيادة زيد لأجل أن يرتدع الناس.

ثم ورد حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شرب أحد الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه) ، هذا الحديث رواه بعض العلماء، وقال بعضهم: إنه منسوخ. وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل شرب الرابعة فلم يقتله، فجزموا بأنه منسوخ، والترمذي لما خرجه قال في آخر كتابه: إنه لم يجد من يعمل به. يعني: لم يكن عليه عمل، ولكن الحديث روي من طرق جمعها الشيخ أحمد محمد شاكر الذي حقق أول المسند، وحقق أول تفسير الطبري، فإنه عندما روى الحديث في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص خرجه وذكر الشواهد عليه، حتى بلغ أحد عشر حديثاً، واستدل به على أنه متواتر.

ثم إنه أفرد هذا القدر وطبعه في رسالة مستقلة في قتل الشارب بعد الرابعة، وقال: إنه لا عذر لأحد في ترك العمل به، وكون النبي صلى الله عليه وسلم ما قتله بعد الرابعة قد يكون لعذر، وقد يكون ذلك الذي جلده ثلاث مرات أو أربع لم يكن متهاوناً، ولم يكن من المتساهلين، ولعل له عذراً، وهو واحد وقصتة واحدة، ولا يبطل لأجل هذه القصة العمل بأحد عشر حديثاً مروياً من عدة طرق يقوي بعضها بعضاً بمجموعها يكون كالمتواتر، فلا عذر لأحد من المفتين والعلماء أن يتركوا العمل بهذا الحديث، سيما في الأزمنة المتأخرة التي تساهل الناس فيها بشرب الخمر وصاروا لا يبالون، ويجلد أحدهم ثم يعود، ويذكر الآن أن بعضهم جلد عشر مرات، وربما عشرين، ومع ذلك يخلى سبيله، أو يسجن أياماً ثم يخلى سبيله.

وحيث إن عندنا هذا الحديث الذي أمر فيه بقتله نقول: إن ترك العمل به تهاون وتساهل، حيث وجد سببه، فلا عذر لأحد أن يفتي إذا أفتى بعدم قتله مع وجود الأحاديث، ولو قتل واحد لارتدع الكثيرون، فإنه إذا كان الحد شديداً صار بذلك رادعاً لأولئك الكثير الذين يتعاطون شرب الخمر بالعشرات وبالمئات وبالألوف يومياً أو أسبوعياً ولا يبالون.

يقول: [وكل شراب مسكر يحرم مطلقاً] بشرط أن يكون مسكراً، وذهب الحنفية إلى أن الخمر تختص بعصير العنب، وقالوا: إنه الخمر المعروف. وأما بقية ما يعصر من المأكولات ونحوها فلا يسمى خمراً، ولا يحرم عندهم إلا إذا بلغ حد الإسكار، وخالفهم بذلك الجمهور الذين يرون أنه خمر من أي شيء صنع، وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن الخمر من خمسة -يعني: في العهد النبوي- يقول: إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من الشعير خمراً، وإن من الذرة خمراً) يعني: ما عصر من هذه وبلغ حد الإسكار فإنه يسمى خمراً، فلا يجوز شربه ولو كان قليلاً.

ودليل ذلك أيضاً الحديث الذي يمكن أنه متواتر ولفظه: (كل مسكر حرام) ، (كل مسكر خمر) ، وقصة أبي موسى لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً من الأشربة في اليمن، منها ما يسمى (البتع)، ومنها ما يسمى: (المزر)، وذكر لـ عمر شراب يسمى الطلاء يشرب في مصر، فكلها ألحقوها بالخمر، ولما سأل أبو موسى النبي صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: (أمسكر هو؟ قال: نعم، قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام) ، فيحرم شرب المسكر، واستثنوا من ذلك إذا كان [لدفع لقمة غص بها مع خوف تلف] ولم يجد ما يدفعها إلا بكأس خمر [ويقدم عليه بول]، فإذا وجد بولاً ووجد خمراً فأيهما يدفع به هذه الغصة؟ يدفعه بالبول، فإذا لم يجد إلا الخمر دفعها به وعفي عنه، هكذا يمثلون، مع أن هذا نادر، نادر أن لا يجد إلا خمراً؛ لأنه يجد المياه، ويجد الألبان، ويجد العصيرات المباحة يدفع بها هذه اللقمة التي غص بها، وإنما ذكروا ذلك تقديراً، فلو قدر أنه ما وجد إلا خمراً فله أن يشرب منه جرعة يدفع تلك الغصة.

يقول: [فإذا شربه أو احتقن به مسلم مكلف مختاراً عالماً أن كثيره يسكر حد حر ثمانين وقن نصفها].

الاحتقان كونه يحتقن بها مع أنفه مثلاً أو مع شدقه، يعني: أدخل طرف أو حافة المحقن في شدقه وصبها. ولو أدخلها مع دبره صدق عليه أنه أدخلها إلى جوفه، ويشترط لإقامة الحد عليه شروط:

الشرط الأول: أن يكون مسلماً. وذلك لأن أهل الذمة يستبيحون شرب الخمر، أي: اليهود والنصارى، كما في قول الأخطل:

ولكني سأشربها ثمولاً وأسجد عند منبلج الصباح

يفتخر بأنه سيشربها.

الشرط الثاني: أن يكون مكلفاً والمكلف: هو البالغ العاقل، فإذا كان صغيراً لا يعرف أو كان مجنوناً لا يعقل فلا حد عليه؛ لأنه غير مكلف.

الشرط الثالث: أن يكون مختاراً. ويخرج به إذا أكره على شربها وهدد وقيل: إن لم تشربها قتلناك، أو: إن لم تشربها ضربناك ضرباً مبرحاً لا تتحمله. فإن تهاون وشربها مختاراً حد.

الشرط الرابع: العلم، أن يكون عالماً بالتحريم، فإذا كان جاهلاً لا يدري أنها محرمة فلا حد عليه، وكذلك كونه عالماً أنها تسكر، أو أن الكثير منه يسكر ولو كان القليل لا يسكر، فإذا تمت هذه الشروط أقيم عليه الحد إن كان حراً ثمانون جلدة،وإن كان قناً أربعون جلدة، هكذا يجب عليه.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح أخصر المختصرات [21] 2741 استماع
شرح أخصر المختصرات [28] 2718 استماع
شرح أخصر المختصرات [72] 2609 استماع
شرح أخصر المختصرات [87] 2572 استماع
شرح أخصر المختصرات [37] 2486 استماع
شرح أخصر المختصرات [68] 2351 استماع
شرح أخصر المختصرات [81] 2342 استماع
شرح أخصر المختصرات [58] 2334 استماع
شرح أخصر المختصرات [9] 2321 استماع
شرح أخصر المختصرات [22] 2271 استماع