شرح أخصر المختصرات [79]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى:

[كتاب الحدود

لا تجب إلا على مكلف ملتزم عالم بالتحريم، وعلى إمام أو نائبه إقامتها.

ويضرب رجل قائمًا بسوط لا خلق ولا جديد، ويكون عليه قميص وقميصان، ولا يبدي ضارب ‏إبطه.

ويسن تفريقه على الأعضاء، ويجب اتقاء وجه ورأس وفرج ومقتل. ‏

وامرأة كرجل، لكن تضرب جالسةً، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها، ولا يحفر لمرجوم، ومن ‏مات وعليه حد سقط.

فيرجم زان محصن حتى يموت، وغيره يجلد مائةً ويغرب عامًا، ورقيق خمسين ولا يغرب، ‏ومبعض بحسابه فيهما.

والمحصن من وطئ زوجته بنكاح صحيح في قبلها ولو مرةً.

وشروطه ثلاثة: تغييب حشفة أصلية في فرج أصلي لآدمي ولو دبرًا، وانتفاء الشبهة، وثبوته بشهادة أربعة رجال عدول في مجلس واحد بزناً واحد مع وصفه أو إقراره أربع مرات مع ذكر حقيقة الوطء بلا رجوع.

والقاذف محصنًا يجلد حر ثمانين، ورقيق نصفها، ومبعض بحسابه.

والمحصن هنا: الحر المسلم العاقل العفيف.

وشرط كون مثله يطأ أو يوطأ لا بلوغه.

ويعزر بنحو: يا كافر يا ملعون يا أعور يا أعرج.

ويجب التعزير في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، ومرجعه إلى اجتهاد الإمام].

الحدود: هي العقوبات على المعاصي، وتطلق الحدود على الأحكام التي حددها الله وبينها، مثل قوله تعالى بعد آيات الصيام: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، وبعد آيات الطلاق: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، فحدود الله هنا أحكامه التي بينها ونهى عن قربها، أي: فعل شيء مما نهى الله عنه في الصيام أو في الاعتكاف ونحوه، وكذلك الاعتداء في النكاح والطلاق وما أشبه ذلك: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]، فهكذا أصل الحدود، وتلك حدود الله، فيذكر الله تعالى الحدود بعد الأوامر والنواهي، وكذلك بعد الأحكام، كقوله بعد أحكام المواريث: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ... [النساء:13].

ولكن اصطلح الفقهاء على تخصيص الحدود بالعقوبات؛ لأن أصل الحد هو الحاجز بين الشيئين، فتقول مثلاً لجارك: هذا القطع حد بيني وبينك، بين ملكي وملكك فهذا الجدار حد بين أهل فلان وأهل فلان، ثم إن الفقهاء استعملوا الحدود للعقوبات، يقولون: الحد عقوبة على ذنب لتمنع من الوقوع في مثلها. أي: أن هذا الحد يشرع فيه عقوبة على ذلك الذنب الذي ارتكبه ذلك المجرم، فيحد -أي: يعاقب- حتى يرتدع هو ويرتدع أمثاله، ولا يعودون إلى ذلك الذنب مرة أخرى، هذا هو الأصل في شرعية هذه العقوبات.

ولا شك أن إقامتها تطهير للبلاد، وتعطيلها نشر للفساد، ورد في بعض الأحاديث: (لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً) بمعنى أنه إذا أقيم الحد كان ذلك زجراً للناس عن هذا الذنب وعن الاعتداء عليه، فيكون بذلك تطهيراً للبلاد عن هذه المعاصي وتطهيراً للبلاد عن هذه المحرمات، وذلك مما يسبب رحمة الله لهم، حيث إنهم تابوا وأقلعوا عن الذنوب وابتعدوا عن هذه المحرمات، ولكن إذا أصروا واستمروا ولم يكن هناك عقوبات فإن المعاصي تكثر، ويكون من آثارها حرمان الله تعالى فضله، وحجزه عنهم رحمته، فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.

فيعلم بذلك أن الله تعالى ذكر هذه الحدود لتكون زواجر عن الآثام وعن الحرمات، وقد تقدم حد منها، وهو القصاص، وأنه شرع لأجل أن يتوقف المعتدي فلا يتعدى حده، بل يتوقف ولا يقدم، ولذلك قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179] يعني أن سبب شرعيته حتى يقل القتل، حتى إذا هم بقتل مسلم وتذكر أنه سوف يقتل عند ذلك ينزجر ويترك الاعتداء ، فكذلك بقية العقوبات، فمثلاً عقوبة الزنا جعل الله تعالى فيها حد الجلد أو الرجم، وذلك لأنها محرمة، ولما يترتب عليها من المفاسد، فإذا هم بأن يزني وتذكر أنه سوف يرجم أو سوف يجلد ويغرب أو يحبس ويطال حبسه ترك هذا المحرم؛ لأنه يترتب عليه فضيحته، وسيترتب عليه أذى له، فينزجر ويتوب عن هذا الفعل.

كذلك أيضاً إذا همّ بأن يسرق وعرف بأنه سوف تقطع يده إذا سرق، ففكر وقال: ما قيمة هذه السرقة مقابل هذا المال الذي سوف آخذه؟ أين يقاس بيدي التي فيها نصف الدية؟ فيتراجع ويترك السرقة، وهكذا إذا هم بأن يشرب الخمر، وعرف بأنه إذا شربها فإنه لابد سيعاقب ويجلد ويشهر بأمره، فيقول: ما نتيجة هذه الشربة التي هي لذة لحظات ثم لا أستفيد منها إلا الخجل والفشل والألم الذي هو هذا الجلد الذي يعود علي بالضرر؟! فيرجع إلى نفسه ويعلم أنه لا حاجة له في هذا الشيء الذي لذته يسيرة وعقوبته شنيعة، هذا هو السبب، فهذه عقوبات دنيوية تزجر كثيراً من الناس.

مع أن الله تعالى قد توعد بعقوبات أخروية أشد وأشد، والعقوبات في الآخرة أشد، وهي حرمانهم من ثواب الله وجنته، ودخولهم النار أو تعرضهم لسخط الله، فيفكر أيضاً إذا كان معه إيمان وعقل أنه لا مقاومة ولا مقاربة بين هذه اللذة العاجلة وبين حرمان ثواب الله ورضاه أو الحصول على غضبه وعذابه في الآخرة، فيعرف أن هذه اللذة وقتها يسير وعاقبتها سيئة.

ولذلك ينزجر عنها العاقل إذا تذكر عقوبتها وتذكر أن مسرته هذه يعقبها مساءة شديدة وإساءة دائمة، حتى يقول بعضهم:

مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم إنها شبه أنصاب

فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب

يعني: لو أنك عشت في سرور مدة كبيرة وأحقاباً طويلة ثم لقيت بعدها مساءة يوم أو مساءة ساعة نسيت ما كنت فيه من تلك المسرات، وذهبت كأنها ليست شيئاً، فكيف إذا كانت المسرة ساعة أو يوماً أو أياماًقليلة؟! فإن الدنيا كلها قليلة، وحياتك منها قليلة، ولهذا الكفار إذا قيل لهم: كم لبثتم يقولون: لبثنا يوماً أو بعض يوم، مع أنهم لبثوا عشرات السنين، ولكن نسوا ما كانوا فيه من لذة الدنيا وشهوتها، ورد أيضاً في الحديث أنه: (يجاء بأنعم الناس في الدنيا -من أهل الكفر أو من أهل المعاصي- فيغمس في النار غمسة، فيقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط، هل مرت بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ما رأيت خيراً قط، وما مر بي نعيم قط. ويجاء بأبأس الناس في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة، فيقال: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط، هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا يارب)، أهل النار إذا غمسوا فيها مرة نسوا ما كانوا في الدنيا من ملذاتهم وشهواتهم وسكرهم ومكرهم ولهوهم وسهوهم وخمرهم وزمرهم وزناهم وفواحشهم التي يتلذذون بها في الدنيا ويرفهون به عن أنفسهم ساعة واحدة أو أقل، إذا غمسوا في العذاب نسوا ذلك كله كأنه لم يكن.

ويقول بعض الشعراء:

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار

يعني: اللذة التي في الدنيا هي لذة زنا ولواط، ولذة فاحشة وسكر، ولذة غناء، ولذة كبر، ولذة رفاهية، ولذة تمتع في المحرمات وما أشبهها. وترفيه -كما يقولون- وتسلية وما أشبه ذلك هل تدوم؟ تبقى معه ساعة أو سويعات أو نحو ذلك ثم كأنه لم يتمتع بتلك الملذات، ولكن يبقى عليه الإثم الذي يعاقب عليه في الآخرة، ويبقى عليه التعرض للعذاب، وتبقى عليه التبعات، فكيف -مع ذلك- يقدم وهو يعلم أنه سيستمر العذاب على ذلك، فلا خير في لذة من بعدها النار.

وحيث إن الكثير من الناس يقدمون القريب على البعيد والحاضر على الغائب، وينظرون إلى ما أمام أعينهم، ويغفلون عما وعدوا به، ويتناسون وعيد الله تعالى على هذه المعاصي والمحرمات، فتحملهم تلك المناظر البراقة وتلك الشهوات، والنفس الأمارة بالسوء على أن يندفعوا لفعل هذه المحرمات ويقعوا فيها، ولا يفكرون في العواقب، ثم بعد ذلك ينتبهون، فما ينتبهون إلا وقد وقعوا، ثم ربما يعودون مرة ثانية وثالثة ومراراً.

لما كان كذلك شرع الله تعالى هذه العقوبات الدنيوية لتكون زاجرة لهؤلاء الذين إيمانهم ضعيف، وناهية لهم عن الوقوع في هذه الآثام والمحرمات، فمن كان معه إيمان ويقين زجره إيمانه ولو لم يكن معه أحد يراقبه، ومن ضعف إيمانه اندفع بشهوته إلى أن يفعل الآثام وأنواع الإجرام.

أولاً: على المسلم أن يجدد إيمانه وعقيدته، فيؤمن بأن الله تعالى هو ربه وخالقه، والرب هو المعبود، ويؤمن كذلك بأن الله تعالى تعبده، أي: أمره ونهاه، فأصبح عبداً لله سبحانه وتعالى، والعبد عليه أن يطيع ربه وخالقه.

ثانياً: أن يعلم أن الله حرم هذا وأباح هذا، فيفعل ما هو مباح أو ما هو واجب يتقرب به، ويبتعد عما هو محرم وإثم كبير فيتركه خوفاً من الله.

ثالثاً: ليعلم أنه إذا أطاع الله وفعل ما أمر به فإن الله تعالى يثيبه في دنياه وأخراه، ويعطيه أجراً كبيراً، وأنه إذا عصى الله تعالى ووقع في هذه الآثام فإنه قد توعده بأنه يعاقبه ويعذبه في دنياه وأخراه.

فمن كان معه هذا الإيمان زجره عن المعاصي ولو كانت الدوافع إليها شديدة، وزجره عن الزنا والخنا وما أشبه ذلك ولو كانت متيسرة أسبابه.

فنضرب مثلاً بنبي الله يوسف عليه السلام، كونه شاباً في غاية الشباب، وجميلاً في غاية الجمال، وكونه في بيت سيده الذي ملكه ظلماً، وكون امرأة ذلك السيد من أجمل النساء، وكونها غلقت الأبواب ودعته إلى نفسها، كما قال تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23]، ولكن ما الذي حجزه مع الدافع القوي؟

حجزه برهان ربه، حجزه الإيمان، حجزه إيمانه وخوفه من الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] اعترف بأن الله تعالى هو ربه، وأنه أحسن مثواه، وأنه توعد على ذلك بالعقوبة، فلاشك أن هذا أثر الإيمان القوي، يكون زاجراً لمن كان معه هذا الإيمان القوي.

لذلك ذكر ابن رجب أن رجلاً خلا بامرأة في ليلة وراودها عن نفسها وقال: ما يرانا إلا الكواكب. قالت: فأين مكوكبها؟ فذكرته أن الله تعالى هو يراهما، وهو الذي كوكبها، أي: خلقها وسيرها، لا تخفى عليه خافية: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218-219].

وأن آخر خلا بامرأة في منزل وهم بها، فأظهرت له المطاوعة، وقال لها: أغلقي الأبواب. فقال بعد ذلك: هل أغلقت جميع الأبواب؟ قالت: بقي باب واحد، الذي بيننا وبين الله. فارتعد وخاف وخرج.

وكذلك وردت قصة في الصحيحين قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فأحدهم توسل بعفته، أنه كانت له ابنة عم يحبها حباً شديداً كأشد ما يحب الرجال النساء، وأنه أرادها على نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها في سنة من السنين حاجة شديدة، فجاءت إليه تقترض منه أو تستجدي، فامتنع حتى تمكنه من نفسها ويبذل لها مائة دينار، يقول: فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فقام عنها خوفاً من الله وترك المال الذي أعطاها.

فهؤلاء الذين يقعون في فواحش الزنا واللواط ومقدمات ذلك ليس معهم إيمان يزجرهم، ولكن لديهم نفوس ضعيفة وشهوات ضعيفة تدفعهم إلى فعل هذه الفواحش، فلو لم يكن هناك عقوبات جلد ورجم وتغريب وحبس ونحو ذلك لانتشر هؤلاء وانتشرت الفواحش، وإذا انتشرت فماذا تكون الحالة؟

لا شك أنها تحصل المنكرات، وأن الله تعالى ينزل عليهم العقوبات والأمراض التي لم تكن في أسلافهم من قبل، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث: (ما فشت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، فهذا هو الواقع، لذلك ذكر العلماء هذه الحدود والعقوبات.

من تجب عليه إقامة الحدود

يقول: [لا تجب إلا على مكلف ملتزم عالم بالتحريم].

فهذه شروط من تجب عليه، والمكلف: هو البالغ العاقل، فإذا وقع في الزنا أو اللواط صغير دون البلوغ فمثل هذا غير مكلف؛ لعدم العقل التام الذي يزجره، وكذلك لو وقع فيه مجنون مسلوب العقل أو ضعيف العقل أو ضعيف المعرفة فمثل هذا أيضاً ليس معه ما يزجره، ليس معه من العقل ما يزجره ويدفعه إلى فعل هذه الجريمة أو إلى تركها، فهو ضعيف العقل أو مسلوبه، فمثل هذا أيضاً لا يقام عليه الحد.

وأما الملتزم فيخرج الكفار الذين ليسوا بملتزمين، ويدخل الملتزم منهم مثل الذمي، أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس إذا كانوا يؤدون الجزية يلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض، وإقامة الحدود عليهم بما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله، ولذلك رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين اللذين زنيا في عهده، مع أنهما ليسا بمسلمين، ولكن كانا ملتزمين، أي: خاضعين للعهد والذمة، فهؤلاء تقام عليهم الحدود، وأما الذين ليسوا تحت ولاية المسلمين أو الحربيون فلا ولاية للمسلمين عليهم، ولا تقام عليهم الحدود؛ لأن ذنبهم أكبر.

الشرط الثالث: كونه عالماً بالتحريم، أي: يعرف أن هذا الذنب حرام، فأما لو أسلم وبقي في بلاد ليس فيها علم وفعل الزنا ونحوه فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه جاهل لم يصل إليه العلم، ولا درى أن الله تعالى حرم هذا الذنب، فلا بد أن يكون معه علم بأن هذا محرم.

من يقوم بتطبيق الحدود

يقول: [وعلى إمام أو نائبه إقامتها].

الذي يتولى إقامة الحد هو الإمام، كأمير البلد أو وكيله، وهكذا أيضاً القاضي إذا كان مفوضاً، ويجوز أن يوكل الأمراء نواباً لهم، فيقول الأمير: أنت -أيها الوكيل في البلدة الفلانية- عليك أن تقيم الحدود، وأنت -أيها القاضي- قد فوضناك في إثبات الحدود وإقامتها. والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل رجلاً يقال له: أنيس الأسلمي ، قال: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، وكله في الاعتراف وإثبات الحد، ثم وكله في إقامة الحد، فاعترفت فرجمها.

وقصة ذلك أن رجلين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت ابني بمائة شاة وليدة، ثم سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، ففيه دليل على إثبات الحدود، ثم بعد ذلك إقامتها.

كيفية تطبيق الجلد وما يشترط فيه

الحدود إما القتل في القصاص، أو قطع اليد قصاصاً، أو الرجم -وهو أشدها- في الزنا، أو الجلد في الزنا والتغريب فيه، وقطع اليد في السرقة، والجلد في القذف وفي السكر، والقتل وما معه في قطع الطريق، هذه هي الحدود وما أشبهها، ويكون هناك باب أيضاً في التعزير، وهي العقوبات في حد لا يصل إلى الذنب الذي فيه عقوبة مقدرة، فهذا الكتاب فيه باب الرجم، وفيه باب الجلد، وفيه باب التغريب، وفيه باب حد المسكر، وحد القذف، وقطع اليد في السرقة، وحد قطاع الطريق، وحد البغاة، وحد المرتد، وهذه الحدود كلها تحت هذا الكتاب.

وإذا ثبت الحد الذي هو الجلد فإنه [يضرب رجل قائماً بسوط لا خلق ولا جديد، ويكون عليه قميص أو قميصان، ولا يبدي ضارب إبطه] هكذا ذكروا، فالرجل إذا جلد في الزنا أو في الخمر أو جلد في القذف فإنه يضرب وهو قائم، ومن العلماء من أجاز أن يضرب وهو مضطجع على بطنه، ولكن كأنهم اختاروا أن يضرب وهو قائم.

والآلة التي يضرب بها تكون من عصا، ولا تكون قوية شديدة تشق جلده أو تعطل عليه بعض المنافع، ولا تكون خلقة لا تؤثر فيه، بل تكون وسطاً، روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد جلد رجل، فجيء بسوط جديد فقال: (دون هذا)، فجيء بسوط رديء فقال: (فوق هذا)، يعني أنه لا يشدد عليه بالسوط الجديد الذي قد يؤدي إلى قتله، وكذلك لا يضرب بالسوط الرديء الذي لا يؤثر فيه، بل يكون السوط وسطاً، والسياط قديماً تؤخذ من العصي كجريد النخل، فإذا كان متيناً يؤثر عليه، وإذا كان دقيقاً كرأس العسيب ونحوه لا يؤثر، وأما إذا كان متوسطاً فإنه الذي يؤثر ولا يضره، أي: لا يمته.

وتعمل السياط اليوم من السيور، أي: سيور الجلد ونحوه، وكذلك من الحبال أو من الخيوط يعملون سوطاً يفتلون بعضه في بعض، ثم بعد ذلك يجلدون به ذلك المجرم؛ لأنه الذي يكون ليناً بحيث يلتوي على جلده وظهره أو على فخذيه أو ما أشبه ذلك.

[ولا يجرد] يعني: لا تخلع ملابسه حتى يبدو جلده، ولكن يكون عليه قميص أو قميصان من هذه الثياب العادية من القطن ونحوه؛ لأنها لا تمنع وصول الألم إلى جلده.

[ويمنع أن يكون عليه عباءة غليظة] وكذلك ثوب غليظ، كما يسمى بالكوت ونحوه؛ لأن هذا قد لا يوصل الضرب والألم إلى جلده.

ثم الضرب يكون وسطاً ليس شديداً ولا ضعيفاً، وحددوه بأنه إذا رفع يده لا يرى إبطه، فالضارب يضرب ولا يرفع يده كثيراً، بل يرفعها ثم يجلد، ولكن يتفاوت الضرب وتتفاوت العقوبات، فمثل الزنا يشدد عليه، قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] يعني: لا ترحموه؛ فإن ذنبه كبير. ومعنى ذلك أنكم تشددون عليه، فلا ترحمونه، (ولا تأخذكم بهما رأفة) لا تأخذكم بالزاني رأفة فتخففوا عنه الجلد. ونرى بعض الجلادين لا يحرك إلا كفه، فمثل هذا لا يؤثر، وبعضهم يشدد فيرفع يده كلها على نحو مترين ثم يضرب بقوة، وهذا شديد أيضاً قد يشق الجلد، فالجلد في الزنا يكون شديداً ولكن ليس إلى الشدة في النهاية. وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2].

وأما الجلد في القذف فهو دون الجلد في الزنا، وكأنه أخفها، فالجلد في القذف أخف حدود الجلد، وأما الجلد في السكر فيكون وسطاً بين جلد القذف وبين جلد الزنا.

يقول: [ويسن تفريقه على الأعضاء].

إذا كان قائماً يضرب ظهره وكتفيه وعضديه، ويضرب أسفل ظهره، ويضرب فخذيه وساقيه، ويضرب طولاً وعرضاً، وكذلك أيضاً يضرب فخذيه من الأمام والخلف، وساقيه من الأمام والخلف، وإليتيه من الخلف، وظهره كله وكتفيه، يفرقها على الأعضاء.

قال: [ويجب اتقاء وجه ورأس وفرج ومقتل].

وذلك لأن هذه قد يؤثر فيها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه) يعني: لا يضرب الوجه. ولأن الوجه فيه الحواس، فيخاف أن يقضي على سمعه وبصره ولسانه وفمه وعلى أنفه، فيظهر أثر ذلك، ويفوّت عليه بعض الحواس، فلا يجوز الضرب في الوجه، وكذلك الرأس، ولو ضرب الرأس فقد يسبب موتاً، سيما إذا كان الضرب شديداً، وكذلك لا يضرب الفرج والقبل، أما الدبر فإنه يضرب الإليتين، فلا يضرب الفرج الذي هو القبل من رجل أو امرأة.

ويتجنب المقاتل، فلا يضرب رقيق البدن، وكذلك البطن مثلاً، فلو ضرب بسوط شديد لأتلفها أو شق جلد البطن أو نحو ذلك، وكذلك القلب لو ضربه فوق قلبه أو مقابل كليتيه لعطلهما، فلذلك لا يضربه في المقاتل.

قال: [وامرأة كرجل].

يعني: إذا وجب عليها الجلد فإنها تجلد كما يجلد الرجل في الزنا، والقذف، والسكر، لكن تضرب جالسة؛ لئلا تتكشف، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها، أي: تربط يداها؛ فإنها لو ضربت وهي قائمة لأوشك أن بعض الجلدات تكشف الثوب عن بعض جسدها فتتعرى، بخلاف ما إذا كانت جالسة، فإذا كانت جالسة يكون الجلد على الظهر والعضدين وأسفل الظهر، وتضرب أيضاً من الأمام على الساقين، أو تضرب من الجانب الأيمن على الحقوين والفخذ ونحو ذلك، ويفرق الضرب والجلد عليها.

وتشد عليها ثيابها لئلا تتكشف، أي: تشد من الأسفل ثيابها إن كانت قميصاً أو نحوه، ويشد الخمار على رأسها ووجهها، وأكمامها تربط حتى لا تتكشف ولا ينحسر شيء من ثيابها، وتمسك يداها بخيط إلى رقبتها حتى لا تمد يديها.

قال: [ولا يحفر لمرجوم].

إذا أريد أن يرجم فإنه لا يحفر له قبر، بل يترك على وجه الأرض ثم يرجم، ويرى بعض العلماء أنه يوثق، يعني: تربط رجلاه حتى لا يهرب.

قال: [ومن مات وعليه حد سقط].

يعني: ثبت الحد عليه، وقبل أن يقام عليه الحد مات، فلا يقام على أولاده؛ لأنهم ما أذنبوا، ولا على أحد من ورثته، وهل يجلد بعد أن مات؟! لا، سقط عنه الحد.

وأما لو مات تحت السياط فلا دية له، فإذا أقيم عليه الحد ومات بسبب الجلدات التي يجلد بها فليس هناك دية على الجلاد؛ لأنه حق، ورد في عبارة الفقهاء أنهم ينقلون ذلك عن بعض الصحابة: (من مات بحد فالحق قتله).

كيفية تطبيق الرجم

أما الرجم فلابد أن يكون الزاني محصناً، فإذا زنى وهو محصن فإنه يرجم حتى يموت، والرجم قذفه بالحجارة، تكون الحجارة ملء الكف أو أصغر، ويكون الزاني واقفاً أو جالساً، ويقيد حتى لا يهرب على الصحيح، ثم الذين يرجمونه يرجمونه في كل مكان؛ لأنه سوف يرجم إلى أن يموت، فلو أصاب الحجر رأسه فلا إثم في ذلك، كما في قصة الغامدية، ابتدءوا برجمها في رأسها، ولما رجمها خالد بن الوليد وأصاب الرأس فنزف الدم عليه سبها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) يعني: لا تسبها، وقال لـعمر: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!)، ولذلك صلى عليها.

والرجم يكون مع كل جهة، فيصيب الحجر الوجه والرأس، ويصيب القلب والبطن، ويصيب الجنب، ويصيب الكلية، ويصيب الفرج، يرجمونه إلى أن يموت، فإذا مات تحت الحجارة كان ذلك هو حده وعقوبته.

والرجم كان موجوداً في شريعة اليهود، ولما زنى منهم اثنان عند ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبروه بما عندهم، فأخبروه بغير الصحيح، وكان عبد الله بن سلام يعرف أن الرجم موجود في التوراة، فجيء بالتوراة فنشروها، يقول بعضهم: فوضع أصابع يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال ابن سلام : ارفع يدك، فإذا آية الرجم تلوح، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم.

ثم اعتذروا وقالوا: إن الزنا كثر فينا، وكثر في أشرافنا، فزنى أحد أقارب بعض الملوك فتركوه ولم يقيموا عليه الحد، ثم زنى أحد الضعفاء والفقراء، فأرادوا أن يرجموه، فقال قومه: لا يرجم حتى يرجم فلان، فاصطلحوا على عقوبة يقيمونها على الصغير والكبير، والشريف والوضيع وهي التحميم، أي: يحممون وجهه بسواد ويركبوهما -الزاني والزانية- على حمار مقلوبين، ويطوفون بهما في الناس قائلين: إن هذا قد فعل كذا وكذا فلما ظهر أنهما يرجمان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! إني أحييت سنة قد أماتوها)، وروي أنه وجد في القرآن آية كانت من المنسوخ، فذكروا عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن مما أنزل الله آية الرجم، قرأناها وسمعناها، ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان فيقولوا: لا نجد الرجم في القرآن، فيضلوا بترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالرجم مشروع وعقوبة شرعية.

شروط الرجم بالزنا

شروطه: الإحصان، وثبوت الزنا، فيرجم حتى يموت، وأما غير المحصن فيجلد مائة ويغرب عاماً، يجلد مائة جلدة، ويغرب سنة، وغير المحصن هو البكر، وأول ما نزل في حد الزنا قول الله تعالى في سورة النساء: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:15-16]، فكانوا في أول الإسلام يحبسون الزاني والزانية، ويطيلون حبسه لقوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ).

بعد ذلك نزلت الآيات في أول سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ... [النور:2] إلخ الآيات، ونزلت أيضاً آية الرجم التي نسخت، وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، فهذا حديث صحيح عند مسلم وغيره، وفي هذا الحديث أن الزاني إذا كان محصناً يجمع له بين العقوبتين، أولاً: يجلد مائة جلدة عملاً بقوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]؛ فإن الآية عامة للمحصن ولغيره فيجلد المحض مائة جلدة ثم بعد ذلك يرجم.

وروي عن علي رضي الله عنه أنه زنت امرأة في عهده يقال لها: شراحة ، ولما زنت وثبت زناها جلدها في يوم الخميس، ثم رجمها في يوم الجمعة وقال: (جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هكذا جمع بينهما، والحديث فيه الجمع: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، لكن المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على الرجم في قصة ماعز الأسلمي حين زنى واعترف، وكان قد تزوج، فاقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على رجمه، وجاءت بعده المرأة التي زنى بها يقال لها: الغامدية فاعترفت، ولم يجلدها، بل أمر بها فرجمت.

وهناك قصة أخرى لامرأة من جهينة، وهذه أيضاً قد وقعت في الزنا فاقتصر على رجمها، وقصة اليهوديين اقتصر على رجمهما ولم يأمر بالجلد قبل الرجم، فهذه القصص تفيد أنه لا حاجة إلى أن يجمع بين الحدين، بل يقتصر على الرجم والرجم كافٍ، وذلك لأنه يأتي على الحياة، وقالوا: إنه لما تلذذ جسده كله بتلك الشهوة المحرمة ناسب أن يعذب وأن يتألم جسده كله بهذه العقوبة، فهذا الجسد الذي تلذذ بلذة محرمة يعاقب بعقوبة شديدة تعمه كله وهو الرجم، ولأنه قد أنعم الله عليه، حيث قد تزوج ودخل بزوجته، فعدل عن الحلال إلى الحرام، فكانت عقوبته أشد.

ويعم ذلك ما لو كان قد طلق، فإذا زنى بعد أن تزوج ودخل بامرأته وطلق امرأته -أي: ليست عنده امرأة- صدق عليه أنه محصن، فعند ذلك يرجم، وأما غيره وهو البكر الذي لم يسبق له زواج فعقوبته الجلد، يجلد مائة ويغرب سنة، والتغريب أن يبعد عن وطنه وأن ينفى إلى بلد بعيد، والحكمة في ذلك أن يفقد من كان يعرفه، ويبتعد عن الأماكن التي فيها فساد؛ لأنه قد يكون في بلده يعرف بيوت الدعارة ويعرف مجتمعات فاسدة ويعرف أمكنة الخنا ونحو ذلك، فمن عقوبته أن يغرب إلى بلد لا يعرف فيها شيئاً، ولا يتمكن فيها من أن يتصل بأحد من أهل الفساد والشرك، ويبتعد عن بلده التي عرف فيها أشراراً، فلعله إذا رجع لا يعود إلى ذلك.

لكن في هذه الأزمنة قد تكون الغربة سبباً في زيادة شره؛ لأنه قد يغرب إلى بلد أشد فساداً، فكثير من البلاد إسلامية أو غير إسلامية الزنا فيها أكثر من بعض، وإذا غرب إليها فإنه قد يعجبه ذلك، ويسر به ويقول: الآن تمكنت مما أريد، والنساء فيها كثير، والمرأة تبذل نفسها بدون إكراه. فيكون تغريبه زيادة في إفساده، فلذلك يرى بعض المشايخ أن بدل النفي السجن، فيدخل في السجن لمدة سنة، ويكون بذلك قد تاب إذا سجن وضيق عليه، فلعله يتأثر ويبتعد عن الأماكن التي فيها الفساد.

والحاصل أن هذه العقوبة تكون زاجرة عن هذا الذنب الكبير، والذين عطلوها انتشرت فيهم الفواحش، في بعض البلاد التي هي بلاد إسلامية أو فيها إسلام عطلت فيها هذه الحدود، فلا يسمع فيها بجلد على زنا، وكذلك بسجن عليه ولا برجم، بل توجد فيها الإباحية، حيث يزعمون أنه إذا بذلت المرأة نفسها باختيارها وبدون غصب أو نحوه فهو حق لها، وقد بذلته باختيارها فكيف مع ذلك تعاقب؟! والذي فعل بها ما غصبها فلا عقوبة عليه؛ لأنها بذلت ما تملكه، فيعطلون هذا، بل يمنعون أباها من التصرف فيها ومن منعها، فإذا كانت تفعل ذلك باختيارها لا يقدر أبوها ولا ولي أمرها على منعها، فلا شك أنه بهذا تنتشر هذه الفواحش، فالمرأة معها شهوة، ولأنها ضعيفة الإرادة، ولأن إيمانها ضعيف فليس معها ما يزجرها، فإذا سمح لها ووجدت من يفجر بها مع كثرة الأشرار والفجار تعظم المصيبة ويكثر الفساد، فلذلك انتشرت الفواحش في تلك الدول التي أباحت للمرأة بذل نفسها.

أما إقامة الحدود في البلاد التي تطبق شرع الله فإن الفواحش فيها أقل، وإن كان الشر كثيراً.

إقامة الحد على المملوك

لما ذكر الجلد والتغريب ذكر أن الرقيق المملوك عقوبته خمسون جلدة ذكراً أم أنثى، وأخذ ذلك من القرآن الكريم في سورة النساء، فذكر الله تعالى الإماء في قوله تعالى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ [النساء:25] والمراد الإماء، إذا أتين بفاحشة -يعني: بزنا- فعقوبتهن نصف عقوبة المحصنة، والعقوبة التي في القرآن للمحصنات مائة جلدة، ونصفها خمسون جلدة، فإذا زنت الأمة فإنها تجلد خمسين جلدة، ولا تغرب، ولا يغرب الرقيق ذكراً أم أنثى؛ لأن تغريبه يفوت منفعته وخدمته لسيده، والسيد ما أذنب.

والصحابة بعضهم فهموا من قول الله تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ [النساء:25] أن المراد بإحصانهم الزواج، فقالوا: يا رسول الله! إذا زنت الأمة ولم تحصن -أي: ما عقوبتها-؟ فقال: (إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بحبل من شعر)، وفي حديث آخر: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرب) يعني: لا يوبخها بهذا ولا يعيبها ويعيرها؛ لأن الزنا في الإماء كثير، وأما في الحرائر فإنه عيب، وفي قصة مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في قريش كان من جملتهن: هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان ، بايعهن وقرأ عليهن الآية في آخر سورة الممتحنة: عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ [الممتحنة:12]، فلما قال: (وَلا يَزْنِينَ) قالت هند : يا رسول الله! وهل تزني الحرة؟ استغراباً واستنكاراً؛ لأن الزنا إنما يكون في الإماء المماليك.

وقد ذكروا أن ابن أبي المنافق كان له أمتان، فكان يكرههما على الزنا ويقول: اذهبي فابغي لنا، والبغاء هو الزنا، والبغي هي الزانية، يكلفها ويكرهها أن تذهب وتزني وتأخذ أجرة وتأتي بها إلى سيدها، فأنزل الله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور:33]، والبغاء هو الزنا، أي: لا تكرهوهن على فعل فاحشة الزنا إذا أردن تحصناً وتحفظاً وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33]، فإذا أكرهت -سواءٌ أكرهت على الزنا أم أكرهها سيدها على أن تزني- فلا ذنب عليها، والذنب على سيدها.

فالحاصل أن الرقيق ذكراً أو أنثى حده خمسون جلدة، وليس عليه تغريب، وأما المبعض فبحسابه، إذا كان -مثلاً- نصفه حر ونصفه رقيق فيجلد لكونه رقيقاً خمسين جلدة، ويجلد نصفه خمساً وعشرين جلدة، فيكون جلد الذي نصفه حر خمس وسبعون جلدة، والتغريب يغرب ثلاثة أشهر؛ لأنه سقط عنه التغريب كله بسبب كونه رقيقاً، ولما كان نصفه رقيقاً أخذنا نصف النصف فغربناه ربع السنة، هذا ما نقول، فكل مبعض بحسابه فيهما.

ومن المراد بالمحصن في قوله: [فيرجم زان محصن]؟

المحصن من وطئ زوجته بنكاح صحيح في قبلها ولو مرة. فمن تزوج زواجاً صحيحاً كامل الشروط، ودخل بامرأته وتمكن منها ووطئها في نكاح صحيح ولو مرة واحدة صدق عليه أنه محصن، وأنه هو الذي يرجم.

يقول: [لا تجب إلا على مكلف ملتزم عالم بالتحريم].

فهذه شروط من تجب عليه، والمكلف: هو البالغ العاقل، فإذا وقع في الزنا أو اللواط صغير دون البلوغ فمثل هذا غير مكلف؛ لعدم العقل التام الذي يزجره، وكذلك لو وقع فيه مجنون مسلوب العقل أو ضعيف العقل أو ضعيف المعرفة فمثل هذا أيضاً ليس معه ما يزجره، ليس معه من العقل ما يزجره ويدفعه إلى فعل هذه الجريمة أو إلى تركها، فهو ضعيف العقل أو مسلوبه، فمثل هذا أيضاً لا يقام عليه الحد.

وأما الملتزم فيخرج الكفار الذين ليسوا بملتزمين، ويدخل الملتزم منهم مثل الذمي، أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس إذا كانوا يؤدون الجزية يلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض، وإقامة الحدود عليهم بما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله، ولذلك رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين اللذين زنيا في عهده، مع أنهما ليسا بمسلمين، ولكن كانا ملتزمين، أي: خاضعين للعهد والذمة، فهؤلاء تقام عليهم الحدود، وأما الذين ليسوا تحت ولاية المسلمين أو الحربيون فلا ولاية للمسلمين عليهم، ولا تقام عليهم الحدود؛ لأن ذنبهم أكبر.

الشرط الثالث: كونه عالماً بالتحريم، أي: يعرف أن هذا الذنب حرام، فأما لو أسلم وبقي في بلاد ليس فيها علم وفعل الزنا ونحوه فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه جاهل لم يصل إليه العلم، ولا درى أن الله تعالى حرم هذا الذنب، فلا بد أن يكون معه علم بأن هذا محرم.

يقول: [وعلى إمام أو نائبه إقامتها].

الذي يتولى إقامة الحد هو الإمام، كأمير البلد أو وكيله، وهكذا أيضاً القاضي إذا كان مفوضاً، ويجوز أن يوكل الأمراء نواباً لهم، فيقول الأمير: أنت -أيها الوكيل في البلدة الفلانية- عليك أن تقيم الحدود، وأنت -أيها القاضي- قد فوضناك في إثبات الحدود وإقامتها. والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل رجلاً يقال له: أنيس الأسلمي ، قال: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، وكله في الاعتراف وإثبات الحد، ثم وكله في إقامة الحد، فاعترفت فرجمها.

وقصة ذلك أن رجلين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت ابني بمائة شاة وليدة، ثم سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، ففيه دليل على إثبات الحدود، ثم بعد ذلك إقامتها.

الحدود إما القتل في القصاص، أو قطع اليد قصاصاً، أو الرجم -وهو أشدها- في الزنا، أو الجلد في الزنا والتغريب فيه، وقطع اليد في السرقة، والجلد في القذف وفي السكر، والقتل وما معه في قطع الطريق، هذه هي الحدود وما أشبهها، ويكون هناك باب أيضاً في التعزير، وهي العقوبات في حد لا يصل إلى الذنب الذي فيه عقوبة مقدرة، فهذا الكتاب فيه باب الرجم، وفيه باب الجلد، وفيه باب التغريب، وفيه باب حد المسكر، وحد القذف، وقطع اليد في السرقة، وحد قطاع الطريق، وحد البغاة، وحد المرتد، وهذه الحدود كلها تحت هذا الكتاب.

وإذا ثبت الحد الذي هو الجلد فإنه [يضرب رجل قائماً بسوط لا خلق ولا جديد، ويكون عليه قميص أو قميصان، ولا يبدي ضارب إبطه] هكذا ذكروا، فالرجل إذا جلد في الزنا أو في الخمر أو جلد في القذف فإنه يضرب وهو قائم، ومن العلماء من أجاز أن يضرب وهو مضطجع على بطنه، ولكن كأنهم اختاروا أن يضرب وهو قائم.

والآلة التي يضرب بها تكون من عصا، ولا تكون قوية شديدة تشق جلده أو تعطل عليه بعض المنافع، ولا تكون خلقة لا تؤثر فيه، بل تكون وسطاً، روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد جلد رجل، فجيء بسوط جديد فقال: (دون هذا)، فجيء بسوط رديء فقال: (فوق هذا)، يعني أنه لا يشدد عليه بالسوط الجديد الذي قد يؤدي إلى قتله، وكذلك لا يضرب بالسوط الرديء الذي لا يؤثر فيه، بل يكون السوط وسطاً، والسياط قديماً تؤخذ من العصي كجريد النخل، فإذا كان متيناً يؤثر عليه، وإذا كان دقيقاً كرأس العسيب ونحوه لا يؤثر، وأما إذا كان متوسطاً فإنه الذي يؤثر ولا يضره، أي: لا يمته.

وتعمل السياط اليوم من السيور، أي: سيور الجلد ونحوه، وكذلك من الحبال أو من الخيوط يعملون سوطاً يفتلون بعضه في بعض، ثم بعد ذلك يجلدون به ذلك المجرم؛ لأنه الذي يكون ليناً بحيث يلتوي على جلده وظهره أو على فخذيه أو ما أشبه ذلك.

[ولا يجرد] يعني: لا تخلع ملابسه حتى يبدو جلده، ولكن يكون عليه قميص أو قميصان من هذه الثياب العادية من القطن ونحوه؛ لأنها لا تمنع وصول الألم إلى جلده.

[ويمنع أن يكون عليه عباءة غليظة] وكذلك ثوب غليظ، كما يسمى بالكوت ونحوه؛ لأن هذا قد لا يوصل الضرب والألم إلى جلده.

ثم الضرب يكون وسطاً ليس شديداً ولا ضعيفاً، وحددوه بأنه إذا رفع يده لا يرى إبطه، فالضارب يضرب ولا يرفع يده كثيراً، بل يرفعها ثم يجلد، ولكن يتفاوت الضرب وتتفاوت العقوبات، فمثل الزنا يشدد عليه، قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] يعني: لا ترحموه؛ فإن ذنبه كبير. ومعنى ذلك أنكم تشددون عليه، فلا ترحمونه، (ولا تأخذكم بهما رأفة) لا تأخذكم بالزاني رأفة فتخففوا عنه الجلد. ونرى بعض الجلادين لا يحرك إلا كفه، فمثل هذا لا يؤثر، وبعضهم يشدد فيرفع يده كلها على نحو مترين ثم يضرب بقوة، وهذا شديد أيضاً قد يشق الجلد، فالجلد في الزنا يكون شديداً ولكن ليس إلى الشدة في النهاية. وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2].

وأما الجلد في القذف فهو دون الجلد في الزنا، وكأنه أخفها، فالجلد في القذف أخف حدود الجلد، وأما الجلد في السكر فيكون وسطاً بين جلد القذف وبين جلد الزنا.

يقول: [ويسن تفريقه على الأعضاء].

إذا كان قائماً يضرب ظهره وكتفيه وعضديه، ويضرب أسفل ظهره، ويضرب فخذيه وساقيه، ويضرب طولاً وعرضاً، وكذلك أيضاً يضرب فخذيه من الأمام والخلف، وساقيه من الأمام والخلف، وإليتيه من الخلف، وظهره كله وكتفيه، يفرقها على الأعضاء.

قال: [ويجب اتقاء وجه ورأس وفرج ومقتل].

وذلك لأن هذه قد يؤثر فيها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه) يعني: لا يضرب الوجه. ولأن الوجه فيه الحواس، فيخاف أن يقضي على سمعه وبصره ولسانه وفمه وعلى أنفه، فيظهر أثر ذلك، ويفوّت عليه بعض الحواس، فلا يجوز الضرب في الوجه، وكذلك الرأس، ولو ضرب الرأس فقد يسبب موتاً، سيما إذا كان الضرب شديداً، وكذلك لا يضرب الفرج والقبل، أما الدبر فإنه يضرب الإليتين، فلا يضرب الفرج الذي هو القبل من رجل أو امرأة.

ويتجنب المقاتل، فلا يضرب رقيق البدن، وكذلك البطن مثلاً، فلو ضرب بسوط شديد لأتلفها أو شق جلد البطن أو نحو ذلك، وكذلك القلب لو ضربه فوق قلبه أو مقابل كليتيه لعطلهما، فلذلك لا يضربه في المقاتل.

قال: [وامرأة كرجل].

يعني: إذا وجب عليها الجلد فإنها تجلد كما يجلد الرجل في الزنا، والقذف، والسكر، لكن تضرب جالسة؛ لئلا تتكشف، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها، أي: تربط يداها؛ فإنها لو ضربت وهي قائمة لأوشك أن بعض الجلدات تكشف الثوب عن بعض جسدها فتتعرى، بخلاف ما إذا كانت جالسة، فإذا كانت جالسة يكون الجلد على الظهر والعضدين وأسفل الظهر، وتضرب أيضاً من الأمام على الساقين، أو تضرب من الجانب الأيمن على الحقوين والفخذ ونحو ذلك، ويفرق الضرب والجلد عليها.

وتشد عليها ثيابها لئلا تتكشف، أي: تشد من الأسفل ثيابها إن كانت قميصاً أو نحوه، ويشد الخمار على رأسها ووجهها، وأكمامها تربط حتى لا تتكشف ولا ينحسر شيء من ثيابها، وتمسك يداها بخيط إلى رقبتها حتى لا تمد يديها.

قال: [ولا يحفر لمرجوم].

إذا أريد أن يرجم فإنه لا يحفر له قبر، بل يترك على وجه الأرض ثم يرجم، ويرى بعض العلماء أنه يوثق، يعني: تربط رجلاه حتى لا يهرب.

قال: [ومن مات وعليه حد سقط].

يعني: ثبت الحد عليه، وقبل أن يقام عليه الحد مات، فلا يقام على أولاده؛ لأنهم ما أذنبوا، ولا على أحد من ورثته، وهل يجلد بعد أن مات؟! لا، سقط عنه الحد.

وأما لو مات تحت السياط فلا دية له، فإذا أقيم عليه الحد ومات بسبب الجلدات التي يجلد بها فليس هناك دية على الجلاد؛ لأنه حق، ورد في عبارة الفقهاء أنهم ينقلون ذلك عن بعض الصحابة: (من مات بحد فالحق قتله).