شرح أخصر المختصرات [69]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[فصل:

والظهار محرمٌ، وهو أن يشبه زوجته أو بعضها بمن تحرم عليه أو بعضها، أو برجل مطلقًا، ‏لا بشعر وسن وظفر وريقٍ ونحوها. ‏

وإن قالته لزوجها فليس بظهار، وعليها كفارته بوطئها مطاوعةً. ‏

ويصح ممن يصح طلاقه. ‏

ويحرم عليهما وطءٌ ودواعيه قبل كفارته، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن ‏لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. ‏

ويكفر كافرٌ بمالٍ وعبدٌ بالصوم، وشرط في رقبة كفارة ونذر عتق مطلق إسلامٌ، وسلامةٌ من عيب ‏مضر بالعمل ضررًا بينًا. ‏

ولا يجزئ التكفير إلا بما يجزئ فطرةً، ويجزئ من البر مد لكل مسكينٍ ومن غيره مدان.

فصل:

ويجوز اللعان بين زوجين بالغين عاقلين لإسقاط الحد، فمن قذف زوجته بالزنا لفظًا وكذبته فله لعانها بأن يقول أربعًا: أشهد بالله إني لصادقٌ فيما رميتها به ‏من الزنا. ‏

وفي الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ‏

ثم تقول هي أربعًا: أشهد بالله إنه لكاذبٌ فيما رماني به من الزنا. ‏

وفي الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ‏

فإذا تم سقط الحد، وثبتت الفرقة المؤبدة، وينتفي الولد بنفيه. ‏

ومن أتت زوجته بولدٍ بعد نصف سنةٍ منذ أمكن اجتماعه بها، أو لدون أربع سنين منذ أبانها ولو ‏ابن عشرٍ، لحقه نسبه، ولا يُحكم ببلوغه مع شك فيه. ‏

ومن أعتق أو باع من أقر بوطئها، فولدت لدون نصف سنةٍ لحقه، والبيع باطلٌ].

معنى الظهار

من عادات أهل الجاهلية ألفاظ يتكلمون بها، يعبرون بها عن تحريم الزوجة أو تحريم الأمة أو ما أشبه ذلك، ولما جاء الإسلام نهى عن تلك الألفاظ وتلك الكلمات الجاهلية، ومن ذلك الظهار، والظهار مشتق من الظهر؛ لأن الأصل فيه تشبيه الزوجة بظهر الأم، وذلك لأن الظهر في الدابة هو الذي يركب، فشبه ركوب الزوجة بركوب الدابة في ظهرها، وشبهها بظهر الأم.

وقد كان أهل الجاهلية يحرمون نكاح المحارم التي جاء الشرع بتحريمهن كنكاح الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، لكنهم كانوا يبيحون نكاح زوجة الأب، فإذا مات الأب ينكحها أحد أبنائه من غيرها، وكذلك كانوا يبيحون الجمع بين الأختين، ويبيحون أكثر من أربع، فقد يجمع الرجل بين خمس وعشر وثمان ونحو ذلك، فلما جاء الإسلام قصرهم بالنكاح على أربع، وحرم المحرمات التي يحرم نكاحهن إما لرضاع أو لقرابة أو لمصاهرة، وأبطل تلك العادات الجاهلية، والتي منها مسألة الظهار.

أنزل الله تعالى في حكم الظهار أول سورة المجادلة.

وسبب نزولها أن صحابياً -اسمه أوس بن الصامت - غضب على امرأة له يقال لها: خولة، ويصغرون اسمها فيقولون خويلة، فلما غضب عليها قال: أنت علي كظهر أمي. وكان لها أولاد منه، ويشق عليها أن تفارق أولادها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله، وتظهر الشكاية إلى الله، وتقول: إني تزوجته ونثرت له ما في بطني، ولي منه صبية صغار، إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بينه وبينها: (ما أظنكِ إلا قد حرمتِ عليه)؛ وذلك لأن الظهار في الجاهلية فراق وتحريم؛ لأنه شبهها بمن هي محرمة عليه إلى الأبد، وهي الأم، فكان في ذلك تحريماً ظاهراً.

فأخذت تردد وتقول: إلى الله المشتكى، أشكوا إلى الله ضعفي، وكأنها تسأل الله تعالى أن ينزل فيها ما يكون سبباً لرجوعها إلى زوجها، ويجعل لها فرجاً ومخرجاً، فبينما هي جالسة عنده نزلت سورة المجادلة، تقول عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات! لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله، وإني لفي جانب الحجرة، ويخفى عليَّ بعض كلامها، قال الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1]، فهذا خبر من الله تعالى أنه سمع شكواها وسمع تحاورها مع النبي صلى الله عليه وسلم.

الدليل على تحريم الظهار

ذكر الله حكم هذا العمل الذي هو تشبيه الزوجة بظهر الأم، وهو أن يقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي. ويسمي هذا الفعل ظهاراً.

ثم إن العلماء رحمهم الله أخذوا من هذه الآيات أحكام الظهار، وأنه محرم، والدليل على تحريمه قوله في الآية الثانية: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:2] فإذا قال: أنتِ علي كأمي، أو أنت علي كظهر أمي، فإنه كاذب، فليست أمه، وليست مثل أمه، ولا يقال: إن لها حكم أمه، فأمه في الحقيقة هي التي ولدته، وأما هذه فإنها لم تلده، وقال تعالى في سورة الأحزاب: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4] أي: ليست أزواجكم أمهات إذا ظاهرتم منهن، فلا تكون الزوجة أماً، ولا تكون شبيهة بالأم، وإنما هي امرأة أجنبية، عقد عليها هذا الرجل، وأصبحت زوجة له حلالاً له، بخلاف أمه، فإنها محرمة عليه تحريماً مؤبداً، ولا تحل له بحال، والله تعالى أحل نكاح الزوجات، فعلى هذا بين الله تعالى أنها ليست أماً، ولو شبهها بالأم، ثم أخبر بأنه منكر وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2] والزور: هو الكذب، والمنكر: ضد المعروف، يعني: أنهم يتكلمون بهذه الكلمة وهي كلمة منكرة، ولأجل ذلك يعدون الظهار من المنكرات ومن الكذب، ويعده بعضهم من كبائر الذنوب؛ لأن عليه الكفارة، وكل ذنب يحتاج إلى كفارة فإنه من كبائر الذنوب، فدل على أنه من المحرمات، وقد نص العلماء على ذلك.

حكم التشبيه بغير ظهر الأم

كان أهل الجاهلية إنما يحرمون بظهر الأم، لكن الحكم أعم من ذلك، فمن شبه ببطن أمه فالبطن كالظهر، فإذا قال لزوجته: أنت علي كبطن أمي، أو كفرج أمي، أو كيد أمي، أو كرأس أمي. وقصد بذلك تحريمها، فإنه يكون مظاهراً، وأما إذا قال: أنت علي كأمي، أو أنت مني كأمي. وقصد بذلك المودة، فلا يكون ذلك تحريماً.

وهكذا لو دعاها: يا أمي! ويريد بذلك الشفقة، يعني: أنه يشفق عليها كما يشفق على أمه ويرحمها ويودها كما يود أمه، فإن ذلك مما يكون من أسباب المودة ولا يكون ظهاراً، وهكذا لو ناداها بقوله: يا أمي! لا يكون هذا ظهاراً، إلا إذا عرف من قصده أنه يحرمها عليه، فيشبهها بأمه التي يحرم عليه نكاحها، فيكون بذلك مظاهراً.

حكم تشبيه الزوجة بغير الأم من المحارم وبالرجال

وألحق العلماء غير الأم من المحارم بها، أي: كل امرأة تحرم عليه بنسب أو سبب مباشر تحريماً مؤبداً، فإنه إذا شبه زوجته بها صدق عليه أنه مظاهر، وأن عليه كفارة الظهار، وهكذا -أيضاً- لو شبه بعض زوجته بمن تحرم عليه، فلو قال -مثلاً-: وطؤك علي كأمي، أو فرجك علي كفرج أمي، أو بطنك أو ظهرك أو رأسك أو يدك أو رجلك كأمي، أو كبطن أمي، أو كرجل أمي أو كرأس أمي، صدق عليه أنه مظاهر.

وهكذا غير الأم، إذا قال: أنت علي كظهر أختي، أو كبطن أختي، أو كأختي، أو كظهر عمتي أو خالتي أو ابنتي، أياً كان من أقاربه، فإن هذا يكون ظهاراً.

وهكذا -أيضاً- إذا شبهها برجل، إذا قال: أنت علي كأبي، أو كابني، أو كظهر ابني أو ظهر أخي، أو شبهها برجل أجنبي، فقال: أنت علي كزيد أو كسعد، وهو لا يحل له نكاح رجل، فإذا شبهها برجل صدق عليه أنه مظاهر.

حكم تشبيه الزوجة بما ينفصل كالشعر والظفر من محارمه

وأما إذا شبهها بشيء منفصل فلا يسمى مظاهراً، إذا قال: أنت علي كشعر أمي. والشعر نعلم أنه قد ينفصل، وأنه لا يسمى منكوحاً ولا يتلذذ به، وكذلك السن، إذا قال: أنت علي كسن أو كأسنان أمي، والأسنان -أيضاً- تنفصل وتنقلع، فلا يكون ذلك ظهاراً، وكذلك الظفر والريق واللعاب وما أشبهه، وهكذا الثياب، مثل: أنت علي كثياب أمي أو كثياب أختي، أو كريقها، أو كلعابها، أو أظفارها أو نحو ذلك، لا يصير هذا ظهاراً.

وهكذا لو شبه أجزاءً من زوجته تنفصل بمن تحرم عليه، فإذا قال: سنك أو شعرك علي كظهر أمي. فلا يكون مظاهراً.

حكم ظهار المرأة من زوجها

الظهار في الأصل يكون من الرجل، ولكن هل يكون من المرأة إذا قالته؟

في ذلك خلاف، يقول المؤلف هاهنا: وإن قالته لزوجها فليس بظهار، ومع ذلك عليها كفارته إذا وطئها مطاوعة.

لذكر عن امرأة من أولاد الصحابة اسمها عائشة بنت طلحة بن عبيد الله ، قيل لها: إن مصعب بن الزبير يريد أن يتزوجك. فقالت: هو علي كظهر أبي. ثم قدر بعد ذلك أن تزوجها، ولما تزوجها وكانت قد ظاهرت أعتقت عبداً، كفارة لتلك الكلمة، وكأنها سألت من أفتاها بأن هذا وإن لم يكن ظهاراً فإن فيه كفارة الظهار؛ وذلك لأنه شبيه بظهار الرجل.

ولا شك أنه محرم، فكما أن ظهار الرجل من امرأته محرم فكذلك المرأة، وإذا حرمت زوجها فلا يجوز لها أن تمنعه من نفسها؛ لأن الحق له بالزوجية، فإذا قالت: أنت علي كأبي أو كأخي أو كابني، أو كظهر ابني أو نحو ذلك، ثم طلبها لنفسه ليستمتع بها، فلا تمنع نفسها.

ومن العلماء من يقول: عليها كفارة يمين كسائر المحرمات، فإن كل من حرم شيئاً من المباحات فإنما عليه كفارة يمين، حتى إذا كان للإنسان أمة ينكحها ثم حرمها لم تحرم، ولكن عليه كفارة يمين، واستدل بآية التحريم وهي قوله تعالى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1] إلى قوله: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2] قيل في سبب نزولها: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على زينب وتسقيه عسلاً، فحسدتها بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهما حفصة وعائشة فأرادتا أن يمتنع من شربه، فدخل على إحداهما فقالت: أكلت مغافير! قال: إنما شربت عسلاً عند زينب . فقالت: جرست نحله العرفط. يعني: أكلت نحله من شجر العرفط الذي له رائحة، ثم دخل على الأخرى فقالت مثل ذلك، فعند ذلك قال: هو علي حرام، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1].

وقيل: إن سبب نزولها تحريم أمته مارية القبطية ، لما وطئها في بيت إحدى زوجاته فأنكرت عليه ذلك، وقالت: في بيتي وعلى فراشي! فقال: (إذاً هي علي حرام) فأنزل الله: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2] تحلة الأيمان: يعني كفارة الأيمان، فجعل في هذا اليمين كفارة، فإذا قال: هذه الأمة علي حرام، فعليه كفارة يمين، هذا هو الصحيح.

وكذلك إذا قال: هذا الطعام أو هذا الشراب علي حرام. لا يكون حراماً، وإنما يكون فيه كفارة يمين، بخلاف تحريم الزوجة الذي يسمى ظهاراً، إذا حرم زوجته ولم يشبهها بأمه أو بغيرها، بل قال: أنت علي حرام، ففعليه كفارة الظهار؛ لأن هذا شبيه بما إذا قال: نكاحكِ علي محرم كنكاح أمي أو أختي أو ابنتي. فيكون بذلك مظاهراً، وهكذا إذا قال: أنتِ علي حرام. عليه كفارة الظهار، هذا هو القول الصحيح.

ممن يصح الظهار

ممن يصح الظهار؟

يصح من الزوج العاقل المكلف، الذي يعرف حكمه الذي يترتب عليه، وقد تقدم في كتاب الطلاق أن الطلاق لا يصح إلا من زوج ولو مميزاً، ولابد أن يكون ممن يعقله، فكذلك الظهار يصح ممن يصح طلاقه، وهو الزوج، فلا يظاهر غير زوجته.

ولا يحرم زوجة الرجل عليه غيره، فلو قال الوالد لولده: زوجتك عليك حرام، أو زوجتك عليك كظهر أمك. فهل يكون هذا ظهاراً؟ لا يكون ظهاراً؛ لأنه ليس من الزوج، ولو قال الأب لابنه أو الابن لأبيه: زوْجتَك عليك حرام كظهر أمك. لم يكن هذا مظاهراً؛ لأنه لا يملك تطليق زوجة ابنه ولا زوجة أبيه.

ما يحرم على المظاهر قبل الكفارة

إذا ظاهر من امرأته فهل يطؤها؟

لا يطؤها حتى يكفر، وكذلك لا يجوز له أن يقبلها، ولا أن يباشرها، ولا يضمها، ولا غير ذلك حتى يكفر، والدليل قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] والتماس: هو الوطء ومقدمات الوطء، فلا يقربها حتى يفعل ما أمره الله به، وقد ذكر الله عقب أمره بالعتق، وعقب أمره بالصيام (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)، والصيام تطول مدته، فإذا اختار أن يصوم شهرين متتابعين ففي هذه الحال يتجنبها إلى أن ينتهي من الصيام.

وهكذا -أيضاً- إذا اختار الإطعام، فلا يقربها حتى يطعم ستين مسكيناً، ولو لم يذكر المسيس في قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4] فلم يذكر (من قبل أن يتماسا) ولكنه مراد، فإذا كان الصيام مع طول مدته ذكر فيه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)، فكذلك الإطعام لقلة زمنه، ولأنه قد يطعمهم في يوم واحد أو يومين.

هذا معنى قول المصنف: يحرم وطء ودواعيه عليهما قبل الكفارة.

كفارة الظهار

الكفارة نص الله تعالى عليها في سورة المجادلة، وهي على الترتيب.

عتق رقبة؛ فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، على هذا الترتيب، فمن قدر على الرقبة لم يجزئه الصيام، ولو صام فإنه لا يكفيه؛ لأن الله بدء بذكر الرقبة، فإذا لم يجد ثمن الرقبة، أو لم يجد الرقبة -كما في هذه الأزمنة- انتقل إلى الصيام، وإذا كان يطيق الصيام فلا يجزئه الإطعام؛ لأن الله قال: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ [المجادلة:4]، ولابد أن يكون الصيام شهرين متتابعين، فاشترط التتابع في كفارة الظهارة، وفي كفارة القتل كما في سورة النساء، وجاء -أيضاً- في كفارة الوطء في نهار رمضان، كما في الحديث الصحيح.

فكفارة الظهار على النحو التالي: أولاً: الكفارة بالعتق، ثم الكفارة بالصيام، ثم الكفارة بالإطعام.

كفارة الكافر والمملوك إذا ظاهرا

الكافر لا يكفر بالصيام؛ لأن الصيام عبادة، والعبادة لا تصح من كافر، بل يكفر الكافر الذمي بالعتق، وإذا لم يجد كفر بإطعام ستين مسكيناً، أما الصيام فإنه عبادة بدنية تختص بالمؤمنين، يحتسبون فيها الأجر، ولا أجر للكافر في الصيام.

أما العبد المملوك إذا ظاهر من امرأته فمعلوم أنه لا يملك عتقاً، ولا يملك إطعاماً، فليس أمامه كفارة إلا الصيام، فيكفر العبد بالصيام.

شروط الرقبة في كفارة الظهار

ماذا يشترط في رقبة كفارة الظهار، وكفارة اليمين، وكفارة الوطء في نهار رمضان، وكفارة قتل الخطأ؟

أما نذر العتق فيكون على ما نذر، كأن يقول: لله علي أن أعتق عبداً. وأطلق، ولم يقل: عبداً كبيراً ولا صغيراً ولا ذكراً ولا أنثى، فهذا نذر عتق مطلق، أما ما عداه فيشترط في ذلك ما يلي.

الشرط الأول: الإيمان، ذكر الله تعالى الإيمان في آية القتل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فلا يجزئ إعتاق الكافر، فالإيمان ذكر في آية عتق كفارة القتل، وقيس عليه كفارة الظهار وكفارة اليمين وكفارة الوطء في نهار رمضان؛ وذلك لأن العتق قربة وعبادة فيه أجر، ولا يطلب إلا عتق المؤمنين، أما العبد الكافر فإعتاقه تمكين له من الكفر، وإعانة له على بقائه على هذا الكفر، فلا جرم اشترط أن يكون العتيق مؤمناً، قال الله: فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92].

الشرط الثاني في العتيق: السلامة من كل عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً، فلابد أن يكون العبد الذي يعتق في الكفارة سالماً من العيوب، فلا يعتق العبد الأعور، ولا الأعمى، ولا الأعرج؛ لأنه ناقص القيمة، وكذلك الأصم والأبكم والأقطع والمعاق والمقعد وما أشبه ذلك، ممن فيه ضرر، وذكروا من أمثلته: إذا كان مقطوع الإبهام؛ لأنه لا يستطع أن يعمل بأربع أصابع، وهكذا لو قطعت منه السبابة، فعمله يكون ناقصاً، وهكذا لو قطعت الوسطى، أما إذا قطع الخنصر فقد لا يؤثر، فيستطيع أن يكتب وأن يعمل، بخلاف ما إذا قطع الإبهام فكيف يكتب أو يمسك أو نحو ذلك؟ أو قطعت السبابة يصعب عليه أن يمسك القلم مثلاً، أو قطعت الوسطى يصعب عليه أن يمسك القلم أو الشيء بإصبعين.

أما إذا قطع الخنصر والبنصر معاً فيكون هذا نقصاً ظاهراً، وقد يصعب عليه أن يعمل بثلاثة أصابع.

وكذلك العيوب التي تخل بالعمل، فإذا كانت يده مشلولة، أو فيه عيب خَلقي، فمثل هذا لا يجزئ إعتاقه عن الكفارة، فلابد أن يكون سليماً من العيوب التي تضر بالعمل ضرراً بيناً.

شروط صيام الكفارة

يشترط في الصيام التوالي والتتابع (شهرين متتابعين)، فإن صام بالشهر الهلالي اكتفى بشهرين هلاليين ولو كانا ناقصين، أو كان أحدهما ناقصاً -يعني: تسعة وعشرين يوماً-؛ وذلك لأنه يصدق عليه أنه شهر.

وإن ابتدأ من نصف الشهر أو وسطه فإنه يصوم ستين يوماً بالعدد، فإن الشهرين لا يزيدان عن ستين يوماً.

شروط الإطعام في الكفارة

وإطعام ستين مسكيناً يكون بأن يعطي كل واحد منهم ما يكفيه وجبة واحدة كغداء أو عشاء، وقد ذكر الله تعالى الإطعام في كفارة اليمين في قوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89] أي: من الطعام الوسط، فلا يكلف نفسه الطعام الثمين الغالي، ولا يجزئ الرخيص الدنيء، بل ينظر الإنسان إلى أكثر ما يطعم أهله، فأحياناً قد يشتري لأهله في بعض المناسبات أنواعاً من اللحوم، كالسمك، أو لحم حمام أو نحو ذلك، أو لحوم شياه أو لحوم ضأن ونحو ذلك، وأحياناً لا يطعمهم إلا الخبز فقط بدون لحم، وبدون فاكهة لبعض الأسباب، فينظر إلى أكثر ما يطعم أهله، فإذا قال: أكثر ما أطعم أهلي وأوسط ما أطعمهم الأرز ولحم دجاج وشيء من الفاكهة. نقول: أخرج هذا في كفارة اليمين، وفي كفارة الظهار، وما أشبهها؛ لأن الله قال: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89].

ومن العلماء من يقول: لابد أن يملكهم، فيعطي كل مسكين ما يكفيه يومه ذلك كغداء أو عشاء، يسلمه له، حتى يتصرف فيه ذلك المسكين.

ومنهم من يقول: يكفي أن يدعوهم ليأكلوا في بيته حتى يشبعوا، فإذا شبعوا صدق عليه أنه أطعمهم.

وقد ذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه في آخر حياته -بعد أن تجاوز عمره المائة- صعب عليه الصيام، فكان إذا دخل رمضان يجمع ثلاثين مسكيناً فيعشيهم أول ليلة حتى يشبعوا، ويكتفي بذلك عن الصيام، وأخذ ذلك من قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] فجعل طعام المسكين قائماً مقام الصيام، فكذلك تكون الكفارة، ومعنى هذا: أنه لو جمع ستين مسكيناً، وجعل لهم طعاماً من جنس طعام أهله، من خبز ولحم، أو أرز ولحم معتاد، أو غير ذلك من الأطعمة فإنه يكفي إذا أكلوا حتى شبعوا.

وكذلك إذا ملكهم، وتمليكهم أن يسلم لكل واحد منهم ما يكفيه، والفقهاء يشترطون أن يملكهم، والمصنف يقول: ولا يجزئ التكفير -يعني: بالإطعام- إلا بما يجزئ فطرة، وقد تقدم اختيار الحنابلة أن زكاة الفطر تكون من خمسة: من البر والشعير والتمر والزبيب والأقط؛ لأنها هي المعتاد أكلها في ذلك الزمان، ولكن الصحيح أنها تجزئ من غالب قوت البلد، فكذلك الكفارة تكون من غالب قوت البلد، ففي بلدنا هذا الغالب هو الأرز، وأغلب الناس وأوسطهم يأكلون مع الأرز شيئاً من لحم الدجاج أو من لحم الإبل أو من لحم الغنم كإدام له، وغالباً يأكلون معه شيئاً من الفاكهة التي يتفكه بها كتفاح أو موز أو برتقال أو نحو ذلك من الفواكه، فإذا كان هذا هو غالب قوت أهله فإنه يطعم المساكين من مثل هذا.

والذين اشترطوا أن يملكهم قالوا: يعطيهم طعاماً غير مطبوخ، فيجزئ من البر لكل مسكين مد، ومن غيره لكل مسكين مدان.

وقوله: (ومن غيره) يعم بقية أنواع الطعام، فمعنى ذلك أنه لو أطعم المساكين من الزبيب فلابد من مدين، أو من التمر فلابد من مدين، مع تفاوت القيمة، ومعلوم أن المدين من الزبيب قد تكون قيمتهما عشرين ريالاً، والمدان من التمر السائد المعتاد قد تكون قيمتهما ثلاثة ريالات أو أربعة، ومع ذلك جعلوه سواء، وقد اختار مشايخنا أنه يطعم نصف صاع من الجميع، فيكفيه أن يملكهم نصف صاع من البر، أو نصف صاع من الأرز، أو نصف صاع من التمر أو من الزبيب أو من الذرة أو ما أشبه ذلك، إذا كان هو القوت السائد.

من عادات أهل الجاهلية ألفاظ يتكلمون بها، يعبرون بها عن تحريم الزوجة أو تحريم الأمة أو ما أشبه ذلك، ولما جاء الإسلام نهى عن تلك الألفاظ وتلك الكلمات الجاهلية، ومن ذلك الظهار، والظهار مشتق من الظهر؛ لأن الأصل فيه تشبيه الزوجة بظهر الأم، وذلك لأن الظهر في الدابة هو الذي يركب، فشبه ركوب الزوجة بركوب الدابة في ظهرها، وشبهها بظهر الأم.

وقد كان أهل الجاهلية يحرمون نكاح المحارم التي جاء الشرع بتحريمهن كنكاح الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، لكنهم كانوا يبيحون نكاح زوجة الأب، فإذا مات الأب ينكحها أحد أبنائه من غيرها، وكذلك كانوا يبيحون الجمع بين الأختين، ويبيحون أكثر من أربع، فقد يجمع الرجل بين خمس وعشر وثمان ونحو ذلك، فلما جاء الإسلام قصرهم بالنكاح على أربع، وحرم المحرمات التي يحرم نكاحهن إما لرضاع أو لقرابة أو لمصاهرة، وأبطل تلك العادات الجاهلية، والتي منها مسألة الظهار.

أنزل الله تعالى في حكم الظهار أول سورة المجادلة.

وسبب نزولها أن صحابياً -اسمه أوس بن الصامت - غضب على امرأة له يقال لها: خولة، ويصغرون اسمها فيقولون خويلة، فلما غضب عليها قال: أنت علي كظهر أمي. وكان لها أولاد منه، ويشق عليها أن تفارق أولادها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله، وتظهر الشكاية إلى الله، وتقول: إني تزوجته ونثرت له ما في بطني، ولي منه صبية صغار، إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بينه وبينها: (ما أظنكِ إلا قد حرمتِ عليه)؛ وذلك لأن الظهار في الجاهلية فراق وتحريم؛ لأنه شبهها بمن هي محرمة عليه إلى الأبد، وهي الأم، فكان في ذلك تحريماً ظاهراً.

فأخذت تردد وتقول: إلى الله المشتكى، أشكوا إلى الله ضعفي، وكأنها تسأل الله تعالى أن ينزل فيها ما يكون سبباً لرجوعها إلى زوجها، ويجعل لها فرجاً ومخرجاً، فبينما هي جالسة عنده نزلت سورة المجادلة، تقول عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات! لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله، وإني لفي جانب الحجرة، ويخفى عليَّ بعض كلامها، قال الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1]، فهذا خبر من الله تعالى أنه سمع شكواها وسمع تحاورها مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر الله حكم هذا العمل الذي هو تشبيه الزوجة بظهر الأم، وهو أن يقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي. ويسمي هذا الفعل ظهاراً.

ثم إن العلماء رحمهم الله أخذوا من هذه الآيات أحكام الظهار، وأنه محرم، والدليل على تحريمه قوله في الآية الثانية: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:2] فإذا قال: أنتِ علي كأمي، أو أنت علي كظهر أمي، فإنه كاذب، فليست أمه، وليست مثل أمه، ولا يقال: إن لها حكم أمه، فأمه في الحقيقة هي التي ولدته، وأما هذه فإنها لم تلده، وقال تعالى في سورة الأحزاب: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4] أي: ليست أزواجكم أمهات إذا ظاهرتم منهن، فلا تكون الزوجة أماً، ولا تكون شبيهة بالأم، وإنما هي امرأة أجنبية، عقد عليها هذا الرجل، وأصبحت زوجة له حلالاً له، بخلاف أمه، فإنها محرمة عليه تحريماً مؤبداً، ولا تحل له بحال، والله تعالى أحل نكاح الزوجات، فعلى هذا بين الله تعالى أنها ليست أماً، ولو شبهها بالأم، ثم أخبر بأنه منكر وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2] والزور: هو الكذب، والمنكر: ضد المعروف، يعني: أنهم يتكلمون بهذه الكلمة وهي كلمة منكرة، ولأجل ذلك يعدون الظهار من المنكرات ومن الكذب، ويعده بعضهم من كبائر الذنوب؛ لأن عليه الكفارة، وكل ذنب يحتاج إلى كفارة فإنه من كبائر الذنوب، فدل على أنه من المحرمات، وقد نص العلماء على ذلك.

كان أهل الجاهلية إنما يحرمون بظهر الأم، لكن الحكم أعم من ذلك، فمن شبه ببطن أمه فالبطن كالظهر، فإذا قال لزوجته: أنت علي كبطن أمي، أو كفرج أمي، أو كيد أمي، أو كرأس أمي. وقصد بذلك تحريمها، فإنه يكون مظاهراً، وأما إذا قال: أنت علي كأمي، أو أنت مني كأمي. وقصد بذلك المودة، فلا يكون ذلك تحريماً.

وهكذا لو دعاها: يا أمي! ويريد بذلك الشفقة، يعني: أنه يشفق عليها كما يشفق على أمه ويرحمها ويودها كما يود أمه، فإن ذلك مما يكون من أسباب المودة ولا يكون ظهاراً، وهكذا لو ناداها بقوله: يا أمي! لا يكون هذا ظهاراً، إلا إذا عرف من قصده أنه يحرمها عليه، فيشبهها بأمه التي يحرم عليه نكاحها، فيكون بذلك مظاهراً.

وألحق العلماء غير الأم من المحارم بها، أي: كل امرأة تحرم عليه بنسب أو سبب مباشر تحريماً مؤبداً، فإنه إذا شبه زوجته بها صدق عليه أنه مظاهر، وأن عليه كفارة الظهار، وهكذا -أيضاً- لو شبه بعض زوجته بمن تحرم عليه، فلو قال -مثلاً-: وطؤك علي كأمي، أو فرجك علي كفرج أمي، أو بطنك أو ظهرك أو رأسك أو يدك أو رجلك كأمي، أو كبطن أمي، أو كرجل أمي أو كرأس أمي، صدق عليه أنه مظاهر.

وهكذا غير الأم، إذا قال: أنت علي كظهر أختي، أو كبطن أختي، أو كأختي، أو كظهر عمتي أو خالتي أو ابنتي، أياً كان من أقاربه، فإن هذا يكون ظهاراً.

وهكذا -أيضاً- إذا شبهها برجل، إذا قال: أنت علي كأبي، أو كابني، أو كظهر ابني أو ظهر أخي، أو شبهها برجل أجنبي، فقال: أنت علي كزيد أو كسعد، وهو لا يحل له نكاح رجل، فإذا شبهها برجل صدق عليه أنه مظاهر.