خطب ومحاضرات
شرح أخصر المختصرات [67]
الحلقة مفرغة
دين الإسلام دين وسط، والأدلة على هذا كثيرة؛ ومن ذلك أنه أباح الطلاق، وأباح الرجعة، وذكروا: أن النصارى ليس عندهم طلاق، بل متى عقد على المرأة فلا يقدر على أن يتخلص منها، ويلزمونه بإبقائها مهما كانت الحال، ويشددون عليه في أن يمسكها، ولو أساءت صحبته، ولو أضرت به، ولو كانت مخالفة له في أمر العقيدة أو في أمر الديانة، ولا يقدر على أن يتخلص منها، هكذا قالوا.
وإذا قدر أنه فارقها فإنهم يلزمونه بالإنفاق عليها بقية حياتها، ويقولون له: إنك أفسدت عليها حياتها، وإنك أضررت بها حيث تزوجتها ثم طلقتها، وذلك ضرر عليها، من أين تأكل؟ وكيف تعيش وقد فارقتها؟
فإما أن تؤمن لها معيشة، وإما أن تبقيها عندك ولا تفارقها، هذه ديانة النصارى، وقد انتشرت هذا الظاهرة في كثير من الدول التي تتسمى بالإسلام؛ وذلك بسبب تأثرها بالاستعمار النصراني، وقد أثر فيها مجاورة النصارى، فهذه الدول تحرم أن يتزوج الرجل أكثر من واحدة. وكذلك أيضاً يمنعون من الطلاق تأثراً بمجاورة من حولهم من النصارى. وكذلك أيضاً إذا عقد عليها فرضوا عليه صداقاً مؤخراً، ويقولون: هذا المؤخر لو قدر أنه مات قبلها، أو قدر أنه طلقها، فإن هذا المؤخر يؤمن لها حياتها، ويؤمن لها معيشتها، فهذه عادة ورثوها من النصارى.
ونحن نقول: لا بأس إذا طلبت تأخير صداقها وقالت: لست بحاجة إليه الآن، أدعه كوديعة عندك متى بدت لي حاجة طلبتك، أو إذا فارقتني بموت أو بطلاق طلبته، لا بأس بهذا المؤخر، وأما اعتياده واعتقاد أنه لا يحصل عقد إلا بفرضه، فهذا يخالف ما عليه تعاليم الإسلام؛ لأنهم فرضوا شيئاً زائداً على شرع الله تعالى.
إباحة الطلاق من محاسن دين الإسلام، إذا كره الرجل امرأته، ونفرت منها نفسه، أبيح له أن يطلقها، كما أنها إذا كرهته لسوء خلقه أو لسوء معاملته فلها أن تفتدي، أي: أن تدفع مالاً حتى يخلي سبيلها؛ لقوله تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، وهو ما يسمى: بالخلع.
كثيراً ما يحدث الشقاق والنزاع بين الزوجين، يكون أحياناً من الزوج وأحياناً من الزوجة، ويكون نتيجته الطلاق؛ ومن أعظم أسباب ذلك -والله أعلم-: سوء التربية للزوج أو للزوجة، فالزوج مثلاً ينشأ في ترف وفي سرف، وينشأ في مجتمع فاسد يألف اللهو واللعب، ويألف المعاصي والمحرمات، ويشب عليها، فإذا تزوج امرأة حصينة محصنة عفيفة أساء معاملتها أو أضر بها، مما يحملها على بغضه وكراهيته وطلب الطلاق.
أحياناً يسهر مع شلة من جنسه إلى الساعة الثانية أو الثالثة ليلاً، ثم يأتي وهو مجهد، فيلقي بنفسه على الفراش، ولا يستيقظ إلا قرب القيلولة، ويتركها أول الليل وحيدة تذرف عيناها بالدموع، لا تدري أين هو، ليس عندها من يؤانسها، ولا يسمح لها أن تكون عند أهلها، ولا أن تكون عند جيرانها، فهي وحيدة ولا تدري أين هو، هل هو في بئر أو في بطن سبع؛ أو على أي شيء سَهِر؟
وسهره غالباً على معاصٍ، حيث إنه نشأ منذ ترعرع مع أولئك الفاسدين المفسدين، فيسهرون على لعب ولهو، ويسهرون على غناء وطرب، ويسهرون على أعواد وعلى دفوف وعلى طبول طوال ليلهم، وقد يسهرون على خمر وزمر ودخان وما أشبه ذلك، وقد يسهرون على مشاهدة أفلام خليعة عبر القنوات الفضائية، ينظرونها ويشاهدونها عبر الشاشات، ويكون ليلهم ضحكاً وقهقهة وتفكهاً وتسلية، كما يعبرون، وهكذا ينقضي ليله، ولا شك أنها تتألم وتتضرر إذا كانت هذه حالته.
فعلى هذه الحال لها أن تطلب الطلاق، كيف تقيم زمناً طويلاً وهي وحيدة ليس عندها من يؤانسها، ولا من يزيل وحشتها؟!!
وهكذا أيضاً كثير من الأزواج يكون سيئ الخلق مع امرأته، فهو يشدد عليها، ودائماً يسبها ويشتم ويثلب ويعيب ويقبح، ويمد يده ويضرب ويؤلم، وينتقدها على أقل شيء مما ينتقد، ويدقق عليها بأي شيء إذا لم تفعله، بحيث إنه إذا جاء مثلاً وتأخرت عن إحضار الطعام قام وسب وأقذع في السب، وبالغ فيه، وتكلم بكلام سيئ يقلق راحتها، ويقض مضجعها، فهذا بلا شك مما يسبب قلقها، حتى لا تصبر، وتطلب الفراق ولو كان ما كان، وتتمنى أن تعيش وحيدة ولا أن تكون قرينة ذلك الزوج.
كذلك مما يسبب الفراق أيضاً أن كثيراً من الأزواج يكون شديداً على امرأته، بحيث يهجرها دائماً، ويغلق عليها، ولا يترك لها متنفساً، فلا يمكنها من زيارة أبويها ولا أقاربها، حتى ولو استدعوها، ولا يمكنها من زيارة أهل فلان كأصدقاء أو جيران لها، فهي دائماً منفردة، مغلق عليها بأشد التغاليق، فماذا تفعل؟
لا شك أنها والحال هذه لا يهنأ لها عيش، ولا يستقر لها قرار، فتكون متمنية دائماً أن تفارقه؛ لأنها تعتبر سجينة، وتعتبر نفسها في أشد الضرر؛ وذلك مما يسبب طلبها الفراق؛ بسبب الصحبة السيئة.
كذلك أيضاً كثير من الأزواج سيئ الظن بامرأته، بحيث إنه يكاد أن يقذفها وأن يرميها بفعل الفاحشة، إذا رآها رفعت السماعة اتهمها أن لها أصدقاء، وإذا رآها خرجت اتهمها أنها خرجت للزنا، أو نحو ذلك، ودائماً يسألها ويحلّفها، وأدنى حركة يظن أنها فعلت مع غيره أو زنت أو نحو ذلك، مع أنها في الظاهر محصنة قد أحصنت فرجها، قد حفظت نفسها، ولكن لشدة ظنه وتشدده يقع منه هذا الظن السيئ، وقد ورد النهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث) .
وهناك أسباب أخرى لعلكم تعرفونها أكثر مما ذكرنا.
وأما بالنسبة للزوجة فلا شك أيضاً أنه يحصل منها أسباب تحمل الزوج على الفراق، منها:
أن كثيراً من الزوجات نشأت في بيت ترف، وفي بيت إسراف، وفي بيت فساد، قد أعطاها أهلها ما تريد، وقد أطلقوا لها الحرية، وقد مكنوها من كل شيء تتمناه، فهي عند أهلها قبل زواجها تسرح وتمرح، إذا شاءت دخلت الأسواق وحدها أو مع غيرها، ولا تبالي أن تزاحم الرجال، وقد تتكشف وتتبرج أمام الرجال الذين يحتكون بها.
وكذلك أيضاً قد تطول غيبتها عن أهلها، وأهلها قد أطلقوا لها الحرية، وتركوا لها الحبل على الغارب، ومكنوها مما تريد.
ومنها: أن كثيراً من البنات تعيش عند أهلها فيما يسمونه بالرفاهية والتنعم، فهم يجلبون لبناتهم ما يتمنينه، فتجد البنات قد نشأن على سماع الغناء دائماً والتلذذ به، ونشأن على رؤية الصور التي تفتن، فهن دائماً مقابلات لهذه الشاشات التي تُعرض فيها الصور الفاتنة الفاضحة، والمرأة ضعيفة التحمل، فهي قد عاشت على هذه العيشة الشريرة التي عاقبتها سيئة.
ومنها: تمكين أهلها لها من شراء الصور الفاتنة، والمجلات الخليعة التي فيها صور فاتنة هابطة، إذا رآها الرجل أو المرأة اعتقد أن أهلها هم أهل الرقي وأهل التقدم وأهل الحضارة وأهل الثقافة، فتقلدهم، وتفعل كما تفعل أولئك النساء اللاتي صورت صورهن في تلك المجلات متكشفات متبرجات، فماذا تكون حالتها وقد عاشت عشرين سنة أو نحوها على هذه الصور، وعلى النظر فيها؟
لا شك أنها تحب التقليد لأولئك، فهذا من أسباب فساد البنات.
ومنها: أن كثيراً من البنات يمنعهن أهلهن من العمل، فإذا دخلت بيتها فليس لها عمل إلا أن تنطرح على فراش أو تقرأ في قصة، أو تنظر إلى أفلام أو صور، ولا تمد يدها لشغل، قد أراحها أهلها، واجتلبوا لها خادمة تكفيها مئونة بيتها، فهي لا تحسن أن تصلح طعاماً، ولا أن تصلح شراباً، ولا أن تغسل ثوباً، ولا أن تنظف بيتاً، ولا أن تنظف إناءً، قد اعتادت الرفاهية، واعتادت الكسل، واعتادت الخمول، ورضيت بذلك، ورضي بذلك أهلها، ولم يعلموها أية حرفة، فإذا تزوج مثل هؤلاء البنات ماذا تكون حالتهن إذا تزوجن؟!
فهل في الإمكان أن تشتغل لزوجها؟
لا يمكن أنها تشتغل، سمعت قصة أوردها شيخنا الشيخ ابن حميد رحمه الله، وهي: أن رجلاً كان وحيداً هو ووالدته في بيت واسع، ثم إنه تزوج امرأة وقال: أتزوج يا والدتي امرأة تساعدك على شغل الدار، وتشتغل وتحترف معك، فلما تزوج تلك المرأة التي قد رفهها أهلها ونعموها، وعاشت في غاية التنعم، دخلت إلى بيته وبقيت على الفراش، ففي اليوم الأول قامت أمه بإصلاح الطعام وبكنس الدار، والزوجة الجديدة تنظر إليها، ثم في اليوم الثاني رأى والدته أيضاً قامت تكنس الدار وتصلحها، فقال: يا أماه! دعيني أكنس معك. يريد بذلك إثارة همة هذه الزوجة لعلها أن ترفق به وتقول: بل أنا أقوم مقامك، ولا تكلف نفسك، أنت رجل. فامتنعت أمه وصارت هي التي تكنس.
في اليوم الثالث دخل وإذا أمه تكنس الدار، أيضاً حاول أن يكنس معها فأبت أمه، فأطلت هذه الزوجة الجديدة من النافذة تتفرج عليهما، فقالت: أنا أحكم بينكما: عليك أن تكنس يوماً، وعلى أمك أن تكنس يوماً! هذا جوابها!! ما تنازلت أن تنزل وتريح زوجها من هذا العمل، ففي هذه الحال ماذا تكون حالتها؟
فالرجل يتزوج المرأة من أجل أن تريحه، وأن تصلح له الطعام، فإذا جاء من عمله يجده مهيأًً، وكذلك تغسل ثوبه، وتغسل أواني بيتها وما أشبه ذلك، فإن هذا لا يضرها، بل إنه يعودها على الحركة، ويذهب عنها الخمول والكسل الذي اعتادته ونشأت عليه، وهو مما يضر بصحتها.
فهذا ونحوه من أسباب الفراق، إذا تزوجها ولم يجد منها إلا خمولاً وضعف همة، وانقطاعاً عن أن تنفعه أو تنفع غيره، فلا شك أن هذا يسبب الفراق.
كذلك مطالبتها بما نشأت عليه، مثل أن يحضر لها تلك المجلات الخليعة؛ لأنه لا صبر لها عنها؛ ولأنها تربت عليها، أو دخل عليها وعثر عليها عندها، فهذا مما يجلب له الظن السيئ بها، وكذلك إذا ألحت عليه في أن يجلب لها الأفلام والصور الخليعة المسجلة في أشرطة الفيديو وغيرها، أو طلبت منه أن يمكنها من شراء هذه الأفلام، فهذا أيضاً مما يسبب مقته وبغضه، لها وسرعة فراقه لها.
ومنها: إذا رآها مكبة على سماع الغناء الماجن والتلذذ به، ولا همة لها في أن تصلح شأنه أو شأن بيتها، بل هي مكبة على هذا السماع واللهو، فهذا من أسباب الفراق، فيمقتها ويقول: هذه لا حاجة لي فيها، ولا منفعة لي منها، فكيف أتحمل؟! وكيف أصبر وأقوم أنا بخدمتها؟! ولا شك أن هذا من آثار تربية أهلها الذين ربوها التربية السيئة، ولم يعلموها شيئاً من عمل البيت ولا من عمل الحرفة، ونعموها، وأحضروا لها مطالبها.
ومنها: كون البنت درست وواصلت الدراسة، ووصلت إلى مرحلة راقية، أصبحت جامعية أو دكتورة أو نحو ذلك، وقد يكون الرجل دونها في هذا المؤهل، فتحتقره، وتقلل من شأنه، ومن أمره، وتقول: أنا أرفع منك رتبة، وأنا أعز منك منزلة، وأنا وأنا.. مما يجعله يبغضها، ويعجل بفراقها.
ومن أسباب الفرقة: الوظيفة، كونها موظفة في مدرسة كمدرسة أو مديرة أو نحو ذلك، أو موظفة في مستشفى كطبيبة أو ممرضة أو ما أشبه ذلك، فإن هذا أيضاً يأخذ منها وقتاً طويلاً على زوجها، وتكلفه أيضاً إيصالها أو ردها، أو تكلفه إحضار خادم أو سائق يذهب بها ويجيء، وذلك مما قد يسبب الريبة لخلوته بها، ولمخاطبته لها، ولا تلين لزوجها، بل تلزمه بذلك إلزاماً، فهذا ونحوه من آثار التربية السيئة.
علاج الأسباب المؤدية إلى الطلاق
وكذلك الزوجة إذا تربت على ذلك كان في ذلك توفيقاً بإذن الله لكل من الزوجين، وكل منهما يعيش العيشة الطيبة، ويحيا حياة طيبة، ويسعد سعادة طيبة، هذا هو العلاج الفعال لبقاء الزوجية، وعدم المفارقة لها.
الواجب على الوالدين أن يربوا أولادهم ذكوراً وإناثاً التربية الصحيحة، التربية السليمة، فيربون الذكور على محبة العلم والعمل، العلم النافع، والعمل الصالح، والعبادة ومحبتها، ومحبة الصالحين، وعلى الآداب الإسلامية، وعلى الأخلاق الفاضلة العالية، ومن ذلك حسن المعاملة لأبويهم، وكذلك لإخوتهم وللمسلمين عموماً ذكوراً وإناثاً، فإن الشاب إذا نشأ على هذه التربية علم بأن عليه حقوقاً: حق لله تعالى، وحق لعباده، وحق لنفسه، وأعطى كل ذي حق حقه، وعرف أنه إذا تزوج فإنه يجب عليه حسن المعاملة لهذه الزوجة، وحسن الصحبة، والتخلق بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، وبذل الندى، وكف الأذى، وحسن المعاملة، وتجنب مساوئ الأخلاق، وإعطاؤها حقوقها، وتمكينها مما تريد مما لا محظور فيه، حتى تألفه، وحتى تعيش معه عيشة طيبة، وتجد مطلبها وراحتها، ويرزقها الله تعالى رزقاً حسناً.
وكذلك الزوجة إذا تربت على ذلك كان في ذلك توفيقاً بإذن الله لكل من الزوجين، وكل منهما يعيش العيشة الطيبة، ويحيا حياة طيبة، ويسعد سعادة طيبة، هذا هو العلاج الفعال لبقاء الزوجية، وعدم المفارقة لها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[فصل:
ومن علق طلاقًا ونحوه بشرطٍ لم يقع حتى يوجد، فلو لم يلفظ به وادعاه لم يقبل حكمًا.
ولا يصح إلا من زوجٍ بصريحٍ وكنايةٍ مع قصدٍ، ويقطعه فصلٌ بتسبيحٍ وسكوتٍ، لا كلامٌ منتظمٌ، كأنت طالقٌ يا زانية إن قمت.
وأدوات الشرط نحو: "إن" و"متى" و"إذا" ، وإن كلمتك فأنت طالقٌ فتحققي أو تنحي ونحوه تطلق، وإن بدأتك بالكلام فأنت طالقٌ، فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر، انحلت يمينه وتبقى يمينها، وإن خرجتِ بغير إذني ونحوه فأنت طالقٌ، ثم أذن لها فخرجت، ثم خرجت بغير إذنٍ، أو أذن لها ولم تعلم طلقت.
وإن علقه على مشيئتها تطلق بمشيئتها غير مكرهة، أو بمشيئة اثنين، فبمشيئتهما كذلك، وإن علقه على مشيئة الله تعالى تطلق في الحال، وكذا عتق.
وإن حلف لا يدخل دارًا، أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب، أو لا يلبس ثوبًا من غزلها فلبس ثوبًا فيه منه، أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث، وليفعلن شيئًا لا يبر إلا بفعله كله ما لم يكن له نيةٌ، وإن فعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلًا حنث في طلاقٍ وعتاقٍ.
وينفع غير ظالمٍ تأول بيمينه.
ومن شك في طلاقٍ أو ما علق عليه لم يلزمه، أو في عدده رجع إلى اليقين. وإن قال لمن ظنها زوجته: أنت طالقٌ. طلقت زوجته، لا عكسها.
ومن أوقع بزوجته كلمةً وشك هل هي طلاقٌ أو ظهارٌ لم يلزمه شيءٌ].
هذا الفصل يتعلق بالحلف بالطلاق، ويتعلق بتعليق الطلاق بالشروط، هكذا يبوبون: باب الحلف بالطلاق، أو باب تعليق الطلاق بالشروط.
والشروط هاهنا: هي الأمور المستقبلة، فمتى علق الطلاق أو العتق أو البيع أو نحو ذلك بشرط فلا يقع ذلك الشيء حتى يوجد ذلك الشرط، ويكثر تمثيل الفقهاء بهذا الشرط، ويقولون: متى علقه بشرط تعلق به، ولو أراد نقضه لم يقدر؛ لأن الشرط تعلق به، فلو قال: إن ولدت امرأتي ابنة فهي طالق. ثم ندم قبل أن تلد، وهي لا تزال حاملاً، وقال: أبطلت شرطي، أبطلت طلاقي، لا ينفعه؛ وذلك لأنه علقه بشيء مستقبل، فإذا ولدت أنثى وقعت الطلقة التي علق بها.
وهكذا أيضاً إذا علقه بزمان مستقبل، كأن يقول: إذا دخل شهر ربيع الثاني فامرأتي طالق، وندم قبل انسلاخ هذا الشهر؛ لم ينفعه ندمه، بل تطلق بدخول شهر ربيع الثاني، ولو حاول إبطال الشرط، فإنه لا ينفعه إبطاله.
وكذلك إذا قال: متى قدم زيد فامرأتي طالق، ثم ندم قبل قدوم زيد، ما نفعه ندمه، بل يقع الطلاق وقت قدوم زيد.
ضرورة التلفظ بالشرط المعلق في الطلاق
وقد يقول: إنني أريد شرطاً ولم أتلفظ به، في هذه الحال هل ينفعه إذا قال: أنت طالق، ثم قال بعد مدة: أردت إذا سافرتِ؟ فقالت: أنت ما أسمعتني هذا الشرط، سمعتك تقول: أنت طالق، وسمعك فلان وفلان تقول: أنتِ طالق، فقال: إني أريد إذا سافرتِ بدون محرم، أو إذا خرجت بدون رضاي أو ما أشبه ذلك، وإنما قلته بقلبي، هل ينفعه ذلك؟
لا ينفعه إذا لم يتلفظ بذلك الشرط، وادعاه بعد ما وقع الفعل، بعدما وقع الطلاق لم يقبل حكماً، وأما إذا لم يسأل، وكانت هذه نيته، أو دلت على الشرط قرائن فإنه يُقبل؛ وذلك لأن هذا شيء بينه وبين الله، لا يعلم ما في قلبه إلا الله. فإذا قال: ما طلقتها بهذا اللفظ إلا إذا فعلت هذا الفعل: إذا سمعت أغاني مثلاً، أو إذا خاطبت أجنبياً، أو إذا خرجت إلى الأسواق بدون إذني، أو إذا تبرجت وتكشفت للناس، هذه نيتي، فيقال له: أنت ما تكلمت بهذا، سمعك فلان وفلان تقول: أنتِ طالق، أو امرأتي طالق، ولم تقل: إن خرجت، ما أتيت بالشرط، فإذاً لا يُقبل منه، إلا إذا كان ذلك بينه وبين الله، ولم يسمع الطلاق منه أحد إلا امرأته.
عدم صحة الطلاق المعلق وغيره إلا من زوج
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) يعني: الزوج، فإنه هو الذي يمسك امرأته وقت الوقاع، يمسك ساقها، ويمسك عضدها، الطلاق للزوج، فلو طلق عليه أبوه -مثلاً- لم يقع، لا يقول: امرأة ابني طالق، أو امرأة والدي طالق، أو امرأة أخي، لا يقع الطلاق إلا من الزوج.
وقد ذكرنا أن الطلاق صريح وكناية، وصريح الطلاق كقوله: أنت طالق، أنت مطلقة، قد طلقتك، وكذلك: فارقتك، وسرحتك، وما أشبه ذلك، هذا صريح.
والكناية لا يقع بها الطلاق إلا مع النية، كناية الطلاق هي اللفظ الذي ليس بصريح، مثل: اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، وأنت خلية، وأنت برية، وأنت بائن، وأنت حرة، وأنت حرج، ولست لي بامرأة، وحبلك على غاربك، وأمثال ذلك، فهذه محتملة، فإذا كان هناك نية أو هناك قرينة وقع الطلاق بالكناية.
ما يقطع التعليق في الطلاق؟
الضمير في (يقطعه) الشرط والاستثناء، يقطعه تسبيح وسكوت، فلو قال مثلاً: أنت طالق، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، إن قمتِ، إن خرجتِ، بطل الشرط، ووقع الطلاق، ولا ينفعه هذا الشرط، وكذلك لو قال: أنت طالق، ثم سكت سكوتاً يمكنه أن يأتي فيه بكلام، وبعد سكوته قال: إن ركبت مع أجنبي.
لماذا لم تأتِ بالشرط ساعة ما نطقت بالطلاق؟
لا ينفعه هذا الشرط المتأخر؛ لأنه فصل بين الطلاق والشرط بالسكوت.
أما إذا كان الكلام متواصلاً فإنه والحال هذه يعتبر الشرط، ومثلوا له بقوله: أنتِ طالقة يا زانية إن قمت، كلمة (إن قمت) هذه هي الشرط، وفصل بينها بقوله: (يا زانية)، وهكذا لو دعاها باسمها، إذا قال: أنت طالق يا بنت زيد إن خرجت بلا إذني، فهذا كلام متصل، ويعتبر الشرط، ولا تطلق إلا إذا خرجت بغير إذنه.
أدوات الشرط المستعملة في الطلاق المعلق
مثالها: أنت طالق إن كلمتِ زيداً هاتفياً، أو أنتِ طالق متى خرجتِ بدون إذني، أنت طالق إذا ركبتِ مع سائق أجنبي. أتى بـ(إن، وإذا، ومتى) فمتى أتى بها متصلة وقع الطلاق إذا وقع الشرط، هذا هو قول جمهور العلماء، أن الطلاق المعلق يقع بوقوع ذلك الشيء الذي علقه، إذا كان ذلك في الإمكان، وأما إذا علقه بشيء غير متصور؛ فإنه لا يقع، ومثل له بعض العلماء بما إذا قال: أنت طالق إن طرتِ، أو صعدتِ السماء، أو قلبت الحجر ذهباً، أو رددتِ اليوم الماضي، أو أحييتِ هذا الميت. فهل يقع الطلاق؟
هذا شيء لا يتصور، ولا يمكن أن تقدر عليه، لا يمكن أن تقلب الحجر ذهباً، ولا أن تحيي الأموات، ولا أن ترد مثلاً يوم السبت الماضي.
وأما إذا عكس ذلك فإنها تقع الطلقة، إذا قال: أنت طالق إن لم تحيي الموتى، فتطلق في الحال، أنت طالق إن لم تصعدي إلى السماء، تطلق في الحال، وأشباه ذلك.
حكم وقوع الطلاق المعلق
يفتي شيخ الإسلام بأنه لا يقع الطلاق وإنما يكفر بإطعام عشرة مساكين كفارة يمين؛ فهو رحمه الله لاحظ المراد من هذا اللفظ.
كذلك إذا طلب أن يزور أهله وقال: تعالي معي إلى أهلي، فتثاقلت، فقال: إن لم تركبي معي إلى أهلي فأنت طالق، يريد بذلك تخويفها حتى تطيعه، ولا تتخلف، ولكنها امتنعت، فهل يقع الطلاق؟
يقول شيخ الإسلام : عليه كفارة يمين، وهذا يقع من كثير من الأزواج، فيعتبره شيخ الإسلام يميناً، ويعتبره غيره طلاقاً معلقاً.
إذا قال مثلاً: إن خرجت من البيت فأنت طالق، فقال: ما أريد طلاقها، ولكني أريد ألا تخرج من البيت أو قال مثلاً: إن ركبتِ مع فلان، أو إن كلمتِ فلاناً ولو هاتفياً فأنت طالق، ثم قال: ما أريد فراقها، ولكني أريد تهديدها حتى لا يقع منها هذا العصيان، فهذا يعتبره شيخ الإسلام يميناً، فيها كفارة اليمين، ولو لم يكن حلفاً صريحاً، ولكن كأنه حلف، كأنه يقول: والله لتذهبن معي، أو لأمنعنك أن تركبي مع فلان، أو أن تكلمي أجنبياً، أو ما أشبه ذلك، فيكون هذا حلفاً.
ولما أفتى شيخ الإسلام بهذا وافقه كثيرون، حتى الخصوم الذين خالفوه في كثير من المسائل الفرعية والأصولية وافقوه على هذه الفكرة، وله رسالة في تعليق الطلاق بالشروط، وكون ذلك يميناً، طبعت في المجلد الرابع والثلاثين، وقد أفردت وطبعت في نسخة مستقلة، وعلق عليها، وجعل لها مقدمة، وهذا يريح كثيراً من الذين يعلقون الطلاق بشرط مستقبل، ولا يكون قصدهم إيقاع الطلاق.
وأما الشيء الذي ليس باختيارها فإنه على الصحيح يقع به الطلاق، وقد مثلنا له في أول الكلام، كما لو قال: إن ولدتِ أنثى فأنت طالق، فهنا تطلق؛ وذلك لأن الذكور والإناث ليس باختيارها، وكذلك إذا قال: أنتِ طالق إذا دخل شهر ربيع الثاني، وهاهنا تطلق ولا يقال: إنه تهديد، ولا إنه حض، ولا إنه منع، وكذلك لو قال: أنتِ طالق إذا قدم زيد من سفره، فقدومه ليس باختيارها، فهذا لا يصلح تهديداً ولا وعيداً، وليس فيه حض ولا منع، فكل شيء ليس في إمكانها أن تفعله فإنه يقع، ويكون طلاقاً معلقاً بشرط، وأما الأشياء التي يكلمها به وفي إمكانها أن تفعل أو تترك فيعتبرونها يميناً، ويفتي بذلك شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، وغيره من زملائه، فإذا جاءهم من يقول: إني قلت لامرأتي: إن خرجت إلى السوق فأنت طالق، ثم ندمت فماذا أفعل؟
يقولون: هل أنت تريد الطلاق أو لا تريده وإنما تريد منعها؟
فإذا قال: أنا أريد امرأتي، ولا أرغب طلاقها، ولكني أردت أن تمتنع عن هذا الخروج، فيقولون: إذاً عليك الكفارة. أما إذا قال: إني عازم على الطلاق، وأريد أن يكون آخر عهدي بها خروجها أو مكالمتها، ولا أريدها بعد ذلك، أنا أريد طلاقها، ولكن يتوقف طلاقها على هذا الفعل، فهنا تقع الطلقة أو الطلقات.
بعد ذلك أتى المصنف بأمثلة: إن كلمتك فأنت طالق فتنحي أو تحققي أو نحو ذلك؛ فإنها تطلق؛ وذلك لأنه كلمها، أليس قوله: (فتحققي أو تنحي) كلام؟ نعم، فتطلق؛ وذلك لأنه علق الطلاق بكلامه، ومع ذلك أوقع الكلام، فتطلق، هذا على قول الجمهور في أن التعليق يقع به طلاق، وأما على قول شيخ الإسلام فإنه لا يقع، ويكون يميناً إذا لم يقصد الطلاق، وإنما قصد منع نفسه أن يكلمها في هذه الحال كلاماً مطلقاً.
قوله: (إن بدأتك بالكلام فأنت طالق) يعني: إذا ابتدأتك بعد هذه الجملة، لكنها قالت له: (إن بدأتك به فعبدي حر. انحلت يمينه)؛ وذلك لأنه ما بدأها، بل هي التي بدأته بقولها: إن بدأتك به فعبدي حر، فلا تطلق، حيث إنها هي التي بدأته، وأما هي فتبقى يمينها، فإذا كلمته بعد ذلك عتق عبدها؛ لأنها بدأته بعد هذا الكلام.
قوله: (إن خرجت بغير إذني -أو نحو ذلك- فأنت طالق) يعني: إن خرجتِ إلى السوق، أو إلى الأندية، أو إلى الاستراحات، أو أماكن اللهو بغير إذني فأنت طالق، ثم أذن لها فخرجت، فهذه المرة ما تطلق، لكن خرجت بعد ذلك بغير إذنه، أو أذن لها ولم تعلم بإذنه لها وخرجت، في هذه الحال تطلق، المرة الأولى أذن، والمرة الثانية ما أذن، أو أذن ولم تعلم.
أما إذا أبطل كلامه وقال: قد أبطلت كلامي، قد أذنت لك متى شئتِ؛ فإنها لا تطلق.
حكم تعليق الطلاق على مشيئة المرأة أو اثنين
أما إذا أكرهها أبوها، وقال: إنه أراد طلاقك، اطلبي منه الطلاق، قولي: إني قد شئت، وإلا ضربتكِ، وإلا أوجعتكِ، أو قاله أخوها لها، فأكرهوها على أن تقول: إني قد شئت الطلاق، فهاهنا هي مكرهة، وتقدم أن الإكراه يمنع وقوع الطلاق.
وإذا علق الطلاق بمشيئة اثنين فلا تطلق إلا بمشيئتهما جميعاً، فإذا قال: أنت طالق إذا شاء أبوك وأمك، فقال أبوها: أنا قد شئت، وقالت أمها: أنا لم أشأ، ولا أريد أن تطلق، لا تطلق؛ لأنه علقه على مشيئة اثنين، وكذلك على مشيئة أخويها أو أختيها، إذا شاء أحدهما وقال: أنا أريد أنها تطلق، وقال الآخر: أنا لا أريد، فلا يقع الطلاق إلا بمشيئتهما جميعاً.
وإن علقه على مشيئة الله تعالى تطلق في الحال؛ وذلك لأن مشيئة الله نافذة، والله تعالى يشاء كل ما في الوجود، فإذا قال: أنتِ طالق إن شاء الله. طلقت في الحال، وإذا قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، أو أعتقتك إن شاء الله، فمتى يعتق؟
يعتق في الحال؛ لأن كل ما يقع فإنه يكون بمشيئة الله تعالى.
الحلف بالطلاق بنية الحث أو المنع أو التضمين
إذا حلف لا يدخل داراً، أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده، أو دخل طاق الباب، في هذه الحال هل يحنث؟
لا يحنث؛ لأنه ما فعل المحلوف عليه، ومثله الطلاق، لو قال: أنت طالق إن دخلت هذه الدار، فأدخلت رأسها، أو وقفت فوق الطاق، والطاق: هو الباب، إذا فتح ووقفت تحت الطاق، ما تطلق؛ لأنه ما حصل الدخول.
وكذلك لو قال: والله! لا أخرج من هذه الدار اليوم، فأطل من النافذة، وأخرج رأسه أو نحو ذلك، أو وقف في طاق الباب فلا يحنث.
وكذا لو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدار في هذا اليوم فأنت طالق، فأخرجت رأسها من نافذة أو من الباب، أو وقفت في طاق الباب، فلا تطلق، وكذلك إذا أخرجت يدها من الباب أو من النافذة.
إذا حلف ألا يلبس ثوباً من غزلها، فلبس ثوباً بعضه من غزلها، وبعضه من غيره، وغزلها هو الذي تحيكه، كان النساء يغزلن الصوف، وإذا غزلنه نسج ثياباً أو فرشاً أو بيوت شعر أو نحو ذلك، إذا قال: والله لا ألبس ثوباً من غزلها ولبس ثوباً بعضه من غزلها، وبعضه من غيره، ما يحنث.
وكذلك لو قال: إن لبست ثوباً من غزلها فهي طالق، ولبس ثوباً بعضه من غزلها، فلا تطلق.
إذا حلف ألا يشرب ماء هذا الإناء، كان الإناء فيه ماء فقال: والله! لا أشرب ماء هذا الإناء، فإذا شرب بعضه وقد حلف ألا يشربه لم يحنث، أما إذا حلف أن يشربه وشرب بعضه حنث، فإذا شربه كله لم يحنث.
وكذا الطلاق إذا قال: أنت طالق إن شربتِ ماء هذا الإناء، فإنها لا تطلق إذا شربت نصفه أو ثلثيه؛ لأنه علق الطلاق على شربه كله.
أما إذا قال: أنت طالق إن لم تشربي ماءه، فإذا شربته كله لم تطلق، وإن شربت بعضه طلقت.
إذا قال: والله لآكلن هذا الرغيف، أو والله لألبسن هذا الثوب أو هذه الحلة، فلا يبر إلا إذا فعله كله، ما لم يكن له نية، لو أكل بعضه حنث، وكذا لو حلف على امرأته: إن لم تأكلي هذا الرغيف فأنت طالق، فأكلت نصفه طلقت، وإن أكلته كله لم تطلق.
أو قال: أنت طالق إن أكلت الرغيف، فإن أكلت نصفه لم تطلق، وإن أكلته كله طلقت.
وهكذا إذا قال: أنت طالق إن لم تشربي هذا الماء، وشربت نصفه فإنها تطلق، فإن شربته كله لا تطلق.
أنت طالق إن شربت هذا الإناء، يعني: إن شربته أكله.
إذا كان له نية فإنها تنفعه نيته، كما لو لم يكن يتصور، لو قال مثلاً: إن شربت ماء هذا النهر فأنتِ طالق، معلوم أنه لا يتصور أن الإنسان يشرب ماء النهر الجاري كله، فعلى هذا إذا شربت منه فإنها تطلق؛ لأن القرينة تدل على أنه لا يريد شربه كله، وكذلك مثلاً لو كان الطعام كثيراً، فإذا ذبح مثلاً كبشاً، وقال: إن لم تأكلي هذا الكبش فأنت طالق. يريد بذلك: إن لم تأكلي منه، لا يريد أنها تأكله كله؛ فإن هذا متعذر.
حكم من علق الطلاق والعتاق بشيء ففعله ناسياً
لا يقبل، بل يقع الطلاق؛ وذلك لأنه ادعى شيئاً خفياً، فنحن نعامله بالظاهر، فنقول: تطلق المرأة، وكذلك العكس، لو قال: إن لبست هذا الثوب فعبدي حر، ثم لبسه وقال: إني نسيت، أو إني جاهل أنه هو الثوب الذي علقت العتق على لبسه، فيعتق العبد؛ وذلك لأن الطلاق والعتق فيهما حق لآدمي، وحقوق الآدميين مبنية على المشاحة والمضايقة، فلأجل ذلك يقع الطلاق ويقع العتاق؛ بخلاف اليمين فإنها لا تقع.
ومعنى ذلك: أنه لو قال: والله! لا ألبس هذا الثوب، ثم لبسه ناسياً، فلا يحنث، والله! لا أركب هذه السيارة، ثم ركبها ناسياً ليمينه أو جاهلاً أنها السيارة التي حلف ألا يركبها، فإنه لا كفارة عليه، وما ذاك إلا لأنه معذور بالنسيان وبالجهل؛ لأن الناسي معذور، قال تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، فإذا حلف أنه لا يركب فركب، أو حلف أنه لا يشرب فشرب، وقال: إني ناسٍِ أو جاهل؛ قُبل قوله ولم يلزمه كفارة، وإذا طلق أو أعتق أنه لا يركب وقال: إن ركبت فامرأتي طالق، إن شربت فامرأتي طالق أو عبدي حر، فشرب الماء، أو ركب البعير، أو أكل من اللحم الذي علق عليه طلاقاً ففي هذه الحال يقع الطلاق، حتى ولو قال: إني ناسٍ، ويقع العتاق، ولو ادعى النسيان؛ لأنه ينكر حقاً لغيره.
حكم المعاريض في الطلاق والعتاق وغيرهما
التأويل: هو ما يسمى: بالمعاريض، أو تأويل الكلام بتأويل فيه غرابة، وقد ذكروا أمثلة كثيرة في بعضها غرابة، ولكن يقولون: إن فيها مخرجاً من بعض المآزم، ولا يسمى: كذباً، مثاله: في غزوة بدر لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأقبل على بدر لقي رجلاً من المشركين، فسألوه: (ما أخبار قريش وما أخبار محمد؟ فسألهم: ممن أنتم؟ فقالوا: أخبرنا ونخبرك. فأخبرهم بما سمع عن هؤلاء وهؤلاء، ثم قال: من أنتم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء) يعني: أننا خلقنا من ماء، فظن أن هناك قبيلة يقال لها: (ماءً) وصدقهم، وليس في هذا كذب، ولكن فيه تأويل، فالتأويل ينفع إذا كان المؤول غير ظالم، وأما إذا كان ظالماً فليس له أن يتأول، فمثلاً الإنسان الذي عنده دين أو عنده مال، إذا حلف وقال: والله! ماله عندي شيء، وقال: أردت بذلك ماله عندي، وهو شيء، فصاحب المال يعتبر أن هذا حلف على النفي، ونية الحالف على الإثبات، أي: له عندي شيء. فمثل هذا يعتبر كذباً، ولا ينفعه هذا التأويل.
وقد كثر التأويل من قبل أهل البدع في كثير من النصوص، واعتبروه أنه نافع، ولكن ليس بنافع لهم؛ لأنهم متأولون ما لا يحل لهم، فأول بعضهم قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فجعلوا كلمة: (إلى) اسماً لواحد الآلاء التي هي النعم، قالوا: (إلى) -يعني: نعمة- (ربها ناظرة) وهذا تأويل بعيد.
ومثال التأويل الظالم: لو قال: هل رأيت بعيري؟ فقال: والله ما رأيته، مع أنه قد تركه عنده، لماذا حلفت وهو عندك؟ قال: حلفت ما رأيته؛ يعني: ما طعنت رئته، رأيته يعني: طعنته في الرئة وأخرجت رئته، وكذلك لو قال: ما قلبته، وأراد بذلك: ما قطعت قلبه، فإن هذا تأويل باطل إذا كان المؤول ظالماً وكاذباً وسارقاً، ولا ينفعه تأويله، وأما إذا كان غير كاذب وغير ظالم فإنه ينفعه تأويله، وينفعه الكلام الذي قد يفهم منه غير ظاهره، فلا يكون في ذلك كذب.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بكلمات حق، وقد يفهمها بعض على غير ما هي عليه: (جاء إليه رجل فقال: يا رسول الله! احملني. فقال: أحملك على ولد الناقة، فقال: لا يطيقني، فقال: والله! لا أحملك إلا على ولد الناقة) وظن أن ولد الناقة هو البكر الصغير (فقيل له: وهل الجمل إلا ولد الناقة؟!) ، إذا حملك على جمل فالجمل ولد الناقة، فهذا من التأويل المباح.
وذكر أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر في زوجها، فقال: (زوجك الذي في عينيه بياض؟ فأنكرت ذلك، فقال: بلى) ولما رجعت أخذت تنظر في عيني زوجها، وما فكرت أن المراد بالبياض: البياض الذي بجانب السواد، وكل إنسان في عينيه سواد وبياض.
وكذلك -أيضاً- جاءت امرأة وقالت: يا رسول الله! ادعُ الله أن يدخلني الجنة، وكانت امرأة كبيرة، فقال: (ويحك! إن الجنة لا يدخلها عجوز، فولت تبكي، فقال: ادعوها وأخبروها أنها لا تدخل الجنة وهي عجوز، إن الله يقول: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:35-36]) .
فهذه أمثلة من التأويل الذي ينفع.
حكم الشك في وقوع الطلاق وعدده وما علق عليه
لا تلتفت إلى هذا الشك، ولا تهتم به؛ وذلك لأن الأصل بقاء الزوجية، وإذا كانت الزوجية باقية فالأصل أنه ما حدث شيء يخرجها عن كونها زوجة، فلا تلتفت إلى هذا الطلاق المشكوك فيه.
وكذلك إذا شك فيما علق عليه، إذا قال: أنا طلقتها إن خرجتْ، أنا أشك هل هي خرجت أو ما خرجت، هي تنفي وتقول: أنا ما خرجت، فالأصل عدم وجود الشرط الذي علق عليه الطلاق، فلا يلتفت إلى ذلك الطلاق الذي علقه على شيء وشك في وقوعه، فلا يلزمه ذلك الطلاق.
وهكذا إذا شك في العدد، قال: أنا طلقت، ولا أدري هل أنا طلقت واحدة أو اثنتين؟ أشك في ذلك! أيقن بوقوع الطلاق وشك في عدده، ما الحكم؟
يبني على اليقين، الواحدة يقين، والثانية مشكوك فيها، فيبني على اليقين وهي طلقة واحدة.
حكم من طلق امرأة ظنها زوجته فبانت أجنبية والعكس
وكذلك العكس إذا رأى امرأة تمشي في السوق، وظن أنها أجنبية، فقال لها: أنت طالق، فبانت زوجته، في هذه الحالة يقول: ما كنت أظنها زوجتي، كنت أظنها امرأة من سائر النساء، ففوجئ بأنها امرأته، من العلماء من يقول: تطلق امرأته؛ وما ذاك إلا لأنه واجهها بطلاق، وإذا قال: إني ما كنت أظن أنها امرأتي، كنت أظنها أجنبية، فلا يقبل؛ وذلك لأنه يتعلق به حق آدمي، فيلزمه الطلاق الذي أوقعه بها، هكذا ذكروا.
والقول الثاني: أنه لا يقع؛ وذلك لأنه ظنها أجنبية، وطلاقه للأجنبية لا يضر.
حكم من شك هل طلق أو ظاهر
يقول: أنا تكلمت مع امرأتي كلمة، ونسيت هل أنا قلت: أنت طالق، أو أنت محرمة علي، أو أنت كظهر أمي، أو قلت: أنت جريئة، أو أنت بريئة، أو أنت غير محترمة، أو ما أشبه ذلك، تكلمت عليها بكلمة، ونسيت تلك الكلمة هل هي ظهار، أو طلاق، أو إنكار، أو سب، أو عيب، نسيت تلك الكلمة، فماذا يلزمه؟
لا يلزمه شيء؛ لأنه ما تجرأ ولا جزم بشيء يترتب عليه طلاق أو ظهار.
هذا ما تضمنه هذا الفصل، وبمراجعة الشروح يتبين ما يلحق بها من الصور.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح أخصر المختصرات [21] | 2741 استماع |
شرح أخصر المختصرات [28] | 2718 استماع |
شرح أخصر المختصرات [72] | 2609 استماع |
شرح أخصر المختصرات [87] | 2572 استماع |
شرح أخصر المختصرات [37] | 2486 استماع |
شرح أخصر المختصرات [68] | 2350 استماع |
شرح أخصر المختصرات [81] | 2342 استماع |
شرح أخصر المختصرات [58] | 2334 استماع |
شرح أخصر المختصرات [9] | 2321 استماع |
شرح أخصر المختصرات [22] | 2271 استماع |