شرح أخصر المختصرات [5]


الحلقة مفرغة

قرأنا في أحكام التيمم اشتراط أن يكون المتيمم به تراباً، وأن الصحيح جواز التيمم بالرمل ونحوه، واشتراط الإباحة، وأن الصحيح ارتفاع الحدث بالتيمم بتراب غير مباح كالأرض المغصوبة ونحوها.

وكذلك مر بنا أيضاً في مبطلات التيمم الخلاف في بطلان التيمم بخروج الوقت، والاحتياط أن يتيمم لكل صلاة، كذلك من عدم الماء والتراب ذكروا أنه يصلي على حسب حاله، ويقتصر على المجزئ، يعني: لا يقرأ زيادة على الفاتحة، ولا يسبح أكثر من واحدة، ولا يقرأ في غير الصلاة إذا كان جنباً، وأن الصحيح أنه مثل غيره؛ لأنه يفعل ما يستطيعه.

كذلك ذكرنا في إزالة النجاسة اشتراط سبع غسلات في إزالة النجاسات كلها، والصحيح: أن إزالة النجاسة يكون بزوال عين النجاسة دون أن يشترط عدد لا سبع ولا أقل ولا أكثر، إلا في نجاسة الكلب، والمراد بها: ولوغه فقط، وأما بقية نجاساته فهي كسائر النجاسات، وأن الصحيح عدم إلحاق الخنزير بالكلب، بل هو كغيره يغسل حتى يزول أثر النجاسة وجرمها وعينها.

كذلك تكلموا على طين الشوارع، والصحيح أنه إذا تحقق أنه نجس كالمياه التي تتسرب من البيارات ونحوها فإنه نجس، وإلا فالأصل الطهارة.

كذلك مر بنا في بحث الحيض ذكر أقله وأكثره، وأن الصحيح في المبتدئة أنها كغيرها، إذا رأت الدم فما دام الدم كثيراً فإنها تتوقف عن الصلاة، ولا يلزمها أن تتطهر بعد يوم، بل هي كغيرها، وحددوا أكثره بخمسة عشر يوماً نظراً إلى الواقع، وإلا فلو قدر زيادته فإنه يعتبر حيضاً إذا تحقق بأنه مثل دم الحيض، إلا إذا استمر فإنه يكون استحاضة.

وأن المستحاضة لها ثلاث حالات:

الأولى: أن ترجع إلى عادتها، الثانية: فإن لم يكن لها عادة فالتمييز، وهو التفريق بين دم الحيض ودم الاستحاضة، الثالثة: فإن لم يكن لها عادة ولا تمييز فإنها تجلس غالب الحيض من كل شهر، أي: ستاً أو سبعاً.

هذه أهم المسائل الخلافية في هذه الأبواب.. والله أعلم.

والحمد لله ربه العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الصلاة.

تجب الخمس على كل مسلم مكلف، إلا حائضاً ونفساء، ولا تصح من مجنون ولا صغير غير مميز، وعلى وليه أمره بها لسبع، وضربه على تركها لعشر، ويحرم تأخيرها إلى وقت الضرورة إلا ممن له جمع بنيته، ومشتغل بشرط لها يحصل قريباً، وجاحدها كافر.

فصل: الأذان والإقامة فرضا كفاية على الرجال الأحرار المقيمين للخمس المؤداة والجمعة، ولا يصح إلا مرتباً متوالياً منوياً من ذكر مميز عدل ولو ظاهراً، وبعد الوقت لغير فجر، وسن كونه صيتاً أميناً عالماً بالوقت، ومن جمع أو قضى فوائت أذن للأولى وأقام لكل صلاة، وسن لمؤذن وسامعيه متابعة قوله سراً إلا في الحيعلة فيقول الحوقلة، وفي التثويب: صدقت وبررت. والصلاة على النبي عليه السلام بعد فراغه، وقول ما ورد، والدعاء، وحُرم خروج من مسجد بعده بلا عذر أو نية رجوع.

فصل: شروط صحة الصلاة ستة: طهارة الحدث وتقدمت، ودخول الوقت، ووقت الظهر من الزوال حتى يتساوى منتصب وفيئه سوى ظل الزوال، ويليه المختار للعصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه سوى ظل الزوال، والضرورة إلى الغروب، ويليه المغرب حتى يغيب الشفق الأحمر، ويليه المختار للعشاء إلى ثلث الليل الأول، والضرورة إلى طلوع فجر ثانٍ، ويليه الفجر إلى الشروق، وتدرك مكتوبة بإحرام في وقتها، لكن يحرم تأخيرها إلى وقت لا يسعها، ولا يصلي حتى يتيقنه أو يغلب على ظنه دخوله إن عجز عن اليقين، ويعيد إن أخطأ.

ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها بتكبيرة لزمته وما يجمع إليها قبلها، ويجب فوراً قضاء فوائت مرتباً ما لم يتضرر أو ينسى، أو يخشى فوت حاضرة أو اختيارها.

الثالث: ستر العورة، ويجب حتى خارجها وفي خلوة وظلمة بما لا يصف البشرة. وعورة رجل وحرة مراهقة، وأمة مطلقاً ما بين سرة وركبة، وابن سبع إلى عشر الفرجان، وكل الحرة عورة إلا وجهها في الصلاة، ومن انكشف بعض عورته وفحش أو صلى في نجس أو غصب ثوباً، أو بقعة أعاد، لا من حبس في محل نجس أو غصب لا يمكنه الخروج منه].

الأصل أن العلماء يبدءون بكتاب الصلاة، ولكن بدءوا بالطهارة لأنها شرطها، والعادة أن الشرط يتقدم المشروط، واستطردوا في كل ما يتصل بالطهارة، وفي كل ما له صلة بإزالة النجاسات وما أشبهها، وإن كانت عادة المؤلفين الأولين أن يرتبوا كتبهم على ترتيب أركان الإسلام، فيبدءون بالشهادتين، ثم بالصلاة، ثم بالزكاة، تم بالصيام ثم بالحج.

فعل ذلك مسلم في صحيحه، وكذا البخاري في تقديمه للإيمان الذي هو مضمون الشهادتين، ثم الصلاة، ثم الصوم -إلا أن البخاري أخر الصوم عن الحج- ثم بالحج، وهذا هو الترتيب المعتاد.

ولما كان التوحيد هو العقيدة الأساسية أفرد بعد ذلك بكتب، فجعلت باسم التوحيد أو الإيمان، أو السنة، أو الشريعة، وجعلت كتب التوحيد مفردة لأهميتها، وجعلت بقية الأحكام مجموعة، وقسموا الأحكام أربعة، فبدءوا بالعبادات؛ لأنها حق الله، فإذا انتهوا من العبادات التي هي حق الله بدءوا بالمعاملات التي فيها كسب المال؛ لأن الإنسان بحاجة إلى كسب المال الذي هو قوته، والذي هو مادة حياته، ثم بعد ذلك بالنكاح؛ لأنه أيضاً من تمام الضرورات، ثم ختموا بالحدود والجنايات؛ لأنها تنتج عمن كملت عليه النعمة، واتصلت نفسه بعد ذلك بالعدوان وبالظلم.

والآن نحن في القسم الأول الذي هو العبادات، وفي أهمها وهو الصلاة.

الصلوات الواجبة

الصلوات الواجبة خمس كما هو معروف، دليلها قوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد)، في حديث طلحة بن عبيد الله ، وقوله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، فدل على أن الصلوات المكتوبة خمس.

وفي حديث الإسراء: (إن الله تعالى فرض عليه خمسين صلاة، ثم إنه طلب التخفيف بإشارة من موسى حتى جعلها الله تعالى خمساً، وقال: لا يبدل القول، هي خمس وهي خمسون) يعني: أن من حافظ عليها فله أجر خمسين، والحسنة بعشر أمثالها.

هذه الصلوات الخمس واجبة على المسلم، والكافر مطالب بشرطها وهو الإسلام، فإذا لم يسلم لم يطالب بها.

خطاب الكفار بالصلاة

وهناك خلاف أصولي: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟

تكلم العلماء على ذلك في أصول الفقه، ورجحوا أنهم مخاطبون بها وإن كانت لا تقبل منهم، ويكون خطابهم بمعنى زيادة العقوبة عليهم، فيقال مثلاً: هذه عقوبتك على الشرك، وهذه عقوبتك على ترك الصلاة، وهذه عقوبتك على ترك الصوم.. وهكذا، وإلا فلو أنهم صلوا وهم مشركون ما قبلت منهم ولا أجروا عليها.

ثم هو معروف أن كلمة (تجب) بمعنى: تلزم، أي أنها واجبة وجوباً مؤكداً، لا تجب إلا على المسلم المكلف.

والمكلف: هو البالغ العاقل، هذا تعريف التكليف: البالغ العاقل، فيخرج بذلك الصغير، فإنه لا تجب عليه، وأمره بها أمر تعليم وتدريب، ويخرج بذلك أيضاً فاقد العقل، وهو المجنون، فإنه مرفوع عنه القلم حتى يفيق، فإن الله تعالى إنما خاطب بالواجبات من يعقل، ومعلوم أن فاقد العقل لا يفهم، ولا يدري ما يقال له، ولا يميز بين الواجب وغيره، وعلامة ذلك: أنه يفعل الأفعال التي لا يقرها العقل وليس معه ما يميز به بين النافع والضار.

ويستثنى من هذا الوصف الحائض والنفساء، فتسقط عن الحائض والنفساء في زمن الحيض وزمن النفاس، فلا تجب عليها الصلاة، ولا يلزمها قضاؤها كما تقدم في الحيض، وتقدم أن السبب استمرار هذا العذر وهذه النجاسة، ومشقة القضاء عليها، حيث إنه قد يجب قضاء خمسة عشر يوماً وأربعين يوماً في الحيض، فيكون في ذلك صعوبة.

وبعد ذلك صرح بما يحترز به عن مسلم مكلف، وعرفنا أن (مكلف) احترازاً من مجنون وصغير، فلا تصح من المجنون ولا يؤمر بها؛ لأنه لا يحسن ولا يفهم ولا يدري ما يقال له، وكذلك من الصغير غير المميز، وأما إذا كان مميزاً فإنه يؤمر بها، ويكون أمره للتدريب، حتى يألفها لصغره، وحتى تخف عليه عند التكليف، وحددوا الصغر الذي يميز معه بسبع سنين، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).

الأمر هاهنا للأولياء؛ فهل هو للوجوب أم للاستحباب؟

النبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (مروا أولادكم) هذا الأمر قال بعضهم: إنه للوجوب، ويلزم الولي أن يأمر أولاده ذكوراً وإناثاً بالصلاة لتمام سبع، ولكن القرينة وهي أنه ما أمر بالضرب إلا لتمام عشر تدل على أن الأمر ليس للإلزام، وإنما هو للتعليم والتدريب، فإذا بلغ سبع سنين ودخل في الثامنة فإن والده وولي أمره يأمره، ويستدعيه، ويأخذ بيده إلى المسجد ويعلمه ما يلزم، فيعلمه الطهارة، ويعلمه اجتناب النجاسة، ويعلمه الصلاة بقدر ما يستطيع، فيعلمه ما يقول في القيام، وما يقول في الركوع والسجود، وما يقول في القعود وفي الرفع من الركوع، ويعلمه الطمأنينة والخشوع، ويعلمه الإقبال على الصلاة وعدم الحركة والالتفات، ويدربه على ذلك.

كما أنه في هذه السن يحافظ عليه أيضاً، فيحفظه عن المحرمات، ويبعده عن السفه، ويبعده عما هو محرم أو منكر -مثلاً- كرؤية الصور القبيحة والأفلام الخليعة، وكذلك سماع الأغاني والملاهي وما أشبهها؛ لأنه في هذه السن يألف ما يسمع، وينطبع في ذاكرته ما يقال له، ويتدرب على هذا السماع المحرم، ويكون ذلك سبباً في انخراطه، أو في توغل هذه المنكرات في قلبه، فيصعب بعد ذلك تخليصه.

ويضرب على تركها لعشر؛ ولذلك لأن العشر مظنة البلوغ، والأصل أن أقل ما يبلغ فيه الصبي إذا تم عشر سنين. فيوجد كثير ممن يحتلم وقد تم له عشر سنين. ودخل في الحادية عشرة، أو مثلاً يبلغ بالإنبات أو نحوه، فإذا بلغ عشر سنين فهو مظنة البلوغ، فيضرب على تركها.

وهل الضرب ضرب تعليم أو ضرب تأديب؟

الصحيح أنه ضرب تعليم. يعني: لا يشدد فيه، بل يضربه ضرب تعليم حتى يعلم ذلك؛ لأنه لا يزال في سن الصغر غالباً، فيعلمه تعليماً وفيه شيء من الشدة. هذا ما يتعلق بمن تلزمه.

تحريم تأخير الصلاة إلى وقت الضرورة

بعد ذلك يقول: (ويحرم تأخيرها إلى وقت الضرورة).

وذلك لأنها لا تؤخر إلا للضرورة، وقت الضرورة يكون في صلاة العصر والعشاء، إلا لمن له الجمع بنيته إذا كان يجوز له الجمع، كإنسان سائر في الطريق ودخل عليه وقت الظهر وهو مستمر في السير، ويحب مواصلة السير، فدخل عليه وقت العصر، وهو مشتغل أيضاً بالسير ويحب مواصلة السير، فخرج وقت الاختيار الذي هو أن يكون ظل كل شيء مثليه، واستمر في سيره حتى دخل وقت الضرورة. أي: قبل الغروب بنصف ساعة أو بثلث ساعة فوقف، فصلى الثنتين في وقت الضرورة. أي: في وقت العصر الذي هو وقت الضرورة.

وكذا لو كان سائراً في الليل، وشق عليه النزول، وأراد مواصلة السير، فلم ينزل إلا في آخر الليل، فإنه يجوز له؛ لأن هذا له عذر في التأخير، فأما الإنسان المقيم فلا يجوز أن يؤخر العصر إلى ما قبل الغروب؛ لما ورد في ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) يعني: أنه فرط في الوقت وأخره صلاة العصر إلى أن قرب الغروب، وقد ورد: (أن الشمس تغرب بين قرني شيطان، فحينئذ يسجد لها المشركون)، كذلك تطلع بين قرني شيطان، ولأجل ذلك نهي عن الصلاة في هذين الوقتين: عند الطلوع وعند الغروب؛ لئلا يكون سجوده للشيطان.

فالحاصل أنه لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت -وقت الضرورة مثلاً- إلا لمن له الجمع بنيته، قال: (ومشتغل بشرط لها يحصل قريباً): إذا كان أخرها لأجل أن يشتغل بشرطها، فعرف أن شرطها يحصل قريباً، مثاله: تأخر لانتظار الماء، فينتظر أن يأتيه الماء، لأنه الآن ليس عنده ماء، وقد أرسل وارداً، فينتظر ولو خرج وقت الاختيار ودخل وقت الاضطرار.

مثال ثانٍ: السترة. يعني: الثياب، إذا كان ليس عليه ثياب تستره، ولكن ينتظر أن يأتي فلان بثوب ساتر أو ينتظر خياطة هذا الثوب الذي يستر به عورته، فله أن يؤخرها لانتظار هذا الشرط، وكذا بقية الشروط.

كفر جاحد الصلاة

بعد ذلك يقول: (وجاحدها كافر).

ما تكلم إلا على جاحدها، وقد ذهب جمع من العلماء إلى أن تاركها كافر ولو لم يجحد، ولكن إذا دعي إليها وأصر على أن يمتنع من الصلاة، ففي هذه الحال يقتل، وإذا قتل وهو مصر على تركها فلا يعامل معاملة المسلمين، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ وذلك لأنه استمر على الترك وأصر عليه ولو لم يجحد، واستمر على ذلك إلى أن صبر على القتل.

نقول: وردت أحاديث تدل على كفر تاركها، تجدونها في كتاب الصلاة لـابن القيم ، وذكر أدلة من يقول بأنه كافر، ومن يقول بأنه غير كافر لا يخرج من الإسلام، وحكم بين القولين، ولكنه ذكر أن العلماء فرضوا مسألة ممتنعة الوقوع، وهي: أنهم يقولون: إنما يعامل معاملة الكافر إذا دعي إلى الصلاة، وقيل له: صلِّ وإلا قتلناك. فقال: لا أصلي، وأنا معترف بأن الصلاة فريضة، وأنها ركن من أركان الإسلام بل عمود الإسلام، وأنها فريضة الله التي فرضها على عباده، وأنها أول ما يحاسب عنه العبد وآخر ما يخرج من الدين، وأن الله فرضها منه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وأنها شعار الإسلام وشعار المسلمين.. أنا أعترف بذلك كله، ومع ذلك فإني لا أصلي ولو قتلتموني، ولو قطعتموني إرباً إرباً.

ويقال: هل هذا صحيح؟ هل يكون مؤمناً الإيمان الصحيح بأن تاركها كافر، وبأنها فريضة الله، وبأنها عمود الإسلام، وبأنها أول ما يحاسب عليه العبد، ومع ذلك يصبر على القتل ولا يصليها؟!

إذا رأينا مثل هذا قلنا: كذبت، لست معترفاً بفضلها، ولست معترفاً بفرضيتها، ولو كان كذلك ما صعبت عليك، فالصلاة ليس فيها مشقة ولا تعب ولا صعوبة، بل الصلاة تعتبر لذة للمؤمن وراحة وقرة عين له، فأنت على هذا القول وعلى هذا الصبر تقول: (اقتلوني ولا أصلي)، وتقول مع ذلك: إنك مصدق بأنها فريضة. نقول: هذا قول يخالف الفعل، وفعلك هذا يخالف كلامك.

ففي هذه الحال إذا صبر على القتل وأصر عليه نحكم بأنه جاحد، وأن إقراره باللسان يخالف ما في قلبه، فيخالفه عمله تركاً وإصراراً وصبراً على القتل، وهو دليل على أنه ليس مقتنعاً بأنها فريضة، فإذا قتل والحال هذه فإنه يعامل معاملة الكفار.

يعني: لا يتولاه المسلمون، فلا يغسلونه ولا يكفنونه ولا يصلون عليه، ولا يدفنونه في مقابر المسلمين، وتطلق منه زوجته في الحياة -مثلاً- وكذلك لا يرثه أقاربه المسلمون، ويعتبر مرتداً، ويعتبر ماله فيئاً، فإذا مات أحد من أقاربه فإنه لا يرثه إذا كان في هذه الحال.

فالحاصل أنه ذكر هنا أن (جاحدها كافر) ولو -مثلاً- عُرِّف وأمر وبين له فإنه يعتبر كافراً.

حكم تارك الصلاة تكاسلاً

أما تاركها تكاسلاً وتهاوناً ففي هذه الحال لا يكفر إلا إذا دعي إليها وأصر، فلو قال: أنا معترف بفرضيتها، ولكني متكاسل أرى أنها ثقيلة، وأرى مشقة فيها، فأنا أستثقل أداءها في كل يوم في كل هذه الأوقات، ففي هذه الحال يدعى إلى فعلها، ويشدد ويضيق عليه، فإذا امتنع وأصر حتى قتل، أو حتى تضايق وقت الذي بعدها ففي هذه الحال يحكم بكفره، وذكر العلماء أنه يستتاب ثلاثة أيام، فإن فعلها وأقر بوجوبها وإلا فإنه يقتل، وحينئذ يقتل قتل كافر، وحيث كفر فإنه يقتل بعد الاستتابة ولا يعامل معاملة المسلمين.

فالحاصل أن الصلاة لها أهميتها، ومكانتها في الدين، فلذلك يراها المسلمون لذة وراحة، ويراها المنافقون ونحوهم ثقلاً وعائقاً، ومشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لـبلال : (أرحنا بالصلاة) يعني: عجل بها حتى نريح أنفسنا إذا دخلنا فيها فنجد لها راحة، ونجد لها لذة: (وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)، فدل على أنها لذيذة عند أهل الإيمان، وثقيلة عند غيرهم، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] أي: فعلها ثقيل إلا على أهل الخشوع، فالخاشعون تكون عندهم خفيفة ولذيذة وراحة وسروراً وسلوة، وغيرهم تكون عندهم كبيرة وثقيلة.

الصلوات الواجبة خمس كما هو معروف، دليلها قوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد)، في حديث طلحة بن عبيد الله ، وقوله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، فدل على أن الصلوات المكتوبة خمس.

وفي حديث الإسراء: (إن الله تعالى فرض عليه خمسين صلاة، ثم إنه طلب التخفيف بإشارة من موسى حتى جعلها الله تعالى خمساً، وقال: لا يبدل القول، هي خمس وهي خمسون) يعني: أن من حافظ عليها فله أجر خمسين، والحسنة بعشر أمثالها.

هذه الصلوات الخمس واجبة على المسلم، والكافر مطالب بشرطها وهو الإسلام، فإذا لم يسلم لم يطالب بها.

وهناك خلاف أصولي: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟

تكلم العلماء على ذلك في أصول الفقه، ورجحوا أنهم مخاطبون بها وإن كانت لا تقبل منهم، ويكون خطابهم بمعنى زيادة العقوبة عليهم، فيقال مثلاً: هذه عقوبتك على الشرك، وهذه عقوبتك على ترك الصلاة، وهذه عقوبتك على ترك الصوم.. وهكذا، وإلا فلو أنهم صلوا وهم مشركون ما قبلت منهم ولا أجروا عليها.

ثم هو معروف أن كلمة (تجب) بمعنى: تلزم، أي أنها واجبة وجوباً مؤكداً، لا تجب إلا على المسلم المكلف.

والمكلف: هو البالغ العاقل، هذا تعريف التكليف: البالغ العاقل، فيخرج بذلك الصغير، فإنه لا تجب عليه، وأمره بها أمر تعليم وتدريب، ويخرج بذلك أيضاً فاقد العقل، وهو المجنون، فإنه مرفوع عنه القلم حتى يفيق، فإن الله تعالى إنما خاطب بالواجبات من يعقل، ومعلوم أن فاقد العقل لا يفهم، ولا يدري ما يقال له، ولا يميز بين الواجب وغيره، وعلامة ذلك: أنه يفعل الأفعال التي لا يقرها العقل وليس معه ما يميز به بين النافع والضار.

ويستثنى من هذا الوصف الحائض والنفساء، فتسقط عن الحائض والنفساء في زمن الحيض وزمن النفاس، فلا تجب عليها الصلاة، ولا يلزمها قضاؤها كما تقدم في الحيض، وتقدم أن السبب استمرار هذا العذر وهذه النجاسة، ومشقة القضاء عليها، حيث إنه قد يجب قضاء خمسة عشر يوماً وأربعين يوماً في الحيض، فيكون في ذلك صعوبة.

وبعد ذلك صرح بما يحترز به عن مسلم مكلف، وعرفنا أن (مكلف) احترازاً من مجنون وصغير، فلا تصح من المجنون ولا يؤمر بها؛ لأنه لا يحسن ولا يفهم ولا يدري ما يقال له، وكذلك من الصغير غير المميز، وأما إذا كان مميزاً فإنه يؤمر بها، ويكون أمره للتدريب، حتى يألفها لصغره، وحتى تخف عليه عند التكليف، وحددوا الصغر الذي يميز معه بسبع سنين، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).

الأمر هاهنا للأولياء؛ فهل هو للوجوب أم للاستحباب؟

النبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (مروا أولادكم) هذا الأمر قال بعضهم: إنه للوجوب، ويلزم الولي أن يأمر أولاده ذكوراً وإناثاً بالصلاة لتمام سبع، ولكن القرينة وهي أنه ما أمر بالضرب إلا لتمام عشر تدل على أن الأمر ليس للإلزام، وإنما هو للتعليم والتدريب، فإذا بلغ سبع سنين ودخل في الثامنة فإن والده وولي أمره يأمره، ويستدعيه، ويأخذ بيده إلى المسجد ويعلمه ما يلزم، فيعلمه الطهارة، ويعلمه اجتناب النجاسة، ويعلمه الصلاة بقدر ما يستطيع، فيعلمه ما يقول في القيام، وما يقول في الركوع والسجود، وما يقول في القعود وفي الرفع من الركوع، ويعلمه الطمأنينة والخشوع، ويعلمه الإقبال على الصلاة وعدم الحركة والالتفات، ويدربه على ذلك.

كما أنه في هذه السن يحافظ عليه أيضاً، فيحفظه عن المحرمات، ويبعده عن السفه، ويبعده عما هو محرم أو منكر -مثلاً- كرؤية الصور القبيحة والأفلام الخليعة، وكذلك سماع الأغاني والملاهي وما أشبهها؛ لأنه في هذه السن يألف ما يسمع، وينطبع في ذاكرته ما يقال له، ويتدرب على هذا السماع المحرم، ويكون ذلك سبباً في انخراطه، أو في توغل هذه المنكرات في قلبه، فيصعب بعد ذلك تخليصه.

ويضرب على تركها لعشر؛ ولذلك لأن العشر مظنة البلوغ، والأصل أن أقل ما يبلغ فيه الصبي إذا تم عشر سنين. فيوجد كثير ممن يحتلم وقد تم له عشر سنين. ودخل في الحادية عشرة، أو مثلاً يبلغ بالإنبات أو نحوه، فإذا بلغ عشر سنين فهو مظنة البلوغ، فيضرب على تركها.

وهل الضرب ضرب تعليم أو ضرب تأديب؟

الصحيح أنه ضرب تعليم. يعني: لا يشدد فيه، بل يضربه ضرب تعليم حتى يعلم ذلك؛ لأنه لا يزال في سن الصغر غالباً، فيعلمه تعليماً وفيه شيء من الشدة. هذا ما يتعلق بمن تلزمه.

بعد ذلك يقول: (ويحرم تأخيرها إلى وقت الضرورة).

وذلك لأنها لا تؤخر إلا للضرورة، وقت الضرورة يكون في صلاة العصر والعشاء، إلا لمن له الجمع بنيته إذا كان يجوز له الجمع، كإنسان سائر في الطريق ودخل عليه وقت الظهر وهو مستمر في السير، ويحب مواصلة السير، فدخل عليه وقت العصر، وهو مشتغل أيضاً بالسير ويحب مواصلة السير، فخرج وقت الاختيار الذي هو أن يكون ظل كل شيء مثليه، واستمر في سيره حتى دخل وقت الضرورة. أي: قبل الغروب بنصف ساعة أو بثلث ساعة فوقف، فصلى الثنتين في وقت الضرورة. أي: في وقت العصر الذي هو وقت الضرورة.

وكذا لو كان سائراً في الليل، وشق عليه النزول، وأراد مواصلة السير، فلم ينزل إلا في آخر الليل، فإنه يجوز له؛ لأن هذا له عذر في التأخير، فأما الإنسان المقيم فلا يجوز أن يؤخر العصر إلى ما قبل الغروب؛ لما ورد في ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) يعني: أنه فرط في الوقت وأخره صلاة العصر إلى أن قرب الغروب، وقد ورد: (أن الشمس تغرب بين قرني شيطان، فحينئذ يسجد لها المشركون)، كذلك تطلع بين قرني شيطان، ولأجل ذلك نهي عن الصلاة في هذين الوقتين: عند الطلوع وعند الغروب؛ لئلا يكون سجوده للشيطان.

فالحاصل أنه لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت -وقت الضرورة مثلاً- إلا لمن له الجمع بنيته، قال: (ومشتغل بشرط لها يحصل قريباً): إذا كان أخرها لأجل أن يشتغل بشرطها، فعرف أن شرطها يحصل قريباً، مثاله: تأخر لانتظار الماء، فينتظر أن يأتيه الماء، لأنه الآن ليس عنده ماء، وقد أرسل وارداً، فينتظر ولو خرج وقت الاختيار ودخل وقت الاضطرار.

مثال ثانٍ: السترة. يعني: الثياب، إذا كان ليس عليه ثياب تستره، ولكن ينتظر أن يأتي فلان بثوب ساتر أو ينتظر خياطة هذا الثوب الذي يستر به عورته، فله أن يؤخرها لانتظار هذا الشرط، وكذا بقية الشروط.

بعد ذلك يقول: (وجاحدها كافر).

ما تكلم إلا على جاحدها، وقد ذهب جمع من العلماء إلى أن تاركها كافر ولو لم يجحد، ولكن إذا دعي إليها وأصر على أن يمتنع من الصلاة، ففي هذه الحال يقتل، وإذا قتل وهو مصر على تركها فلا يعامل معاملة المسلمين، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ وذلك لأنه استمر على الترك وأصر عليه ولو لم يجحد، واستمر على ذلك إلى أن صبر على القتل.

نقول: وردت أحاديث تدل على كفر تاركها، تجدونها في كتاب الصلاة لـابن القيم ، وذكر أدلة من يقول بأنه كافر، ومن يقول بأنه غير كافر لا يخرج من الإسلام، وحكم بين القولين، ولكنه ذكر أن العلماء فرضوا مسألة ممتنعة الوقوع، وهي: أنهم يقولون: إنما يعامل معاملة الكافر إذا دعي إلى الصلاة، وقيل له: صلِّ وإلا قتلناك. فقال: لا أصلي، وأنا معترف بأن الصلاة فريضة، وأنها ركن من أركان الإسلام بل عمود الإسلام، وأنها فريضة الله التي فرضها على عباده، وأنها أول ما يحاسب عنه العبد وآخر ما يخرج من الدين، وأن الله فرضها منه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وأنها شعار الإسلام وشعار المسلمين.. أنا أعترف بذلك كله، ومع ذلك فإني لا أصلي ولو قتلتموني، ولو قطعتموني إرباً إرباً.

ويقال: هل هذا صحيح؟ هل يكون مؤمناً الإيمان الصحيح بأن تاركها كافر، وبأنها فريضة الله، وبأنها عمود الإسلام، وبأنها أول ما يحاسب عليه العبد، ومع ذلك يصبر على القتل ولا يصليها؟!

إذا رأينا مثل هذا قلنا: كذبت، لست معترفاً بفضلها، ولست معترفاً بفرضيتها، ولو كان كذلك ما صعبت عليك، فالصلاة ليس فيها مشقة ولا تعب ولا صعوبة، بل الصلاة تعتبر لذة للمؤمن وراحة وقرة عين له، فأنت على هذا القول وعلى هذا الصبر تقول: (اقتلوني ولا أصلي)، وتقول مع ذلك: إنك مصدق بأنها فريضة. نقول: هذا قول يخالف الفعل، وفعلك هذا يخالف كلامك.

ففي هذه الحال إذا صبر على القتل وأصر عليه نحكم بأنه جاحد، وأن إقراره باللسان يخالف ما في قلبه، فيخالفه عمله تركاً وإصراراً وصبراً على القتل، وهو دليل على أنه ليس مقتنعاً بأنها فريضة، فإذا قتل والحال هذه فإنه يعامل معاملة الكفار.

يعني: لا يتولاه المسلمون، فلا يغسلونه ولا يكفنونه ولا يصلون عليه، ولا يدفنونه في مقابر المسلمين، وتطلق منه زوجته في الحياة -مثلاً- وكذلك لا يرثه أقاربه المسلمون، ويعتبر مرتداً، ويعتبر ماله فيئاً، فإذا مات أحد من أقاربه فإنه لا يرثه إذا كان في هذه الحال.

فالحاصل أنه ذكر هنا أن (جاحدها كافر) ولو -مثلاً- عُرِّف وأمر وبين له فإنه يعتبر كافراً.