خطب ومحاضرات
شرح متن الورقات [9]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
تقدم لنا من يدخل في خطاب الله تعالى ومن لا يدخل؛ فذكر المؤلف أنه يدخل المؤمنون، والمراد بذلك المكلفين، وتكلمنا عن الساهي هل هو داخل تحت الخطاب أو ليس داخلاً؟ وأن الساهي فيما يتعلق بحقوق الله عز وجل ليس داخلاً، لكنه قد يطالب بالقضاء وقد لا يطالب، أما فيما يتعلق بحقوق الآدميين فإنه داخل.
وما يتعلق بالمجنون وما يتعلق بالصبي، وما يتعلق بالنائم وما يتعلق بالغضبان، هؤلاء ذكرنا فيهم تفصيلات، هل هم داخلون أو ليسوا بداخلين؟ وهل هم مكلفون أو ليسوا مكلفين؟ وبقي علينا السكران، هل هو داخل في خطاب الله عز وجل فهو مكلف أو ليس مكلفاً؟
نقول: السكران لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون معذوراً بسكره؛ كما لو شرب شيئاً يظنه مباحاً فتبين أنه محرم وأنه مسكر، بل ليس داخلاً تحت الخطاب، فهذا نقول: بأنه لا إثم عليه، لكن فيما يتعلق بحقوق المخلوقين فيجب عليه أن يضمن، إلا فيما يتعلق بأقواله مثل: لو قذف أو باع أو اشترى أو طلق زوجته أو نحو ذلك فهذا ليس مكلفاً.
كذلك فيما يتعلق بأفعاله، فلو أتلف مالاً أو قتل أو ضرب ونحو ذلك نقول: هذا ليس مكلفاً ولا يأثم، لكن فيما يتعلق بالضمان فهذا يجب عليه أن يضمن؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة.
الحالة الثانية: أن يكون غير معذور بسكره، فهل هو مكلف أو ليس مكلفاً؟ اختلف فيه العلماء رحمهم الله تعالى في ذلك، فالمشهور من المذهب أنه مكلف، وعلى هذا لو طلق زوجته فيقولون: بأن طلاقه ينفذ، ولو قذف فإنه يؤاخذ بذلك، وهذا هو الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي الظاهرية قالوا: بأنه ليس مكلفاً.
أما الذين قالوا: بأنه مكلف فاستدلوا بأدلة، ومن هذه الأدلة قالوا: بأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أقاموه مقام الصاحي، فقالوا: إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون، لكن هذا لا يثبت.
وكذلك أيضاً: قالوا: بأنه ورد عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم الحكم بإيقاع طلاق السكران، وهذا مما اختلف فيه الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالنسبة لطلاق السكران هل يقع أو لا يقع؟
وكذلك قالوا: بأن سكره محرم، فلا يكون سبباً للتخفيف، فكوننا نقول: بأنه غير مكلف هذا يكون سبباً للتخفيف، فلا يكون المحرم سبباً للتخفيف.
وأما الذين قالوا: أنه غير مكلف لا بأقواله ولا بأفعاله -وهذا مذهب الظاهرية- استدلوا على ذلك بأدلة، ومن هذه الأدلة قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43] ، فقال: (حتى تعلموا ما تقولون) فدل ذلك على أن السكران لا يعلم ما يقول، فإذا كان لا يعلم ما يقول، فليس مكلفاً.
واستدلوا أيضاً: بقصة حمزة رضي الله تعالى عنه لما شرب حتى ثمل واحمرت عيناه، فقام إلى شارف علي رضي الله تعالى عنه فبقر بطونهما، فذهب علي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبره بما صنع حمزة فقال: وهل أنتم إلا أعبد لأبي، ومع ذلك لم يؤاخذه النبي عليه الصلاة والسلام.
وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق )، ويدخل في ذلك السكران، وكذلك ما ورد عن الصحابة في عدم إيقاع طلاق السكران، وهذا القول هو الصحيح.
وعلى هذا نقول: أقواله ليست معتبرة، وأفعاله ليست معتبرة، وأقواله لا يترتب عليها شيء لا من الطلاق، ولا من البيع، ولا من الوقف، ولا من التبرع، فهذه كلها لا يترتب عليها شيء، كذلك أفعاله لا تعتبر، فلو أنه قتل فإنه لا يحد، ولو سرق وهو سكران فإنه لا يقطع، ولو زنى وهو سكران فلا يحد.
فلا يكلف بالأفعال، ولا يؤاخذ عليها ولا يأثم، لكن لو أنه أتلف مالاً، فما الحكم؟ نقول: لا يؤاخذ بأفعاله إلا إن سكر لكي يفعل؛ فهذا يؤاخذ لا شك في ذلك، فمثلاً: لو شرب المسكر لكي يقتل، أو شربه لكي يسرق أو لكي يقذف أو لكي يطلق، فنقول في هذه الحالة: يؤاخذ، أما ما عدا ذلك فإنه لا يؤاخذ.
قال رحمه الله: [ والكفار مخاطبون بفروع الشرائع، وبما لا تصح إلا به وهو الإسلام؛ لقوله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43] ].
بالنسبة للكفار هل هم مخاطبون أو ليسوا مخاطبين؟
نقول: ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الإسلام، وهذا بالإجماع أنهم مخاطبون بالإسلام؛ لأن هذا هو أصل البعثة، أصل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام دعوة الناس إلى دين الله عز وجل، ويدخل في ذلك الكفار، كما قال الله عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] .
وأيضاً: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار )، فما يتعلق بالإسلام نقول: بأنهم مخاطبون به.
القسم الثاني: ما يتعلق بفروع الإيمان كالصلاة والزكاة والحج، هل هم مخاطبون به أو ليسوا مخاطبين؟ فهذا موضع خلاف بين الأصوليين رحمهم الله، فالأصوليون لهم في ذلك رأيان، والراجح في ذلك أن يقال: إن الكفار يتوجه إليهم خطابان:
الخطاب الأول: خطاب التكليف، فنقول: بأنهم مكلفون بفروع الشريعة، وعلى هذا يعذبون على كفرهم، ويعذبون أيضاً على عدم امتثالهم للشرائع، كما قال الله عز وجل: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:44-45]، فهذا دليل على أنهم مخاطبون بخطاب التكليف، فهم مكلفون بهذه الأشياء وإلا لم يعذبوا عليها، وأيضاً قال الله عز وجل: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]، فقوله: (ولا صلى) يدل على أنه مخاطب ومكلف بالصلاة، وإلا لم يذكرها الله عز وجل على أنه يعذب عليها.
ومن الأدلة على أن خطاب التكليف يتوجه إليهم: العمومات كما في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] هذا يشمل حتى الكفار، وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] يشمل حتى الكفار، هذا فيما يتعلق بخطاب التكليف.
أما الخطاب الثاني: فهو خطاب الأداء، فإنهم ليسوا مخاطبين بخطاب الأداء، يعني: ما نأمرهم بأداء الصلاة وإن كانوا مكلفين بها، ولا نأمرهم بأداء الزكاة وأداء الصيام وإن كانوا مكلفين.
والدليل على ذلك: أنه لا فائدة من أمرهم بأداء هذه الأشياء وهم فقدوا الأصل وهو التوحيد، قال الله عز وجل: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54] ، فالنفقات مع أن نفعها متعد لم تقبل منهم؛ لأنهم كفروا بالله وبرسوله، فالعبادات التي ليس نفعها متعدياً من باب أولى أنها لا تقبل منهم، وكذلك أيضاً: قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال الله عز وجل: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال الله عز وجل: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، فهذه الأدلة تدل على أن هذه الأشياء حابطة، فلا يؤمرون بها.
فإذا قلنا: لا يتوجه إليهم خطاب الأداء هذا يترتب عليه فائدة، وهي: أن ما سبق من العبادات لا يؤمرون بقضائها، فلو أنه أسلم في نصف رمضان، فلا نقول: يجب عليك أن تقضي ما سبق من الأيام، لكن إذا أسلم في أثناء اليوم فالصحيح أنه يمسك بقية اليوم ولا قضاء عليه، والأيام التي أفطرها في السابق هذه لا قضاء عليه.
وحتى لو لم يصم سنوات البلوغ، فإنه لا يقضي؛ لأنه لا يتوجه إليه خطاب الأداء، وكذلك لو لم يزكِ فلا يقضي؛ لأنه لا يتوجه إليه خطاب الأداء، وهكذا، ويدل لذلك قول الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وأيضاً حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في قصة إسلامه قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أما علمت يا
قال رحمه الله: [ والأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده ].
هذه المسألة -هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ وهل النهي عن الشيء أمر بضده؟- تحتها أقسام:
القسم الأول: من حيث اللفظ، فالأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده، والنهي عن الشيء ليس أمراً بضده، إذ إن صيغة (افعل) تخالف صيغة (لا تفعل)، فمغايرة بينهما من حيث اللفظ.
القسم الثاني: من حيث المعنى، هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ وهل النهي عن الشيء أمر بضده؟ هذا فيه خلاف بين الأصوليين على رأيين:
الرأي الأول: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وأن النهي عن الشيء أمر بضده، هذا من حيث المعنى.
والرأي الثاني: إلحاق المعنى باللفظ، وأن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده، والنهي عن الشيء ليس أمراً بضده.
والراجح في ذلك: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، إذ إن الأمر بالشيء يتعلق به شيئان:
الشيء الأول: طلب هذا الشيء، والشيء الثاني: الكف عن هذا الشيء.
والنهي عن الشيء يتعلق به شيئان: الكف عن هذا الشيء، وطلب ترك فعله.
فالصحيح في هذه المسألة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وأن النهي عن الشيء أمر بضده؛ لأن الأمر -كما تقدم- تعلق به شيئان، فعل الشيء، والكف عن ضده، والنهي تعلق به شيئان كما سبق.
ومن الأمثلة على ذلك -يعني الأمر بالشيء نهي عن ضده- قول الله عز وجل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] إلى أن قال الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] فقول الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] هذا أمر أو ليس أمراً؟ هذا أمر، ونهي عن ضده الذي هو الإفطار؛ لأن هذا الأمر تعلق به شيئان: طلب فعل هذا الشيء بقوله: (فليصمه)، والثاني: الكف عن ضده.
ومن الأمثلة على ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر )، قال: (استقبل القبلة)، فهنا أمر بالاستقبال، ونهي عن ترك الاستقبال.
ومثال النهي: قول الله عز وجل: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] ، فالله عز وجل حرم الربا، فهذا نهي عن الربا، وأمر بضده وهو عدم الربا في المعاملة.
القسم الثالث: أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، فمثلاً: في حديث المسيء صلاته كما تقدم: ( أسبغ الوضوء إذا قمت إلى الصلاة ) فقوله: (فقمت) أمر من الشارع بالقيام، وأمر بالاستقبال، ونهي عن كل أضداد الاستقبال، وأمر بالقيام بالصلاة، وأن يصلي الإنسان قائماً، ونهي عن أضداد كل القيام، فنهي عن الجلوس ونهي عن الركوع، ونهي عن السجود، ونهي عن الاضطجاع، فكل أضداد القيام منهي عنه. وأيضاً: قال الله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] ، فأمر الشارع بحفظ الفرج نهي عن كل أضداده؛ فكل ما يؤدي إلى عدم حفظ الفرج نهى عنه الشارع، من السماع المحرم، والنظر المحرم، والخلوة بالمرأة الأجنبية، فهذه كلها نهى عنها الشارع.
وأيضاً: غض البصر، فكل أضداد غض البصر من النظر إلى المرأة مباشرة، أو النظر إلى المرأة عن طريق غير المباشرة، فهذا كله نهى الشارع عنه، فالأمر بالشيء نهي عن كل أضداده.
والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، مثال ذلك: الشارع حرم صيام يوم العيدين، فهذا أمر بشيء واحد وهو الإفطار يوم العيدين.
القسم الأخير: الأمر بالشيء، هل هو عين النهي عن ضده أم لا؟ يعني: قول بعض الأصوليين: الأمر بالشيء عين النهي عن ضده، هذا باطل؛ لأن هذا مبني على أساس الكلام النفسي، وهو مبني على أساس باطل، وهذا الأساس هو أن الأمر قسمان:
القسم الأول: لفظي. والقسم الثاني: نفسي. وهم ينحون إلى هذا منحىً عقدياً وهو إنكار كلام الله عز وجل، فقالوا: الأمر بالشيء عين النهي عن ضده باعتبار الكلام النفسي، وأن الأمر له صيغتان: صيغة لفظية، وصيغة نفسية، فهم ينحون منحىً عقدياً، فنقول: بأن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده هذا باطل.
قال المؤلف رحمه الله: [ والنهي استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب ].
تعريف النهي
وكذلك يخرج الكلام النفسي كما تقدم.
وقوله: (ممن هو دونه) يخرج من المساوي ويسمى التماساً، فالالتماس: استدعاء الترك بالقول من المساوي، ويخرج ممن هو أعلى منه، وهذا يسمى دعاءً، فالدعاء: استدعاء الترك بالقول ممن هو أعلى منه، والنهي، هو: استدعاء القول بالترك ممن هو دونه.
صيغ النهي
أولاً: المضارع المقرون بلا الناهية، كما في قول الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، وقول الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].
ثانياً: لفظ التحريم، هذا يفيد النهي، كما في قول الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] .
ثالثاً: نفي الحل، كما في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19].
اقتضاء النهي للفساد
تقدم أن الأمر يقتضي شيئين:
الشيء الأول: الوجوب. والشيء الثاني: الفورية.
وبالنسبة للنهي نقول: أيضاً يقتضي أمرين:
الأمر الأول: التحريم، وهذا -كما قلنا في الأمر- ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون هناك دلالة على رفع التحريم، وهذا يقتضي التحريم.
القسم الثاني: أن يكون هناك صارف عن التحريم إلى الكراهة، فهذا يدل على الكراهة ولا يدل على التحريم.
القسم الثالث: النهي المجرد عن الصوارف والقرائن، فهذا باتفاق الأئمة أنه يدل على التحريم:
فالأقسام ثلاثة:
القسم الأول: أن يكون هناك دليل يدل على التحريم، فهذا الأمر ظاهر.
القسم الثاني: أن يكون هناك دليل يدل على الكراهة، فهذا الأمر في ذلك ظاهر.
القسم الثالث: أن تكون الصيغة مجردةً فهذا يدل على التحريم باتفاق الأئمة.
الأمر الثاني: فساد المنهي عنه، هل النهي يقتضي الفساد أو لا يقتضي الفساد؟ وهذه اختلف فيها العلماء رحمهم الله كثيراً، وألفت فيها مؤلفات منها: كتاب العلائي تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد. والمشهور من المذهب أن النهي يقتضي الفساد إذا توجه إلى ذات المنهي عنه في العبادة أو شرط العبادة، أو توجه إلى ذات المنهي عنه في المعاملة أو شرط المعاملة.
ولذلك لو قرأت في كتب الحنابلة تجد أنهم يقولون: ولا يصح الوضوء بماء مغصوب؛ لأنهم قالوا: هذا عائد إلى أداة المنهي عنه، وإذا صلى بثوب مغصوب بطلت صلاته؛ لأنه يعود إلى شرط العبادة.
أيضاً: لو كان الثمن مجهولاً فإن البيع لا يصح؛ لأنه يعود إلى شرط المعاملة، فالمذهب: إذا عاد النهي إلى شرط العبادة أو شرط المعاملة أو ذات العبادة أو ذات المعاملة فإنه يقتضي الفساد.
وإذا عاد إلى أمر خارج، فإنهم يقولون: لا يقتضي الفساد، ولهذا قالوا: لو صلى وعليه عمامة حرير فصلاته صحيحة؛ لأن النهي ما عاد إلى ذات المنهي عنه وهو الصلاة في عمامة الحرير، وكذلك ما عاد النهي إلى الشرط؛ فستر الرأس هذا ليس شرطاً.
ولو صلى وعليه خاتم ذهب فالصلاة على المذهب صحيحة؛ لأنه يعود إلى أمر خارج، وهكذا.
والأقرب أن يقال: إن النهي يعود إلى ذات المنهي عنه.
إذاً: النهي هل يقتضي الفساد أو لا يقتضي الفساد؟
نقول: إن المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يعود إلى ذات المنهي عنه، فنقول هنا: يقتضي الفساد ولا إشكال في ذلك، ويدل لذلك: حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله تعالى عنه, وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها )، فهنا النهي يعود إلى ذات المنهي عنه.
ومن ذلك أيضاً: حديث أبي سعيد : ( لا صلاة بعد صلاة الفجر، ولا صلاة بعد صلاة العصر )، فالنهي يعود إلى ذات المنهي عنه.
ومن ذلك أيضاً: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] نهي عن البيع بعد النداء، فهذا يعود إلى ذات المنهي عنه، فهذا نقول: بأنه يقتضي الفساد.
القسم الثاني: أن يعود إلى أمر خارج عن ذات المنهي عنه وعن شرطه، مثال ذلك: كما لو صلى وعليه عمامة حرير، أو صلى وعليه خاتم ذهب، أو تلقى الجلب أو غش في المعاملة في البيع، فهنا نقول: بأنه لا يقتضي الفساد.
القسم الثالث: إذا عاد إلى شرط العبادة أو المعاملة، فالمذهب مطلقاً يقتضي الفساد -كما قلنا- إذا عاد إلى شرط العبادة مثلاً كما لو صلى بثوب مغصوب، فالثوب هنا ستر العورة من شروط العبادة، فهنا يقتضي الفساد.
كذلك لو باع بيعاً والثمن مجهول فنقول: بأنه يقتضي الفساد، وأيضاً حديث: ( لا نكاح إلا بولي ) النهي يقتضي الفساد؛ لأنه عاد إلى شرط العقد، فالمذهب مطلقاً إذا وجدت عبادة عاد النهي إلى شرطها أو معاملة عاد النهي إلى شرطها فإنه يقتضي الفساد.
والصحيح في ذلك أن يقال: إن الشرط إذا نهي عنه في العبادة أو المعاملة مع قرنه بالعبادة والمعاملة فهذا يقتضي الفساد، أما إذا نهي عنه نهياً مطلقاً دون قرنه بالعبادة والمعاملة فنقول: لا يقتضي الفساد، وعلى هذا لو صلى في ثوب مغصوب، أو توضأ بماء مغصوب، أو تيمم بتراب مسروق، فهنا هل نهى عنه الشارع بقرنه بالعبادة أو بالمعاملة، أو نقول: نهى عن السرقة مطلقاً؟ نقول: نهى عن السرقة مطلقاً، ففي هذه الحالة لا نقول: بأنه يقتضي الفساد، لكن إذا قرنه بالعقد أو بالعبادة أو المعاملة فإنه يقتضي الفساد، مثل: ( لا نكاح إلا بولي )، هذا نقول: بأنه يقتضي الفساد.
أيضاً: النهي عن الثمن المجهول، نقول: هنا يقتضي الفساد، أو السلعة تكون مجهولة، نقول: يقتضي الفساد؛ لأن الشارع نهى عن بيع الغرر، فنهيه عن بيع الغرر نهي عن الثمن المجهول مع قرنه بعقد البيع، أو نهيه عن السلعة المجهولة مع قرنه بعقد البيع وهكذا.
فالصحيح في ذلك: أنه إذا كان النهي مطلقاً دون النظر إلى العبادة أو المعاملة نقول: لا يقتضي الفساد، أما إذا نهى مع النظر إلى العبادة أو المعاملة فإننا في هذه الحالة نقول: يقتضي الفساد، وهذا أقرب شيء فيما يتعلق بهذه المسألة.
وبالنسبة للأدلة قلنا: إذا عاد إلى ذات المنهي عنه فإنه يقتضي الفساد؛ والدليل على ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، يعني: عمله مردود عليه، وأيضاً: اتفاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم على فساد العقود بالنهي عنها.
والدليل على أنه إذا عاد إلى أمر خارج لا يقتضي الفساد: أن الشارع صحح البيع حتى بعد النهي، مثلاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار)، فالجلب هذا منتف عن البيع، يعني: خارج عن البيع وعن شرط البيع، ومع ذلك أثبت الشارع الخيار، والخيار فرع عن عقد البيع.
وأما بالنسبة إذا عاد إلى شرطه أو شرط العبادة أو المعاملة مع النظر إلى العبادة أو المعاملة؛ فهذا دليله -كما قلنا- قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا نكاح إلا بولي )، وكما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر ).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح متن الورقات [3] | 2754 استماع |
شرح متن الورقات [11] | 2359 استماع |
شرح متن الورقات [23] | 2272 استماع |
شرح متن الورقات [15] | 2233 استماع |
شرح متن الورقات [7] | 2069 استماع |
شرح متن الورقات [2] | 2041 استماع |
شرح متن الورقات [18] | 2025 استماع |
شرح متن الورقات [17] | 1970 استماع |
شرح متن الورقات [20] | 1940 استماع |
شرح متن الورقات [25] | 1924 استماع |