أرشيف المقالات

روسيا والحرب الخاطفة

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
لليوزباشى حسين ذو الفقار صبري يتساءل الكثيرون عن السر في تحول أداة الحرب الألمانية عن نجاحها الخاطف أثناء فترة الحرب الأولى إلى هجومها الجاهد المكدود عبر الفيافي الروسية خلال الصيف الماضي فقد رأينا بولندا وفرنسا تنهاران في لمح البصر تحت ضربات خاطفة، بهرتهم ثم صعقتهم، ورأينا جيوش يوغسلافيا واليونان تتمزق إرباً، ثم رأينا نفس الأمر يتكرر في روسيا، خلال الأسابيع الأولى من القتال؛ ثم.

ماذا؟ كنا قد كونا رأياً عن نتيجة خلناها محتومة، فلما تلفتنا شاهدنا عكس ما تعجلنا استنتاجه فماذا كانت الأسباب؟ إن الحرب الخاطفة هي الحرب الاستراتيكية المثلى، هي الحرب التي ترمي إلى تفكيك أوصال العدو دون قتال، تفصل القوات عن قواعدها، تحيط بها دون أن تشتبك معها، تهدد العدو في مؤخرته عندما تكون أسلحته في المقدمة، تراوغه عندما يتقدم فتورطه هنا وهناك وفي كل مكان، فلما تتباعد قواته وتتفرق، وتتفتت إلى فئات منفصلة، فاقدة كل اتصال، غير محتفظة بأدنى تماسك، مقبلة على الانحلال، تعطى الكلمة عندئذ للطائرات بينما تضغط عليها بعض القوات، فما أسرع أن تبادر الجيوش المنحلة إلى التسليم، أو تصمد فتباد. وما أسهلها عملية لجيش ميكانيكي حديث، لا يركز مجهوده إلا أمام أضعف المراكز، ما يكاد يخترقها حتى ينفذ إلى المؤخرة مسارعاً إليها على شكل مروحة ضخمة، شعابها مهما تفرعت فهي ما تزال يدفعها تصميم مشترك، إنجازاتها متنوعة وأوامرها هي هي، لا تفقد اتصالها اللاسلكي ببعضها، تستمر في ضغطها حتى يتفتت أمامها مجهود العدو استعداده لمثل هذه الأحوال التي ما كانت تخطر على البال تعتمد الحرب الخاطفة على مقدرة الدبابات على اختراق الاستحكامات بأقصى سرعة، ثم النفاذ منها إلى ما وراءها، ثم استمرار القوات الراكبة في التقدم السريع حتى تنحل أوصال الجيش، ولكن هذا الانحلال لا يطرأ إلا بعد وقت يتحتم على القوات المتقدمة أن تظل أثناءه مستمرة في حركاتها الهجومية، وهذه الحركة المستمرة لها حدود، يحدها أولاً قوة احتمال الجنود، وثانياً كمية الوقود، ثم ضرورة تعهد الآلات بين الحين والحين، ولذا لم تنجح الحرب الخاطفة إلا عندما كانت أغراضها في الميدان داخل نطاق مجهودها؛ فالقوات الألمانية التي اخترقت سيدان توقفت بعد بضعة أيام عند المانش، وتلك التي هاجمت (سكولبي) توصلت بعد بضعة ساعات إلى قلب مواصلات البلقان وقبضت على محورها العتيد؛ وعلى عكس الرأي السائد، لا تبقى الدبابات في المقدمة طوال المعركة، بل إنها بمجرد اختراقها الاستحكامات الرئيسية ترتد إلى الخلف كاحتياطي ثمين، لا يستعمل إلا للضرورة القصوى عندما تصمد بعض الموانع الطارئة في طريق المتقدمين المكونين من (وحدات راكبة). إن أول ما واجه الألمان من العقبات في روسيا هو انبساط المساحات، فرموا إلى التغلب على ذلك بتقسيم هجماتهم على دفعات، أهداف كل هجمة مراكز المواصلات القريبة منها، إذ باحتلال هذه تشل حركة إعادة تنظيم الصفوف الروسية في ميدان القتال بينما يكون الألمان قد أسرعوا في إعادة الاستعداد للخطوة التالية، وهكذا دواليك.
وقد ساعدهم مساعدة كبرى مجهود الدكتور (فرتز طود) الذي خلفه (شبير) بعد وفاته في إنشائه، أولاً فأولا، خطوطاً خلفية للمواصلات، مقاطعة لاتجاه الزحف، فأصبحت القوات الألمانية قادرة على الانتقال من قطاع إلى قطاع تبعاً لمقتضيات الحال دون كبير عناء. زحفت الجيوش الألمانية حتى احتلت روسيا البيضاء وجزءاً من أكرانيا؛ وكانت الفصائل الروسية، في حالة انعزالها عن بعضها البعض، تقاوم مستميتة بدلاً من أن تستلم مستيئسة، وذلك لأن الروس كانوا قد فطنوا الحقيقة بديهية، هي أن المناطق المزدحمة بالمساكن خير ما يقاوم نطاح الدبابات، فعملوا على أن تكون فصائلهم مكيفة بمئونتها وذخيرتها، لا تحتاج إلى أن تمون أمداً من الزمان، فما تكاد تحس بخطر التطويق حتى ترتد إلى وكرها المخصص وتنكمش فيه، مدافعة عن نفسها في كل اتجاه، محتفظة بعدد مناسب من الدبابات، تدفعه إلى الخارج من حين إلى حين، مقطعة مواصلات العدو، مربكة إياه، لا يكاد يعرف أهو الذي أحاط بها أم هي التي اندست في جوفه، وهل هو الذي فصلها عن قواعدها أم هي التي تعارض سيل تموينه، يهاجمها بمشاته المختارة فتشتتهم بدباباتها، يحاول اقتحامها فتصليه ناراً حامية؛ فيضطر أخيراً إلى إخراج ما في جعبته من دبابات وطائرات منقضة فيلقى هذا الاحتياطي الثمين في صميم المعمعة، تلك الدبابات وهذه الطائرات التي كان يود أن يحتفظ بها للأوقات العصيبة، يطلقها الآن من معاقلها على نقط متفرقة متناثرة، كل نقطة منها تستلزم لإخضاعها اشتباكاً عنيفاً، خسائره مرتفعة ونتائجه الإيجابية فقيمة، ولكنه إن أهملها انقلبت عليه شراً وبيلاً. إذا أشرفت عندئذ القوات الزاحفة في المقدمة على استحكامات جديدة تلتفت لدباباتها، فتجد أنها منشغلة عنها في مائة معركة صغيرة، فيعجز الجيش عن شق طريقه إلى الأمام حتى تعود إليه أسنته القاطعة، وهى لا تعود، أو قد تعود مضمحلة العدد مكلومة النصل، مستلزمة من العناية الكثير حتى تعود لسابق عهدها، ومن الزمن ما طال حتى يعاد تنظيمها. توصلت الجيوش الروسية إلى تحويل سلاح العدو الاستراتيكي الأمثل إلى وحدات تكتيكية صغيرة، وفقدت الدبابة وظيفتها العامة وانقلبت منها إلى العمليات المحلية الخاصة، وهكذا انهارت دعامة الحرب الخاطفة.
أرجو ألاً يفهم القارئ أنى أقرر أن نجم الدبابات قد أفل أو قارب الأفول، فما أبعد ذلك عما أقول.

بل الأمر بالعكس، فقد أصبحت الجيوش تطالب بأضعاف أضعاف ما عندها من دبابات، بل وحتى بتحميل المدافع الضخمة على الجرارات، فإذا ألقت ببعضها في الاشتباكات لمحلية، تبقى لها البعض الآخر لمتابعة التحركات الاستراتيكية لما أتى الصيف الماضي تراجعت القيادة الألمانية عن الخطط الخاطفة، وأحلت محلها خطة جديدة، قد يحسن أن نسميها بخطة (الكتل الميكانيكية)؛ لم تعد القيادة الألمانية تسمح لآليات الدبابات بالاستمرار في التقدم تاركة لها حرية التصرف، بل أصبحت تحدد أهداف هذه داخل نطاق ضيق حتى ينفسح لبقية الجيش الوقت الكافي لإخضاع مراكز العدو الحصينة المتروكة في الخلف، يهاجم هذه بقلاع متحركة من المشاة الراجلين داخل مثلثات من الدبابات الثقيلة ذات المدافع الضخمة والدروع السميكة أصبحت تلك المراكز الروسية المنعزلة متحكمة في شبكة المواصلات، لأن مراكز المقاومة هذه تتجمع عادة حول القرى والمدن التي هي دائماً نقط التقاء الطرق وخطوط الحديد المتشعبة منها في كل اتجاه، وأصبح تأثيرها - كما رأينا - عظيما، وذلك لأن الجيوش الألمانية التي كانت في ذاك الوقت أحدث الجيوش تنظيماً وتسليحاً، لم تكن قد التفتت إلى اصطناع وسائل نقل للتموين تتحرك على جرارات، بل ظلت جميع وسائلها سيارات على عجلات، ففي وسع الأولى أن تنفذ عبر أي أرض خلاء، أما السيارات فهي مرتبطة بالطرق المعلومة وخطوطها المرسومة. والآن وقد بدأ الألمان يتقهقرون فهل تراهم إلى خطط الروس ملتجئون؟ لا أظن الأمر كذلك، إذ أن الروس انكمشوا في قراهم ومدنهم التي ولدوا وعاشوا فيها طول الحياة، فاندمجوا بارتدادهم إليها وسط الأهل والإخوان، ثم يجب ألا ننسى أيضاً أن القتال في الدور والمساكن يعتمد أكبر الاعتماد على سكانها المدنيين المسلحين بروح الكراهية والعداء لكل غريب دخيل. سيطر على الحروب في روسيا من قديم الزمان عامل واحد هو هو لم يتغير ولم يتبدل، يقف دائماً أبداً حجر عثرة في سبيل كل مغير، وهذا العامل المؤثر إلى أبعد حدود التأثير هو روسيا نفسها بمساحتها الشاسعة، ولن يتمكن أي قائد مهما أوتي من مهارة وخبرة أن يتغلب عليها إلا عن طريقين لا ثالث لهما: احتلالها تماماً وهذا مستحيل، أو تدمير جيوشها وهذا أمر مستعص عسير. ظن نابليون أن احتلال موسكو التي هي مركز شبكة المواصلات كاف لإيهان الروس، وغامر ففشل.
، وحاول الألمان تحطيم جيوشهم في الحرب الماضية بهجوم عنيف، فأخفقوا أمام حيطة الروس؛ ثم تفتق ذهن الجنرال هوفمان عن خطة ما كرة، وهي سحب القوات الروسية إلى جيب ضخم بالانسحاب أمامهم فيندفعون وراءه، وقد أسكرتهم نشوة الظفر وذهبت بحذرهم الأول، فيطبق عليهم فجأة من كل جانب لإبادتهم عن آخرهم.
وكانت خطته تستلزم إخلاء أراض فسيحة شرق ألمانيا أول الأمر، منها سيلزيا الغنية بمناجمها؛ فرفض هندنبرج احتمال تبعة ما قد يترتب عن هذا الانسحاب من نتائج مادية وأدبية في سبيل نتيجة مشكوك فيها، ولم يرض بتنفيذها؛ ثم أتى لودندرف فحور من الخطة قليلاً، وحصن حدود الأراضي المزمع إخلاؤها داخل نطاق ضيق، واحتج هوفمان وأشار إلى أنها تصبح عندئذ خطة عرجاء لا تجتذب من جيوش الروس إلا جزءاً يسيراً، ولكن لودندرف تمكن من إقناعه بأنها ستكون أقصى ما قد يوافق عليه هندنبرج.
ولما نفذت الخطة الجديدة نتجت عنها (تاننبرج) حيث أبيد زهرة الجيوش الروسية.
؛ وظل بعدها العملاق الروسي يترنح دون أن يسقط سنتين من الزمان، ولكن خطره العاجل كان قد زال، ثم حلت عليه مشكلات السياسة، فسلم لألمانيا، وأمضى صلح (برست لتفسك)؛ وظل هوفمان بعد الحرب ينادى بأعلى صوته وفي كل مكان بأن خطته الأصلية كانت كافية لإخراج روسيا من الحرب في التو بضربة واحدة، فهل كان يا ترى على صواب؟. حسين ذو الفقار صبري

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن