من درر العلامة ابن القيم عن الشيطان
مدة
قراءة المادة :
22 دقائق
.
من درر العلامة ابن القيم عن الشيطانالحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالشيطان من المواضيع التي تكلَّم عنها العلامة ابن القيم رحمه الله في عدد من كتبه، ولا غَرْو في ذلك، فقد جاء التحذير من الشيطان في الكِتاب والسُّنَّة في مواضع متعددة، قال رحمه الله في كتابه المفيد النافع "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان": الشيطان ...
المتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، فإنهم توسَّعوا في ذلك، وقصروا في هذا الباب، ومَن تأمَّل القرآن والسُّنَّة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس.
الشيطان ...
تحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذي لا ينبغي غيره، فإن شرَّ النفس وفسادها ينشأ من وسوسته فهي مركبه، وموضع سرِّه، ومحل طاعته.
هذا وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره العلامة ابن القيم عن الشيطان، أسأل الله أن ينفع به الجميع.
الشيطان هو الداعي إلى الوسواس:
الشيطان هو الداعي إلى الوسواس، فأهله قد أطاعوا الشيطان ...
ورغبوا عن اتِّباع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته، حتى إن أحدَهم ليرى أنه إذا توضَّأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله، لم يطهر ولم يرتفع حدثُه؛ [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
وسوسة الشيطان:
قوله تعالى: ﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ﴾ [الناس: 4] يعُمُّ كُلَّ شَرِّه.
ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًّا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا؛ وهي: الوسوسة، التي هي مبادئ الإرادة، فإن القلب يكون فارغًا من الشر والمعصية، فيوسوس إليه، ويخطرُ الذنب بباله، فيصوره لنفسه، ويُمنِّيه ويشهِّيه؛ فيصير شهوة، ويُزينها له ويُحسنها، ويُخليها له في خيال تميل نفسه إليه؛ فيصير إرادة، ثم لا يزال يُمثل ويُخيلُ، ويُمنِّي ويُشهِّي، وينسى علمه بضررها، ويطوى عنه سوء عاقبتها، فيحول بينه وبين مطالعته؛ فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتدُّ الحرص عليها من القلب.
فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة؛ ولهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها من أهم من كل مستعاذ منه؛ [بدائع الفوائد].
الرقص سببه ركوب الشيطان على كتفي الراقص، ودقه برجليه على صدره:
حركة الرقص ...
سببها استخفاف الشيطان لأحدهم، وركوبه على كتفيه، ودقُّه برجليه على صدره، وكلما دقَّه برجليه، ورقص على صدره رقص هو كرقص الشيطان عليه؛ [الكلام على مسألة السماع].
الشيطان مع العبد إلى الموت مهما بلغ من الزهادة والعبادة:
لو بلغ العبد من الزهادة والعبادة ما بلغ فمعه شيطانه ونفسه، لا يفارقنه إلى الموت، والشيطان يجري منه مجرى الدم، والعصمة إنما هي للرُّسُل صلوات الله وسلامه عليهم، الذين هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده؛ [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
ما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تفريط، وإما إفراط:
ما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخُطتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيشتامه، فإن وجد فيه تقصيرًا وفتورًا وتوانيًا وترخيصًا؛ أخذه من هذه الخطة، فثبَّطه وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.
وإن وجد عنده حذرًا وجدًّا، وتشميرًا ونهضةً، وأيس أن يأخذه من هذا الباب؛ أمره بالاجتهاد الزائد، وسوَّل له أن هذا لا يكفيك، وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وألَّا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وألَّا تفتر إذا فتروا، ...
فيحمله على الغلو والمجاوزة، وتعدي الصراط المستقيم، كما يحمل الأول على التقصير دونه، وألَّا يقربه.
ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم؛ هذا بألَّا يقربه، ولا يدنو منه، وهذا بأن يتجاوزه ويتعدَّاه.
وقد فتن بهذا أكثر الخَلْق، ولا يُنجي من ذلك إلا علم راسخ، وإيمان وقُوَّة على محاربته، ولزوم الوسط، والله المستعان؛ [الوابل الصيب ورافع الكلم].
من لم يعذب شيطانه في الدنيا بذكر الله تعالى عذَّبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار.
من لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى، وتوحيده، واستغفاره، وطاعته؛ عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلا بُدَّ لكل أحدٍ أن يُعذِّبَ شيطانه أو يُعذِّبُه شيطانه؛ [بدائع الفوائد].
مداخل الشيطان على الإنسان وما يُنجيه منها:
الله سبحانه بحكمته سلَّط على العبد عدوًّا عالمًا بطرق هلاكه، وأسباب الشرِّ الذي يلقيه فيه، متفننًا فيها، خبيرًا بها، حريصًا عليها، لا يفتر عنه يقظة ولا منامًا، ولا بدَّ له من واحدةٍ من ستٍّ ينالها منه:
أحدها: وهي غاية مراده منه، أن يحُول بينه وبين العلم والإيمان، فيلقيه في الكفر، فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح.
فإن فاتته هذه، وهُدي للإسلام؛ حرص على تلو الكفر وهي البدعة، وهي أحبُّ إليه من المعصية، فإن المعصية يُتابُ منها، والبدعةُ لا يُتابُ منها؛ لأن صاحبها يرى أنه على هُدًى.
فإن أعجزته ألقاه في الثالثة، وهي الكبائر، فإن أعجزته ألقاه في اللَّمَم، وهي الرابعة، وهي الصغائر، فإن أعجزته؛ شغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه؛ ليربح عليه الفضل الذي بينهما، وهي الخامسة.
فإن أعجزه ذلك صار إلى السادسة؛ وهي تسليط حزبه عليه يؤذونه ويشتمونه، ويبهتونه، ويرمونه بالعظائم؛ ليحزُنه، ويشغل قلبه عن العلم والإرادة، وسائر عمله.
فكيف يمكن أن يحترز منه مَنْ لا علم له بهذه الأمور، ولا بعدوِّه، ولا بما يحصنه منه؟ فإنه لا ينجو من عدوِّه إلَّا مَنْ عَرَفه، وعَرَف طرقه التي يأتيه منها، وجيشه الذي يستعين به عليه، وعَرَفَ مداخله ومخارجه، وكيفية محاربته، وبأيِّ شيءٍ يُحاربه، وبماذا يُداوي جراحته، وبأيِّ شيءٍ يستمدُّ القوة لقتاله ودفعه، وهذا كله لا يحصل إلَّا بالعلم، فالجاهلُ في غفلةٍ وعَمًى عن هذا الأمر العظيم، والخطب الجسيم؛ [مفتاح دار السعادة].
حروز يستدفع بها شرَّ الشيطان:
يعتصم ...
العبدُ من الشيطان، ويستدفعُ شره، ويحترز منه، ...
بأسباب:
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 36].
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين [الفلق، والناس]؛ فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في الاستعاذة بالله تعالى من شره ودفعه، والتحصُّن منه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تعوَّذ المتعوِّذُون بمثلهما))، وكان يتعوَّذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دُبَرَ كل صلاة، وقال: ((مَنْ قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثًا حين يُمسي، وثلاثًا حين يصبحُ؛ كفَتْه من كلِّ شيءٍ)).
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة.
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة.
الحرز السادس: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) مائة مرة.
الحرز السابع: وهو من أنفع الحروز من الشيطان، وهو كثرة ذكر الله عز وجل.
الحرز الثامن: الوضوء والصلاة، وهذا من أعظم ما يُتحَرَّز به منه، ولا سيَّما عند ثوران قوة الغضب والشهوة، فإنها نار، والوضوء يُطفئُها، والصلاة إذا وقعت بخشوعها؛ أذهبت ذلك كله، وهذا أمر تَجْرِبَتُه تُغني عن إقامة الدليل عليه.
الحرز التاسع: إمساك فضول النظر، والكلام، والطعام، ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما يتسلَّط على ابن آدم، وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة؛ [بدائع الفوائد].
ناس بالصورة وشياطين بالحقيقة:
الموصوفون بقوله: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الأنفال: 22]، هذا الضرب شرُّ البريَّة، يضيِّقون الديار، ويُغلون الأسعار.
عند أنفسهم أنهم يعلمون؛ ولكن يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهو عن الآخرة هم غافلون، ويتعلمون ولكن ما يضرُّهم ولا ينفعهم، ويتكلمون ولكن بالجهل ينطقون، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت يؤمنون، ويعبدون ولكن يعبدون من دون الله ما لا يضُرُّهم ولا ينفعهم، ويجادِلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحَقَّ، ويتفكَّرون ويبيتون ولكن ما لا يرضى من القول يبيتون، ويدعون ولكن مع الله إلهًا آخر يدعون، ويذكرون ولكن إذا ذكروا لا يذكُرون، ويصلُّون ولكنهم من المصلِّين الذين عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون، ويمنعون الماعون، ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يبغون، ويكتبون ولكن يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمنًا قليلًا، فويل لهم ممَّا كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون.
ويقولون: إنما نحن مصلحون ألا إنهم المفسدون ولكن لا يشعرون، وإذا قيل لهم: آمنوا كما آمن الناس، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء ؟! ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون......فهذا الضرب ناس بالصورة وشياطين بالحقيقة؛ [مفتاح دار السعادة].
صوت الشيطان كل صوت في غير طاعة الله:
قال الله تعالى للشيطان: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾ [الإسراء: 64]، فالصوت الشيطاني يستفزُّ بني آدم، وصوت الشيطان كل صوت في غير طاعة الله، نُسِبَ إلى الشيطان؛ لأمره به ورضاه به، وإلا فليس هو الصوت نفسه، فصوت الغناء وصوت النوح وصوت المعازف...كلها من أصوات الشيطان، التي يستفزُّ بها بني آدم فيستخفهم ويُزعجهم؛ ولهذا قال السلف في هذه الآية: "إنه الغناء"؛ [الكلام على مسألة السماع].
لا تُمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك:
إياك أن تُمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها عليك فسادًا يصعُب تداركه، ويُلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك، والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان...لو كان على خلاف ذلك، وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها، أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه، فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية، ولا يقف منها على نهاية، فيجعل ذلك مجال فكره ومسرحَ وَهْمِه.
وجماع إصلاح ذلك: أن تشغل فكرك...بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطُرُق التحرُّز منها.
وبالجملة فالقلب لا يخلو قَطُّ من الفكر إمَّا في واجب آخرته ومصالحها، وإمَّا في مصالح دُنْياه ومعاشه، وإمَّا في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة؛ [الفوائد].
الشيطان يشمُّ قلب العبد ويختبره:
الشيطان يشمُّ قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعيةً للبدعة وإعراضًا عن كمال الانقياد للسُّنَّة أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصًا عليها وشدةَ طَلَبٍ لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حدِّ الاقتصاد فيها، قائلًا له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أوْلَى، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تَنَمْ مع أهل النوم، فلا يزال يحثُّه ويُحرِّضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيُخرجه عن حدِّها، كما أن الأول خارج عن هذا الحدِّ، فكذا هذا الآخر خارج عن الحدِّ الآخر، وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السُّنَّة إلى البدعة؛ لكن هذا بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف؛ [مدارج السالكين في منازل السائرين].
انتشار الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل:
شرع عند إقبال الليل وإدبار النهار ذكر الربِّ تعالى بصلاة المغرب...
كما شرع ذكر الله بصلاة الفجر عند إدبار الليل وإقبال النهار.
ولما كان الرَّبُّ تبارك وتعالى يحدث عند كل واحد من طرفي إقبال الليل والنهار وإدبارهما ما يحدثه، ويبثُّ من خلقه ما يشاء فينشر الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النهار، فيحدث هذا الانتشار في العالم أثره، شرع سبحانه في هذين الوقتين هاتين الصلاتين العظيمتين؛ [التبيان في أيمان القرآن].
من عقوبات المعاصي أنها مدد من الإنسان يمدُّ به عدوَّه عليه:
ومن عقوبات الذنوب والمعاصي: أنها مَدَد من الإنسان يمدُّ به عدوَّه عليه، وجيش يُقوِّيه به على حربه، وذلك أن الله سبحانه ابتلى...الإنسان بعدوٍّ لا يُفارقه طرفةَ عينٍ، ينام ولا ينام عنه، ويغفل ولا يغفل عنه، يراه هو وقبيلُه من حيث لا يراه، يبذل جهده في معاداته في كل حال، ولا يدع أمرًا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله، ويستعين عليه ببني أبيه من شياطين الجن وغيرهم من شياطين الإنس، قد نصب له الحبائل...والفخاخ والشباك، وقال لأعوانه: دونكم عدوكم وعدو أبيكم، لا يفوتنكم، ولا يكن حظُّه الجنة وحظُّكم النار، ونصيبُه الرحمة ونصيبكم اللعنة، وقد علمتم أن ما جرى عليَّ وعليكم من الخزي واللعن والإبعاد من رحمة الله فبسببه ومن أجله، فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا في هذه البليَّة.
ودونكم ثغر العين، فإن منه تنالون بغيتكم، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة، ثم أسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعِدُهُ وأُمَنِّيه حتى أُقوِّي عزيمتَه، وأقُودَه بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة.
ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر، فاجتهدوا ألَّا تدخلوا منه إلا الباطل، فإنه خفيف على النفس تستحليه وتستملحه، وتخيروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب...وإيَّاكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء، فإن غلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء فحُولوا بينه وبين فهمه وتدبُّره والتفكُّر فيه.
ثم...قوموا على ثغر اللسان، فإنه الثغر الأعظم...فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه.
فالرباط الرباط على هذا الثغر...فزيِّنوا له التكلُّم بالباطل بكل طريق، وخوِّفُوه من التكلُّم بالحق بكل طريق.
وكونوا أعوانًا على الإنس بكل طريق، وادخلوا عليهم من كل باب، واقعدوا لهم كل مرصاد...اقعدوا...على سائر طريق الخير بالتنفير منها وذكر صعوبتها وآفاتها، ثم اقعدوا على طُرُق المعاصي، فحسِّنُوها في أعيُن بني آدم، وزيِّنوها في قلوبهم، واجعلوا أكبر أعوانكم على ذلك النساء، فمن أبوابهن فادخلوا عليهم، فنعم العون هن لكم، واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما:
أحدهما: جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله والدار الآخرة بكل طريق...فإن القلب إذا غفل عن الله تمكنتم منه ومن أعوانه.
الثاني: جند الشهوات فزيِّنُوها في قلوبهم، وحسِّنُوها في أعينهم.
وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضُرُّكم من ذكر الله أو مذاكرة أمره ونهيه ودينه، ولم تقدروا على تفريقهم، فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من البطَّالين، فقربوهم منهم، وشوشوا عليهم.
وبالجملة...فادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته، فساعدوه عليها، وكونوا عونًا له على تحصيلها.
ورابطوا على الثغور، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة، والغضب، فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.
واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين، وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة، وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب.
وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم: ذكر الله، ومخالفة الهوى، فإذا رأيتم الرجل مخالفًا لهواه، فاهربوا من ظِلِّه، ولا تدنوا منه؛ [الداء والدواء].
إذا غفل العبد عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان:
العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان، وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها، فإذا ذكر العبد ربَّه واستعاذ به انخنس وانقبض كما ينخنس الشيءُ ويَتَوارى.
فذكر الله تعالى يقمعُ الشيطان ويُؤلمه ويُؤذيه؛ كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضربُ بها؛ ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلًا ضئيلًا مضنًى ممَّا يُعذِّبهُ المؤمن ويقمعه به من ذكر الله وطاعته؛ [بدائع الفوائد].
قول: قبح الله الشيطان، مما يفرح الشيطان:
قول القائل: أخزى الله الشيطان، وقبَّح الله الشيطان، فإن ذلك كُلَّهُ يُفرحهُ، ويقول علم ابن آدم أني قد نلته بقوتي...فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ مَسَّهُ شيءٌ من الشيطان أن يذكر الله تعالى، ويذكر اسمه، ويستعيذ بالله منه، فإن ذلك أنفع له.
لما كان الشيطان: نوعًا يُرى عيانًا؛ وهو شيطان الإنس، ونوعًا لا يُرى؛ وهو شيطان الجن، أمر سبحانه وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شَرِّ شيطان الإنس بالإعراض عنه والعفو والدفع بالتي هي أحسن، ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه؛ [زاد المعاد].
من مكايد الشيطان:
• من كيده للإنسان: أنه يُورِده الموارد التي يُخيَّل إليه أن فيها منفعته، ثم يُصدرُهُ المصادر التي فيها عطبه، ويتخلى عنه ويُسلمه ويقف يشمت به، ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزِّنا والقتل، ويدل عليه ويفضحه.
• من كيد عدوِّ الله أنه يخوِّف المؤمنين من...أوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وكلما قوي إيمانُ العبدِ زالَ مِنْ قلبِه خوفُ أولياء الشيطان، وكُلَّما ضعُف إيمانُه قوي خوفُه منهم.
• من مكايده: أنه يسحر العقل دائمًا حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيُزيِّن له الفعل الذي يضُرُّه، حتى يُخيِّل إليه أنه من أنفع الأشياء له، وينفره من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنه يضُرُّه.
• من كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العمل بهاجسهم وواقعهم، دون تحكيم أمر الشارع، ويقولون: القلب إذا كان محفوظًا مع الله كانت هواجسُه وخواطِرُه معصومةً من الخطأ! وهذا من أبلغ كيد العدوِّ فيهم.
• من أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا مَنْ لم يرد الله فتنته: ما أوْحَاه قديمًا وحديثًا إلى...أوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر فيها أن عبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثانًا، وبُنيت عليها الهياكل وعبدت مع الله.
• من مكايد عدوِّ الله ومصايده التي كاد بها من قَلَّ نصيبُه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرَّمة، الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفةً على الفسوق والعصيان.
• من مكايده ومصايده: ما فتن به عُشَّاق الصور: وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى، والبليَّة العُظْمى، التي استعبدت النفوس لغير خالقها، وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عُشَّاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودَعَتْ إلى موالاة كل شيطان مريد، فصيرت القلبَ للهوى أسيرًا، وجعلته حاكمًا وأميرًا، فأوسعت القلوب محنةً، وملأتها فتنةً، وحالت بينها وبين رُشْدِها، وصرفتها عن طريق قصدها.
• من مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل، والمكر، والخداع، الذي يتضمَّن تحليل ما حرَّمه الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمِّه.
• من كيده العجيب: أنه يشامُّ النفوس، حتى يعلم أي القوَّتَينِ تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة.
فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به وثقله عليه، وهون عليه تركه، حتى يتركه جملةً أو يقصر فيه ويتهاون به، وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الوادين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدِّي، والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فقصَّر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات؛ كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلُّم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.
وقصَّر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم، دون العمل به.
وقصَّر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يُشفِّع أحدًا في أحد البتة، ولا يرحم أحدًا بشفاعة أحدٍ، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه، كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم، وقصَّر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الربِّ تعالى وصفاته وعطَّلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبَّهوه بخلقه ومثَّلُوه بهم.
وقصَّر بقومٍ حتى عَادَوا أهلَ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوهم، واستحلُّوا من حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادَّعَوا فيهم خصائص النبوَّة من العصمة وغيرها، وربما ادَّعَوا فيهم الإلهية.
وقصَّر بقومٍ حتى أخملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها، وعدُّوها فضلًا أو فضولًا، وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح؛ [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].