أرشيف المقالات

حفظ اللسان عن كثرة المزاح والسخرية والاستهزاء

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
حفظ اللسان عن كثرة المزاح والسخرية والاستهزاء
 
قال أبو الحسن الماوردي رحمه الله: اعلم أن المزاح إزاحة عن الحقوق، ومخرج إلى القطيعة والعقوق، يصم المازح ويؤذي الممازح.
 
فوصمة المازح: أن يذهب عنه الهيبة والبهاء، ويجرئ عليه الغوغاء والسفهاء.
 
وأما أذية الممازح، فلأنه معقوق بقول كريه، وفعل ممض، إن أمسك عنه أحزن قلبه، وإن قابل عليه جانب أدبه، فحق على العاقل أن يتقيه، وينزه نفسه عن وصمة مساويه؛ اهـ[1].
 
وقال عمر رضي الله عنه: من كثُر ضحكه قلت هيبتُه، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
 
وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني، لا تمازح الشريف: فيحقد عليك، ولا تمازح الدنيء، فيجترئ عليك.
 
وقيل: لكل شيء بذور، وبذور العداوة المزاح.
 
وقال أبو النواس:






خَلِّ جَنْبَيْكَ لِرَامٍ
وَامْضِ عَنْهُ بِسَلَامِ


مُتْ بِدَاءِ الصَّمْتِ خَيْرٌ
لَكَ مِنْ دَاءِ الكَلَامِ


إِنَّمَا السَّالِمُ مَنْ
أَلْجمَ فَاهُ بِلجَامِ؟


رُبَّمَا اسْتَفْتَحَ بِالمزْحِ
مَغَالِيقَ الحِمَامِ


وَالمَنَايَا آكِلَاتٌ
شَارِبَاتٌ لِلأَنَامِ







 
واعلم أن المزاح جائز بشرطين:
أولها: ألا يدخله الكذب:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا»[2]، رواه الترمذي وحسنه.
 
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»[3]؛ رواه البخاري.
 
ثانيها: ألا يكثر منه، بل يكون على الندور؛ لأن كثرة الضحك تميت القلب:
قال أبو الحسن الماوردي: وأما الضحك: فإن اعتياده شغل عن النظر في الأمور المهمة، مذهل عن الفكر في النوائب الملمة، وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وُسِمَ به خطر ولا مقدار؛ اهـ[4].
 
وقال أبو الليث السمرقندي: ولا تكثر المزاح، فإن فيه ذَهاب المهابة، ويذمك عند الصلحاء، ويُجرئ عليك السفهاء، وتُنسَب إلى الخفة، ولا تمازح من لم يكن بينك وبينه مخالطة، ولم تعلم أخلاقه، ولا بأس بأن تمازح مع أقرانك وجلسائك في غير مأثم ولا إفراط، فإن خير الأمور أوسطها؛ لأن ذلك أولى ألا تنسب إلى الثقل ولا إلى الخفة؛ اهـ[5].
 
وقال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء، وإن التقصير فيه يفض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين.
 
وينبغي أن يكون بنية، حتى تأخذ عليه أجرًا، كمداعبة الزوجة بنية إسعادها ومؤانستها؛ كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنه.
 
وكمداعبة الأصحاب والأصدقاء بنية دوام الصحبة واستمرار الخلة، فإن لم تجد نية فانوِ الترويح عن نفسك، حتى تسترجع نشاطك، أو تزيل همَّك أو سآمتك.
 
وقد قيل:






أَفِدْ طَبْعَكَ المَكْدُودَ بِالجدِّرَاحَةً
يُجَمُّ وَعَلِّلْهُ بِشَيْءٍ مِنَ المَزْحِ


وَلَكِنْ إِذَا أَعْطَيْتَهُ المزحَ فَلْيَكُنْ
بِمِقْدَارِ مَا تُعْطِي الطَّعَامَ مِنَ المِلْحِ[6]








حفظ اللسان عن السخرية والاستهزاء:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].
 
والسخرية: هي النظر إلى المسخور منه بعين النقص، والاستهانة، والتحقير، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء[7].
 
ولم الاستهزاء من المؤمنين؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»[8].
 
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»[9]؛ رواه مسلم.
 
والباعث على الاستهزاء: هو الكبر.
 
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»[10]؛ رواه أحمد، ومسلم.
 
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»[11]؛ رواه مسلم، والترمذي، وقال: حسن صحيح.
 
وقال صلى الله عليه وسلم: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ»[12]؛ رواه مسلم.



[1] أدب الدنيا والدين (282).


[2] صحيح: رواه الترمذي رقم (1990) في «البر والصلة» باب ما جاء في المزاح، ورواه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (265)، وأحمد في «المسند» (2/ 360)، وهو في «الصحيحة» رقم (1726).


[3] متفق عليه: رواه البخاري رقم (6478) في «الرقاق» باب حفظ اللسان، ومسلم رقم (2988) في «الزهد» باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، ومالك في «الموطأ» (2/ 56) في الكلام.


[4] أدب الدنيا والدين (285).


[5] بستان العارفين (419).


[6] المراح في المزاح (11).


[7] انظر كتاب «آفات اللسان» (5).


[8] صحيح: رواه مسلم رقم (2622) في «البر والصلة»، باب فضل الضعفاء والخاملين.


[9] صحيح: رواه مسلم رقم (2564) في «البر والصلة»، باب تحريم ظلم المسلم وخذله.


[10]، 5) صحيح: رواه مسلم رقم (91) في «الإيمان»، باب تحريم الكبر، وأبو داود (4091) في «الأدب»، والترمذي (1999) في «البر والصلة».


[12] صحيح: رواه مسلم رقم (2564) في «البر والصلة»، باب تحريم ظلم المسلم واحتقاره، وأبو داود رقم (4882) في «الأدب»، والترمذي رقم (1927) في «البر والصلة».

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢