أرشيف المقالات

الأدب في سير أعلامه:

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2 - تولستوي.
! قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه للأستاذ محمود الخفيف طفولة ونسب دخل ليو حجرة الدراسة وأسلم إلى مرب يعلمه ويقوم على تنشئته وكان هذا المربى ألماني الجنس وهو تيودور رويل، وكان من عادة سراة الروس أن يختاروا لأبنائهم مربين من الأجانب ليعلموا هؤلاء الأبناء اللغة الأجنبية التي تراد لهم وهم صغار وذلك بالحوار والمرانة لا بالقراءة في الكتب فحسب، ولقد كان تيودور رويل هذا من الشخصيات التي تأثر بها الصبي تأثرا شديدا منذ دخل حجرة الدراسة، والتي ظل أثرها عالقا بنفسه مدى حياته الطويلة؛ إذ كان المربي مستقيم الخلق كريم الطبع عطوفا على تلاميذه في غير ضعف، شديدا عليه في غير عنف مخلصا في عمله إذا هم بإبداء واجب، ولا يبخل بجهد يرى فيه صلاح تلميذه مهما أرهقه هذا الجهد، وبهذه الصفات الطيبة أو بهذه القدوة الحسنة أثر المعلم في تلميذه وهيأ الجو الصالح لنموا الصفات الطيبة في نفس ذلك الصبي.
فإذا انطلق الطفل من حجرة الدراسة كانت العمة تاتيانا أول من يلقى فما يطيق البعد عنها، وإن حبه إياها ليصغر دونه كل حب، وإن أثرها في نفسه ليقل عنده كل أثر، وسيكبر الصبي ويخرج من نطاق البيت إلى مضطرب الحياة ويظل أثر العمة تاتيانا قويا في نفسه، ويظل شخصها حيا في حسه، وتظل صورتها ماثلة في خاطره.
وسيعبر عن هذا كله فيما يتناوله قلمه من ذكريات الحياة ومشاهدها.
تجد مثلا لذلك في قوله (إني لأتذكر ذات يوم وأنا ابن خمس كيف اندسست خلف أريكة كانت تجلس عليها في الثوى، وكيف مدت إلى يدها ومست جسدي في حنو ورفق، وكيف أمسكت بيدي تلك اليد وقبلتها ودموع الحب في عيني.

لقد كان للعمة تاتيانا أعظم الأثر في حياتي، فمنذ الطفولة الباكرة علمتني كيف تكون بهجة النفس في روحانية الحب، ولقد علمتني هذه الفرحة لا بكلامها فحسب بل إنها ملأتني حبا بكيانها كله.
لقد رأيت ولقد أحسست كيف كانت تتمتع نفسها بنعمة الحب، ومن ذلك فهمت بهجة الحب، وهذا أول ما علمتنيه.
ثم إنها بعد ذلك علمتني نعيم الحياة المطمئنة الهادئة). وحق له يحب هذه السيدة التي يدعوها عمته كما يفعل أخوته والتي تقوم منهم جميعا مقام الأم وقد حرموا من أمهم.
وكان ليو منذ صغره مرهف الحس متقد العاطفة تأسره الكلمة الطيبة وتثيره الكلمة القاسية فما يملك ان يحبس دمعه وعرفت عمته تاتيانا كيف توحي إليه ما تحب من المعاني العاطفية.
وليس بذكر ليو أمه فقد ماتت وهو دون الثانية بقليل، وكانت سيدة كريمة المحتد نبيلة الخلق عالية الثقافة، تقية رحيمة القلب مرهفة الحس مهذبة الذوق تتكلم خمس لغات ولها بالموسيقى شغف عظيم ولها مقدرة ملحوظة في العزف على البيان وموهبة في سرد القصص جعلت لها شهرة عظيمة في هذا الباب حتى لقد كانت في حفلات الرقص تجتذب إليها كثيرين ممن يفضلون أن يستمعوا إليها على ان يشهدوا ما يدور في تلك الحفلات، وكان الطفل يستمع إلى سيرتها في اهتمام كلما تحدث عنها الخدم أو تحدثت عنها العمة تاتيانا فتقوم في ذهنه صورة لها تطمئن لها نفسه ويبتهج فؤاده وتظل هذه الأحاديث تهجس في خاطره فتزداد صورة أمه وضوحا في نفسه كلما تقدم به العمر فإذا كتب عن أمه غدا فيما يكتب قال: (لست أذكر أمي؛ لقد كنت ابن سنة ونصف حين ماتت، وبسبب مصادفة عجيبة لم تحفظ لها صورة على ذلك فلا أستطيعأن أرسم في خيالي صورتها المادية.
وإنيلفرح بهذا من وجهة نظر هي أن ما يقوم بذهني لها إذ أتصورها إنما هو صورتها الروحية، وكل ما أعلمه عنها من هذه الناحية جميل، وأظن إن ذلك لم يكن مرده إلى أن من يتحدثون عنها لا يذكرون لي إلا الخير وإنما كان مرده إلى إن نفسها كانت تنطوي على كثير من الخير حقاً. ويبقى في ذاكرته من أحاديث الناس عنها الشيء الكثير ولكنه معجب بصفة من صفاتها يراها خير الصفات جميعا ويشير إلى ذلك في قوله (أن أرفع خلالها قيمة هي إنها كانت على حرارة مزاجها وبسرعة تأثرها تضبط نفسها ابدا، ولقد يحمر وجهها ولقد تبكي كما أخبرتني خادمتها ولكنها لا تلفظ قط لفظة نابية بل إنها لا تعرف واحدة من تلك الكلمات) ويقول عنها كذلك (إنها كانت تبدوا في خيالي مخلوقا علويا روحيا طهورا وبلغت من ذلك حدا جعلني في الحقبة الوسطى من عمري أيان جهادي ضد المغريات والوساوس القاهرة اتجه إلى روحها مصليا مبهلا إليها في صلواتي أن تأخذ بيدي.
ولقد كان لي في أكثر الأحيان في هذه الصلوات كثير من العون). ذلك أثر أمه في نفسه وإن لم يرها أما أبوه فقد كان يجلس ليو طيب قلبه وشدة عطفه على أبنائه، وكان يحب قصصه التي يتلوها عليهم أثناء الطعام كما كان يراه رفيقا بهم لا يعنفهم على زياطهم ولا يضيق بهم إذا دخلوا عليه حجرة مكتبه؛ وكان يعجب ليو بوجاهة أبيه وأناقة ملبسه إذا تأهب للذهاب إلى المدينة، وبمهارته ونشاطه وجمال طلعته إذا خرج للصيد.
وكم كان ينظر إليه في إعجاب وهو جالس في مركبته وحوله عن قرب خدمه وكلاب صيده.

كم كان يداخل الطفل شعور الإعجاب به لما يرى من هيبته؛ واستطاع خياله الناشئ واستطاعت عيناه الصغيرتان أن تنفذا إلى سر تلك الهيبة وهو احترام الرجل نفسه وصونه كرامته فما يطأطئ أبوه رأسه أو يخفض صوته أو يغير لهجته لدى أي كبير من الحاكمين مهما علا مقامه؛ ثم إنه يفطن إلى معنى آخر يحبب أباه إليه، وذلك إنه على ترفعه واستكباره أحيانا على مزارعيه يعطف عليهم فلا يرضى لهم بالعقوبة البدنية ولا يحب ان يرهقهم بالعمل فإذا حدث لهم شئ من ذلك كان على غير علم منه وإذا علم بشيء منه نهى عنه واشتد في النهي وأخلص فيه. وسيرث ليو صفات أبيه فيكون عطوفا رؤوفا يكره العنف على المزارعين ويحب أن يعلمهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور؛ ولكنه كذلك سوف ينشا معتدا بذاته كثير الذهاب بنفسه سريع الميل إلى ازدراء غيره، ومهما حاول التغلب على تلك النزعات في طبعه غلبته على أمره في كثير من المواقف فيزهى ويتكبر ولا يقوم في نفسه إلا شعوره بما نشأ من أيامه من دلائل العظمة والثراء وعراقة الأصل، وحسبه أن ليس هناك في ياسنايابوليانا وما حولها قوم لهم السيادة والجاه منذ عهد بطرس الأكبر إلا آل تولستوي.
وأحب ليو اخوته حبا شديدا وأحب اللعب معهم كلما أطلقهم المربي من حجرة الدراسة؛ أحب أكبرهم نيقولا لأنه يعلمه كل شيء ولأنه عطوف عليه مرح فكه الحديث، يراه ليو لا يبارى في سرد الحكايات والقصص الجميلة وفي رسم الصور المختلفة والأشكال والألوان وأحب سيرجى لوجاهة منظره وأعجبه منه حبه الغناء واللهو وكبرياؤه وعدم مبالاته بما عسى أن يقول عنه القائلون؛ أما ديمتري وهو أقرب الثلاثة إليه سنا فكان يأنس بهدوئه وابتسامته الحلوة وعاطفته الرقيقة.
وكانت من أحب الألعاب إليه تلك اللعبة التي ابتكرها نيقولا؛ فقد أسر إليه إنه اهتدى إلى نوع من السحر يستطيع به أن يجعل الناس جميعا على ظهرالأرضأحبابا بعضهم لبعض، وإن سحره هذا منقوش على غصن أخضر دفنه في مكان ما بالقرب من موضع حدده لهم، ثم دعاهم إلى الجلوس معا جنبا إلى جنب في بقعة صغيرة يظللهم سقف واحد كما تفعل النمل لتكون لهم مثل اخوة النمل ومحبة جماعاته، فاقبلوا حيث جلسوا تحت غطاء من القماش وضعوه على بعض الكراسي وتلاصقوا هنا وهناك في تعاطف ومودة وأخذ يحدثهم نيقولا إنه بالحب المشترك المتبادل يستطيع الناس أن يكونوا اخوة وهكذا صارت هذه اللعبة من أحب الألعاب إلى الاخوة، ولكم أن تجتمعوا تحت خوان أو في ركن من الأركان ومثلوا اخوة النمل، وأحدثت اللعبة أثرها في خيال ليو ووجدانه فقبل أن يبلغ السادسة من عمره يستقر في نفسه حلم لذيذ عن عالم جديد يرتبط فيه الناس بعضهم ببعض برباط الحب والمودة حتى يصبحوا بذلك إخوانا.
استقر هذا الحلم في نفس الطفل وهو دون السادسة ومازال مستقرا فيها حتى بعد أن جاوز السبعين من عمره فقد كتب إذ ذاك يذكر ذلك الحلم فقال (إن ذلك المثال وهو اخوة النمل وتعلقنا بعضنا ببعض متحابين أبقى قائما في نفسي لا يتغير وإن لم يعد كما كان أمس تحت قماش يظلل كرسيين عاليين فهو اليوم عندي تعلق البشر بعضهم ببعض متحابين تحت غطاء عظيم هو قبة السماء وكما صدقت يومئذ إن هناك عصا صغيرة خضراء نقشت عليها تلك الرسالة التي تمحق الشر كله في نفوس الناس وتهي لهم السعادة العامة فكذلك أعتقد اليوم ان هذه حقيقة ممكنة تنكشف للناس وسوف يمنحهم كشفها كل ما تعدهم به من سعادة). ولقد أوصى تولستوي فيما بعد أن يدفن حين يموت حيث دفنت تلك العصا الخضراء.
في تلك البقعة التي صارت حبيبة إلى قلبي من أجل ذلك الغصن الأخضر الذي أوحى إلى نفسي أن يتحاب الناس جميعا ويتآخوا على نحو ما تنطق به قصة أخيه؛ ولقد دفن فعلا الكاتب العظيم في الموضع الذي عينه أخوه مثوى للغصن الأخضر وذلك بعد ستة وسبعين عاما من قصة ذلك الغصن! وحدثهم نيقولا حديثا آخر أبهج نفوسهم الصغيرة وملاها شوقا وتطلعا وذلك إنه سيقودهم إلى تل ما وسيبلغ بهم قمته، فإذا بلغوها وطلبت نفوسهم أي شئ فلا يلبثون دون أن يكون بين ايديهم، ولكنهم لن يقودهم إلى ذلك التل إلا أن يجيبوا إلى ما يطلب إليهم أداؤه، فعلى كل منهم أن يقف في ركن فلا يتجه ذهنهم لحظة إلى دب أبيض عي عليهم أنلايخطر ببالهم هذا الدب، وعليه أن يمشي مستقيما على شق بين الألواح الخشبية فلا يميل، ثم عليه أن يمتنع عاما كاملاً عن رؤية أرنب حي أو ميت أو معد للمائدة، ومن أخذ نفسه منهم بهذه الشروط فليقسم أن تظل سراً لا يفشيه إلى أحد. وكم أتجه ليو بخياله ووجدانه إلى ذلك الغصن الأخضر يود أن يعلم ما نقش عليه من سحر، وإلى ذلك التل العجيب يتوق أن يبلغ قمته، وما علمه أخوه إلا أخوة النمل وإلا تلك الشروط التي لابد من أداءها لمن يطمع أن يبلغ قمة التل.
ويتطلع ليو إلى سيرجي يريد أن يكون مثله، تحدثه نفسه إذا قارن بينه وبين نيقولا إنه يفضل أن تكون له وجهة سيرجي ولو أنه معجب بأقاصيص نيقولا وسحره ونكاته؛ وهو مولع بتقليد سيرجي فيما يعمل، ولكنه يألم ألا يستطيع أن تكون له مثل وجاهته فلم يجدي في ذلك تقليد، وكان وجاهة أخيه أحب صفاته إليه فما أشقاه أن تكون هي الصفة التي تستعصي عليه؛ وإنه مهما حاكاه في الغناء واللهو والاعتداد بالنفس فلن يزال يشعر بعدم الرضا ان لم يكن له ما لأخيه من حسن السمة وجمال الطلعة؛ وثمة شيء أخر لا يستطيع ليو ان يحاكى فيه أخاه، وذلك عدم مبالات سيرجي بما عسى أن يقول الناس عنه، فهو لم يكن يوماً معنياً بنفسه وإنما يسير على سجيته لا يشغل باله بالتفكير في ذاته، وقد خلق ليو على نقيض أخي فهو بنفسه معني منذ صغره، عظيم الاهتمام بآراء الناس عنه، شديد الإحساس بذاته، كثير الانطواء على نفسه، وتلك خلة أتعبته منذ نشأته وستكون منبع كثير من متاعبه في مستقبل الأيام. (يتبع) الخفيف

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن