شرح عمدة الفقه - كتاب المناسك [2]


الحلقة مفرغة

تقدم لنا في الدرس السابق تعريف الحج والعمرة وما يتعلق بحكمهما، وأن الحج واجبٌ بإجماع المسلمين، وأما العمرة فذكرنا فيها ثلاثة آراء: الوجوب، وعدم الوجوب، والرأي الثالث: أنها واجبةٌ على غير المكي.

وتكلمنا أيضاً عن شروط الحج وأنه يشترط له شروط هي: البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والاستطاعة، أما المراد بالاستطاعة فأهل العلم رحمهم الله اختلفوا في ذلك على رأيين. ‏

الشرط السادس: المحرم للمرأة

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويعتبر للمرأة وجود محرمها].

فقوله: (يعتبر) يعني: يشترط لوجوب الحج والعمرة على المرأة أن يوجد محرم لها؛ ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك ).

أنواع محرم الزوجة

ثم بعد ذلك بين المؤلف رحمه الله محرم الزوجة فقال: [وهو زوجها] ومحرم الزوجة يتنوع إلى أنواع:

النوع الأول: زوج المرأة، كما دلت على ذلك السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إلا مع زوجها أو مع ذي محرم ).

قال: [ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب].

النوع الثاني: من تحرم عليه على التأبيد بنسب، ومن تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب سبعة:

الأول: أبو المرأة وإن علا: كجدها، وجد جدها.. إلى آخره فهذا محرم لها.

والثاني: ابنها وإن نزل: كابن ابنها وابن بنتها.. إلى آخره.

والثالث: أخوها من أي جهة، سواءً كان أخاً شقيقاً أو من جهة الأب أو من جهة الأم.

والرابع: عمها مطلقاً، سواء كان عماً لأبٍ أو عماً لأمٍ أو عماً شقيقاً.

والخامس: خالها أيضاً مطلقاً، سواء كان لأبٍ أو لأمٍ أو شقيقاً.

والسادس: ابن أخيها وإن نزل: كابن ابنه وابن بنته.. إلى آخره.

والسابع: ابن أختها وإن نزل.

فهؤلاء السبعة يحرمون على المرأة على التأبيد بالنسب.

ولم يذكر المؤلف رحمه الله المصاهرة، فنقول:

النوع الثالث: من يحرمون على المرأة على التأبيد بسبب المصاهرة، وهم:

الأول: ابن زوج المرأة فإنه يحرم على زوجة أبيه، فزوجة الأب محرمة على الابن بالإجماع، وهذا التحريم بمجرد العقد، فيكون محرماً لزوجة أبيه.

والثاني: أبو زوج المرأة، وهذا أيضاً محرم بالإجماع، فيكون محرماً بمجرد العقد.

والثالث: زوج الأم، ويكون محرماً لبناتها، لكن لا يكون محرماً لبناتها إلا بالدخول بالأم.

والرابع: زوجة الابن، فأبو الابن محرم لها بمجرد أن يعقد الابن على هذه المرأة، فإنها تحرم على أبيه وإن علا.

فأصبح الذين يكونون محارم للمرأة من جهة المصاهرة أربعة.

النوع الرابع: قال المؤلف رحمه الله: [أو سببٍ مباح].

يعني إذا كان هناك سبب مباح كالرضاع، ففي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فالسبعة الذين سبقوا في النسب يأتون هنا في الرضاع، فنقول: الأب من الرضاع محرم، والابن من الرضاع محرم، والأخ من الرضاع والعم والخال وابن الأخ وابن الأخت، فهؤلاء كلهم محارم من جهة الرضاع.

وقوله: (مباح) يخرج السبب المحرم، فإذا كان هناك سبب محرم فإنه لا يكون به الإنسان محرماً، يعني: حرم النكاح لوجود سببٍ محرم، فنقول: لا يكون به الرجل محرماً، ومثل ذلك على المشهور من المذهب أنهم يقولون بأنه يحرم بالسفاح ما يحرم بالنكاح، فإذا زنى بامرأة فإنه يحرم عليه بنتها، ويحرم عليه أمها، كما لو عقد على امرأة عقداً صحيحاً فإن أمها تكون محرمةً عليه، وإذا دخل بهذه المرأة فإن بنتها تكون محرمةً عليه بالدخول، وأيضاً الربيبة تحرم بالدخول، فالمشهور من المذهب أنهم يقولون: السفاح كالنكاح، يعني: إذا زنى بامرأة لا يجوز له أن يتزوج أم هذه المرأة، ولا يجوز له أن يتزوج بنتها، مع أنهم يقولون: يجوز له أن يتزوج زانية إذا تابت، وهذا فيه نظر، لكن على كل حال إذا زنى بهذه المرأة وقلنا بأنه لا يجوز له أن يتزوج أمها فإنه لا يكون محرماً لأمها، وإذا قلنا بأنه لا يجوز له أن يتزوج بنتها فإنه لا يكون محرماً لبنتها.

الحج والعمرة عمن مات مفرطاً في ذلك مع الاستطاعة

قال رحمه الله: [فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة].

لو أنه فرط حتى مات، هل يخرج من تركته ما يحج به عنه ويعتمر أو لا يخرج؟

هذه المسألة فيها ثلاثة آراء للعلماء رحمهم الله:

الرأي الأول: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا كان مستطيعاً للحج ثم بعد ذلك ترك الحج تهاوناً وكسلاً حتى مات فإنه يخرج من تركته ما يحج به عنه، وكذلك أيضاً ما يعتمر به عنه؛ لأنهم يرون أن العمرة واجبة، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اقضوا، فالله أحق بالوفاء ) .

والرأي الثاني: التفصيل في هذه المسألة، وهذا قال به مالك والشافعي رحمهم الله، فقالوا: إن أوصى فإنه يخرج من تركته ما يحج به عنه، وإن لم يوص فإنه لا يخرج، وإذا أوصى قالوا: يخرج لوجوب تنفيذ الوصية كما قال الله عز وجل: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، وأيضاً قول الله عز وجل: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] .

والرأي الثالث: وهو ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله أنه إذا فرط فلا يخرج من تركته، يعني: أنه إذا فرط في الحج فلم يحج حتى مات فإنه لا يخرج من تركته.

والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أن الإنسان إذا فرط فلم يحج حتى مات فإنه يخرج من تركته.

حج الكافر والمجنون

قال رحمه الله: [ولا يصح من كافرٍ].

تقدم الكلام عليه في الدرس السابق، فالكافر لا يجب عليه الحج وجوب أداء ولا يصح منه؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وأيضاً قول الله عز وجل: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]. فالكافر فاقد للأصل، وإذا كان كذلك فإنه لا يصح منه.

وقوله: (ولا مجنون).

أيضاً المجنون لا يصح منه وهذا بالاتفاق؛ ويدل لهذا حديث: ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم-: المجنون حتى يفيق ). ولأن المجنون هذا ليس له قصد معتبر فلا يصح منه.

حج الصبي والعبد

قال رحمه الله: [ويصح من الصبي والعبد ولا يجزئهما].

لو أن الصبي حج فإن حجه صحيح؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن امرأة رفعت صبياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر ).

ولا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام، فإذا بلغ فعليه أن يحج حجة أخرى، وأجر الحج يكون للصبي ولوليه أجر؛ لقول الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46]. وهذا عمل صالحاً فيكون للصبي، وأما وليه فله أجر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولك أجر ).

أيضاً العبد يصح منه ولا يجزئه عن حجة الإسلام، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما عبدٍ حج ثم عتق فعليه حجة أخرى، وأيما صبيٍ حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى ). وهذا الحديث مختلف بين رفعه ووقفه، والأقرب أنه موقوف، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا أذن له سيده فإنه يجزئه ذلك عن حجة الإسلام.

حج غير المستطيع والمرأة بغير محرم

قال رحمه الله: [ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير محرم].

إذا كان إنسان غير مستطيع فلا يجب عليه الحج، وتقدم أن ذكرنا تفسير الاستطاعة أنه إذا كان غير مستطيع فإن حجه غير واجب، لكن لو أن هذا الشخص ذهب وتكلف وحج فنقول بأن حجه صحيح ويبرؤه ذلك، يعني: يجزئه ذلك عن حجة الإسلام وتبرأ ذمته؛ لأنه أتى بالحج بشروطه وأركانه وواجباته.

وقوله: (والمرأة بغير محرم) أيضاً المرأة كما سلف لا يجب عليها الحج إلا مع وجود محرم، فلو أنها ذهبت وسافرت بلا محرم فنقول بأن حجها صحيح ويجزئها ذلك عن حجة الإسلام، لكنها تأثم لكونها تركت السفر بلا محرم.

الحج عن الغير

قال رحمه الله: [ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه أو عن نذره أو عن نفله وفعله قبل حجة الإسلام وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره].

هنا مسألتان:

المسألة الأولى: حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه، فهل يجزئه ذلك أو لا يجزئه؟ هذا شخص حج عن أبيه -مثلاً- أو حج عن أمه ولم يكن حج عن نفسه، فهل نقول: الحج يكون له أو لمن ناب عنه؟

هذا فيه رأيان للعلماء رحمهم الله:

الرأي الأول: وهو المذهب كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو قول أبي حنيفة : أن هذه الحجة تكون عن نفسه، فإذا لبى عن أبيه وهو لم يحج عن نفسه تنقلب هذه الحجة لنفسه، فإذا قال: لبيك عن أبي وحج عنه، قالوا: بأنها تكون عن نفس الحاج ولا تكون عمن حج عنه.

واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلبي عن شبرمة : لبيك عن شبرمة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شبرمة ؟ قال: أخ أو قريب لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة ). فدل ذلك على أن الإنسان إذا لبى عن غيره وهو لم يحج عن نفسه فإن الحجة تكون عن الملبي.

الرأي الثاني: رأي مالك والشافعي أن هذه الحجة تكون للشخص الذي استنيب عنه، أي: الذي حج عنه، فمثلاً: لو حج عن أبيه وهو لم يحج عن نفسه فإنه يقع عن أبيه.

واستدلوا على ذلك بقصة الخثعمية -كما في الصحيحين- التي جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حجها عن أبيها وذكرت: (أن أباها أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنه ) ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل حجت عن نفسها أو لم تحج عن نفسها؟

وأيضاً يدل لذلك ما في الصحيحين من حديث عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات ). وهذا الشخص إنما نوى عن ذلك الشخص ولم ينو عن نفسه، وهذا القول هو الأقرب، إلا إذا ثبت حديث ابن عباس في قصة شبرمة ؛ لأن حديث ابن عباس في قصة شبرمة بعض أهل العلم يرفعه وبعضهم يقف فيه ولا يصححه مرفوعاً، فإن ثبت الحديث قيل به، وإن لم يثبت مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم فما ذهب إليه مالك والشافعي يكون أقرب.

حج النذر

المسألة الثانية: هذا رجل حج نذراً، يعني: عليه حجة الإسلام الفريضة وعليه حجة منذورة فحج عن هذا النذر، فهل يجزئه ذلك عن حجة النذر أو نقول بأن هذه الحجة تكون عن حجة الإسلام ثم بعد ذلك يحج عن النذر؟

هذه المسألة فيها رأيان للعلماء رحمهم الله، وصورتها كما تقدم: رجلٌ لم يحج حجة الإسلام وعليه حجة منذورة، ثم شرع في الحج المنذور، هل نقول بأنه ينقلب إلى حجة الإسلام؟ أو نقول بأنه يكون عن حج هذه الحجة المنذورة ثم يحج حجة الإسلام؟ فهذه المسألة فيها رأيان للعلماء رحمهم الله:

الرأي الأول: مذهب أحمد وأبي حنيفة أن هذه الحجة تنقلب عن حجة الإسلام كما تقدم.

والرأي الثاني: رأي مالك والشافعي أن هذه الحجة تكون عن حجة النذر ثم بعد ذلك يحج عن حجة الإسلام، والدليل كما تقدم في المسألة السابقة.

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويعتبر للمرأة وجود محرمها].

فقوله: (يعتبر) يعني: يشترط لوجوب الحج والعمرة على المرأة أن يوجد محرم لها؛ ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك ).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] 2512 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] 2460 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] 2430 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] 2420 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] 2393 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] 2348 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] 2347 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] 2308 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] 2302 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] 2297 استماع