شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [6]


الحلقة مفرغة

مس الذكر

قال المؤلف: رحمه الله تعالى: [ولمس الذكر بيده].

ذكر المؤلف رحمه الله من نواقض الوضوء لمس الذكر بيده, وأن تمس بشرته بشرة امرأة بشهوة.

تقدم لنا الناقض الأول وهو الخارج من السبيلين، وذكرنا أن الخارج من السبيلين ينقسم إلى قسمين، وتكلمنا على كل قسم من هذين القسمين.

وأيضاً الناقض الثاني: الخارج من بقية البدن، وأن الخارج من بقية البدن ينقسم إلى قسمين، وتكلمنا على كل من هذين القسمين.

الناقض الثالث: زوال العقل، وأيضاً ذكرنا أن زوال العقل أو تغطية العقل ينقسم إلى قسمين، وتكلمنا على كل قسم من هذين القسمين.

ثم قال رحمه الله في الناقض الرابع: (ولمس الذكر بيده). لمس الذكر هل هو ناقض من نواقض الوضوء، أو ليس ناقضاً من نواقض الوضوء؟

هذا اختلف فيه العلماء رحمهم الله على رأيين:

الرأي الأول: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وقول الشافعي أن لمس الذكر باليد، والمراد باليد هنا الكف فقط، يعني: إذا لمس ذكره بكفه دون بقية بشرته بلا حائل، فإنه ينتقض وضوءه، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله, وأيضاً هو قول الشافعي .

والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء. فعندنا رأيان في هذه المسألة، ولكل من الرأيين دليل.

أما الذين قالوا بأن مس الذكر ينقض الوضوء؛ فاستدلوا بحديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مس ذكره فليتوضأ )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي والدارقطني .. وغيرهم، وهذا الحديث له شواهد، فله شاهد من حديث أبي هريرة وحديث أم حبيبة وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد ذكر الترمذي رحمه الله أنه روي عن سبعة من الصحابة، وهو حديث ثابت.

ودليل من قال بأن مس الذكر لا ينقض الوضوء، ما رواه قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟ ) يعني: قطعة منك، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم، وأيضاً ورد له شاهد من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، لكن حديث أبي أمامة هذا في إسناده جعفر بن الزبير وهو متروك.

وحديث طلق بن علي هذا صححه جمع من أهل العلم منهم علي بن المديني ، والطحاوي وغيرهم، فإسناده ثابت أيضاً إسناده حسن.

فعندنا هذان الحديثان، حديث طلق بن علي ، وحديث بسرة ، واختلف المحدثون في ترجيح أحدهما على الآخر، فـيحيى بن معين رحمه الله كان يرجح حديث بسرة بنت صفوان ، وكذلك أيضاً أبو حاتم وأبو زرعة كل منهم يضعف حديث طلق بن علي ، ويرجحون عليه حديث بسرة بنت صفوان .

وقد وقعت مناظرة بين يحيى بن معين رحمه الله وبين علي بن المديني ، فـعلي بن المديني يرى حديث طلق بن علي حسناً، ويرجحه على حديث بسرة ، ويحيى بن معين يرجح حديث بسرة على حديث طلق بن علي .

والأقرب في ذلك أن حديث طلق بن علي ثابت وأنه حسن، كما سبق لنا حسنه علي بن المديني رحمه الله وهو إمام معتبر، وصححه الطحاوي وغيرهم من أهل العلم.

وعلى هذا يجمع بين الحديثين أنه يستحب للإنسان إذا مس ذكره أن يتوضأ، ولا يجب عليه، جمعاً بين الحديثين، والأحوط للإنسان أن يتوضأ إذا مس ذكره؛ لأن أكثر الصحابة على أن مس الذكر يوجب الوضوء، أو أن الإنسان يتوضأ من مس الذكر.

نقول: إن حديث بسرة : ( من مس ذكره فليتوضأ ) هذا محمول على الاستحباب؛ ويدل لذلك حديث طلق بن علي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: ( وهل هو إلا بضعة منك؟ )، ولا يمكن النسخ، يعني: كما قال بعض العلماء بأن حديث بسرة متأخر، وحديث طلق بن علي متقدم، فحديث بسرة ينسخ حديث طلق بن علي ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام علل بعلة ما يمكن أن تنسخ، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وهل هو إلا بضعة منك؟ ) هذه علة لا يمكن أن تنسخ أبداً.

فالأقرب في ذلك أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، كما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وحديث بسرة هذا يحمل على الاستحباب والاحتياط، أحوط للإنسان كما ورد عن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

وقوله: (بيده) المراد باليد كما أسلفنا الكف، وعلى هذا فلو أنه مس ذكره برجله، أو مس ذكره بذراعه، أو بغير ذلك من أعضاء بدنه فإن هذا لا ينقض الوضوء، لا ينتقض الوضوء إلا إذا مس ذكره بكفه بلا حائل.

وقول المؤلف أيضاً لمس الذكر، هذا يخرج ما إذا لمس الأنثيين، فلو لمس الأنثيين فإن ذلك لا ينقض الوضوء، وإنما الذي ينقض الوضوء هو فقط لمس الذكر إذا قلنا بما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وإذا رجحنا مذهب أبي حنيفة وأن مس الذكر لا ينقض الوضوء فسواء مس ذكره أو مس أنثييه .. إلخ، فإن هذا لا ينتقض وضوءه.

مس المرأة بشهوة

قال المؤلف رحمه الله: [ولمس امرأة بشهوة].

هذا الناقض الخامس: أن يمس امرأة بشهوة بلا حائل، وهنا عبر المؤلف رحمه الله بقوله: (ولمس) بالنسبة لمس الذكر لا يحصل النقض إلا بالكف فقط خاصة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من أفضى بيده ) فإن النبي عليه الصلاة والسلام نص على اليد، وهنا بالنسبة للأنثى إذا مس الأنثى لشهوة، سواء كان ذلك باليد أو بسائر أجزاء البدن، فإنه ينتقض وضوءه على ما ذهب إليه المؤلف.

فلو أنه رجله مست رجل زوجته بشهوة انتقض وضوءه، أو أن يده مست يد امرأته بشهوة، أو أي جزء من أجزاء البدن مس جزءاً من أجزاء بدن هذه المرأة بشهوة بلا حائل فإنه ينتقض وضوءه، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى.

والرأي الثاني: رأي الشافعي وهو أوسع من هذا، وهو أن مس الأنثى مطلقاً ينقض الوضوء، سواء مس بشهوة أو كان ذلك بغير شهوة.

والرأي الثالث: أن مس الأنثى مطلقاً لا ينقض الوضوء، سواء كان ذلك بشهوة أو كان بغير شهوة، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو أرجح الأقوال.

ولكل من هذه الأقوال دليل، أما الحنابلة الذين فصلوا قالوا: إن مس لشهوة فإنه ينتقض وضوءه، وإن كان لغير شهوة فإنه لا ينتقض وضوءه؛ فاستدلوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم -في الصحيحين- كان يصلي من الليل، فإذا أراد السجود غمزها، فكفت رجلها )، وهنا مس النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: بأن هذا المس كان لغير شهوة، فلا ينتقض الوضوء.

وأيضاً ما ثبت من حديث عائشة في صحيح مسلم : ( أنها خرجت تبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد )، فهنا وقعت يدها على قدمي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينتقض وضوءه.

وأما كونه ينتقض إذا كان لشهوة، قالوا: إن مس المرأة لشهوة هذا مظنة خروج الخارج، وإذا كان مظنة لخروج شيء من الإنسان خروج مذي مثلاً من الإنسان فإنه ينتقض الوضوء كالنوم، فإن النوم ينقض الوضوء؛ لأنه مظنة خروج الريح من الدبر، لما تقدم لنا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء ).

وأما بالنسبة لما ذهب إليه الشافعي وأن مس الأنثى ينقض مطلقاً فاستدل بقول الله سبحانه وتعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، وهذا يشمل مس المرأة سواء كان ذلك لشهوة أو كان لغير شهوة.

وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله أن المرأة لا ينقض الوضوء فاستدل بما تقدم من حديث عائشة في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل، فإذا سجد غمزها، فكفت رجلها )، وأيضاً ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة : ( أنها ذهبت تبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم فوقعت يدها على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد ).

وهذه الأدلة تدل على أن مس الأنثى سواء كان ذلك لشهوة أو لغير شهوة فإنه لا ينقض الوضوء، وهذا القول هو الصواب, وأيضاً مما يؤيد ذلك عدم الدليل على النقض، فليس هناك دليل يدل على نقض الطهارة بمس المرأة، والطهارة ارتفعت بمقتضى دليل شرعي، فلا بد من دليل شرعي على نقض الوضوء.

وأما قول الله عز وجل: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43] فإن المراد بالملامسة هنا الجماع؛ كما فسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد صحيح.

وقد ورد في سنن أبي داود من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قبلها وصلى ولم يتوضأ )، لكن هذا الحديث مرسل، قال أبو داود : إبراهيم النخعي رواه عن عائشة وإبراهيم النخعي لم يسمع من عائشة رضي الله تعالى عنها.

الردة عن الإسلام

قال المؤلف رحمه الله: [والردة عن الإسلام].

هذا الناقض السادس: الردة عن الإسلام، فإذا ارتد الإنسان بطلت طهارته, وهذا ما ذهب إليه المؤلف؛ ودليل ذلك قول الله عز وجل: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65].

وجمهور أهل العلم على أن الردة عن الإسلام لا تبطل الوضوء؛ لأن الأصل بقاء الطهارة، لكن يأتينا إن شاء الله أن الكافر إذا أسلم فإنه يجب عليه أن يغتسل.

أكل لحم الجزور

قال المؤلف رحمه الله: [وأكل لحم الجزور].

هذا الناقض السابع من نواقض الطهارة.

قال المؤلف رحمه الله: [(لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم توضئوا منها. قيل: أفنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ)].

أكل لحم الجزور هل هو ناقض أو ليس ناقضاً؟

للعلماء في ذلك رأيان:

الرأي الأول: ما مشى عليه المؤلف رحمه الله، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد أن أكل لحم الجزور ناقض، قال الإمام أحمد رحمه الله فيه حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب ، أما حديث جابر ففي صحيح مسلم : ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل )، وهذا في صحيح مسلم ، أيضاً حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه: ( توضئوا من لحوم الإبل )، ففيه حديثان صحيحان كما قال الإمام أحمد رحمه الله.

أكثر أهل العلم -الأئمة الثلاثة- على أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء؛ واستدلوا بحديث جابر في السنن أنه قال: ( كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ), ويدخل في ذلك لحم الإبل، ويجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أن هذا الحديث لا يثبت بهذا اللفظ، بل بلفظ: ( أكل من كتف شاة ثم دعي إلى الصلاة فقام النبي عليه الصلاة والسلام فصلى )، هذا الجواب الأول.

الجواب الثاني: على فرض ثبوته فنقول: بأن حديث جابر بن سمرة ، حديث البراء بن عازب مقدم على هذا الحديث؛ لأنه أخص، فنقول: ترك الوضوء مما مست النار يستثنى من ذلك لحم الإبل؛ لدلالة حديث جابر بن سمرة ، وحديث البراء بن عازب ، ولذلك أكثر أهل الحديث على ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أن أكل لحم الجزور يبطل الوضوء.

قال المؤلف رحمه الله: (وأكل لحم الجزور) فقال: لحم، ما المراد باللحم؟ المراد باللحم الهبر، وعلى هذا فبقية أجزاء الجزور لا ينقض الوضوء، فلو أكل الإنسان كبداً أو كلية أو قلباً أو لحم رأس أو مصراناً أو كرشاً أو نحو ذلك من غير اللحم فإنه لا ينتقض وضوءه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وأن النقض خاص فقط في الهبر، أما بقية الأجزاء فإنها لا تنقض.

والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو اختيار الشيخ السعدي أن بقية أجزاء الإبل تنقض الوضوء، فإذا أكل الإنسان كبداً أو كرشاً أو كلية أو قلباً أو مصراناً أو لحم رأس أو نحو ذلك فإن هذه الأشياء أيضاً تنقض الوضوء، وألحقوا هذه الأشياء بالهبر.

أما بالنسبة للمذهب فاستدلوا بحديث جابر وحديث البراء ، فإن الحديث إنما ورد في اللحم، والكرش هذا ليس لحماً، والمصران ليس لحماً، والكبد ليس لحماً.

أما الذين قالوا بأنها تنقض، فقالوا بأنه لا يوجد في الشريعة حيوان يختلف حكمه حلاً وحرمة ونجاسة وطهارة، إما أن يكون حلالاً وإما أن يكون حراماً، إما أن تكون جميع أجزائه ناقضة، أو تكون جميع أجزائه ليست ناقضة .. إلخ، هكذا استدلوا.

والدليل الثاني: قالوا: إن هذه الأشياء التي قيل بأنها لا تنقض منها ما يدخل في مسمى اللحم، مثل لحم الرأس، لحم الرأس هذا يدخل في مسمى اللحم، وأنتم أخرجتموه، فإذا كان كذلك فإنه يدخل في الأحاديث.

والأحوط للإنسان أن يتوضأ من هذه الأشياء، يعني: إذا أكل كبداً، أو كرشاً أو نحو ذلك نقول: الأحوط للإنسان أن يتوضأ من هذه الأشياء.

وقال المؤلف رحمه الله: (وأكل لحم الجزور) هذا يصدق على القليل والكثير؛ لأنه لو أكل شيئاً كثيراً، أو أكل شيئاً يسيراً، فإن هذا كله مما ينقض الوضوء، وكذلك أيضاً سواء كان هذا اللحم مطبوخاً أو نيئاً هذا كله ينقض الوضوء.

الشك في الطهارة والحدث

قال المؤلف رحمه الله: [ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو على ما تيقن].

إذا كان الإنسان متطهراً ثم شك هل أحدث أو لم يحدث؟ هل نام نوماً مستغرقاً أو النوم حتى الآن ليس مستغرقاً؟

فنقول: الأصل بقاء الطهارة، أو كان محدثاً ثم شك، هل توضأ أو لم يتوضأ؟

نقول: الأصل بقاء الحدث، هذا يندرج تحت قاعدة اليقين لا يزول بالشك.

ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : ( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكل عليه هل خرج منه شيء أو لم يخرج منه شيء فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأيضاً يدل لذلك حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه في الصحيحين.

قال المؤلف: رحمه الله تعالى: [ولمس الذكر بيده].

ذكر المؤلف رحمه الله من نواقض الوضوء لمس الذكر بيده, وأن تمس بشرته بشرة امرأة بشهوة.

تقدم لنا الناقض الأول وهو الخارج من السبيلين، وذكرنا أن الخارج من السبيلين ينقسم إلى قسمين، وتكلمنا على كل قسم من هذين القسمين.

وأيضاً الناقض الثاني: الخارج من بقية البدن، وأن الخارج من بقية البدن ينقسم إلى قسمين، وتكلمنا على كل من هذين القسمين.

الناقض الثالث: زوال العقل، وأيضاً ذكرنا أن زوال العقل أو تغطية العقل ينقسم إلى قسمين، وتكلمنا على كل قسم من هذين القسمين.

ثم قال رحمه الله في الناقض الرابع: (ولمس الذكر بيده). لمس الذكر هل هو ناقض من نواقض الوضوء، أو ليس ناقضاً من نواقض الوضوء؟

هذا اختلف فيه العلماء رحمهم الله على رأيين:

الرأي الأول: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وقول الشافعي أن لمس الذكر باليد، والمراد باليد هنا الكف فقط، يعني: إذا لمس ذكره بكفه دون بقية بشرته بلا حائل، فإنه ينتقض وضوءه، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله, وأيضاً هو قول الشافعي .

والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء. فعندنا رأيان في هذه المسألة، ولكل من الرأيين دليل.

أما الذين قالوا بأن مس الذكر ينقض الوضوء؛ فاستدلوا بحديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مس ذكره فليتوضأ )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي والدارقطني .. وغيرهم، وهذا الحديث له شواهد، فله شاهد من حديث أبي هريرة وحديث أم حبيبة وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد ذكر الترمذي رحمه الله أنه روي عن سبعة من الصحابة، وهو حديث ثابت.

ودليل من قال بأن مس الذكر لا ينقض الوضوء، ما رواه قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟ ) يعني: قطعة منك، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم، وأيضاً ورد له شاهد من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، لكن حديث أبي أمامة هذا في إسناده جعفر بن الزبير وهو متروك.

وحديث طلق بن علي هذا صححه جمع من أهل العلم منهم علي بن المديني ، والطحاوي وغيرهم، فإسناده ثابت أيضاً إسناده حسن.

فعندنا هذان الحديثان، حديث طلق بن علي ، وحديث بسرة ، واختلف المحدثون في ترجيح أحدهما على الآخر، فـيحيى بن معين رحمه الله كان يرجح حديث بسرة بنت صفوان ، وكذلك أيضاً أبو حاتم وأبو زرعة كل منهم يضعف حديث طلق بن علي ، ويرجحون عليه حديث بسرة بنت صفوان .

وقد وقعت مناظرة بين يحيى بن معين رحمه الله وبين علي بن المديني ، فـعلي بن المديني يرى حديث طلق بن علي حسناً، ويرجحه على حديث بسرة ، ويحيى بن معين يرجح حديث بسرة على حديث طلق بن علي .

والأقرب في ذلك أن حديث طلق بن علي ثابت وأنه حسن، كما سبق لنا حسنه علي بن المديني رحمه الله وهو إمام معتبر، وصححه الطحاوي وغيرهم من أهل العلم.

وعلى هذا يجمع بين الحديثين أنه يستحب للإنسان إذا مس ذكره أن يتوضأ، ولا يجب عليه، جمعاً بين الحديثين، والأحوط للإنسان أن يتوضأ إذا مس ذكره؛ لأن أكثر الصحابة على أن مس الذكر يوجب الوضوء، أو أن الإنسان يتوضأ من مس الذكر.

نقول: إن حديث بسرة : ( من مس ذكره فليتوضأ ) هذا محمول على الاستحباب؛ ويدل لذلك حديث طلق بن علي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: ( وهل هو إلا بضعة منك؟ )، ولا يمكن النسخ، يعني: كما قال بعض العلماء بأن حديث بسرة متأخر، وحديث طلق بن علي متقدم، فحديث بسرة ينسخ حديث طلق بن علي ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام علل بعلة ما يمكن أن تنسخ، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وهل هو إلا بضعة منك؟ ) هذه علة لا يمكن أن تنسخ أبداً.

فالأقرب في ذلك أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، كما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وحديث بسرة هذا يحمل على الاستحباب والاحتياط، أحوط للإنسان كما ورد عن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

وقوله: (بيده) المراد باليد كما أسلفنا الكف، وعلى هذا فلو أنه مس ذكره برجله، أو مس ذكره بذراعه، أو بغير ذلك من أعضاء بدنه فإن هذا لا ينقض الوضوء، لا ينتقض الوضوء إلا إذا مس ذكره بكفه بلا حائل.

وقول المؤلف أيضاً لمس الذكر، هذا يخرج ما إذا لمس الأنثيين، فلو لمس الأنثيين فإن ذلك لا ينقض الوضوء، وإنما الذي ينقض الوضوء هو فقط لمس الذكر إذا قلنا بما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وإذا رجحنا مذهب أبي حنيفة وأن مس الذكر لا ينقض الوضوء فسواء مس ذكره أو مس أنثييه .. إلخ، فإن هذا لا ينتقض وضوءه.

قال المؤلف رحمه الله: [ولمس امرأة بشهوة].

هذا الناقض الخامس: أن يمس امرأة بشهوة بلا حائل، وهنا عبر المؤلف رحمه الله بقوله: (ولمس) بالنسبة لمس الذكر لا يحصل النقض إلا بالكف فقط خاصة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من أفضى بيده ) فإن النبي عليه الصلاة والسلام نص على اليد، وهنا بالنسبة للأنثى إذا مس الأنثى لشهوة، سواء كان ذلك باليد أو بسائر أجزاء البدن، فإنه ينتقض وضوءه على ما ذهب إليه المؤلف.

فلو أنه رجله مست رجل زوجته بشهوة انتقض وضوءه، أو أن يده مست يد امرأته بشهوة، أو أي جزء من أجزاء البدن مس جزءاً من أجزاء بدن هذه المرأة بشهوة بلا حائل فإنه ينتقض وضوءه، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى.

والرأي الثاني: رأي الشافعي وهو أوسع من هذا، وهو أن مس الأنثى مطلقاً ينقض الوضوء، سواء مس بشهوة أو كان ذلك بغير شهوة.

والرأي الثالث: أن مس الأنثى مطلقاً لا ينقض الوضوء، سواء كان ذلك بشهوة أو كان بغير شهوة، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو أرجح الأقوال.

ولكل من هذه الأقوال دليل، أما الحنابلة الذين فصلوا قالوا: إن مس لشهوة فإنه ينتقض وضوءه، وإن كان لغير شهوة فإنه لا ينتقض وضوءه؛ فاستدلوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم -في الصحيحين- كان يصلي من الليل، فإذا أراد السجود غمزها، فكفت رجلها )، وهنا مس النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: بأن هذا المس كان لغير شهوة، فلا ينتقض الوضوء.

وأيضاً ما ثبت من حديث عائشة في صحيح مسلم : ( أنها خرجت تبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد )، فهنا وقعت يدها على قدمي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينتقض وضوءه.

وأما كونه ينتقض إذا كان لشهوة، قالوا: إن مس المرأة لشهوة هذا مظنة خروج الخارج، وإذا كان مظنة لخروج شيء من الإنسان خروج مذي مثلاً من الإنسان فإنه ينتقض الوضوء كالنوم، فإن النوم ينقض الوضوء؛ لأنه مظنة خروج الريح من الدبر، لما تقدم لنا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء ).

وأما بالنسبة لما ذهب إليه الشافعي وأن مس الأنثى ينقض مطلقاً فاستدل بقول الله سبحانه وتعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، وهذا يشمل مس المرأة سواء كان ذلك لشهوة أو كان لغير شهوة.

وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله أن المرأة لا ينقض الوضوء فاستدل بما تقدم من حديث عائشة في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل، فإذا سجد غمزها، فكفت رجلها )، وأيضاً ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة : ( أنها ذهبت تبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم فوقعت يدها على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد ).

وهذه الأدلة تدل على أن مس الأنثى سواء كان ذلك لشهوة أو لغير شهوة فإنه لا ينقض الوضوء، وهذا القول هو الصواب, وأيضاً مما يؤيد ذلك عدم الدليل على النقض، فليس هناك دليل يدل على نقض الطهارة بمس المرأة، والطهارة ارتفعت بمقتضى دليل شرعي، فلا بد من دليل شرعي على نقض الوضوء.

وأما قول الله عز وجل: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43] فإن المراد بالملامسة هنا الجماع؛ كما فسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد صحيح.

وقد ورد في سنن أبي داود من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قبلها وصلى ولم يتوضأ )، لكن هذا الحديث مرسل، قال أبو داود : إبراهيم النخعي رواه عن عائشة وإبراهيم النخعي لم يسمع من عائشة رضي الله تعالى عنها.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] 2515 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] 2461 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] 2442 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] 2421 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] 2395 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] 2351 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] 2348 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] 2310 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] 2304 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] 2300 استماع