شرح عمدة الأحكام - كتاب الطلاق [3]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن فاطمة بنت قيس : ( أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب )، وفي رواية: ( طلقها ثلاثاً، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته. فقال: والله ما لك علينا من شيء, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له, فقال: ليس لك عليه نفقة -وفي لفظ: ولا سكنى- فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك , ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي, اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك, فإذا حللت فآذنيني. قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه. وأما معاوية فصعلوك لا مال له, انكحي أسامة بن زيد فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة بن زيد فنكحته، فجعل الله فيه خيراً , واغتبطت به ) ].

الشرح:

نقل المؤلف رحمه الله عن ( فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة)، والمقصود بطلاق البتة هنا أنه طلقها آخر الثلاث الطلقات، وإذا طلق الزوج زوجته آخر الطلقات الثلاث بانت منه بينونة كبرى، (وهو غائب)، وفي رواية: ( طلقها ثلاثاً، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته -يعني: كرهته- فقال: والله ما لك علينا من شيء, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ) إلى آخر الحديث.

وقوله في الحديث: (صعلوك) يعني: فقير، وقوله: (يغشاها أصحابي)، يعني: يرد عليها أصحابي.

وهذا الحديث فيه مسائل، ومنها: أن فيه دليلاً لما ذهب إليه جمهور العلماء أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثاً.

وفي قوله: (عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة)، وفي رواية: (طلقها ثلاثاً)، قالوا: في هذا دليل على أن من طلق زوجته ثلاث طلقات فإنها تبين منه، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم.

وسبق أن تكلمنا على هذه المسألة، وقلنا: إن جمهور أهل العلم يرون وقوع الثلاث.

والرأي الثاني: رأي ابن حزم رحمه الله: أنها له وأنها لا تعتبر شيئاً.

والرأي الثالث: رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها تقع واحدة، وذكرنا شيئاً من أدلة هذه المسألة، وأن الأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أنها واحدة؛ لأنه إذا قال: أنت طالق، فهذه اللفظة عليها أمر الله وأمر رسوله، ثم قال: إذا قال ثلاثاً، فكلمة (ثلاثاً) هذه ليس عليها أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فتكون مردودة على صاحبها.

وكيف الجواب هنا عن هذا الحديث؟ نقول: (طلقها البتة)، و(طلقها ثلاثاً) جاء تفسير هذين اللفظين في صحيح مسلم بأنه طلقها آخر الطلقات الثلاث.

وقوله: (وهو غائب)، فيه أن طلاق الغائب يقع، وأنه لا يشترط أن يواجه الزوج زوجته بالطلاق، فلو قال وهو غائب: طلقت زوجتي فإن الطلاق يقع.

متعة الطلاق

قوله: (فأرسل إليها وكيله بشعير) يظهر -والله أعلم- أن هذا الشعير نوع من المتعة، والمتعة يقول الله عز وجل فيها: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، فالمتعة يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها واجبة لكل زوجة يطلقها زوجها، فيجب عليه أن يمتعها وأن يعطيها: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236] يعني: يعطيها شيئاً من المال؛ لأن الطلاق كسر للمرأة.

والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن المتعة تجب للزوجة التي طلقها زوجها قبل أن يفرض لها صداقاً، وقبل أن يدخل بها؛ لأنه إذا فرض لها الصداق فإن لها النصف، وإذا طلقها وقد دخل بها فلها المهر كاملاً.

فالرأي الأول وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد : أن المتعة هي لكل مطلقة لم يدخل بها زوجها، ولم يفرض لها صداقاً.

الرأي الثاني: أن المتعة لكل مطلقة، حتى لو دخل بها، أو فرض لها صداقاً، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

وقوله: (فسخطت، قال: والله ما لك علينا من شيء). في هذه اللفظة الحلف عند وجود المصلحة.

نفقة المطلقة ثلاثاً

(فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة وفي لفظ: ولا سكنى) في هذا دليل للحنابلة رحمهم الله أن المطلقة ثلاثاً ليس لها نفقة ولا سكنى إلا أن تكون حاملاً؛ كما جاء في سنن أبي داود : (فإذا كانت حاملاً فالنفقة من أجل الحمل)، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة أن لها النفقة والسكنى، مدة العدة، لورود ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه.

والرأي الثالث: رأي مالك والشافعي أن لها السكنى وليس لها النفقة؛ لقول الله عز وجل: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ [الطلاق:6].

والصواب في هذه المسألة: هو ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله لدلالة هذا الحديث، وهو حديث فاطمة بنت قيس وأنه ليس لها نفقة ولا سكنى؛ ولأنها بانت منه، إلا إذا كانت حاملاً فلها ذلك من أجل الحمل.

وابن القيم رحمه الله في كتابه الهدي أطال في هذه المسألة، وذكر الأدلة.

قال: (فقال: ليس لك عليه نفقة -وفي لفظ: ولا سكنى- فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك , ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي, اعتدي عند ابن أم مكتوم ). في هذا وجوب العدة كما سيأتينا إن شاء الله.

وفيه أيضاً: أن المعتدة يشرع لها أن تلزم البيت وتلزم المكان؛ لقوله: ( اعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك )، والمقصود بوضع الثياب، يعني: وضع الخمار ونحو ذلك مما يكون على الوجه، وفي هذا دليل على أنه لا بأس بمثل ذلك عند من لا يبصر.

التعريض بالنكاح للمطلقة ثلاثاً

( فإذا حللت فآذنيني -يعني: إذا انتهت عدتك فآذنيني- قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ) إلخ.

قوله: (فإذا حللت فآذنيني) فيه: جواز التعريض للمعتدة، والمعتدة إن كانت رجعية لا يجوز أن تخطب لا تعريضاً ولا تصريحاً؛ لأن الرجعية زوجة، ولها حكم الزوجات، لكن البائن أو المتوفى عنها زوجها لا بأس أن تخطب تعريضاً، أما التصريح فإنه لا يجوز؛ ويدل لهذا قوله: ( فإذا حللتي فآذنيني ).

فوائد أخرى من الحديث

وقوله في الحديث أيضاً: ( تلك امرأة يغشاها أصحابي ) يعني: الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لأن هذه امرأة كبيرة، لفضلها وحسن خلقها ونحو ذلك.

وأيضاً هنا قوله: (اعتدي عند ابن أم مكتوم ) فيه تستر المرأة عن الرجال، وابن أم مكتوم عنده أهله، فتعتد عند أهله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ؛ لأن هذه أم شريك يغشاها الصحابة ويدخلون عليها لفضلها.

وفي هذا: أنه لا بأس بالدخول على المرأة الكبيرة؛ لأن المرأة الكبيرة إذا لم يوجد هناك خلوة، وليس هناك فتنة، فإن هذا جائز ولا بأس به.

وفي هذا أيضاً قالت: (فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني)، هنا كيف خطبها معاوية وأبو جهم رضي الله تعالى عنهما جميعاً؟

الجواب عن ذلك: أن كل واحد منهما لم يعلم بخطبة الآخر، ما علم أبو جهم ، بخطبة معاوية ، ومعاوية ما علم بخطبة أبي جهم ، أما إذا كان يعلم فإنه لا يجوز له أن يخطب إلا إن ترك الأول الخطبة، أو استأذن الخاطب الأول فأذن له، فإن هذا جائز ولا بأس به.

وقوله: فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ). يعني: أنه يضرب النساء، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد النصيحة عند الخطبة، ومعاوية صعلوك يعني: أنه فقير، وهذا ليس من باب الغيبة، كما سبق أن أشرنا إلى أن النووي رحمه الله ذكر أن ذكر الإنسان بما يكره جائز في ستة مواضع, ومن هذه المواضع عند الخطبة؛ لأن هذا ليس من باب الغيبة وإنما هو من باب النصيحة.

وفي هذا أيضاً: أن من استشار فقد ائتمن، وأداء الأمانة واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليها أن تنكح أسامة بن زيد ، وأسامة ابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا أيضاً: دليل على أنه يجوز أن يخطب على خطبة الغير إذا كان لا يعلم بخطبة الغير؛ لأن معاوية خطب وأبا جهم خطب رضي الله تعالى عنهم.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.