شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [3]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلقوا الركبان, ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها, وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر )، وفي لفظ: ( هو بالخيار ثلاثاً ).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان يتبايعه أهل الجاهلية، وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها، قيل: إنه كان يبيع الشارف، وهي الكبيرة المسنة، بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته )].

الشرح:

نقل المؤلف رحمه الله في كتابه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلقوا الركبان ), والركبان: جمع راكب، وهو في الأصل راكب البعير، والمراد بهم: الذين يجلبون السلع إلى البلد.

وقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تلقوا الركبان ), هذا الوصف أغلبي، وسواء كانوا راكبين أو راجلين فلا يجوز التلقي.

قال: ( ولا تناجشوا )، النجش في اللغة: الزيادة، وفي الاصطلاح: هو أن يزيد في السلعة من لا يريد الشراء.

( ولا يبع حاضر لباد )، هذا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أن لا يكون له سمسار، كما في الحديث الآخر.

قال: ( ولا تصروا الغنم )، تصرية الغنم: هي ترك اللبن في ضروع البهائم حتى يكثر، فيخيل للمشتري أن هذا عادة لها.

( ولا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين, بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها, وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر )، وفي لفظ: ( هو بالخيار ).

قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد )، قال: فقلت لـابن عباس : ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسار].

وهذا الحديث اشتمل على مسائل:

صور تلقي الركبان

المسألة الأولى: النهي عن تلقي الركبان، وتلقي الركبان ذكر العلماء رحمهم الله أن له صوراً:

الصورة الأولى: أن يخرج خارج البلد بقصد التلقي، فهذا داخل في النهي، ولا إشكال في ذلك.

الصورة الثانية: أن يخرج خارج البلد لا بقصد التلقي، وإنما لغرض كنزهة مثلاً ثم بعد ذلك يجدهم، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصواب في هذه المسألة أنه داخل في النهي.

الصورة الثالثة: أن يقصد الركبان صاحب البلد، يعني: هو ما قصدهم لكنهم قصدوه للبيع عليه، فهذا جائز، لعدم وجود التلقي.

الصورة الرابعة: أن لا يقصدوا البيع في البلد، مثلاً: هو أراد أن يبيع في بلد آخر خارج البلد، يعني: لا يقصد أن يبيع عندك في البلد هنا وإنما يريد أن يبيع في بلد آخر، فهذا لا بأس أن تشتري منه لأنه في حكم المسافر.

الصورة الخامسة: أن يتلقاهم داخل البلد وخارج السوق، فهذا داخل في التلقي.

الصورة السادسة: أن تكون السلع التي يحملونها ليس للناس بها حاجة، يعني: السلع من أمور الكماليات التي لا يحتاجها الناس، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم، هل هو داخل في النهي أو ليس داخلاً في النهي؟ والصواب في هذه المسألة أنه داخل في النهي.

الصورة السابعة: أن يكونوا جاهلين بالثمن، فإن كانوا يعلمون بالثمن فلا بأس بأن تتلقاهم؛ لأن الحكمة من النهي هو المصلحة العامة لأهل البلد؛ لأنهم إذا كانوا جاهلين للثمن فإن هذا يكون سبباً لرخص السلع على أهل البلد، وإن كان سيلحقهم شيء من النقص؛ لكن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.

حكم بيع الرجل على بيع أخيه

المسألة الثانية قوله: ( ولا يبع بعضكم على بيع بعض )، في هذا أنه يحرم أن يبيع المسلم على بيع أخيه؛ لكن هناك فرق بين البيع على بيع أخيه، والسوم على سومه، فالبيع على بيع أخيه بعد وجود العقد، والسوم على سومه قبل وجود العقد.

البيع على بيع أخيه بعد وجود العقد: قال: بعت عليك السيارة، قال: قبلت، ثم بعد ذلك جاء شخص آخر وقال: أبيعك أحسن منها، هو قال: بعتك السيارة بعشرة آلاف ريال، قال: قبلت، جاء شخص قال: أبيعك مثلها بتسعة، أو أبيعك أحسن منها بعشرة، فهذا محرم ولا يجوز، فالبيع على بيع أخيه بعد وجود العقد محرم لا يجوز.

والعلماء يقولون: التحريم يكون في زمن الخيارين: خيار المجلس وخيار الشرط؛ لأنه في خيار المجلس يتمكن أن يفسخ، قال: بعتك السيارة، وقال: قبلت، ثم جاء شخص فقال: أبيعك أرخص منها، فيمكن للمشتري أن يفسخ ويعقد مع الثاني، فهو في خيار المجلس أو في خيار الشرط قال: بعتك السيارة، قال: قبلت لكن لي الخيار ثلاثة أيام، ثم جاء شخص فقال: أنت شريت من فلان السيارة بعشرة آلاف ريال، أنا أبيعك أحسن منها بعشرة آلاف، أو أبيعك بتسعة، فهذا لا يجوز؛ لأن المشتري مادام أن له الخيار فإنه يتمكن أن يفسخ ويعقد مع الثاني، فيقولون: بأن التحريم يكون في زمن الخيارين: خيار المجلس وخيار الشرط، لأنه إذا كان في زمن الخيارين يتمكن من الفسخ.

وبعض العلماء كما قال الإمام مالك رحمه الله: إن التحريم عام، حتى ولو كان بعد زمن الخيارين، وهو وإن كان لا يتمكن من الفسخ إلا أنه سيحدث في قلبه شيئاً من القلق والحزن، ويحدث البغضاء التي من أجلها منعت مثل هذه الأشياء، وكذلك أيضاً سيسعى في فسخ العقد.

أما السوم على سومه قبل العقد فينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: في بيوع المزايدة، فهذا جائز ولا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم باع فيمن يزيد.

القسم الثاني: أن يكون بعد الرضا التام، البائع رضي بالثمن، والمشتري رضي بالسلعة، لكن قبل العقد جاء واحد وساوم، نقول: هذا محرم ولا يجوز.

النهي عن النجش

المسألة الثالثة: قال: ( ولا تناجشوا )، فيه النهي عن النجش، والنجش هو أن يزيد في السلعة من لا يريد الشراء، وهو محرم سواء كان بمواطأة واتفاق، أو لم يكن هناك مواطأة واتفاق، وأيضاً نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش يشمل حتى ولو كان الناجش يريد أن تصل السلعة إلى ثمن مثلها، فهذا محرم ولا يجوز، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم خلافاً لـابن حزم وابن عبد البر .

يعني: لو قال: أنا أزيد وهو لا يريد الشراء لكن قال: أزيد حتى تصل السلعة إلى ثمن مثلها، فنقول: أيضاً هذا محرم ولا يجوز.

النهي عن بيع الحاضر للبادي

( ولا يبع حاضر لباد )، هذا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أن لا يكون له سمسار، وهو معنى ما تقدم من النهي عن تلقي الركبان؛ لأن الحكمة من النهي عن تلقي الركبان، وأن لا يبع الحاضر للبادي، الحكمة من ذلك هو المصلحة العامة، لكي يحصل الرخص لأهل البلد، فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، لكن إن قصد صاحب البادية الحاضر لكي يبيع له، فإن هذا لا بأس به، لكن الذي ينهى عنه هو أن يقصد الحاضر البادي لكي يبيع له، فهذا منهي عنه.

النهي عن التصرية

قال: ( ولا تصروا الغنم )، في هذا أيضاً تحريم التدليس، وتصرية الغنم هو ترك اللبن في ضروعها حتى يكبر الضرع، فيظن المشتري أن هذا عادة لها، وهذا تدليس وهو محرم لا يجوز.

والتدليس في اللغة: مأخوذ من الدلسة وهي الظلمة، وأما في الاصطلاح: فهو أن يظهر المبيع بصفة يزيد فيها الثمن دون مقابل بالسلعة، بحيث يظهر الجيد بصورة الأجود، ويظهر الرديء بصورة الجيد.

والعلماء رحمهم الله يذكرون له أمثلة في الزمن الماضي: مثل تصرية ضروع البهائم، والرقيق يأتي سيده ويضع على يديه حبراً لكي يوهم أنه كاتب، أو ينثر الحبر على ثوبه لكي يوهم أنه كاتب، ومثله أيضاً تجعيد شعر الجارية؛ لأن جعودة الشعر تدل على قوة البدن، هذا أيضاً من التدليس.

ومن التدليس في وقتنا الحاضر: تغيير العلامات التجارية، حيث ترى كثيراً من الآلات الآن تغير علاماتها التجارية، فبدلاً من أن يكتب عليها أنها صناعة البلد الفلاني، أو الشركة الفلانية، تغير العلامة التجارية ويوضع عليها علامة تجارية أخرى، أو صناعة بلد آخر، وأيضاً السيارة يغير في عداد السيارة، فبدلاً من أن تمشي مائة ألف يجعلها عشرة آلاف، فهذا نوع من التدليس.

إذاً: التدليس هو أن يظهر السلعة بما يزيد الثمن. دون أن يكون هناك مقابل، فهذا التدليس محرم ولا يجوز؛ لأنه نوع من الغش والخديعة، وإذا تبين هذا للمشتري فإن له الحق في الفسخ.

خيار التدليس

قال: ( ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها, وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر )، يعني: إذا تبين للمشتري أن البائع قد دلس عليه فهو بالخيار: إما أن يمسك وإما أن يفسخ ويأخذ الثمن، لكن هل له الأرش أو ليس له الأرش؟

هذا موضع خلاف بين أهل العلم، والمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه ليس له الأرش، يعني: ما حصلت من الزيادة في الثمن.

والرأي الثاني: أن له الأرش، وهذا هو الصواب، والقاعدة عندنا: أن كل من غش أو دلس فإنه يعامل بأضيق الأمرين، وحينئذ يثبت الأرش، نقول للمشتري: أنت بالخيار؛ إما أن تمسك وتأخذ الأرش، وإما أن تفسخ وتأخذ دراهمك.

مثال: إذا حلب هذا اللبن ثم تبين له أن البائع قد غش، وأنه عمل تصرية في هذه الغنم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ردها وصاعاً من تمر )، هكذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد، وبدلاً من اللبن الذي أخذه يرد بدله صاعاً من تمر، لكن لو رد اللبن نقول: إن تراضيا فالحمد لله، وإن لم يتراضيا نرجع إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بصاع من تمر، ومثله لو رد قيمة اللبن نقول: إن تراضيا فلا بأس أن يأخذ القيمة، وإن لم يتراضيا فإنه يجب صاع من تمر كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه يجب صاع من تمر، أو من غالب قوت البلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد التمر لأنه قوت المدينة في ذلك الزمن، وعلى هذا إما أن يعطيه صاعاً من تمر، أو صاعاً من غالب قوت البلد.

خيار الشرط

قال: وفي لفظ: ( هو بالخيار ثلاثاً )، هذه اللفظة دليل لما ذهب إليه جمهور أهل العلم، أن خيار الشرط يحدد بثلاثة أيام، والصواب أن خيار الشرط لا يحدد بثلاثة أيام، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، فلو اشترى بيتاً وقال: لي الخيار لمدة خمسة أيام، أو عشرة أيام صح على المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، خلافاً لما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى.

وكون النبي صلى الله عليه وسلم حدد الخيار بثلاثة أيام في التدليس يتوقف فيه مورد النقل، وإلا الأصل في العقود والشروط التي في العقود الأصل فيها هو الصحة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [27] 2828 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [22] 2550 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [17] 2543 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [1] 2443 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الصيد [1] 2355 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [28] 2209 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [2] 2178 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب اللعان [3] 2149 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [23] 2141 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [16] 2103 استماع