شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [17]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندي تمر رديء, فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عند ذلك: أوه, أوه, عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به )].

الشرح:

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ )، التمر البرني هو من أجود تمور أهل المدينة.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أوه )، كلمة يؤتى بها للتوجع أو للتفجع.

قال: قال بلال: كان عندنا تمر رديء, فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ( أوه, أوه, عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به).

من فوائد الحديث

وهذا الحديث فيه فوائد:

منها: أنه عند مبادلة ربوي بجنسه، فإنه لا أثر لاختلاف النوع أو الجودة أو الرداءة، وهذا ضابط من ضوابط الربا يضاف إلى الضوابط السابقة، عند مبادلة جنس ربوي بنفس الجنس، أو نقول: عند مبادلة ربوي بجنسه، فإنه يجب التساوي ولو اختلفا في الرداءة والنوع والجودة ونحو ذلك، ولا أثر لاختلاف الرداءة والجودة والنوع عند مبادلة الربوي بجنسه، فيجب التساوي عندما تبادل تمراً جيداً بتمر رديء، مثل: السكري بتمر شبر، فيجب التساوي، الرديء بهذا البرني الجيد يجب التساوي، تقول: آخذ صاعاً من الجيد بصاعين من الرديء، نقول: لا يجوز هذا، أو تقول: آخذ عشرين جراماً من الذهب عيار كذا بثمانية عشر عيار كذا أقل منه، نقول: يجب التساوي.

عندما تبادل ربوياً بجنسه: ذهباً بذهب، فضة بفضة، رزاً برز، براً ببر، تمراً بتمر، لحماً بلحم فإنه يجب التساوي، ولا أثر لاختلاف النوع، أو اختلاف الرداءة، أو القدم أو الجدة أو نحو ذلك.

كذلك أيضاً يؤخذ من هذا: تحريم ربا الفضل؛ لأن بلالاً لما بادل صاعاً من التمر بصاعين، هذا ربا الفضل، وضابط ربا الفضل: الزيادة في أحد الربويين الحالين اللذين اتحدا في الجنس.

حكم بيع العينة

وهذا الحديث يستدل به الشافعية على جواز بيع العينة، والشافعية من أضعف الناس في المعاملات، ومن ضعف الشافعية في المعاملات كما تقدم أنهم لا يجيزون شرط المنفعة، بل يغلقون هذا الباب، ويغلقون الباب في صيغ العقود حيث يقولون: العقود لا تنعقد بالمعاطاة إنما تنعقد باللفظ، وغير ذلك مما يدل على ضعف أصولهم في المعاملات.

إذاً: الشافعية يجيزون بيع العينة، وصورة بيع العينة هي أن تشتري سلعة بثمن مؤجل ثم تبيعها على الذي اشتريتها منه بأقل من ثمنها نقداً، فمثلاً: تشتري سيارة بمائة ألف مؤجلة، وتبيعها على الذي اشتريتها منه بثمانين ألفاً نقداً، فلان يطالبك بمائة ألف، وأخذت منه ثمانين ألفاً، أصبحت الآن مائة بثمانين، وهذا هو الربا، وبيع العينة محرم.

والعلماء يقولون: بيع العينة ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون هناك اتفاق ومواطأة فهذا محرم بالإجماع، حتى الشافعية يرون التحريم.

القسم الثاني: أن لا يكون هناك اتفاق ومواطأة، فالجمهور على أنه محرم.

والرأي الثاني: رأي الشافعية أنه جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـبلال رضي الله تعالى عنه: ( لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتره )، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بع التمر ببيع آخر ثم اشتر به)، يشتمل على ما إذا اشترى من هذا الشخص أو من غيره، فيدل هذا على جواز مسألة العينة؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بع التمر ببيع آخر واشتر به) لم يستفصل هل سيشتري ممن باع عليه أو لا، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أن يبيع الجمع بالدراهم ثم يشتري بها جنيباً، ولو اشترى من نفس الشخص فيكون وقع في الربا، وهذا مذهب الشافعية رحمهم الله.

والرأي الثاني كما ذكرنا: قول جمهور أهل العلم، وهو أن العينة محرمة ولا تجوز، ويحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بع الجمع ثم اشتر بالدراهم جنيباً )، يعني: تمراً جديداً، يحمل على أنه لا يشتري ممن باع عليه، وإنما يشتري من شخص آخر، للأدلة الأخرى التي تدل على تحريم العينة.

والأدلة على تحريم العينة كثيرة، ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم )، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا )، وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في بيع، وهذا حمله ابن القيم رحمه الله على بيع العينة، ولأن العينة فيها صورة الربا، وأدلة الربا تدل عليها.

مسألة التورق

كذلك أيضاً استدل بهذا الحديث على جواز مسألة التورق، والتورق هو أن تشتري السلعة بثمن مؤجل وتبيعها على غير من باعها عليك بأقل من ثمنها نقداً، لكي تتوسع بثمنها، تتوسع بالورق، أي: بالفضة، تشتري سلعة بثمن مؤجل، مثلاً: سيارة تشتريها بمائة ألف مؤجلة، إن بعتها على نفس الذي باعها عليك وقعت في العينة، وإن بعتها على غيره بأقل من ثمنها نقداً فهذا هو التورق.

والجمهور يرون جواز التورق، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: التورق محرم، ويقول: التورق هو أخية العينة؛ لأن صورة التورق موجودة في الربا، فهو الآن التزم بمائة ألف وأخذ بدلها ثمانين ألفاً، فأصبحت المائة بثمانين.

وقال ابن القيم رحمه الله: كان شيخنا يراجع فيها لكي يحلها فيأبى، ويقول: لا، هي أخت العينة.

والآن كثير من الاقتصاديين يقولون: المفاسد المترتبة على الربا موجودة في مسألة التورق.

وذهب بعض العلماء إلى أن التورق يجوز عند الحاجة، أنه إذا احتاج إليه الإنسان كأن لا يجد أحداً يقرضه ... إلى آخره، جاز له ذلك، أما كون بعض الناس يتبايع الآن بالتورق، فتجده يذهب إلى البنوك، ويأخذ ويقترض لأمور كمالية، فيظهر أن هذا غير جائز.