شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [16]


الحلقة مفرغة

ما زلنا في حديث أبي سعيد السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل )، ذكرنا أن هذا الحديث وما بعده نأخذ منه ضوابط، ومن هذه الضوابط: أنه عندما نبادل ربوياً بجنسه نشترط شرطين:

الشرط الأول: التماثل.

والشرط الثاني: التقابض.

فعندما تبادل ذهباً بذهب لابد من هذين الشرطين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثلاً بمثل، يداً بيد ) فضة بفضة براً ببر، رزاً برز، شعيراً بشعير، ذرةً بذرة ... إلى آخره، لابد من هذين الشرطين، وسبق أن بينا المال الربوي والمال الذي ليس ربوياً.

الضابط الثاني: عندما نبادل ربوياً بربوي آخر يتفقان في العلة لكن يختلفان في الجنس، فإننا نشترط التقابض، مثاله: الذهب بالفضة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، الذهب والفضة يختلفان في الجنس ويتفقان في العلة، والعلة هي الثمنية، البر مع الشعير يختلفان في الجنس ويتفقان في العلة، كل منهما مطعوم مكيل، الرز مع الدخن، يتفقان في العلة ويختلفان في الجنس، فبع كيف شئت لكن لابد أن يكون يداً بيد، ريالات بجنيهات، يختلفان في الجنس ويتفقان في العلة، بع كيف شئت، لكن لابد أن يكون يداً بيد، وعلى هذا فقس.

الضابط الثالث: عندما تبادل ربوياً بربوي آخر يخالفه في العلة والجنس فإننا لا نشترط شيئاً، مثال ذلك: ذهب بشعير، الذهب ربوي والشعير ربوي، لكنهما لا يتفقان في العلة ولا في الجنس، فلا نشترط التقابض، ولا نشترط التماثل، فضة ببر، لحم بشعير، بع كيف شئت، سكر بفضة، بذهب، ريالات برز، بع كيف شئت، لا يتفقان لا في العلة ولا في الجنس، دولارات برز، أو بسكر، أو بلحم، أو بحديد، يختلفان في العلة ويختلفان في الجنس، نقول: بع كيف شئت.

الضابط الرابع: عند مبادلة ربوي بغير ربوي، أو مبادلة مالين غير ربويين بعضهما ببعض لا نشترط شيئاً، مثال الأول: مبادلة ربوي بغير ربوي، سيارات برز، فالسيارات ليست ربوية، ثياب بذهب، فالثياب ليست ربوية، ثياب برز، فالثياب ليست ربوية، كتب بذرة، فالكتب ليست ربوية ... إلى آخره.

كذلك عندما نبادل مالاً غير ربوي بمال غير ربوي، فإننا أيضاً لا نشترط شيئاً، بل بع كيف شئت، سيارات بسيارات، سيارة بسيارتين، كتاب بكتابين، تقابض أو مؤخر، أقلام بأقلام، أوراق بأوراق، وهكذا.

وسيأتينا إن شاء الله في الأحاديث أيضاً ضوابط أخرى للربا نذكرها بإذن الله.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( جاء بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلال : كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوه، أوه، عين الربا، عين الربا، لا تفعل، لكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به )].

الشرح:

قوله: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض )، يعني: تزيدوا.

( ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض )، أي: لا تزيدوا، وكما قلنا: إذا بادلت ربوياً بجنسه نشترط شرطين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مثلاً بمثل، ولا تشفوا )، تزيدوا.

( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز )، يعني: لابد من التقابض، لا تبيعوا شيئاً غائباً بشيء حاضر، لابد من التقابض، ذهب بذهب لابد أن يكون يداً بيد، فضة بفضة يكون يداً بيد، لا تبيعوا غائباً بناجز، أي: بحاضر، يعني: مؤجل بحاضر، وبهذا نعرف أن شراء الذهب بالآجل حرام ولا يجوز، والعلة واحدة، وكما ذكرنا إذا اتحد الربويان في العلة واختلفا في الجنس نشترط التقابض.

ضبط المبادلة بالمعيار الشرعي

قال: وفي لفظ: ( إلا يداً بيد )، وفي لفظ: ( إلا وزناً بوزن، مثلاً بمثل، سواء بسواء )، هذا الضابط الخامس: عندما تبادل ربوياً بجنسه لابد أن تكون هذه المبادلة بالمعيار الشرعي، كيلاً في المكيلات، ووزناً في الموزونات، وإلا وقعت في الربا، فعندما تبادل ذهباً بذهب، لابد من الوزن، صاع ذهب بصاع ذهب يداً بيد، هذا رباً، كذلك مد ذهب بمد ذهب يعدّ رباً؛ لأنه ما ضبط بالمعيار الشرعي حيث ضبطه بالكيل، وإنما الذهب يضبط بالوزن، فلابد أن تضبطه بالوزن، فنقول: كيلو ذهب بكيلو ذهب، مائة جرام ذهب بمائة جرام ذهب، يداً بيد، أما أن تجعله بالأصواع أو بالكيل فهذا ليس معياره الشرعي.

عشرة كيلو رز بعشرة كيلو رز، يداً بيد، يعدّ رباً؛ لأنك ما ضبطه بمعياره الشرعي بالكيل، أو صاع رز بصاع رز، صاعان من الرز بصاعين من الرز، أما كونك تضبطه بالوزن فلا يصح، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وزناً بوزن )، فالذهب يضبط بالوزن لا يضبط بالكيل.

إذاً: عندما نبادل ربوياً بجنسه، لابد من المعيار الشرعي.

كيفية معرفة الكيل والوزن

كيف نعرف الكيل؟ وكيف نعرف الوزن؟

في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة )، فما كان مكيلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل المدينة فهو مكيل إلى يوم القيامة، وما كان موزوناً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل مكة فهو موزون إلى يوم القيامة.

والعلماء رحمهم الله لخصوا هذا الكلام قالوا:

أولاً: الحبوب كلها مكيلات؛ لأنها لا تضبط بالوزن، وإنما بالكيل.. بالصاع.. بالمد.. إلخ، ذرة بذرة، رز برز، بر ببر، اضبط بالكيل.. بالصاع.. بالمد.

ثانياً: الثمار هذه كلها مكيلات، التمر.. الزبيب.. إلخ، سائر الثمار مكيلات، اضبطها بالكيل لا بالوزن.

ثالثاً: الذهب والفضة وسائر المعادن، هذه موزونات، تضبط بالوزن، فالفضة لا تضبط بالكيل، إنما بالوزن، ومثلها أيضاً الذهب.. إلخ.

رابعاً: الشحم واللحم، هذه موزونات، عندما تبادل لحم بعير بلحم بعير، تضبطه بالوزن، بالكيلو، لا تضبطه بالصاع والمد، لحم بقر بلحم بقر، لحم غنم بلحم غنم، اضبطه بالكيلو، بالوزن، ما تضبط بالكيل أو بالصاع أو بالمد.

خامساً: سائر المائعات مكيلات، كالدهن والعسل، فعندما تبادل عسلاً بعسل فبالكيل، صاعاً بصاع، مداً بمد، وإن تبادل عشرة كيلو عسل بعشرة كيلو عسل، فإنك تقع في الربا؛ لأنه ضبط بغير معياره الشرعي، فسائر المائعات تضبط بالكيل.. بالمد والصاع، الزيت.. زيت الزيتون.. العسل.. اللبن.. الحليب.. عندما تبادل حليب بقر بحليب بقر، حليب غنم بحليب غنم، هذه لابد أن تضبطها بالكيل لا بالوزن.

سادساً: الشعر والوبر والصوف والقطن والكتان، هذه موزونات، وهذا على القول بأن الربا يجري فيها، لكن على القول الذي رجحناه أنه لا يجري فيها الربا، لكن إذا قلنا على رأي الحنابلة: إنه يجري الربا في كل الموزونات، فالقطن والكتان والصوف والوبر والشعر والحرير، يقولون: بأنها موزونات، قطن بقطن، صوف بصوف، هذه تضبط بالوزن ولا تضبط بالكيل.