أرشيف المقالات

منظومة القيم والمفاهيم الإسلامية: مصادرها وأثرها في السلوك

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .

الحلقة الأولى
بســـــــــــم اللــــــه


بعد حمد الله والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
فإن نجاة العبد في هذه الدار الدنيا وفي الآخرة مرهونةٌ بصلاح علم وصلاح عمل، وصلاح العلم مبني عليه صلاح العمل، وصلاح العمل وقبول الله تعالى له مبني عليه إثابته سبحانه وتعالى لعبده بفضله ومَنـِّه وكرمه، وفساد العمل وعدم قبوله يترتب عليه استحقاق فاعله للعقوبة نسأل الله السلامة والعافية.

ولما لم يكن هناك عملٌ إلا بنيـّة وإرادة، ولا إرادة إلا بمعرفة المصالح من المفاسد: فيريد العبد ما فيه المصلحة ولا يريد ما فيه المفسدة، وما كان ذلك ليتم له إلا بعلم ما فيه مصلحته وما فيه مفسدته، وأن الأصل في ابن آدم الظلم والجهل وأن العلم عليه طارئ: كان العلم الحق هو ما جاء عن الله اللطيف الخبير:
حيث أنه لما كان العبد مسؤولاً عن كل مثقال ذرة من العمل في هذه الدنيا: كان من تمام عدل الديّان -سبحانه وتعالى- الذي لا يظلم الناس شيئًا أن يُتم لهم بيان طريق الحق ومنهج الهداية الذي به ينجو العبد من عذاب الله تعالى يوم القيامة ، كما قال تعالى:
{رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [ النساء :166].

قال البغوي رحمه الله:
"فيقولوا –أي الناس-: ما أرسلت إلينا رسولاً وما أنزلت إلينا كتابًا، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسول، قال الله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء–15]" اهـ.

وقال القرطبي رحمه الله:
"كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه:134] وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شيء من ناحية العقل." اهـ

قال الطبري رحمه الله:
"أرسلتهم رسلاً إلى خلقي وعبادي، مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدق رسلي، ومنذرين عقابي من عصاني وخالف أمري وكذّب رسلي {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتج من كفر بي وعبد الأنداد من دوني أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردت عقابه: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ} [طه:134] فقطع حجة كل مبطل ألحد في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة عذره، إعذارًا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه".
ثم قال: {وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}، يقول: ولم يزل الله ذا عزة في انتقامه ممن انتقم منه من خلقه على كفره به ومعصيته إياه بعد تثبيته حجته عليه برسله وأدلته "حكيمًا" في تدبيره فيهم ما دبره" اهـ.

والعلم يتحقق لابن آدم من وسائل:
منها الإدراك الحسي: وآلاته هي الحواس الخمس المعروفة التي تنقل لعقل ابن آدم المعلومات التي تلتقطها عن الحقائق الكونية من حوله، فهذه أول درجات محدودية إدراك ابن آدم: أنه لا يستطيع أن يتصور حقيقة الشيء ولا يستقيم له إدراك العقل لهذه الحقائق بدون هذه النوافذ الخمس:
فلا تجد عند من فقد حاسة البصر تصورًا للألوان والأشكال والأجسام إذا لم يكن في ذهنه صورة مسبقة عنها، وكذلك فاقد السمع: لا يستطيع مهما حاول ومهما أوتي من سعة الخيال أن يتصور صوتاً لم يسبق له أن سمعه من قبل ...

كما أن هناك درجة ثانية لمحدودية الإدراك البشري: وهي أن قوة الإدراك للحواس الخمس محدودة ونطاقها محدود للتسجيل، فإذا كانت حقيقة الشيء الخارجي أقل أو أكثر من سعة وقدرة الإدراك الحسي للحاسة لم تقم بتسجيلها...
كالأشعة فوق البنفسجية أو تحت الحمراء بالنسبة للعين، والأصوات الشديدة الانخفاض بالنسبة للأذن، ولكل حاسة من الحواس الخمسة قدرة محدودة على الإدراك.

فإدراك ابن آدم إذن محدودٌ بسلامة آلاته وحدود قوة إدراكها وما سبق له تخزينه من المدركات.
وثمرة تقرير هذه الحقيقة هو إثبات فساد القول بنفي بعض الحقائق الكونية لمجرد كون الحواس الخمس لم تدركها: وهذا مذهب الماديين الذين ينفون الكثير من الغيبيات (الأمور التي لا تدركها الحواس) لمجرد كونها غير مدركة بالحواس الخمسة، ومن ذلك: وجود الله والملائكة والجن والشياطين والنبوات والرسالات وغيرها.
فيكون الرد هو أن هذه الحقائق مما تعجز هذه الحواس عن إدراكها كما بيّـنا.

الأمر الآخر هو أن هناك وسائل أخرى لتحصيل العلم عند ابن آدم منها:
الخبر الصادق: مثال ذلك: وجود الأمريكتين وبلاد الصين لمن لم تسنح له الفرصة بزيارتها ليتيقن من وجودهما بنفسه، الحرب العالمية الأولى لمن لم يعاصرها، وجود شخصيات مثل مالك وابن حنبل والشافعي، والرازي والأوزاعي والليث، وابن رشد والفارابي وابن سينا، أو هتلر وموسوليني ولينين، وشكسبير وجورج واشنطن، ولينكولن ونيوتن ودافنشي ممن تواترت الأخبار عن وجودهم في مراحل مختلفة من التاريخ الانساني ...
الخ.

فهذه الوسيلة من وسائل المعرفة لا تخضع للحواس الخمس لإثباتها أو نفيها، وإنما تخضع لقواعد البحث العلمي في إثبات صدق أو كذب الأخبار، ومن أمثلة هذه الأخبار:
وجود الملائكة والجن، وجود الرسل والأنبياء وحقيقة النبوات والرسالات، تفاصيل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده مرورًا بمراحل التاريخ الإسلامي حتى العصر الحديث...
إلخ.

فيكون رد أو قبول هذه الأخبار أساسه صدق أو كذب المخبر (المصدر) بها وليس مجرد عدم قبول العقل لمحتوى الخبر: فهناك العديد من الأخبار والأقوال الثابتة الصحة والتي يجد العقل البشري صعوبة في إدراك حقيقتها، وهذا لا يكفي في ردها بعد ثبوت صحتها أو صحة نسبتها إلى قائلها، ومن ذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والآثار الثابتة عن علماء المسلمين في عصور الإسلام المختلفة.

وثمرة تقرير هذه الحقيقة الثانية وأثرها على سلوك المسلم هو في تطبيقها على أمر مثل: القرآن الكريم :

فالقرآن الكريم كمجموعة من الأخبار والأقوال المتضمنة لأخبار عن أحداث مضت وأخبار عن أحداث لم تقع، ومتضمنة لترغيب وترهيب، ووعد ووعيد وتحذير من عقاب لمن لم يطع ما جاء فيها من الأوامر والنواهي، جميعها منسوبة إلى خالق هذا الكون والذي بيــّن أنه هو قائلها -سبحانه وتعالى- وموحيها إلى عبد من عباده -صلى الله عليه وسلم- وأنه أمره أن يبلغها إلى بقية خلقه -سبحانه وتعالى، وأنها ملزمة لكل من وصلت إليه من إنس أو جان، وهو من مجال الدعوى التي تحتاج إلى بيّنة: وبينتها ما احتواه من تحدي لأمهر وأفصح العرب الذين نزل عليهم هذا القرآن بلسانهم، فتحداهم بأن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة وأن يستعينوا بمن شاؤوا وأن هذا التحدي قائم إلى قيام الساعة فلم يفلح فيهم ولا فيمن جاء من بعدهم أحد، وهذا مما تضمنه الخبر فيه بل وأخبر سبحانه أنه "لن" يفلح فيكم أحد:
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:23-24].
والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة.

فيلزم من تقرير ذلك عدة حقائق:
1- وجود المولى عز وجل قائل هذا الكلام باعث الرسول والآمر له بتبليغه عنه والمتحدي بكلامه البشر إعجازًا وإثباتًا لصدق ما سبق من الدعاوى.
2- صحة نسبة جميع ما جاء في هذا الوحي عن الله تعالى وبالتالي صدق جميع ما فيه من الأخبار: من وجود الملائكة والجن والشياطين والجنة والنار والقيامة والبعث والنشور والحساب والصراط والرسالات والنبوات والوعد والوعيد.
3- لزوم ما فيه من الأوامر والنواهي لجميع من وُجِّهَت لهم من إنس أو جن.

وهذا مما يلزم المسلم اعتقاده اعتقادًا جازمًا لا شك فيه ولا ريب، فهو من حقائق هذا الكون التي عليه أن يتعامل معها كما يتعامل مع حقائق أخرى ثبتت له بالحواس الخمسة وهي لديه من الأمور المعتبرة مثل: إذا وضعت يدي في النار احترقت، أو إذا قفزت من جبل هلكت.

فإذا تقرر لابن آدم صحة هذه الحقيقة: وهي أن القرآن من عند فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً لزمه أن يصدق كل ما جاء فيه من الحقائق تصديقًا يتبعه أثر في سلوكه: ومنها:
-الاعتقاد الجازم بوجود الله والإيمان بأسمائه وصفاته كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه.
-الاعتقاد الجازم بوجود الملائكة وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم.
-الاعتقاد الجازم بوجود الشياطين وأنهم أشد المخلوقات عداوة لابن آدم.
-الاعتقاد الجازم في رسل الله تعالى وأنهم أولياء الله وأحب عباد الله إليه اصطفاهم لتبليغ رسالاته وأنهم أدوا ما أمرهم به من البلاغ والبيان.
-الاعتقاد الجازم بالجنة وأنها دار جزاء الفائزين والنار وأنها دار جزاء الخاسرين وأن البقاء فيهما أبدي.
-الاعتقاد الجازم ببعث الأجساد بعد الموت والنشور والحشر والحساب والميزان والصراط.

ولكل من هذه الحقائق نفرد إن شاء الله تعالى الكلام لنبين الأثر المطلوب على السلوك وأنها ليست مجرد اعتقادات صوفية مجردة كاعتقادات الرهبان من الديانات الباطلة كالبوذية والهندوسية والمسيحية وغيرها مما لا يؤثر تأثيرًا إيجابًا على سلوك المؤمن بشكل يصلح به حال الفرد والجماعة على النحو الذي أمر الله تعالى به ولذلك شرعه وارتضاه لخلقه.

سائلين الله أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه وأن ينفع به من سبقت له الرحمة من خلقه وأن يجمعنا بنبينا -صلى الله عليه وسلم- وأشرف صحبه رضوان الله عليهم أجمعين.


كريم محمود القزق
7-شعبان-1432 هـ
8-يوليو-2011م
 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١