الدار الآخرة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين:

أما بعد:

اليوم الآخر كلمة طويلة عريضة، ولعل من اسمها يتبين أنه لا يوم بعده، وتبدأ أول مشاهد هذا اليوم بحادثة مثل هذه الحوادث، فاستمع إليها يرحمك الله، قد يكون هذا الرجل يبدأ يومه وهو على الفراش طريحاً، وقد أحس بالروح تخرج، ولعله بدأ يحس بالنزع، وهذا هو النزع الأخير، ولربما تكون زوجه بجانبه، وأولاده عنده، ولربما بكت البنت وسقطت على حضنه، فقالت: أبي، ما لك لا تجيب؟

ولعل زوجه تنوح، وأبوه ينادي بالطبيب، وأخوه يناديه، ولعل الطبيب قد جاء، وحاول أن يرجع الروح إلى صاحبها، ولكن: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26] وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:27-28] ظن: أي علم وتيقن أنه الفراق، فراق ماذا؟

فراق المنصب.. فراق الدنيا.. فراق السيارة.. فراق الزوجة.. فراق الأهل.. فراق الأولاد والأحباب.. فراق البيت والأثاث.. فراق الأصحاب.. فراق الدنيا بما فيها: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] ثم لما مات وخرجت الروح من صاحبها ومن الجسد حمل على الأكتاف ولف في الكفن: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] إلى أين؟ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:30] هنا تبدأ أول مشاهد اليوم الآخر، ولعل هذه ميزة حسنة.. اسمع إلى تلك الميزة التي بدأ فيها ذلك الإنسان يومه الآخر بأسوأ ما يكون، واسمع إليها لا ندري كيف تكون نهايتنا؟

هذا رجل -أجلكم الله- كان في هذه البلاد لا يحصل على ما يريد، فسافر إلى دولة إباحية تعطيه كلما يشتهي، فجاء إلى أحد الفنادق، فحجز له غرفة، ثم طلب زجاجة الخمر -أم الخبائث، أم الفواحش، الخمر الرجس النجس، ذلك المشروب الذي حرمه الله جل وعلا- فأخذ يشرب ثم يشرب ثم يشرب بعد حرمان طويل، حتى جاء -أجلكم الله- إلى غرفة دورة المياه ليخرج ما شربه؛ لأنه أحس بالغثيان والإعياء، وبعد ثلاثة أيام طرقوا عليه الباب فلم يفتح، فكسروا عليه الباب، فإذا -أجلكم الله- رأسه في مصرف المجاري، وقد زهقت نفسه قبل ثلاثة أيام، وأنتن جسده ورأسه في مصرف المجاري: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] يا رب! ساعة فقط.. يا رب! ساعتين فقط، أصلي جميع الصلوات التي فاتت.. أرجع الأموال التي أخذتها من الناس ظلماً إلى أهلها.. أتوب من جميع الذنوب والمعاصي، فيرد الله عليه: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ [المؤمنون:100] أي: كلمة يقولها طول عمره لكنه كاذبٌ فيها،

يذكر هذا الرجل أنه لما أصيب بمصيبة بكى، فقال: يا رب! لئن كشفت عني هذه المصيبة أتوب وأصلي والتزم دينك، فلما انكشفت عنه المصيبة رجع كما كان، أراد أن يفضح، رجع إلى ربه وتوسل إليه: يا رب! لئن سترت علي لأفعلن وأفعلن، ستر الله عليه فرجع إلى حاله: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

رجل أصيب بمرضٍ شديد، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، سمع المؤذن قالوا له: يا أبتاه، أنت رجلٌ مريض وقد أعذرك الله، صل في البيت، قال: لا إله إلا الله، أسمع حي على الصلاة ولا أجيب، أسمع حي على الفلاح ولا أجيب، احملوني إلى المسجد، فحملوه إلى بيت الله جل وعلا، وهو رجل كبير في السن، وأوقف في الصلاة، فلما صلى مع الإمام وكان في السجدة الأخيرة قاموا من الصلاة فإذا نفسه قد فاضت إلى بارئها، وقد ختم الله جل وعلا له في سجوده بين يديه.. هل يستوي هذا وذاك؟!

أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] هل يجعل الله ذلك الذي يبعث وهو ساجد، وذلك الذي يبعث وهو ملبي، وذلك الذي يبعث وهو صائم، وذلك الذي يبعث وهو يطيع ربه يقرأ القرآن، وذلك الذي يبعث وهو بين يديها، أو عند فرجها أجلكم الله، أو يبعث وهو سكران يشرب الخمر، أو يبعث وهو تاركٌ للصلاة، هل يستوي ذلك وذاك؟!

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] نعم! هم في الدنيا سواء، هذا في كرسي جوار هذا، ويحصل على المال مثل هذا: كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20] ولكن اليوم الآخر هو الفصل، والموعد، وهو الذي يفرق الله فيه بين الناس.

حال خروج الروح وشدة النزع

يبدأ ذلك اليوم -كما أخبرناكم- بذلك المشهد الكئيب، ولعله يكون وما مات بحادث سيارة، أو لعله يكون وهو نائم، مسكين لا يشعر! ينام فإذا هي النومة الأخيرة لا يستيقظ بعدها، ما أدركته ولا تداركه، وكان دائماً يُقال له: يا فلان! تب، يا فلان! استقيم، يا فلان! صل، الصلاة عمود الإسلام، يقول: إن شاء الله من الغد.. إن شاء الله من رمضان القادم، بعد رمضان.. إن شاء الله من الحج.. بعد الحج.. إن شاء الله عندما أتزوج.. بعد الزواج.. إن شاء الله لما أفعل وأفعل .. فإذا به لا يتدارك نفسه إلا وملك الموت عند رأسه، فيقول لها: يأ يتها النفس الخبيثة -اسمع إلى تلك الكلمات والناس من حولك يبكون- اخرجي -إلى أين؟- إلى سخطٍ من الله وغضبه، الله جل وعلا قد غضب عليه.. كيف يخرج؟

الروح تتفرق في الجسد، لا تستطيع الخروج، ولا تتحمل أن تخرج، كيف تخرج إلى سخطٍ من الله وغضب؟

فيبدأ ملك الموت ينزع: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:1-2] فتتوزع الروح في الجسد، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، تعرف كيف ينزع الروح؟ ينزعها بقوة حتى تتقطع العروق والمفاصل.

ألم تر رجلاً يحتضر؟ ألم تر بعضهم كيف يصرخ؟ ألم تسمع بهم كيف ينوحون؟

إن بعضهم يتغير لون وجهه، يزرق وتزرق عينه من شدة الألم وذلك التعب -لا إله إلا الله- (إن للموت سكرات) لا يشعر الإنسان بمن حوله، ينزع تلك الروح فإذا نزعت خرجت كأنتن ريحٍ وجدت على وجه هذه الأرض، رائحة -والله- لو شمها من حوله لما استطاع أن يقف بجانبه، كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض.

أين ذلك الوجه الجميل؟ أين تلك الرائحة العطرة؟ أين ذلك الشكل الحسن؟ كأنتن جيفة على وجه الأرض، يحملها ملك الموت.

أتعرف -أخي الكريم- أن هذا الرجل وهو على الفراش يرى ملائكة على مد البصر.. يرى وجوههم وجوه ملائكة العذاب، مد بصره قبل أن تخرج الروح؟ عرف المصير، وعرف أين هو المستقر.. من يأخذ الروح؟ كل ملك يدفعها إلى من عنده، لا يريد أن يوصلها إلى السماء، فإذا أتت إلى سماء الدنيا تسألهم ملائكة السماء: روح من هذه الخبيثة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان بأقبح اسمٍ له على وجه الأرض، ثم لا تفتح لهم أبواب السماء: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [الأعراف:40] نعوذ بالله.

أخي الكريم! اسأل الله العافية، إذا لم تفتح لك أبواب السماء فإنه لا جنة بعدها: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [الأعراف:40] أين يُذهب بها؟ تقذف من السماء إلى الأرض، والأمر حقيقة لا جدال فيها: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:13-14] لا تتحمل أن تسقط من أعلى بناية.. كيف لو تسقط من السماء الدنيا؟ تطرح روحه إلى الأرض طرحاً، تقذف من السماء.

عبد الله! أتعرف أين تأتي هذه الروح؟ تأتي وقد حملت على الأكتاف وهي تصيح، تقول لمن يحملها على الأكتاف: يا ويلها أين تذهبون بها؟

إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:30-32] ماذا يتذكر في الدنيا؟

لياليه أين قضاها؟

أيامه هل كان يستيقظ على صلاة الفجر، أم على ذكرها وحبها؟

هل كان يذكر بلسانه الله جل وعلا، أم كانت الأغاني والأفلام والمطربين والمطربات؟

ماذا كان يقرأ؟ هل كان يقرأ كتاب الله أم المجلات الخليعة الماجنة؟

ماذا كان يسمع؟ هل هو ذكر الله والكلام العطر والطيب والنزيه، أم كان يسمع ويتكلم في أعراض الناس، وكان يتكلم في الفحش والبذاءة؟

سؤال الميت في القبر

عبد الله! هو على الأكتاف الآن محمول، فلا توضع روحه في تلك الحفرة المظلمة الضيقة -التي لا يستطيع أحدنا أن يتحمل منظرها كيف بمن يعيش فيها- إلا وعينه قد فتحت، وزال القطن من على عينيه، ويستمع إلى الناس فوق القبر، لقد دفنوه ولربما يرشون الماء الآن على قبره، ولربما الآن كل واحد منهم يعزي جاره وأخاه، يستمع إليهم والأقدام تمشي على القبر، يستمع إلى قرع نعالهم، فيجلس في قبره، يجلسه ملكان أسودان أزرقان ينتهرانه ويدفعانه ويجلسانه في تلك الحفرة الضيقة كيف؟ إن المؤمن يؤمن بالغيب، يؤمن بكل هذا، لو حضرناه لوجدنا هذا كله، ولكنه غيبٌ في علم الله جل وعلا، يحدث حقيقة.

يُجلس فيقال له: يا فلان! من ربك؟

فيقول من شدة الخوف: هاه هاه لا أدري، كان يعرفه في الدنيا لكنه نسي.

ما دينك؟ هاه هاه لا أدري.

ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟

هاه هاه لا أدري، ما كان يعرف شيئاً عن الإسلام، ما كان يلتزم بحدوده ولا يلتزم بأوامره، كان يستهزئ بسنة النبي عليه الصلاة والسلام.. كيف يجيب؟

أم كيف يقول: إنه هو محمد رسول الله وهو لا يدري عنه شيئاً؟

يقول: هاه هاه لا أدري، فيقول له الملك: هو محمد رسول الله، أجب! قل: هو محمد رسول الله..

فيقول: كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، كنت أسمع أهل المساجد، كنت أسمع أهل الدين، كنت أسمع الصالحين الذين يلتزمون على الأقل بالصلوات الخمس يقولون: هو محمد رسول الله، كنت أقول مثلهم، فإذا به يسمع صوت منادٍ ينادي: أن كذب عبدي، نتيجة الاختبار الأول؛ فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار.

عذاب العاصي في القبر

عبد الله! الأمر حقيقة، ولا ندري لعلها لحظات ويبدأ هذا اليوم، وما ندري لعلَّ الشمس لا نراها تغرب علينا، فيحيى هذا الرجل، فإذا بمطرقة يضرب بها رأسه، لو ضرب بها جبل لصار تراباً، يصير تراباً ثم يعاد مرة أخرى، ثم يضرب بالمطرقة مرة أخرى فيصيح صيحة، يسمعه كل من حول القبر إلا الجن والإنس، ولو سمعه الجن والإنس لصعقوا، ولما دفنوا موتاهم، ثم بعدها يفتح بابٌ إلى الجنة، فيقال له: يا فلان! انظر إلى القصر.. انظر إلى الأنهار.. انظر إلى الحور العين.. انظر إلى هذه الأشجار والثمار.. انظر إلى هذا النعيم، هذا كله لك لو كنت أطعت الله، لو كانت هذه الخمسين أو الستين السنة القليلة التي لا تساوي شيئاً لو قضيتها في طاعة الله لكان هذا لك، فيغلق الباب ثم يُفتح له بابٌ إلى نارٍ تلظى: كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:15-16] حرها يفصل اللحم عن العظم.. هذا حرها فكيف بنارها؟!

تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [المعارج:17] تدعو من يذكر في الله فيدبر، ومن يجمع المال فيتولى.. تدعوه وتناديه، فتقول: هل من مزيد؟ قد أبدلك الله به هذا، فإذا بريح النار، وسمومها، وعذابها يأتيه وهو في القبر.

إتيان العمل في القبر على صورة رجل

ثم بعدها يرى رجلاً قبيح المنظر، منتن الريح، قبيح الثياب، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، أنا ترك الصلاة، أنا فلانة التي كنت تتصل بها، أنا ذلك المنكر الذي كنت تشربه، أنا تلك الليالي الحمراء، أنا تلك السفرات الفاضحة، أنا تلك الليالي الفاسدة، أنا هذه المعاصي التي كنت تفعلها، فوالله ما علمتك إلا بطيئاً لطاعة الله.. يا فلان! عندنا درس؛ بطيء، يا فلان! تعال صل، يصلي لكنه ببطء، يا فلان اقرأ القرآن! يأتي ولكنه في ثقل.. سريعاً إلى معصية الله، سريعاً لسهرة، لأغنية، لطرب، لممثلة، لداعرة، يأتي سريعاً ولا يتأخر، إذا به ينظر إليه، فيقول: يا رب! لا تقم الساعة.. يا رب! أكون في هذا المكان في الحفرة الضيقة المظلمة مع هذا الذي هو منتن الريح، وقبيح الوجه، أكون معه ولا تقم الساعة، لأن الساعة أدهى وأمر.

خروج الناس إلى أرض المحشر

إذا به بعد سنين طويلة يسمع بصيحة.. ما هذه الصيحة؟ كأنه قد سمع بها من قبل، وكأنه قد وعد بها، إذا به يرى القبر يُفتح فوقه، وإذا به يرى الناس يخرجون من تحته، فيخرج ينفض الغبار عن جسده.. أتعرف إلى أين؟ يرى السماء تتفطر، والأرض تتزلزل، والجبال تدك، والبحر يحترق، والوحوش تحشر: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52] فيرد عليهم الصالحون: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52] يخرج فإذا الناس يخرجون من تحته، البشر من عهد آدم إلى آخر إنسان.. تخيل كم عددهم؟ بل ما شكلهم؟ كالجراد المنتشر.

أما الجبال فتحسبها جامدة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ [النمل:88]، البحار من عظمها تتفجر وتحترق، وتخيل الأرض من تحته تتزلزل، إلى أين يذهب؟

قال تعالى: كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:11-13] يقف كل الناس على أرض بيضاء عفراء -أي: تميل إلى الحمرة- وتخيل هذا المنظر، الأرض كقرصة نقي مستوية مستقيمة ليس فيها ارتفاع لأحد على أحد.

أتعرف ما أشكالهم؟

حفاة عراة غرلاً، غير مختونين.. غير مطهرين، كما خلقه الله كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] كلهم على أرضٍ واحدة ينتظرون الحساب، والمدة طويلة، وارتفاع الشمس على الرءوس قدر ميل.. ثلاثة أيام.. أسبوع، مللنا الانتظار.. شهر.. شهرين، سنة.. سنتين: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] خمسين ألف سنة والناس وقوف.

يا مسكين! أراد الله منك عبادة خمسين أو ستين سنة، فأبيت إلا أن تقف تحت الشمس خمسين ألف سنة.

وقوف الناس في أرض المحشر

عبد الله! الأمر ليس هو بالهزل، والله ليمل الناس من أول سنة، بل من أول يوم، ولكنهم يقفون على الأقدام حفاة، والرءوس تنصلي بحر نار الشمس، ومع هذا يقفون مقدار خمسين ألف سنة، لا مراء في هذا ولا شك، خمسون ألف سنة والعرق يتصبب، منهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، يصل عرقه.. إلى فمه.. إلى موضع لجام الفرس، ولا مغيث ولا نصير، أما الصالحون أتظنهم تحت الشمس؟

لا والله، الصالحون تحت ظل عرش الرحمن.

يقفون خمسين ألف سنة؟

لا والله، يقفون كما بين صلاة الظهر والعصر فقط، ويأتيهم من الهواء البارد الكريم، ويكفيك أنهم تحت ظل عرش الرحمن جل وعلا، في كنفه يقفون، وهؤلاء الضلال الفسقة الفجرة، الذين ما سجدت وجوههم لله جل وعلا، وما استقاموا على أمره جل وعلا، تحت حر الشمس خمسين ألف سنة، ثم ماذا؟ ثم يموتون؟!

لو كان الموت لكان خيراً لهم، يأتي الرب جل وعلا لفصل القضاء.

الإتيان بجهنم.. وتذكر الإنسان عمله

بعد خمسين ألف سنة يسمعون صوت السلاسل، وصوت الأحزمة، وصوت الملائكة، بل إنه صوت جهنم تجر، لها سبعون ألف زمام -حزام- يجر كل حزام سبعون ألف ملك، واضرب سبعين ألفاً في سبعين ألف لتعرف عدد الملائكة التي تجر جهنم، يرونها من مكان بعيد جداً، إذا رأوها خر الناس كلهم .. الأمم، حتى الصالحون .. والأنبياء يخرون على الركب: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية:28] حتى الأنبياء يخرون على الركب، يقولون: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم.

يقول الله للناس: انظروا هل هذه النار التي كانت تظنونها هزل أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:15] هل هذا سحر؟ هل هذا هزل؟ هل هذا ضحك كما كنتم تضحكون في الدنيا وتلعبون؟

تذكر تلك اللحظة وانتبه، وتذكر هذا الكلام، وستذكرون ما أقول لكم، وسوف يأتي الأمر حقاً، وسوف تذكر هذا المجلس، في تلك اللحظة يمر عليك شريط الحياة.. تتذكر الدنيا كلها.. تذكر فلانة وفلاناً، وتلك الليلة، وذلك الفيلم، وذلك الشريط، وتتذكر يوم كنت تنام عن الصلاة، وتتذكر يوم كان يأتيك ذلك الرجل الصالح يذكرك وكنت تأبى، وينصحك وكنت تضحك، ويناديك وكنت تدبر، تذكر هذه الأيام وتلك الليالي لحظة لحظة: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ [الفجر:23]؛ ولكن: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23] ماذا تنفعه الذكرى؟

يبكي وينادي ويقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24] يا ليتني قدمت لهذا اليوم! يا ليتني عملت لهذا اليوم! يا ليتني صليت الصلوات في بيت الله! على الأقل عمود الإسلام أنجو من النار، يا ليتني ويا ليتني؟!

ولكن: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم:39] هذا هو يوم الحسرة، يبكي حتى الصالحون على ساعة ما قضوها في طاعة الله.. حتى الأنبياء والرسل يتحسرون على لحظة ما قضوها في طاعة الله.

بدء فصل القضاء والحساب يوم القيامة وشهود الجوارح

ثم يبدأ الفصل، ويبدأ الحساب، والله سريع الحساب، يحاسب الناس جمعياً في لحظة واحدة، من آدم إلى آخر البشر يقول: أنت فلان بن فلان، فترتعد الجوارح وتضطرب ولم تعد الرِجل تحمل صاحبها، وإذا به يبكي، ويريد الفرار والنجاة، والملائكة تسوقه إلى الرب جل وعلا سوقاً، لا يستطيع أن يمشي على قدمه، فيقف بين يدي الرب جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9] تخرج وتفضح.. ذلك يوم الخزي، فيقول لهم الرب جل وعلا، وتخيل -أخي الكريم- أنك في هذا الموقف، يقول لك الرب: عبدي! ألم أصح لك الجسد؟!

ألم أسقك من الماء البارد؟!

ألم أنعم عليك بكذا وبكذا ويعدد عليك النعم طوال الحياة؟!

ثم يقول لك الرب جل وعلا: عبدي ما الذي جرأك علي؟!

عبدي! أتذكر هذا الذنب؟! أتذكر هذه المعصية؟! أتذكر هذه الجريمة؟!

عبدي! أتظن أني لا أرى؟! أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].

ثم يقول له: يا رب! ما فعلت، يكذب على ربه جل وعلا.. مسكين! لا زال في جرأته، ولا زال في عناده وكبره، يقول: يا رب! ما فعلت شيئاً.. يا رب! هذا كله كذب..

وبدأت الشهود.. الملائكة تشهد، والصالحون يشهدون.. رب أعطيته في اليوم الفلاني شريطاً لكنه رماه، رب في اليوم الفلاني طرقت عليه الباب ونصحته لكنه ضحك علي، رب في اليوم الفلاني عملت له محاضرة وذكرته ونصحته ولكنه استمر على هذا، يأتي الشهود، كل الناس يشهدون عليه، والملائكة تشهد، فيقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، لا أقبل الشهود.. يا رب! أنت العدل، كيف تأتي بشهود وأنا لا أقبل إلا شاهداً من نفسي؟

فيقول له الرب جل وعلا: لك ذلك، لا يشهد عليك أحدٌ إلا نفسك، فإذا بالفم يختم عليه، وإذا باليد تنطق، والجلود تتكلم، والفخذ والخد ينطقان، وإذا به: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65] تتكلم: يا رب! في اليوم الفلاني لمس فلانة بالحرام، وفتح ذلك الفيلم على الحرام، وكتب تلك الرسالة، وفتح هذه المجلة، وقبض هذه الرشوة، وضرب فلاناً، وبطش وفعل، والرجل: يا رب! ذهب بي إلى المكان الفلاني والفلاني والفلاني والفلاني.. ينظر إلى الجلود تنطق: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ [فصلت:21].

سحب المجرمين والعصاة إلى النار

ثم بعد هذا يعلم أنه لا نجاة ولا محيص، ولا فرار من الله جل وعلا، فينادي الرب جل وعلا على الملائكة: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30] أي: اربطوه بالسلاسل: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:31-32] يسحب بسلسلة، أتعرف ما حجم هذه السلسلة؟! كل حديدة بقدر حديد هذه الدنيا كلها، وهي سبعون ذراعاً، والذراع من ذراع الملائكة وليس من ذراعات الناس، يدخل من منخره فيخرج من دبره، ثم يلف بالسلاسل ويسحب على وجهه إلى جهنم: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:14].

إذا به أول ما يأتي النار تفتح أبوابها، يرى في جهنم أصحابه في الدنيا قد سبقوه، يرى فلاناً الذي كان يدعوه إلى تلك الأماكن الفاسدة، يرى صاحبه الذي كان يصده عن الصلاة، كلما أراد التوبة قال له: يضحكون عليك.. تريد أن تتعقد؟ تريد أن تتزمت؟ يا فلان! عندنا فلانة، عندنا سهرة، عندنا فيلم، عندنا سفرة، عندنا كذا وكذا.

يا فلان! يضحكون عليك، كلما أراد التوبة صده ورده، فيراه قد سبقه إلى النار: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً [الأعراف:38].

وصف نار جهنم

عبد الله! لا أريد في هذه الدقائق أن أبخس وصف النار، النار وصفها لا نتحمله، بل كان بعض السلف إذا سمع وصفاُ واحداً من النار بكى وخر على الأرض صريعاً.

عبد الله! يكفي أن تعلم أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- قبل أن يدخلها أهل النار الشرارة الواحدة تتطاير منها بحجم القصر، شرارة نار الدنيا لو تقع عليك لا تؤثر، ولا تحرق، أما شرارة نار جهنم فهي بحجم القصر الكبير: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات:32-33].

عبد الله! نار جهنم إذا علمت عن بعض أوصافها لا تنام الليل: [عجبت من النار كيف نام هاربها؟! وعجبت للجنة كيف نام طالبها؟!].

عبد الله! أهل النار يجوعون، أتعرف ماذا يأكلون؟

يأكلون ضريعاً، أتعرف ما هو الضريع؟

شوك في جهنم ينبت، من شدة الجوع يأكلون هذا الشوك، فإذا أكلوا هذا الشوك -وتخيل وتفكر- يقف الشوك في حلوقهم، لا يبتلعونه ولا يخرجونه، يتعلق، فتغص الحلوق، يريدون أن يشربوا الماء فيستغيثون ربهم جل وعلا: يا رب! الماء.. يا رب! الماء.. يا رب! الماء: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ [الكهف:29] انظر رحمة الله، يعطون الماء، يقترب من الماء ليشرب من شدة العطش وتلك الغصة، فإذا قرب الوجه تسقط فروة الوجه من شدة حر الماء: يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29] يشوي وجهه قبل أن يشربه، فإذا شربه تتقطع الأمعاء، ويخرج من الدبر من شدة حره، حميماً آنٍ بلغ من شدة حره ما لا يطاق، بل لا يستطيع أحداً أن يشربه؛ لكن يشربه من شدة الجوع والعطش.

يرون الزواني في النار يخرج من فروجهن -أجلكم الله- صديدٌ وقيح ونتن، فإذا خرج من فروجهن تسابق أهل النار إليه ليأكلوه من شدة الجوع، أهل النار -كما أخبرناكم: لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:15-16]- تتشقق جلودهم فيخرج منها الصديد، يتساقط إليه أهل النار ليأكلوه من شدة الجوع: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [إبراهيم:17]، وللأسف! وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم:17] في تلك الحال نار من فوقهم، ونار من تحتهم.. يلتحفون النار، ويفترشون النار، بل يأكلون في بطونهم النار: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174].

المجيء بالموت على هيئة كبش وذبحه بين الجنة والنار

عبد الله! في ذلك العذاب والحميم والجحيم ينادي منادٍ، يقول لهم: يا أهل النار! يرفعون الرءوس يفرحون يظنون أنهم سوف يخرجون منها.. يا أهل النار! يرفعون الرءوس، فيقال لهم: تعرفون من هذا؟ فإذا بكبش أملح، يقولون: نعم. إنه الموت نعرفه ورأيناه، فيُذبح بين الجنة والنار، فيقال لأهل النار: خلودٌ فلا موت.

عبد الله! تعرف ما معنى خلود فلا موت؟ مليون سنة؟ مليونين؟ عشرة ملايين؟ مائة مليون سنة في هذه النار؟ خلودٌ فلا موت كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].

خلود المجرمين في جهنم

عبد الله! والله لو كان مصيرهم الموت لكان أعظم نعيم.. ينادون: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] يجيبهم بعد آلاف السنين: قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:77-78] قرئ عليكم القرآن وذكرتم ووعظتم وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78] .

عبد الله! الخلود في جهنم، مصير الكفرة الملاحدة، من بينهم تاركو الصلاة (بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43] أول جريمة أوردتهم سقر وجهنم: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43] ما كنا نصلي مع الناس، وما كنا نحافظ عليها: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43].

عبد الله! هذا مصير صنفٍ من النار، ولعله إن شاء الله سوف يكون بيننا وبينكم في يوم من الأيام الخالية بإذنه جل وعلا إن أبقانا الله وأحيانا يومٌ أحدثكم فيه عن مصير الصالحين.. مصير أهل الصلاة، وأهل الذكر، وأهل الطهر، وأهل العفاف، الذين هم في الدنيا من أهل السعادة، وفي الآخرة من أهل النعيم، سوف يكون -إن شاء الله- بيننا وبينكم لقاء حتى يتشوق الإنسان إلى مصيرهم، وإلى حياتهم الكريمة السرمدية الأبدية.

عبد الله! في الختام أدعوك لأمرٍ واحد أن تبكي هذه العين على تلك الذنوب والمعاصي، أن تفكر ماذا أسلفت؟ وماذا قدمت؟: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18] واعلم -يا عبد الله- أن الموت يأتي بغتة، وأن شروط التوبة ثلاث:

أولاً: الندم على ما مضى.

ثانياً: العزم على ألا تعود إلى تلك الذنوب والمعاصي.

ثالثها: أن تقلع.. تقطع الصور.. تحرق تلك الأفلام الخليعة.. تترك هذه المجالس النتنة.. تبتعد عن السوء وأهل الفسق والفجور وتلتحق في رفق الصالحين، واعلم -يا عبد الله- أن الله جل وعلا يعينك: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] ومن تاب تاب الله عليه، لعلها دمعة يمسح الله بها جميع الذنوب والمعاصي، وتبدأ بينك وبين الله صفحة جديدة

أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، ويثبت أقدامنا.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

يبدأ ذلك اليوم -كما أخبرناكم- بذلك المشهد الكئيب، ولعله يكون وما مات بحادث سيارة، أو لعله يكون وهو نائم، مسكين لا يشعر! ينام فإذا هي النومة الأخيرة لا يستيقظ بعدها، ما أدركته ولا تداركه، وكان دائماً يُقال له: يا فلان! تب، يا فلان! استقيم، يا فلان! صل، الصلاة عمود الإسلام، يقول: إن شاء الله من الغد.. إن شاء الله من رمضان القادم، بعد رمضان.. إن شاء الله من الحج.. بعد الحج.. إن شاء الله عندما أتزوج.. بعد الزواج.. إن شاء الله لما أفعل وأفعل .. فإذا به لا يتدارك نفسه إلا وملك الموت عند رأسه، فيقول لها: يأ يتها النفس الخبيثة -اسمع إلى تلك الكلمات والناس من حولك يبكون- اخرجي -إلى أين؟- إلى سخطٍ من الله وغضبه، الله جل وعلا قد غضب عليه.. كيف يخرج؟

الروح تتفرق في الجسد، لا تستطيع الخروج، ولا تتحمل أن تخرج، كيف تخرج إلى سخطٍ من الله وغضب؟

فيبدأ ملك الموت ينزع: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:1-2] فتتوزع الروح في الجسد، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، تعرف كيف ينزع الروح؟ ينزعها بقوة حتى تتقطع العروق والمفاصل.

ألم تر رجلاً يحتضر؟ ألم تر بعضهم كيف يصرخ؟ ألم تسمع بهم كيف ينوحون؟

إن بعضهم يتغير لون وجهه، يزرق وتزرق عينه من شدة الألم وذلك التعب -لا إله إلا الله- (إن للموت سكرات) لا يشعر الإنسان بمن حوله، ينزع تلك الروح فإذا نزعت خرجت كأنتن ريحٍ وجدت على وجه هذه الأرض، رائحة -والله- لو شمها من حوله لما استطاع أن يقف بجانبه، كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض.

أين ذلك الوجه الجميل؟ أين تلك الرائحة العطرة؟ أين ذلك الشكل الحسن؟ كأنتن جيفة على وجه الأرض، يحملها ملك الموت.

أتعرف -أخي الكريم- أن هذا الرجل وهو على الفراش يرى ملائكة على مد البصر.. يرى وجوههم وجوه ملائكة العذاب، مد بصره قبل أن تخرج الروح؟ عرف المصير، وعرف أين هو المستقر.. من يأخذ الروح؟ كل ملك يدفعها إلى من عنده، لا يريد أن يوصلها إلى السماء، فإذا أتت إلى سماء الدنيا تسألهم ملائكة السماء: روح من هذه الخبيثة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان بأقبح اسمٍ له على وجه الأرض، ثم لا تفتح لهم أبواب السماء: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [الأعراف:40] نعوذ بالله.

أخي الكريم! اسأل الله العافية، إذا لم تفتح لك أبواب السماء فإنه لا جنة بعدها: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [الأعراف:40] أين يُذهب بها؟ تقذف من السماء إلى الأرض، والأمر حقيقة لا جدال فيها: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:13-14] لا تتحمل أن تسقط من أعلى بناية.. كيف لو تسقط من السماء الدنيا؟ تطرح روحه إلى الأرض طرحاً، تقذف من السماء.

عبد الله! أتعرف أين تأتي هذه الروح؟ تأتي وقد حملت على الأكتاف وهي تصيح، تقول لمن يحملها على الأكتاف: يا ويلها أين تذهبون بها؟

إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:30-32] ماذا يتذكر في الدنيا؟

لياليه أين قضاها؟

أيامه هل كان يستيقظ على صلاة الفجر، أم على ذكرها وحبها؟

هل كان يذكر بلسانه الله جل وعلا، أم كانت الأغاني والأفلام والمطربين والمطربات؟

ماذا كان يقرأ؟ هل كان يقرأ كتاب الله أم المجلات الخليعة الماجنة؟

ماذا كان يسمع؟ هل هو ذكر الله والكلام العطر والطيب والنزيه، أم كان يسمع ويتكلم في أعراض الناس، وكان يتكلم في الفحش والبذاءة؟

عبد الله! هو على الأكتاف الآن محمول، فلا توضع روحه في تلك الحفرة المظلمة الضيقة -التي لا يستطيع أحدنا أن يتحمل منظرها كيف بمن يعيش فيها- إلا وعينه قد فتحت، وزال القطن من على عينيه، ويستمع إلى الناس فوق القبر، لقد دفنوه ولربما يرشون الماء الآن على قبره، ولربما الآن كل واحد منهم يعزي جاره وأخاه، يستمع إليهم والأقدام تمشي على القبر، يستمع إلى قرع نعالهم، فيجلس في قبره، يجلسه ملكان أسودان أزرقان ينتهرانه ويدفعانه ويجلسانه في تلك الحفرة الضيقة كيف؟ إن المؤمن يؤمن بالغيب، يؤمن بكل هذا، لو حضرناه لوجدنا هذا كله، ولكنه غيبٌ في علم الله جل وعلا، يحدث حقيقة.

يُجلس فيقال له: يا فلان! من ربك؟

فيقول من شدة الخوف: هاه هاه لا أدري، كان يعرفه في الدنيا لكنه نسي.

ما دينك؟ هاه هاه لا أدري.

ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟

هاه هاه لا أدري، ما كان يعرف شيئاً عن الإسلام، ما كان يلتزم بحدوده ولا يلتزم بأوامره، كان يستهزئ بسنة النبي عليه الصلاة والسلام.. كيف يجيب؟

أم كيف يقول: إنه هو محمد رسول الله وهو لا يدري عنه شيئاً؟

يقول: هاه هاه لا أدري، فيقول له الملك: هو محمد رسول الله، أجب! قل: هو محمد رسول الله..

فيقول: كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، كنت أسمع أهل المساجد، كنت أسمع أهل الدين، كنت أسمع الصالحين الذين يلتزمون على الأقل بالصلوات الخمس يقولون: هو محمد رسول الله، كنت أقول مثلهم، فإذا به يسمع صوت منادٍ ينادي: أن كذب عبدي، نتيجة الاختبار الأول؛ فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار.