شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [5]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه, إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً, أو كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله ).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة والمحاقلة، وعن المزابنة، وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها, وأن لا تباع إلا بالدينار والدرهم, إلا العرايا)].

الشرح:

نقل المؤلف رحمه الله في كتابه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة )، المزابنة في اللغة: مأخوذة من الزبن وهو الدفع الشديد.

وفي الاصطلاح فتعريفها في الحديث: ( أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً, وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله ). هذا التفسير الذي ورد في الحديث أن يبيع ثمر حائطه إذا كان نخلاً بتمر كيلاً، يعني: يبيع الثمر الموجود على رءوس النخل بتمر يابس، وهذا لا يجوز؛ لأن كلاً من العوضين هنا مال ربوي، وسيأتينا إن شاء الله ما هو المال الربوي، وإذا بادلت ربوياً بجنسه لابد أن يتساوى العوضان في اليبوسة أو الرطوبة، فإذا اختلفا في اليبوسة أو الرطوبة وقع التفاضل، فأنت الآن تبادل تمراً يابساً بتمر رطب، والرطب ينقص.

ولهذا في حديث سعد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم يا رسول الله! فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك )، فلا يصح أن تبيع تمراً يابساً بتمر رطب، بل لابد أن تبيع رطباً برطب، أو تمراً يابساً بتمر يابس، ولهذا ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة )، لأن المزابنة كما تقدم: هي بيع تمر يابس بتمر رطب، أو بيع عنب بزبيب، والزبيب مال ربوي، وكذلك العنب، فلابد من رطب برطب، عنب بعنب، زبيب بزبيب، أما إذا بعت يابساً برطب فإنك تكون قد وقعت في الربا؛ لأنك تبادل ربوياً بجنسه، وإذا بادلت ربوياً بجنسه لابد أن يتساويا في اليبوسة وفي الرطوبة ... إلى آخره.

ومثله أيضاً: ( وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً, وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام )، الزرع الحب في سنبله، (بطعام) أي: بحب دون السنبل، فأنت عندما تبادل براً ببر لابد أن يتساويا؛ لأنك بادلت الآن ربوياً بجنسه، فالبر مال ربوي، فعندما تبادل ربوياً بجنسه لابد أن يتساويا، وهنا لم يتساويا، لأن هذا البر فيه السنبل، وهذا البر قد نقي من سنبله وتبنه، فنقول: هذا لا يجوز.

قال: ( نهى عن ذلك كله )، ونأخذ من مسائل هذا الحديث: تحريم المزابنة، والمزابنة كما جاء تفسيرها في الحديث، يعني: يحرم عليك أن تبيع ربوياً بجنسه وهما يختلفان في اليبوسة أو الرطوبة، أو كما جاء في الحديث أن تبيع الثمر على رؤوس النخل بالتمر اليابس، أو تبيع الكرم بالزبيب، أو تبيع الحب الذي في السنبل بالبر الذي نقي من سنبله، فنقول: المزابنة محرمة، وهي بيع ربوي بجنسه، وقد اختلفا في اليبوسة أو الرطوبة، فهذا محرم لا يجوز لعدم تحقق التساوي.

ويفهم من ذلك أنك إذا بعت ربوياً بجنسٍ يتفقان رطوبة أو يتفقان يبوسة، فهذا حكمه أنه جائز ولا بأس به، رطب برطب، تمر يابس بتمر يابس، زبيب بزبيب، عنب بعنب، كل هذا جائز ولا بأس به.

كذلك أيضاً يؤخذ من هذا: أنك إذا بعت ربوياً بجنسه فإنه لابد أن يتساويا، فإن كان مع أحدهما من غير جنسهما فإن هذا لا يجوز، فمثلاً: تبيع براً ببر في السنبل هذا لا يجوز، لأنك عندما تبيع براً ببر لابد أن يكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مثلاً بمثل، سواءً بسوء، يداً بيد )، فعندما تبادل براً بسنبله ببر خال عن السنبل فقد وقعت في الربا، وهذا سيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله.

مسألة المزابنة يستثنى منها صورة واحدة وهي العرايا، والعرايا صورتها صورة المزابنة، رطب بيابس، لكن استثناها الشارع، ستأتينا إن شاء الله في باب العرايا.

قال: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة ).

المخابرة في اللغة: مأخوذة من الخبار، وهي الأرض اللينة القابلة للزرع، أو من الخبير: وهو من يحسن حرث الأرض.

والمقصود بالمخابرة هي المزارعة، وسيأتينا إن شاء الله حكم المزارعة.

والنهي عن المخابرة هذا كان في أول الأمر ثم نسخ، والمزارعة: هي أن يدفع أرضه لمن يقوم بزراعتها بجزء معلوم مشاع من الزرع، إما بالنصف أو بالربع أو بالثلث إلى آخره.

والمزارعة الصواب أنها جائزة ولا بأس بها، لكن كيف يجاب عن هذا النهي؟

الجواب عن هذا النهي من وجهين:

الوجه الأول: أن هذا كان في أول الأمر لما كان الناس في حاجة، ثم بعد ذلك نسخ.

والجواب الثاني: أنه إذا كان على سبيل التحديد والتعيين، يعني: يعطيه الأرض مزارعة ويقول: لي هذا الجانب وأنت لك هذا الجانب، أو لي مثلاً ثمر، أو لي زرع البر، وأنت لك زرع الشعير، أنا لي الجانب الشمالي وأنت لك الجانب الجنوبي، أو لي زرع هذه السنة وأنت لك زرع السنة التي تأتي، فإذا كان على سبيل التحديد والتعيين، فهذا غير جائز؛ لأنه قد ينتج هذا الجانب ولا ينتج الجانب الآخر، وقد ينتج البر، ولا ينتج الشعير، وقد تنتج في هذه السنة ولا تنتج في السنة الآتية، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

ولهذا جاء في حديث رافع بن خديج في صحيح مسلم ( أنهم كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع ) و(الماذيانات): هي التي تكون عند الماء (وأقبال الجداول) جداول المال؛ لأن الزروع التي تكون عند الماء هذا يكون نباتها أطيب، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن هذا يوقع في الغرر، ويوقع في الخلاف والنزاع.

قال: ( والمحاقلة )، المحاقلة مأخوذة من الحقل، وهي بيع الحب بسنبله بحب قد صفي من السنبل والتبن، هذا لا يجوز أيضاً.

قال: ( وعن المزابنة )، تقدم الكلام عليها.

( وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ), تقدم الكلام عليها.

( وأن لا تباع إلا بالدينار والدرهم, إلا العرايا )، العرايا سيأتينا بيانه.

وهذا الحديث فيه مسائل:

النهي عن المزارعة

المسألة الأول: النهي عن المزارعة، ويحمل هذا النهي على التحديد والتعيين، لو قال: أنا لي زرع الشعير وأنت لك زرع البر، أو لي زرع الطماطم وأنت لك زرع الكوسة، أو نحو ذلك، نقول: هذا لا يجوز، لأنه قد ينتج هذا ويهلك الآخر، وذكرنا حديث رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه.

النهي عن المحاقلة

المسألة الثانية: النهي عن المحاقلة لأننا إذا بادلنا ربوياً بجنسه لابد أن يتساويا، هنا تبادل بر معه سنبل التبن، ببر خالص، هذا لا يتحصل فيه التساوي، إنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البر بالبر، مثلاً بمثل، سواء بسواء)، فالمحاقلة بيع البر بسنبله ببر خالص وهذا لا يجوز.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [27] 2827 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [22] 2549 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [17] 2541 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [1] 2442 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الصيد [1] 2353 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [3] 2234 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [28] 2208 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب الحدود [2] 2177 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب اللعان [3] 2147 استماع
شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [23] 2140 استماع