شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب التيمم - حديث 139-140


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد.

بقي عندنا -كما أسلفت في الجلسة الماضية- مسألتان فقهيتان في حديث جابر وحديث حذيفة وحديث علي .

المسألة الأولى: مسألة: هل التيمم مبيح أو رافع؟

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: التيمم مبيح لا رافع، وأدلته

الأول: أن التيمم مبيح لا رافع، يعني: يبيح لمن تيمم أن يصلي ويقرأ القرآن إن كان جنباً أو ما أشبه ذلك، لكن لا يرفع حدثه.

وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، بل نسبه النووي رحمه الله في المجموع لجمهور العلماء.

واحتج أصحاب هذا القول بأدلة منها: ( قوله صلى الله عليه وسلم -في حديث عمران بن حصين - للرجل الذي كان جنباً فتيمم، فلما جاء الماء أعطاه وقال: خذ هذا فأفرغه عليك ). فقالوا: هذا دليل على أن الحدث باق بحاله حتى احتاج إلى أن يزيله بالماء، ( خذ هذا فأفرغه عليك ).

ومنها: حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصعيد طهور المؤمن وإن لم يجد الماء عشر سنين )، ومثله حديث أبي هريرة أيضاً: ( الصعيد وضوء المؤمن عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ).

فقالوا: كونه يجب عليه أن يغتسل بالماء إذا وجده دليل على أن حدثه لم يرتفع.

ومن أدلتهم: ما رواه البخاري تعليقاً عن عمرو بن العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية وهي سرية أو غزوة ذات السلاسل قبل نجد، فأجنب في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لـعمرو بن العاص : صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: يا رسول الله! ذكرت قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم )، والحديث كما ذكرت رواه البخاري تعليقاً، بل رواه تعليقاً بصيغة التمريض قال: ويذكر. ورواه أبو داود وغيره بسند قوي كما يقول الحافظ ابن حجر، وإنما علقه البخاري بصيغة التمريض (ويذكر)؛ لأنه اختصره واقتصر على بعضه.. لم يذكره بتمامه، فالحديث صحيح.

ووجه استدلالهم بهذا الحديث على أن التيمم مبيح لا رافع قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى عمرو بن العاص أو وصفه بأنه جنب قال: ( صليت بأصحابك وأنت جنب )، فقالوا: هذا دليل على أن التيمم لم يرفع جنابته، فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه جنب، وربما استدلوا بالإجماع على أن المحدث إذا لم يجد الماء أو لم يستطع أن يستعمله فيتيمم، ثم وجده بعد، أن عليه أن يستعمل الماء لرفع حدثه.

فهذه خمسة أدلة: دليل عمران بن حصين، حديث أبي هريرة، حديث أبي ذر، حديث عمرو بن العاص، الإجماع على أن الجنب وغيره إذا تيمم ثم وجد الماء واستطاع أن يستعمله وجب عليه أن يستعمله ولو لم يتجدد حدثه، هذا هو القول الأول.

القول الثاني: أن التيمم رافع للحدث

أما القول الثاني فهو: أن التيمم رافع، يعني: يرفع الحدث، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد، ومالك، وإسحاق، وداود الظاهري وغيرهم، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ومن قالوا: بأن التيمم يرفع الحدث وليس يبيح العبادة احتجوا بعدة أدلة:

منها قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6].

فقالوا: هذا دليل على أن التيمم مطهر مثل ما يطهر الماء بنص كتاب الله عز وجل.

ومثله -وهو الدليل الثاني- قوله صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فقالوا: هذا دليل على أن التراب طهور للمتيمم كما أن الماء طهور له، فمن تطهر بالتراب لحاجة فهو كمن تطهر بالماء سواء بسواء، إلا أن طهارة التراب مؤقتة ما دام لا يستطيع أن يستعمل الماء؛ إما لفقده، أو لمرض، فهي بدل عن طهارة الماء.. تقوم مقامها، فهذا دليلهم الثاني.

واستدلوا ثالثاً بما سبق من حديث عمرو بن العاص قالوا: لأن الله عز وجل بين في كتابه أنه لا يجوز للإنسان أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا أن يغتسل، ومع ذلك أباح للجنب إذا تيمم لحاجة أن يصلي، فدل على أن التيمم يقوم مقام الغسل في رفع الحدث فيرتفع حدثه بذلك.

وهذا القول بأن التيمم رافع وأنه مطهر هو الأقوى؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فمن قال: إن المتيمم غير متطهر فقد خالف الكتاب والسنة، بل هو متطهر.

ولعل الخلاف أيضاً نظري في هذه المسألة أكثر من كونه عملياً؛ لأن الجميع متفقون على أن المحدث إذا اضطر إلى استخدام التيمم بدل الماء، أو احتاج إليه إما لعدم الماء أو لمرض الرجل نفسه ثم وجد الماء، أنه يجب عليه أن يستعمل الماء، فمن ظن أن قولنا: إنه مبيح للصلاة والعبادة، يعني أن المانع موجود بحاله فقد أخطأ؛ لأن الجميع متفقون أن له أن يصلي ويقرأ القرآن إذا تيمم تيمماً شرعياً، فالذين قالوا: إنه مبيح قصدوا أنه مبيح للعبادة، وقصدوا أن التيمم يجعل المانع الذي هو الجنابة أو الحدث أخف، بحيث يصح له.. بل يجب عليه أن يصلي ما فرض عليه، وكذلك الذين قالوا: إن التيمم رافع، لا يقصدون أنه رافع مطلقاً، بل هم يقولون: رافع إلى أن يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته؛ وبذلك فإن الخلاف يعتبر في هذه المسألة نظرياً، ولم يكن معهوداً عن الصحابة والسلف الأولين فيما أعلم الجدل في هذه المسألة هل هو رافع أو مبيح؟ لأن المسألة لا تختلف، فنحن جميعاً نقول: إذا لم يستطع الإنسان استعمال الماء إما لمرض أو لعدم الماء، فإن الجميع متفقون.. إلا من سوف يأتي ذكره من الخلاف على أنه يتيمم ويصلي، فإذا وجد الماء اتفق الجميع على أنه يجب عليه أن يستعمله.

ثم الخلاف بعد ذلك: هل هو مبيح أو رافع؟ أمر لا يترتب عليه كبير فائدة، إلا إن أراد البعض أن يربط بقولنا: إنه مبيح أو رافع أنه ينتقض بخروج الوقت، ولابد أن يكون بعد دخول الوقت، فهذا قد يقول البعض أنه متعلق بمسألة هل هو مبيح أو رافع؟

وعلى كل حال فالصحيح أنه رافع للحدث إلى حين وجود الماء، وأن الإنسان يجوز له أن يتيمم قبل دخول الوقت ويصلي به ما شاء من فروض أو نوافل، ولا ينتقض تيممه إلا بأحد أمرين:

الأول: إمكانية استعمال الماء بوجوده إن كان قد عدمه، أو بشفائه إن كان مريضاً.

الثاني: الحدث يعني: نواقض الوضوء، فلا ينتقض تيممه إلا بنواقض الوضوء، أو بإمكانية استعمال الماء.

هذه هي المسألة الأولى وهي تؤخذ من قوله: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ).

الأول: أن التيمم مبيح لا رافع، يعني: يبيح لمن تيمم أن يصلي ويقرأ القرآن إن كان جنباً أو ما أشبه ذلك، لكن لا يرفع حدثه.

وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، بل نسبه النووي رحمه الله في المجموع لجمهور العلماء.

واحتج أصحاب هذا القول بأدلة منها: ( قوله صلى الله عليه وسلم -في حديث عمران بن حصين - للرجل الذي كان جنباً فتيمم، فلما جاء الماء أعطاه وقال: خذ هذا فأفرغه عليك ). فقالوا: هذا دليل على أن الحدث باق بحاله حتى احتاج إلى أن يزيله بالماء، ( خذ هذا فأفرغه عليك ).

ومنها: حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصعيد طهور المؤمن وإن لم يجد الماء عشر سنين )، ومثله حديث أبي هريرة أيضاً: ( الصعيد وضوء المؤمن عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ).

فقالوا: كونه يجب عليه أن يغتسل بالماء إذا وجده دليل على أن حدثه لم يرتفع.

ومن أدلتهم: ما رواه البخاري تعليقاً عن عمرو بن العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية وهي سرية أو غزوة ذات السلاسل قبل نجد، فأجنب في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لـعمرو بن العاص : صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: يا رسول الله! ذكرت قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم )، والحديث كما ذكرت رواه البخاري تعليقاً، بل رواه تعليقاً بصيغة التمريض قال: ويذكر. ورواه أبو داود وغيره بسند قوي كما يقول الحافظ ابن حجر، وإنما علقه البخاري بصيغة التمريض (ويذكر)؛ لأنه اختصره واقتصر على بعضه.. لم يذكره بتمامه، فالحديث صحيح.

ووجه استدلالهم بهذا الحديث على أن التيمم مبيح لا رافع قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى عمرو بن العاص أو وصفه بأنه جنب قال: ( صليت بأصحابك وأنت جنب )، فقالوا: هذا دليل على أن التيمم لم يرفع جنابته، فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه جنب، وربما استدلوا بالإجماع على أن المحدث إذا لم يجد الماء أو لم يستطع أن يستعمله فيتيمم، ثم وجده بعد، أن عليه أن يستعمل الماء لرفع حدثه.

فهذه خمسة أدلة: دليل عمران بن حصين، حديث أبي هريرة، حديث أبي ذر، حديث عمرو بن العاص، الإجماع على أن الجنب وغيره إذا تيمم ثم وجد الماء واستطاع أن يستعمله وجب عليه أن يستعمله ولو لم يتجدد حدثه، هذا هو القول الأول.

أما القول الثاني فهو: أن التيمم رافع، يعني: يرفع الحدث، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد، ومالك، وإسحاق، وداود الظاهري وغيرهم، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ومن قالوا: بأن التيمم يرفع الحدث وليس يبيح العبادة احتجوا بعدة أدلة:

منها قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6].

فقالوا: هذا دليل على أن التيمم مطهر مثل ما يطهر الماء بنص كتاب الله عز وجل.

ومثله -وهو الدليل الثاني- قوله صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فقالوا: هذا دليل على أن التراب طهور للمتيمم كما أن الماء طهور له، فمن تطهر بالتراب لحاجة فهو كمن تطهر بالماء سواء بسواء، إلا أن طهارة التراب مؤقتة ما دام لا يستطيع أن يستعمل الماء؛ إما لفقده، أو لمرض، فهي بدل عن طهارة الماء.. تقوم مقامها، فهذا دليلهم الثاني.

واستدلوا ثالثاً بما سبق من حديث عمرو بن العاص قالوا: لأن الله عز وجل بين في كتابه أنه لا يجوز للإنسان أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا أن يغتسل، ومع ذلك أباح للجنب إذا تيمم لحاجة أن يصلي، فدل على أن التيمم يقوم مقام الغسل في رفع الحدث فيرتفع حدثه بذلك.

وهذا القول بأن التيمم رافع وأنه مطهر هو الأقوى؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فمن قال: إن المتيمم غير متطهر فقد خالف الكتاب والسنة، بل هو متطهر.

ولعل الخلاف أيضاً نظري في هذه المسألة أكثر من كونه عملياً؛ لأن الجميع متفقون على أن المحدث إذا اضطر إلى استخدام التيمم بدل الماء، أو احتاج إليه إما لعدم الماء أو لمرض الرجل نفسه ثم وجد الماء، أنه يجب عليه أن يستعمل الماء، فمن ظن أن قولنا: إنه مبيح للصلاة والعبادة، يعني أن المانع موجود بحاله فقد أخطأ؛ لأن الجميع متفقون أن له أن يصلي ويقرأ القرآن إذا تيمم تيمماً شرعياً، فالذين قالوا: إنه مبيح قصدوا أنه مبيح للعبادة، وقصدوا أن التيمم يجعل المانع الذي هو الجنابة أو الحدث أخف، بحيث يصح له.. بل يجب عليه أن يصلي ما فرض عليه، وكذلك الذين قالوا: إن التيمم رافع، لا يقصدون أنه رافع مطلقاً، بل هم يقولون: رافع إلى أن يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته؛ وبذلك فإن الخلاف يعتبر في هذه المسألة نظرياً، ولم يكن معهوداً عن الصحابة والسلف الأولين فيما أعلم الجدل في هذه المسألة هل هو رافع أو مبيح؟ لأن المسألة لا تختلف، فنحن جميعاً نقول: إذا لم يستطع الإنسان استعمال الماء إما لمرض أو لعدم الماء، فإن الجميع متفقون.. إلا من سوف يأتي ذكره من الخلاف على أنه يتيمم ويصلي، فإذا وجد الماء اتفق الجميع على أنه يجب عليه أن يستعمله.

ثم الخلاف بعد ذلك: هل هو مبيح أو رافع؟ أمر لا يترتب عليه كبير فائدة، إلا إن أراد البعض أن يربط بقولنا: إنه مبيح أو رافع أنه ينتقض بخروج الوقت، ولابد أن يكون بعد دخول الوقت، فهذا قد يقول البعض أنه متعلق بمسألة هل هو مبيح أو رافع؟

وعلى كل حال فالصحيح أنه رافع للحدث إلى حين وجود الماء، وأن الإنسان يجوز له أن يتيمم قبل دخول الوقت ويصلي به ما شاء من فروض أو نوافل، ولا ينتقض تيممه إلا بأحد أمرين:

الأول: إمكانية استعمال الماء بوجوده إن كان قد عدمه، أو بشفائه إن كان مريضاً.

الثاني: الحدث يعني: نواقض الوضوء، فلا ينتقض تيممه إلا بنواقض الوضوء، أو بإمكانية استعمال الماء.

هذه هي المسألة الأولى وهي تؤخذ من قوله: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ).

أما المسألة الثانية فهي مسألة: اشتراط التراب في التيمم، هل يشترط أن يكون التيمم بالتراب، أم يجوز أن يتيمم بغيره؟

القول الأول: التراب شرط في التيمم، وأدلته

أيضاً في هذه المسألة قولان مشهوران: أولهما وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وداود الظاهري، وابن المنذر وغيرهم: أنه لابد من استخدام التراب في التيمم، قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نص عليه، حتى إنه قال في حديث حذيفة: ( وجعلت لنا الأرض مسجداً )، هذا حديث حذيفة، ( وجعلت لنا الأرض مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء )، فقالوا: هذا الأسلوب يدل على أن الطهور ليس الأرض كلها وإنما التربة فقط؛ ولذلك قال: ( وجعلت لنا الأرض مسجداً )، فلما كان الكلام عن المسجد وعن مكان السجود عمم وقال: الأرض، فلما أراد الانتقال إلى الطهور خص (التربة) فقال: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً )، فدل على أن التيمم خاص بالتراب فقط، هذا دليلهم الأول.

أما دليلهم الثاني -وكان يجب أن يكون الأول- فهو قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، قالوا: الصعيد هو التراب كما قاله الشافعي وغيره، قالوا: الصعيد هو التراب، وقالوا: قوله سبحانه: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] كلمة (منه) تدل على أنه لابد أن يكون تراباً ذا غبار، بحيث يعلق بالعضو شيء منه يمسح به الوجه وتمسح به الكفان، فقوله: (منه) يعني للتبعيض، فلابد أن اليد إذا ضربت يعلق بها شيء منه، استدلوا بهذا على اشتراط التراب.

القول الثاني: عدم اشتراط التراب في التيمم، وأدلته

أما القول الثاني: فهو أنه لا يشترط التراب في التيمم، بل يتيمم بكل أجزاء الأرض، وهذا مذهب كثير من أهل العلم، فهو مذهب مالك والأحناف، وقال بعض المالكية: له أن يتيمم بكل ما يتصل بالأرض كالثلج والصخرة المغسولة، بل قال بعضهم: والشجر ونحوه، فكل ما يتصل بالأرض فله أن يتيمم به، وهذا كما ذكرت مذهب المالكية، وهو أيضاً مذهب أبي حنيفة، واختاره كثير من أهل العلم.

واحتج هؤلاء بأدلة منها قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، قالوا: الصعيد كل ما على وجه الأرض من تراب، أو رمل، أو بطحاء، أو صخر، أو غيره فهو يسمى صعيداً، فما على سطح الأرض فهو صعيد، وهكذا قال كثير من أئمة اللغة.

واحتجوا ثانياً بقول صلى الله عليه وسلم في اللفظ الآخر: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فقالوا: هذا اللفظ لم يفرق كما فرق حديث حذيفة : ( وجعلت لي الأرض مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً ) لا. قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فكأن المعنى: ما صحت الصلاة عليه فإنه يصح التيمم به.

واستدلوا ثالثاً بما رواه الشيخان .. رواه البخاري وعلقه مسلم من حديث أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام حتى أتى صلى الله عليه وسلم الجدار فضرب يديه به وتيمم ثم رد عليه السلام )، قالوا: فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم بالجدار، فدل على أنه لا يشترط في التيمم أن يكون بتراب أو نحوه.

ومن أدلتهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بـالمدينة، والمدينة كما هو معلوم فيها سباخ كثيرة، بل غالب أرضها سبخة، وقد جاء في صحيح ابن خزيمة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أريت دار هجرتكم، أرضاً سبخة ذات نخل بين حرتين )، (أريت دار هجرتكم) يقولها لأصحابه (أرضاً سبخة ذات نخل بين حرتين)، فـالمدينة سبخة، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يتيممون بأرضها، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سافروا أسفاراً كثيرة، منها: سفرهم إلى تبوك، والطريق ما بين المدينة وتبوك غالبه من الرمال، ولم ينقل أنهم كانوا يحملون التراب معهم ليتيمموا به، فدل على أن كل ما على وجه الأرض من أرض سبخة، أو رملية، أو تراب، أو بطحاء، أو صخرية، أو مختلطة بمعادن.. أو غيرها أنه يجوز التيمم بها، وهذا القول أيضاً القول الراجح فيما يظهر.

ولبعض الفقهاء في ذلك تفصيلات طويلة عريضة لم يذكروا عليها أدلة، ومن المعلوم أن التيمم هو من التيسيرات التي جاءت في الشريعة، وما كان سبيله التيسير فينبغي التوسعة فيه على الناس وعدم التضييق، بل إن كثيراً من الفقهاء من الشافعية والحنابلة وغيرهم نصوا على أنه يجوز للإنسان أن يتيمم على الوسائد، والمخدات، والفرش، والحصر، والثياب، والأدوات التي يكون عليها غبار، نصوا على ذلك، حتى الذين قالوا: لا يتيمم إلا بالتراب، هذه المسألة الثانية.

هاتان مسألتان متعلقتان بحديث جابر وحديث حذيفة وحديث علي .